برهان غليونصفحات الحوار

حوار مع برهان غليون عن العولمة والمشاريع الاشتراكية والقومية وحوار الحضارات

null
الولايات المتحدة الأميركية لا تستخدم الحرب اليوم لتغيير النظم السياسية فقط بل لترتيب الأوضاع الدولية والاستراتيجية
دمشق ـ رضوان جودت زيادة
برهان غليون أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة السوربون ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر يعد أحد القلائل الذين يمتلكون رؤية كلية لما يجري في العالم اليوم، كان لنا هذا الحوار معه.

[ آذن سقوط الاتحاد السوفيتي وانهيار منظومة الدول الاشتراكية ببزوغ تحولات عالمية جديدة، ليس أولها ظهور الولايات المتحدة كقطب مهيمن وحيد سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، ورافق ذلك موجة من الأطروحات والنظريات التي تنظّر لنهاية التاريخ والعولمة وصدام الحضارات والمجتمع المدني العالمي وغيرها، هل ترى أن التاريخ العالمي بدأ يتجه نحو التوحد؟
ـ اعتقد أن السمة الرئيسية للوضع الدولي هو بعكس النظريات السائدة يتجه نحو الدخول في حالة من الاضطرابات والصراعات المتزايدة، بمعنى آخر فإن نظام القطبية الثنائية الذي كان سائداً في الماضي، منذ بداية القرن الماضي وحتى الثمانينات منه ساهم في تجميد النزاعات وحصول استقطاب دولي كبير وبالتالي في إحداث توازن عولمي والحد من عدد النزاعات ومن تطورها، وحصرها في إطار النزاع ما بين الشرق والغرب وبالتالي أضفى نوعا من الاستقرار على المنظومة العالمية.
بانهيار جدار برلين ثم انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الصراع بين الكتلتين الشرقية والغربية فتح التاريخ نحو حقبة من النزاعات الكبرى ناجمة عن نزوع الدول الكبرى لإعادة ترتيب الأوضاع حسب مصالحها الخاصة وفي مقدمة هذه الدول الولايات المتحدة، فالتاريخ لم ينته اليوم بعكس ما قالت نظرية فوكوياما، فالليبرالية لم تحقق الانتصار الكامل وإنما بدئنا في أزمة عميقة جداً للنظام الرأسمالي الليبرالي، ثانياً ليس صحيحاً أن الولايات المتحدة قد هيمنت اليوم على العالم وحققت هيمنتها ورسخت سيطرتها، بل بالعكس فالنزاعات والصراعات التي تخوضها الولايات المتحدة تؤكد نزوعها للهيمنة، وإدراكها بأنها لم ترسخ سلطة القطب الواحد، بل لا تزال تحتاج إلى جهد كبير وحروب كثيرة كي ترسخ هذه الهيمنة وهذا يعني أن هناك مقاومات كثيرة وأن العالم ليس مرتباً بعد بالطريقة التي تسمح للولايات المتحدة بأن تكون هي الفاعل الوحيد والمنظم الرئيسي للعلاقات الدولية، لكن هذا لا يمنع أن هناك نزوعا أمريكيا وطموحا أمريكيا معلنا حتى في خطابات القادة الأمريكيين لقيادة العالم، وأعتقد أن الصراعات التي نعيشها اليوم في هذين العقدين ناجمة عن نزوع الولايات المتحدة لاستغلال انهيار القطبية الثنائية من أجل إقامة قطبية أحادية وقيادة العالم وتأكيد هيمنتها وسيطرتها الأحادية وبنفس الوقت عجزها عن تأكيد الهيمنة، فوجود الحروب هو دليل على وجود مقاومات وصعوبات موضوعية وهيكلية في أن يخضع العالم ككل لهيمنة الولايات المتحدة. لكن هذه الحقبة أيضاً من الصراعات التي بدأت بشكل واضح ومكثف في حرب الخليج لإخراج العراق من الكويت ثم بعد أيلول فالفترة هذه هي فترة من حقبة طويلة من الفوضى والصراعات الدولية، لأنه في الوقت الذي تنزع فيه الولايات المتحدة لتأكيد هيمنتها وهي قادرة على ترسيخ أسس الهيمنة الأحادية، فهناك أيضاً معطيات واحتمالات لأن تخرج المنظومة الدولية من أزمتها ويُعاد ترتيب العالم على أسس تعددية حقيقية، وربما كان السبب الموضوعي والعميق الكامن وراء صعوبة الوصول إلى تعددية قطبية، تعددية لا تعني وجود تفاهم بعض الأطراف الدولية فهناك تفاهم الآن لبعض الأطراف وراء الولايات المتحدة، وإنما أقصد تأمين نوع من القيادة الجماعية للعالم. أي إشراك جميع البلدان وجميع المجموعات
الحضارية في السياسة العالمية. فما نعيشه اليوم هو صراعات وتخبط عالمي فيما يتعلق بموضوع العولمة والسياسة العالمية.فالعولمة التي عنت انفتاح العالم على بعضه والتطور التكنولوجي خلّف احتمالات وإمكانيات لوجود سياسة دولية، لكن الآن كل دولة كبرى وأساساً الولايات المتحدة تحاول أن تكون هي الممسكة بمقاليد الأمور في هذه السياسة الدولية، والدول
الكبرى الصغرى كالدول الأوروبية واليابان وروسيا تحاول ذلك جزئياً لأنها تملك أيضاً سلاحا عسكريا مهما تحاول أن تشارك في هذه القيادة وراء الولايات المتحدة وليس ضدها. تحاول أن تكون شريكة في نمط من السياسة الدولية القائمة على القطب الواحد وهو القطب الأمريكي، إنما عندما أقول تعددية قطبية فأعني أن تكون هناك فعلاً قيادة جماعية يتم فيها إشراك جميع الكتل الدولية والشعوب عن طريق مفاوضات دولية وعالمية للمشاركة في هذه السياسة العالمية التي أصبحت أكثر فأكثر ضرورة لاستمرار المنظومة الدولية. فلا يمكن استمرار هذه المنظومة الدولية كمنظومة اقتصادية أو كمنظومة أمنية بما تعنيه من الاستقرار والأمن والسلام في العالم أو حتى كمنظومة ثقافية بدون أن يكون هناك بلورة أو صياغة لسياسة دولية. من يصوغ هذه السياسة الدولية؟ هذا هو التحدي الرئيسي اليوم، فالولايات المتحدة هي المتصدرة الوحيدة لذلك اليوم، والأوروبيون منافسون ومنازعون لأخذ موقع في بلورة هذه السياسة الدولية، لكن لا أحد يطرح أن يكون العالم بأجمعه مشاركا في بلورة سياسة دولية هدفها تنظيم شؤون العالم كله وليس شؤون دولة من الدول. وهذا في نظري هو السمة البارزة للوضع الدولي اليوم.
الفوضى
[ ربطت نظام القطب الواحد الذي تقوده حالياً الولايات المتحدة بالفوضى، لكن في عهد الثنائية القطبية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي لم يكن العالم أكثر استقراراً، بل وإذا نظرنا إلى الباحة الخلفية لصراع الحرب الباردة كان هناك حروب في عدة مناطق أفريقية وفي منطقة الشرق الأوسط وفي منطقة أمريكا اللاتينية والتي اعتبرت جميعها بأنها انعكاس
بشكلٍ أو بآخر لصراعات للحرب الباردة. وبالتالي كانت الحرب الباردة مظلة لتغطية صراعات عرقية واثنية داخل الأقطار وساعدت على بروز دكتاتوريات وانتهاكات حادة لحقوق الإنسان وصلت إلى حد الجرائم والمذابح المصنفة كجرائم ضد الإنسانية مثل بول بوت وبينوشيه وغيرهما، في حين أن نظام القطب الواحد في الوقت الحالي يمنع وجود مثل هذه الانتهاكات لأنه صار هناك سياسة واحدة معلنة هي على الأقل احترام حقوق الإنسان بحدوده النسبية؟
ـ أنا لا أقول ان العالم أو المنظومة الدولية تنفتح اليوم نحو نزاعات عديدة بينما لم تكن هناك نزاعات في العالم، ما أقوله هو أن حجم ونوع النزاعات سيزداد وهذا ما حدث سواءً أكانت نزاعات داخلية أم خارجية ولكن ربما الزيادة ستبرز في النزاعات الداخلية والتقارير الاستراتيجية تؤكد أن النزاعات الداخلية قد تفوقت في العدد منذ عقد أو عقدين على النزاعات الخارجية، إنما يجب أن نلاحظ أنه في الفترة الماضية لعب الاتحاد السوفيتي في فترة القطبية الثنائية دوراً كبيراً في تهدئة الكثير من النزاعات، في ضبط حركات وطنية تحررية وجعلها تحد من نزوعاتها سواء أكانت مشروعة أم غير مشروعة. والأكيد أن أسباب النزاعات الموجودة في الماضي تختلف عن الأسباب الموجودة اليوم وكانت تبرر إلى حد كبير حصولها. فمعظم النزاعات التي حصلت كان لها علاقة بتصفية الاستعمار. فكنا نعيش مرحلة تميزت منذ الحرب العالمية الثانية بنزوع كبير لجميع شعوب العالم المستعمَرة أو نصف أو شبه المستعمَرة للتحرر من الهيمنة الاستعمارية، هذه الحروب لم تكن حروباً، فالحركات الوطنية لم تكن تقود حروباً ضد دولٍ أخرى وإنما كانت تقوم بحروب انتزاع حريتها من الهيمنة الاستعمارية، وكانت هناك نزاعات أخرى أشبه بالحروب الأهلية داخل العديد من الدول بين اليمين واليسار، إنما نحن اليوم نستطيع أن نقول إن الجزء الأعظم من التحرر من الاستعمار بمعناه التقليدي قد تحقق في القرن الماضي وتحقق أحياناً إلى حد كبير بمساعدة الاتحاد السوفيتي وبالاعتماد جزئياً على حق تقرير المصير الذي أقرته (مبادئ ويلسون). فأعتقد أن القطبية الثنائية لجمت الكثير من النزاعات وسمحت بحل الكثير من مشاكل التحرر الوطني من دون الدفع نحو حروب كبيرة بين الدول وخاصة بين دول العالم الثالث، فالحروب كانت في معظمها داخل كل دولة بين اليمين واليسار ونستطيع أن نقول أيضاً إن الحروب بين الدول خلال النصف الثاني من القرن الماضي كانت قليلة جداً، في أوروبا والدول الصناعية ودول العالم الثالث لم تكن هناك حروب، فقد كانت هذه الدول مرتبطة بالصراع بين الشرق والغرب والصراع على بناء نظام سياسي داخل كل دولة. فالنزاعات كان لها طبيعة محدودة هي النزاع على بناء نظام سياسي ليبرالي أو شيوعي، وهي لذلك كانت محدودة في المكان وذات طبيعة من نوعية واحدة مرتبطة بالتحرر من الاستعمار وقضايا التكوين الوطني وبناء نظام سياسي واجتماعي يساري أو يميني. أما الآن ففي حقبة جديدة تماماً هي إعادة ترتيب العلاقات الدولية التي كانت مرتبة على أساس قطبين ولم يكن مطروحاً إعادة ترتيبها، بل كان المطروح استقرار الوضع وتكريسه وعدم السماح لمعسكر بأن يخرق جدار الأمن للمعسكر الآخر ولذلك كان هناك تكتلان عسكريان يقف كلٌ منهما في وجه الآخر حلف وارسو وحلف الأطلسي وكانت الجبهة ثابتة ومستقرة وداخل الجبهات توجد بعض الحروب. أما الآن فالموضوع المطروح مختلف بشكل كلي عن ما سبق، فالآن المطروح هو إعادة بناء التوازنات الدولية في كل الأقاليم في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا واستخدام الحرب من أجل إعادة بناء هذه التوازنات. فالولايات المتحدة تستخدم الحرب اليوم بشكل رسمي ليس لتغيير النظم السياسية فقط وإنما بغية ترتيب الأوضاع الدولية والاستراتيجية في العالم. فاستخدام القوة في الشرق الأوسط ضد العراق كان هدفه إعادة ترتيب الأوضاع الإقليمية لصالح قوة صاعدة، فالعراق حاول أن يستفيد من وضع الفراغ الدولي لبناء قدرة عسكرية متقدمة تكنولوجياً، بمعنى الاستفادة من الأزمة في القيادة الدولية، وهذا النوع من النزاعات سيتوسع في المكان وسيكون من طبيعة مختلفة. فقد شهدنا في العقدين الماضيين حروب تطهير عرقي حدثت لأول مرة، وحروب فصل بين انفجار دولي كالبوسنة والهرسك وحروباً أخرى تهدف إلى إعادة ترسيخ نظام ما مثل طالبان، تغيير نظام سياسي ووضع بديل له من أجل الهيمنة على المنطقة في القوقاز ثم إعادة ترتيب العلاقات بين القوى الكبرى مثل الصين والولايات المتحدة التي تستدعي أحياناً مواجهات وتحديات كالصراع بين الهند وباكستان على منطقة كشمير مثلاً. لذلك أعتقد أنه بدون المبالغة في الحجم فالخروج من الثنائية القطبية فتح المجال لإعادتنا إلى ما قبل القرن التاسع عشر واحتمال نشوب حروب متعددة في أماكن متفرقة بهدف إيجاد ترتيبات إقليمية وتوازنات جديدة مثل الشرق الأوسط وقضية كشمير بين الهند وباكستان. فكل طرف يفرض وضعا جديدا، ومن ورائها ترتيبات عالمية جديدة وراءها الدول الكبرى كالولايات المتحدة وأحياناً أوروبا. فالكثير من المنافسات التي جرت بعد الحرب الباردة كانت لإعادة ترتيب مواقع كل من الولايات المتحدة وأوروبا في أفريقيا مثلاً. ففي كل المناطق، المطروح اليوم هو تثبيت الاستقرار، بمعنى من هي الدولة التي ستكون ذات السيادة الرئيسية أو التي تملي على كل منطقة جدول عملها. ففي الشرق الأوسط اليوم واضح أن الصراع هو حول من يضع الأجندة؟ هل هي إسرائيل أم الدول العربية، فهل هي تحدد معنى الأمن ومصالحها الأساسية أم الدول العربية؟ أو بتفاهم عربي ـ إسرائيلي، فمازالت الأمور مطروحة ولذلك الصراع مستمر، فالقضية أبعد من قضية فلسطين، إنها إعادة ترتيب الوضع الإقليمي بشكل يسمح بتشكيل نوع من المراتبية في موقع الدول في الإقليم، فإسرائيل تطمح إلى أن تكون القائد في المنطقة اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وأمنياً أي أن تطورها الاقتصادي هو الذي يتحكم بأشكال وأنواع التكتلات الاقتصادية في المنطقة وهي التي تملك جدول الأعمال السياسي وهي التي تملك الأجندة الأمنية أيضاً فيما يتعلق بامتلاك الأسلحة الحقيقية والثقيلة.
نظريتان
[ إذا عدنا للتركيز على طبيعة إدارة الولايات المتحدة للعالم، هناك نظريتان الأولى طوّرها هنتنغتون في مقالٍ في (فورين أفيرز) تقول إن الولايات المتحدة تتصرف كقوة عظمى وحيدة لكنها رغم ذلك لا تستطيع أن تتعامل مع العالم كنظام وحيد متعدد الأقطاب فهي تلجأ إلى قوى إقليمية أخرى مثل أوروبا في الوقت الحالي، وهناك نظرية أخرى تحدث عنها مايكل هاردت وأنطونيو اليغري في كتابهما (الإمبراطورية) تقول إن الولايات المتحدة تتصرف كإمبراطورية عظمى أو تتعامل مع الدول بالمنطق الإمبراطوري، فالولايات المتحدة تفرض على القوى الإقليمية الصاعدة في العالم جميعه رغباتها وأجندتها الخاصة المتعلقة بها، فهل تعتقد أن الولايات المتحدة تتصرف كإمبراطورية أم نظام متعدد الأقطاب؟
ـ تتردد السياسة الأمريكية بين الرؤيتين، ففي عهد الإدارة الديمقراطية (كلينتون) كانت السياسة الأمريكية أقرب ما تكون إلى أن تتصرف كقيادة قطب واحد مع احتواء التآلف الدولي الشمالي (حلف شمال الأطلسي) والرغبة في توسيعه تمثل تعبيرا حقيقيا عن ذلك وتوحيد منطقة أمريكا وأوروبا، هذه هي السمة البارزة في سياسة كلينتون، أما مع صعود بوش الابن إلى السلطة في الولايات المتحدة وإدارته اليمينية المتطرفة كما تؤكد ذلك التحليلات السياسية الأمريكية نفسها، فهذه السياسة تعطي للولايات المتحدة صورة الإمبراطورية العظمى عن نفسها، أي الدولة التي تُملي على الجميع إرادتها وجدول أعمالها. فالولايات المتحدة منذ عهد بوش الابن دولة تتعامل مع العالم من منطق إمبراطوري فهي تتخيل وكأن العالم ساحة معادية لها وعليها أن تخمد في كل مكان المقاومات ضد السلطة الإملائية الأحادية لواشنطن، لكن في الحالتين هناك نزوع إلى الهيمنة نحو تكريس أحادية القطب مع مقاومة موضوعية جديدة، فالبنى العالمية لا تسمح بذلك الآن فالولايات المتحدة بحاجة إلى استخدام مكثف للقوة لتحقيق هذا الحلم الطموح. الشيء الأفضل هو أن المنظومة الدولية لم تستقر بعد وليس من المؤكد أنها ستستقر في الوقت الحالي، فالولايات المتحدة التي تقوم الآن بدورالإمبراطورية لتحقيق موقعها تواجه على المستوى الاقتصادي صعودا سريعا لأقطاب مهمة جداً كالصين مما يخل بالتوازنات الدولية بشكل كبير.
[ لكن هل تعتقد أن الاستقرار قد تحقق خلال التاريخ الدولي، فالاستقرار شيء مثالي لا يمكن تحقيقه أبداً بالنظر إلى الحراك التاريخي للمجتمعات؟
ـ عندما نتكلم عن الاستقرار فنحن نتحدث عن استقرار نسبي، فمن غير شك أنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عاشت معظم الدول في استقرار بدون حروب كما حصل في أوروبا وأمريكا وكندا. أما آسيا وأفريقيا فقد شهدت استقراراً نسبياً فالحروب بين الدول كانت ضئيلة، باستثناء الصراعات من أجل تحديد نمط نظام الحكم، ولم يَكن لهذه النزاعات في معظمها ارتباط بالخارج في ظل وجود قطبين في النظام الدولي، وباستثناء ذلك لم يكن هناك حروب كثيرة، فالذي ساد خلال النصف الثاني من القرن العشرين أفكار تدعو إلى الأمل. فالدول النامية كان لديها أمل أن تتحقق فيها الحرية والديمقراطية والتنمية والجمهورية، والدول الصناعية كانت تعيش فترة ازدهار حقيقي وتراكم للمال والحريات والمكاسب الاجتماعية حتى في بلدان مثل الاتحاد السوفيتي. فكل منطقة آسيا كانت تعيش استقراراً حيث انتهت الحرب الصينية الكورية، وعاشت المنطقة فترة استقرار والمراهنة على التنمية الاقتصادية. ولذلك اعتقد أن هذه الفترة كانت استثنائية حتى في تاريخ العالم فإذا قارنا مثلاً الفترة بين عامي و وعام إلى نجد كيف كانت أوروبا هذا الجزء الهام من العالم مركزاً للحروب ، فالمقارنة واضحة بالنسبة للفترتين والاستقرار كان حقيقياً بالنسبة لكل منظومة الدول الرأسمالية وحتى منظومة الدول الاشتراكية، فالاتحاد السوفيتي ضبط إلى حد كبير النزاعات التي يمكن أن تتفجر داخل آسيا الوسطى وعلى محيطه. أما الآن فإننا نعيش صراعات في كل مكان تقريباً، ففي قلب روسيا حرب الشيشان والقوقاز.
النزاعات الفطرية
[ لكن البعض يخالفك الرأي في ذلك فيرى أن هذه الصراعات خلال النصف الثاني من القرن العشرين كانت خامدة وكامنة، فمسألة انفجار الصراع كانت مسألة وقت فعندما ظهر الوقت المناسب تأججت هذه النزاعات وبرزت بقوة، وبالتالي لم ينجح النظام الدولي في حل هذه الصراعات وإنما عمل على كبتها وخاصة قضية القوميات والهويات في الاتحاد السوفيتي.
ـ يمكن النظر إلى الأمور بهذه الطريقة كما لو أن النزاعات فطرية تخمد ثم تظهر، ولكن في الحقيقة هي أن صيغ من التنظيم قادرة على أن تخمد هذه النزاعات، ولذلك فأنا اعتقادي هو العكس، فالذي أخمد النزاعات ليس القوة العسكرية السوفياتية الكبيرة وإنما كان هناك آمال كبيرة متعلقة بالمشاريع التي بُنيت على أساسها، فالناس أثناء فترة الانتماء للاتحاد السوفيتي كانت تعتقد أن هناك إطارا جديدا ضُمِن خلاله الحد الأدنى من الأمن العام والسلام الأهلي وكذلك الحد الأدنى من المكاسب الاجتماعية كفرص العمل والتنمية والتعليم، وحد أدنى من الضمانات الثقافية، فالاتحاد السوفيتي مارس سياسة نوع من الإرضاء للقوميات المختلفة. لذلك لا أعتقد أن هذه النزاعات كانت كامنة وهناك مثال بالغ الأهمية على ذلك وهو يوغوسلافيا التي هي من خلال تاريخها عبارة عن تركيبة من عددٍ من القوميات، ولكن ما الذي سمح لهذه القوميات أن تعيش مع بعضها رغم نزاعاتها، المشروع الذي كانت مؤمنة به، كبناء الاشتراكية بصورة أو بأخرى، وبمعنى آخر نمط التنظيم السياسي الذي كان سائداً في تلك الفترة سمح بحل موضوعي لهذه النزاعات القومية، لأنه طرح مشروع غير قومي للحياة الاجتماعية، ولكن متى بدأت تتفجر هذه النزاعات والصراعات؟، ليس بعد زوال الاتحاد السوفيتي وإنما قبله ،عندما اكتشفت هذه القوميات أن المشروع فاشل، ففشل المشروع الاشتراكي هو الذي فجر هذه النزاعات كما في يوغسلافيا. وفي أفريقيا أيضاً فشل المشروع القومي فجر الصراعات القومية، ففكرة الدولة ـ الأمة التي جرى طموح بنائها في أفريقيا على غرار الدولة -الأمة في أوروبا كدولة مستقرة وتمنح الحقوق الكاملة لمواطنيها، فهذا الحلم أعطى الإمكانية للشعوب المكونة من عصبيات فسيفسائية متعددة في أفريقيا لتتجاوز هذه الانتماءات من أجل بناء الدولة- الأمة في كل بلد أفريقي، فعندها فشل المشروع القومي لم يعد هناك مبرر لهذه القوميات أن تبقى متعايشة مع بعض وأن تتجاوز نزاعاتها التي يمكن أن تكون طبيعة، مع التذكير أنه لا يوجد نزاعات طبيعية بالأصل أو بالعمق، فالنظام هو الذي تعيش داخله الجماعات وهو الذي يخلق هذه النزاعات، فعندما تدرك هذه الجماعات أن النظام المجتمعي أصبح طريقاً مسدوداً لا يصل إلى شيء، تبدأ حينها الدولة القومية بالتفكك وتظهر حروب التطهير العرقي التي هي التجسيد العملي لتفكك الدولة القومية التي نشأت على صورة الدول الأوروبية لكن بدون المعطيات والموارد الضرورية لإقامة هذه الدولة القومية. لذلك فالتفكك الذي حصل يخلق قلقا كبيرا لدى الشعوب لأنها كانت تمتلك أطراً للناس بالأمل بمشروع وطني أو قومي، وزوال هذه الأطر يعني زوال آفاق المستقبل، فالشعوب الآن بدون آفاق أو آمال وليس هناك شيء يطمئنها على مستقبلها ومستقبل أبنائها. لذلك فالنزاعات حول الموارد المحدودة سوف تزداد، سواءً أكانت سياسية أو اجتماعية، ويمكن أخذ نماذج أخرى لم تتفكك أو تنهار فيها الدولة نهائياً مثل يوغوسلافيا أو الاتحاد السوفيتي وإنما لا تزال فيها الدولة الوطنية قائمة نسبياً وإنما تفككت من الداخل وزاد فيها الصراع بين الاثنيات والعصبيات المختلفة ونشأ فيها نزوع لبعض الاثنيات من أجل السيطرة على الدولة كلها إخضاعها لمصالحها الخاصة. هذا يدل أنه حتى في الدول التي لم يحصل فيها حروب تطهير عرقية فإنها فشلت في تجاوز صراعاتها التقليدية السابقة على تكوين الدولة الوطنية.
[ بالعودة إلى فشل المشاريع القومية أو الاشتراكية، فهناك إقرار بأن الانهيار لم يكن عسكرياً فقط، وإنما سقوط وانهيار مجموعة من النظريات والقيم التي سادت في الفترة السابقة، هل يمكن للأطروحات النقيضة لهذه النظريات المتمثلة في الليبرالية السياسية والديمقراطية وحقوق الإنسان أن تأخذ أفضلية نسبية بالنسبة لمختلف الشعوب في العالم، هل نستطيع أن نفك الارتباط المتلازم ذهنياً وقيمياً بين الأطروحات الإنسانية المتمثلة في هذه القيم وبين النزوعات السياسية المترافقة معها، بمعنى هل سيادة هذه المفاهيم إنسانياً ارتبط حتماً بسيادتها سياسياً، فلأضرب مثلاً على ذلك فلنفترض جدلاً أن الولايات المتحدة لا تمثل الآن قطباً وحيداً هل من الممكن لهذه القيم نفسها أن تسود لو لم تكن معبرة عن الأنموذج القيمي الغربي؟
ـ أعتقد أن انهيار المشروع القومي الذي تبلور في المنطقة العربية ، الذي كان في الحقيقة الحلم والناظم لكل دول أفريقيا وآسيا من أجل بناء الدولة- الأمة فانهيار المشروع الاشتراكي الاجتماعي الشيوعي. جعل الجماعات بدون توجيه أو أيديولوجية أو رؤية موجهة لطبيعة تنظيم المجتمع وبالتالي ترك لديها قلقاً شديداً على مصيرها أو مستقبلها مما يدفعها نحو الحروب أو كل الاحتمالات الأخرى. وهذا ما يدفعني إلى القول بازدياد مصادر الحروب، لكن بنفس الوقت دفع هذا الانهيار للبحث عن بدائل للتوجه بحكم أن الإنسان بطبيعته من غير الممكن له أن يعيش دون اتضاح صورة مصيره ومستقبله. ولذلك ظهرت عدة أشكال من إنتاج واكتشاف رؤى جديدة، وربما كانت مؤقتة، بمعنى أنها لا تدوم كثيراً، فقد ظهر التمسك ببعض القيم الأخلاقية التي تبلورت خلال الحقبة الماضية منها حقوق الإنسان التي أصبحت بمثابة القاسم المشترك بين البشرية لاحترام الحد الأدنى من حقوق الفرد سواء أكنا في الدول الاشتراكية أو الرأسمالية، وهكذا أصبحت حقوق الإنسان كتعبير عن ضمير الإنسانية ولذلك لجأت المجتمعات إلى مفهوم حقوق الإنسان، وفعلاً لم يتطور مفهوم حقوق الإنسان خلال أي حقبة في التاريخ كما تطور في السنوات العشرين الأخيرة، أما الرؤى الثانية التي ظهرت فهي العودة للأديان، وهي ليست مقتصرة فقط على العالم العربي حيث يتم تصويرهم أنهم هم الوحيدون الذين عادوا يلجأون إلى الإسلام ،وإنما هي نزعة سادت جميع شعوب العالم بغية استخلاص أو استنتاج رؤية للمجتمع من الدين، وبالتالي فهم لم يعودوا إلى الدين وإنما عادوا إلى استخلاص رؤية للمجتمع من الدين، أي لاستخدام الدين في بناء رؤية للعالم تسمح بتصور مستقبل إنساني، لأنه بدون رؤية ليس هناك وضع إنساني وإنما يتحول العالم إلى وضع حيواني، فالرؤية تعني ضرورة وجود معايير أخلاقية تحكم علاقة الإنسان بالآخر، وهذا الذي يبني المجتمع فالإنسان لا يمكن أن يبني مجتمعه دون تصور لطبيعة علاقاته الاجتماعية مع الآخرين، ولذلك ظهر هناك مفهوم ما يتعلق بحقوق الإنسان الذي كان أقرب إلى الفئات الاجتماعية المرتبطة بالثقافة الغربية والمرتبطة بها حقوق الإنسان هاتان الرؤيتان ظهرتا عن الفئات التي مازالت تمتلك الحد الأدنى من المبادئ والشعور الإنساني والاهتمام بالشأن العام لكن أيضاً هناك جزء كبير من الرأي العام في هذه المجتمعات انكفأت إلى نوع من الرؤية الفردية المطلقة من زاوية عدم اهتمامها بمصير المجتمع أو النظام القادم أو الجماعة فما يهمها هو العيش في يومها وهو ما يدعى بالثقافة الاستهلاكية التي هي تعبير عن رؤية استهلاكية للمجتمع والحضارة والثقافة ولا ترتبط بأي رؤية إنسانية بل هي رؤية متوحشة عندما يتحول الفرد فيها إلى البحث عن مصيره الفردي والشخصي بغض النظر عن مصير المجتمع، المهم أن أضمن أكبر ما يمكن من الموارد على حساب الآخرين، وهذا توجه موجود في العالم كله وليس فقط في المجتمعات العربية، وهذا هو الأصل العميق للفساد وتبريره بالنسبة للفرد، لأن الشخص الذي يمتلك قيم ومبادئ ويشعر أن المجتمع كلٌ واحد ويشعر بضرورة وجود حد أدنى من التضامن والتفاهم والتفاعل لا يسمح لنفسه بالسطو على موارد الآخرين لكن في ظل غياب أو انعدام القيم الاجتماعية المطلقة وبناء رؤية متمحورة حول الذات والمصالح الفردية هي التي أعطت للفساد التبرير الايديولوجي.
الحريات
[ الرؤى الثلاث التي طرحتها المتمثلة بنزعات حقوق الإنسان والديمقراطية والنزعات الدينية والنزعات الاستهلاكية، نلحظ أن الرابط بينها هو مفهوم الحريات بمعناها الفردي، فمثلاً النظريات الدينية تحاول أن تؤسس هذه المفاهيم على مبادئ الشورى والعدل إلى غير ذلك، أما المسيحية فتتأسس على مفهوم التسامح، أما النظريات الاستهلاكية فتتأسس على مفهوم الفردية فهل يمكن ربط مفهوم الديمقراطية كجزء من العولمة، بمعنى أن الحامل الفردي للعولمة هو الديمقراطية؟
ـ الديمقراطية لم تنشأ كرؤية، بل الديمقراطية هي الوسيلة التي تستخدمها أطراف متعددة من المجتمع لتحقيق رؤيتها، ولذلك أعتقد أن المطالب الديمقراطية مرتبطة بحقوق الناس والتخلص من بقايا طموح جميع الأطراف الدينية والاستهلاكية والتوجهات الأخلاقية، فالديمقراطية هي طموح هذه الأطراف لأن تتخلص من قيود الماضي بغية ممارسة رؤيتها، ولذلك هذا ما يفسر شبه الإجماع عند أطراف النخبة المختلفة الدينية والأخلاقية والاستهلاكية على الخلاص من النظم الشمولية والاستبدادية والتمسك بالحريات الفردية. لأنه عن طريقها، بوصفها أرضية ضرورية، يتمكن كل طرف من تحقيق رؤيته بمعنى ما، فالديمقراطية ليست هي محصلة تآلف أطراف وإنما تتضمن الصراع بداخلها فهي ليست حسما للمسألة وإنما تتضمن الصراع لكن على أسس جديدة ومختلفة. الآن إذا خمنا أن الأطراف الثلاثة المختلفة يمكن أن تقبل بالديمقراطية كإطار للصراع أي القبول بالحلول السلمية وحسم النزاعات على أساس الانتخابات، فإذا التزمت حقيقة الأطراف بذلك، حيث أنها لم تعد قادرة على العيش في الوضع الماضي بسبب تراكم الأنقاض عليها فقد أصبح المشروع القومي والاشتراكي أشبه بالأنقاض التي تعيق ممارستها لرؤيتها ونظرتها لمصالحها، فإذا نجحنا في جعل الديمقراطية مرجعية لجميع هذه الأطراف تكون مقبولة وملتزما بها نكون قد حققنا انتصاراً كبيراً للأزمة الطاحنة التي تعيشها المجتمعات البشرية بأجمعها وليس فقط المجتمعات العربية، فجميع هذه المجتمعات تعيش هذه الأزمة وتبحث عن حلول لها حسب مواردها الحقيقية الفكرية والسياسية والاقتصادية، فالأوروبيون وجدوا حلولاً مختلفة لأزمة المشروع القومي بالاتحاد الأوروبي ووجدواً حلاً لأزمة المشروع الاشتراكي بتطوير نظرية الديمقراطية الاجتماعية، فاستطاعوا أن يحافظوا على توازنهم ضمن النسق الاجتماعي بالرغم من مرورهم بأزمات عميقة كبيرة في إيجاد قاسم مشترك لهذه التيارات المختلفة التي أنتجها انهيار المشروعين القومي والاشتراكي في العالم العربي، ومشاريع أخرى أيضاً مثل الدول الخليجية كالسعودية وغيرها، فالدولة هناك لا تعبر حقيقة لا عن مشروع قومي ولا اشتراكي أو حتى إسلامي، بل هي بنية قبلية مرتبطة باستراتيجيات دولية وتمر الآن بأزمة عميقة جداً مع تطور الحداثة، لذلك أعتقد أن النزوع إلى الديمقراطية والأفق الديمقراطي سيزداد في العالم العربي بقدر ما تشعر الأطراف الثلاثة وتبرهن برؤيتها وخطابها أنها ملتزمة حقيقة بالديمقراطية لأنها تطمئن الآخرين، وتسمح بوجود إجماع حول مسألة الديمقراطية كإطار لتنظيم الصراع بين الرؤى المختلفة وليس كرؤية بديلة، فإذا نظرنا إليها على أنها كذلك سوف نصل حتماً إلى طريق مسدود.
العولمة
[ العولمة الآن تجري في مكانية ثقافية وسياسية واجتماعية واحدة، بل هي تعمل على إخضاع تواريخ الحضارات والمجتمعات الأخرى في صيرورة تاريخية تسير نحو التوحد سواء بالنظام الاقتصادي أو بالنظام الاجتماعي عبر تعميم النزعة الاستهلاكية أو عن طريق إشاعة إطار واحد للنظام السياسي، في ظل ذلك ظهرت نزعات في عدة مناطق من العالم كتعبير عن تأجج الهويات القومية وصعود الأصوليات وظهور حركات ممانعة للعولمة، كيف ترى مستقبل هذه الحركات، هل ستمنع العولمة من إطارها وصيرورتها التاريخية أم ستعمل على لجم النزاعات المتطرفة فيها، كما هي عادة التاريخ في حركتيه؟
ـ باعتقادي العولمة قائمة على عاملين الأول تقدم تكنولوجي موضوعي يسمح للأطراف الدولية المختلفة بأن تتصل بسرعة وبكثافة أكبر فيما بينها، وبهذا المعنى تعني ظهور إمكانية اندماج أكبر بين أجزاء العالم، لكن هذه الإمكانية تستغل دائماً وتتحقق ضمن رؤية الفاعلين التاريخيين. ومن الطبيعي أن كل قوة بمعنى دولة كبرى تحاول أن تستغلها لصالحها. لذلك فالإمكانية الموضوعية التي خلقتها الثورة العلمية والتكنولوجية أعطت الولايات المتحدة ذات القوة العسكرية والاقتصاد الأقوى الفرصة لأن توحد العالم لصالحها، ولأن تبني استراتيجية عولمية تكون هي الأولى والمبادرة فيها، ولذلك فهي تستغل الإمكانية الموضوعية لدمج العالم لصالحها كي تكون هي القيّمة والمشرفة على هذا التوحد العالي وبالتالي المستفيدة الأولى منه، وأمام هذه الاستراتيجية الأمريكية المبنية أساساً على إطلاق يد قوانين السوق أي تحرير التجارة تماماً وخلق سوق عالمية واحدة، فالبضاعة تنتقل من بلد إلى بلد ومن منطقة إلى أخرى بدون قيود وبالتالي هذا يعني أنه من يملك إنتاجية أكبر وأقوى في الصناعة هو الرابح الأكبر في سوق عالمية مفتوحة، هذه الاستراتيجية التي يمكن تسميتها بالسياسة النيوليبرالية ومقابلها الجماعات الأقل نمواً والأقل قدرة على المنافسة بمن فيهم الأوروبيون الذين يشعرون أنه لابد لهذه الاستراتيجية الأمريكية أن تعدل أو تواجه استراتيجية مختلفة تأخذ بعين الاعتبار مصالح الشعوب الأخرى، لكن حتى الآن لم يتطور مقابل استراتيجية نيوليبرالية للعولمة أي استراتيجية منسقة متكاملة يمكن أن نقول أنها فعلاً استراتيجية بديلة، لكن تبلورت قوى معادية تظهر تناقضات وعدم اتساق ومساوئ الاستراتيجية الأمريكية العولمية وتحاول أن تحد منها وهذا ما تعبر عنه المنظمات المعارضة للعولمة ومنظمات البيئة وغيرها، وأيضاً التكتلات الصناعية الصغرى كاليابان والاتحاد الأوروبي أظهرت شيئاً من المعارضة ليس لتغيير استراتيجية العولمة وإنما لتطويعها من أجل أن تتقاسم الدول الصناعية فوائد السياسة النيوليبرالية، فالدول الصناعية الأخرى لا تملك استراتيجيات بقدر ما لديها اقتراحات تقدمها للولايات المتحدة لإيجاد تعديلات جزئية في هذه الاستراتيجية تسمح لها بالحفاظ على الحد الأدنى من المصالح، فمثلاً اعترضت فرنسا ورفضت اعتبار المنتجات الثقافية كغيرها من السلع تطبق عليها القوانين التجارية، فإنها يجب أن تحمى وتُعطى عناية خاصة.
[ هذا بدوره يطرح السؤال التالي ما هي حدود تأثيرات ثقافة العولمة أو الثقافة النيوليبرالية على ثقافة المجتمعات البيئية الخاصة بها؟
ـ المهم ضرورة التفكير هل هناك إمكانية حقيقية للدول المتضررة بشكل رئيسي من استراتيجية العولمة من بناء استراتيجية بديلة، على الأقل لبناء قطب معارض قوى من الدول النامية يفرض على الولايات المتحدة والتكتل الصناعي ككل وأوروبا واليابان إعادة النظر في الاستراتيجية النيوليبرالية ويحولها إلى استراتيجية ليبرالية اجتماعية على الطريقة الكنزية تأخذ بعين الاعتبار الحد الأدنى من مصالح الشعوب الأخرى ولا تطحن الثقافات أو التوازنات الاجتماعية في البلدان الأخرى. الاستراتيجية النيوليبرالية المطبقة الآن والتي لا تزال الولايات المتحدة تصرُّ عليها أو تدفع باتجاهها هي استراتيجية تقود حتماً إلى تفجير التوازنات الاجتماعية وتكسيرها في المجتمعات الفقيرة الضعيفة لأنها ستفقدها ما تبقى لها من موارد اقتصادية محدودة وستطحنها ثقافياً، ولذلك أعتقد أن هناك عدم مسؤولية وعجز كبير في النخب السياسية في العالم الجنوبي في البلدان النامية من عدم بلورة استراتيجية واضحة على الأقل إن لم تكن استراتيجية بديلة، وهذا صعب بالنسبة للدول التي لا تملك سيطرة على الصناعة والتكنولوجيا الحديثة أن يكون لديها استراتيجية بديلة للعولمة لكن لابد أن يكون لديهم قطب يفرض على التكتل الصناعي مفاوضات جدية بشأن استراتيجية العولمة.وبشأن الاستفادة من دمج العالم وتوحيده في إطار سوق واحدة، كما حصل في المفاوضات داخل الدول الصناعية خلال فترة من الفترات لأنسنة الرأسمالية بالخدمات الاجتماعية والحقوق الفردية ومفاهيم التضامن الاجتماعي ومن الضروري الآن تصور عولمة حتى ولو كانت ليبرالية لكن بضمان حد أدنى من المعيشة لجميع أفراد البشرية، ولذلك على الدول جميعها في إطار مفاوضات دولية أن تضمن أن لا يموت أحد من الجوع على الأرض مهما كان أصله العرقي أو الديني أو انتماؤه الجغرافي وهذا ممكن بالإمكانات الراهنة. لذلك على العولمة الإنسانية أن تضمن الحد الأدنى من مشاركة جميع الدول في بلورة تصور المستقبل، ونجاحنا في ذلك يغني عن الحاجة الكبيرة للاستثمارات في السلاح والحروب، فالعولمة القادمة خلال خمسين قادمة هي هذه، هل ستنجح في بلورة استراتيجية ليست خاضعة بالمطلق لمنطق السوق والربح، وبالتالي تأخذ بعين الاعتبار مصالح جميع الأفراد ونعامل البشرية كما لو كانت كمجتمع واحد إلى حد كبير أم أننا سنذهب إلى حروب طاحنة لا نهاية لها.
سوسيولوجيا المجتمع ما بعد الحداثي المثقف “الرؤيوي” انتهى دوره وحلَّ محله دورُ الثقافة الشعبية
يرغب الكثيرون في قراءة الفكر ما بعد الحداثي كانعكاس لما يحصل من تحوّلات اجتماعية واقتصادية ونفسية في المجتمعات الغربية، وهم بذلك يعودون بظاهرة ما بعد الحداثيين إلى نقطتين رئيسيتين أولاهما التأكيد على خصوصية الظاهرة بحكم نشأتها في المجتمعات الغربية وعدم خضوع المجتمعات الأخرى لتحوّلات من نوع مماثل مما يجنبها أو يبعدها عن الجدل الدائر حول ما بعد الحداثة، أما النقطة الأخرى فهي الإصرار على الربط الميكانيكي بين الفكر ما بعد الحداثي وتحوّلات المجتمع الغربي، بحيث تصبح كل أفكار ما بعد الحداثيين إفرازاً طبيعياً لما عاشه الغرب من تناقض في الأيديولوجيا الحداثية لا سيما في علاقات المركز بالهامش وما نشاً عنها من علاقات الاستغلال، وفقدان للمساواة وسيطرة للنخبة وفرض هيمنة التغريب على مجتمعات العالم الثالث، لذلك وكرد فعل على ذلك ستنشأ حركات ذات أصول اجتماعية تنادي بنهاية الأيديولوجيات والمعتقدات وتطالبها بالخروج عن كل قياس معياري وترسخ الانتماء الفردي وتشيع السلعية والاستهلاكية وترفض مقولات سطوة العقل وتتحدث بدلاً عن ذلك عن لاعقلانية العقل، إنها باختصار كما وصفها أحد الباحثين تبحث عن السلطة في كل شيء من أجل إدانة أي شيء، وهي وفقاً لذلك لا تتحدث عن المجتمع وتحوّلاته بقدر ما تطنب في الكلام عن أرخبيل السلطات التي يخضع لها هذا المجتمع.
وقد جرى توصيف هذا المجتمع بالعديد من المصطلحات التي تصف هذا المجتمع انطلاقاً من منظورها السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي فأحياناً يطلق عليه “المجتمع ما بعد الصناعي” كما أطلق عليه عالم الاجتماع الفرنسي الشهير آلان تورين وأحيانا أخرى “المجتمع المعلوماتي” أو “المجتمع الاستهلاكي” بحسب تعبير فردريك جيمسون. إن كل هذه التوصيفات تقوم على محاولة إنشاء صلة رمزية بين ثقافة ما بعد الحداثة وظرف اجتماعي معين، فهي تربط بين ولادة “مجتمع ما بعد الصناعة” وبين “ثقافة ما بعد الحداثة” مثلاً ويبدو أن الاجتماعي الأميركي دانيال بل هو الأبرز في دراسة هذه العلاقة الاتصالية، حيث يميّز بوضوح بين التحوّلات الطارئة على الميدان الاقتصادي، وتلك التي جدت على مجمل الحقل الاجتماعي، حيث لب الاقتصاد ما بعد الصناعي هو المعرفة، بحيث إن البنية الاجتماعية المهنية الجديدة إنما تنتظم حول الكفاءات الذهنية، وصفة “الما بعد” ترتبط هنا بالتداعيات الناتجة عن الشخصنة داخل كل قطاعات المجتمع، وهو لذلك يدعو إلى النظر في طبيعة المجتمع ما بعد الصناعي انطلاقاً من تفكك مبادئ الحركة والعمل فيه، أكثر من النظر في الوحدة والتماسك المفترضين لنظامه الاجتماعي.
لذلك فالنزاعات الاجتماعية الجديدة والمفترضة لا تقع خارج نظام الانتاج، بل في مركزه وتمتد إلى ميادين جديدة من الحياة الاجتماعية، وما ذلك إلا لأن الإعلام أو التربية أو الاستهلاك ترتبط ارتباطاً أوثق مما في السابق بميدان الانتاج، فعلينا ألا نفصل النزاعات الاجتماعية عن نظام الحكم الاقتصادي والسياسي، وهو يحملنا على التخلي عن مفاهيمنا التقليدية في تحليل المجتمعات من مثل مفهوم الطبقة الاجتماعية والصراع الطبقي من أجل الحديث عن التوترات الوفيرة والطبيعية التي لا نعني حذفها، بل تدبيرها في الحدود التي يمكن فيها التفاوض عليها.
الرأسمالية متعددة
أن فريدريك جيمسون يشير إلى العلاقة الوثيقة بين ما بعد الحداثة والمرحلة الحالية من الرأسمالية متعددة الجنسية، إذ إن ما بعد الحداثة الجديدة تعبّر عن الحقيقة المركبة للنظام الاجتماعي الجديد للرأسمالية في مرحلتها المتقدمة هذه، فثقافة ما بعد الحداثة تتناسب مع الأنماط الجديدة من الاستهلاك وسرعة استعمال الموضة، وتشكل الصورة المستقبلية المرتقبة للواقع الجديد والمستندة إلى مرتكزين اثنين: وسائل الاتصال والاعلام، والتقسيم الدقيق للوقت، أو ما يسميه “تذوية” الوقت، وهو بالتالي يصل إلى نتيجة خلاصتها أن ما بعد الحداثة ليست “موضة” للمرحلة الرأسمالية الحالية، وإنما هي ثقافتها بالذات.
إن هذا المدخل الثقافي في قراءة ظاهرة ما بعد الحداثة قد سيطر على الكثير من المثقفين والمحللين الاجتماعيين ولا شك في أن ذلك يشكل المظهر الأكثر بروزاً في ظاهرة ما بعد الحداثة لا سيما في حقول العمارة والفن والسينما والأدب وغيرها، لذلك فيقرأ سكوت ليش ظاهرة ما بعد الحداثة بوصفها حدثاً ثقافياً وتمتلك ثلاث مواصفات عامة، فهي أولاً نتاج سيرورة التمايزات الثقافية وهي ثانياً خلق لنظام جديد من الرموز المجتمعية المتصفة بالرؤيوية أكثر من اتصافها بالملموسية وثالثاً هي ظاهرة تعكس تغيرات واضحة وجلية في التصنيف والتراتب الاجتماعيين.
يضاف إلى ذلك أن هناك بعضاً من علماء الاجتماع الذي يقرأون ظاهرة ما بعد الحداثة وفقاً لتجربتها المعيشة، إذ يفترضون أن المظاهر الاجتماعية المتجلية في السينما والأدب والاجتماع والاستهلاك كلها تشكل رؤى متنوعة ومتغايرة لحقيقة اجتماعية واحدة، وهم لذلك يفترضون وجود مكان مركزي يضفي المعنى على المواقع والأجزاء المترابطة في ما بينها، ووفقاً لذلك فهم يؤكدون غياب التفسير التوحيدي للعام الاجتماعي مقابل التبعثر والفوضى، وحلول الفرديات مكان الكليات، وظهور ما يسمى بالنرجسية الفردية، حيث لا يعود الفاعل الاجتماعي قادراً على التأثير في محيطه الاجتماعي، فيلجأ إلى تمركزه على ذاته، فيظهر العجز عند الناس وتكثر ضحايا الفوضى في صفوفهم. ولذلك لا بد عند دراسة المجتمع ما بعد الحداثي من التركيز على استقلالية النظم الفرعية عن بعضها وعدم تدامجها في كل جامع أو كل تراتبي واحد، وهذا الانفصال أو التناقض صفة هذا المجتمع الذي لا يوجد فيه نظام مرجعي مشترك مما يدفع كل نظام جزئي إلى أن يتمحور (كما الأفراد) حول أوالية اشتغاله الذاتية، ولا يعود يسري بينهم من اتصال، سوى الاتصال المعلوماتي (الاعلام).
فكرة السوق
ومصداق هذه الأفكار واقعياً وعملياً هو ظهور فكرة “السوق” كمبدأ منفصل عن النظام الذي يحكم المجتمع، وكمختزل لتعقيداته، وكقناة للتواصل الاعلامي بين أجزائه، فالسوق هنا هو المعبر عن منطق التاريخ الاجتماعي وتطوّره، وهو الذي يكشف طبيعة النظام الاجتماعي ويعبّر عن الخصوصيات عن طريق تحصين التمايزات والاختلافات بين الأجزاء.
ففكرة السوق، بما هي تجسيد معيش للتاريخ الانساني، تشهد حالياً انتصاراً لا سابق له في الاقتصاد وفي السياسة وفي الاجتماع، فقد أصبحت حقيقة شبه “دينية”، إذ يجب أن تحصل في المجتمع وأحداث غير قابلة للسيطرة والانتظام. فكل شيء يتحرك بفوضى، هذا هو جوهر ظاهرة ما بعد الحداثة اجتماعياً، وقد استغرق جورج بالاندييه في وصف الفوضى باعتبارها سمة إبداعية، أو حركة تزيل قديماً وتخلق جديداً، إنها تمثل المنحى الايجابي للتغيير وتقود خطاباً يتيح قبول غير الأكيد، كنمط علاقة مع العالم.
وإذا كانت فكرة “السوق” مؤشر الضبط في المجتمع ما بعد الحداثي الذي تحكمه الفوضى، فإن الموضة بوصفها دلالة حضور السوق ووجوده تصبح هي النظام النمطي في المجتمعات ما بعد الحداثية، وتأخذ شكلاً جوانياً ونرجسياً، وهذا ما يؤسس لظهور الفردية كقوة مجهولة خارجة عن كل تحكم، وهي لذلك قوة تدميرية وتخريبية، فعندما يعيش كل فرد على أنه نظير ذاته، يصبح المجتمع عندها منبع القداسة ويجب حماية الذات بوصفها نقطة اختزال المجتمع، أن أسطورة نرسيس هي عنوان اللااجتماعية، فما دام الفرد حبيس صورته المرآتية، فإنه ينسحب من كل علاقة ويموت من جرّاء ذلك.
إن هذه الرؤى تختصر صيغة الفن ما بعد الحداثي الذي يفترض به أن يعكس صورة مجتمعه بطريقة أو بأخرى. فنلحظ أن الفن دخل في مرحلة النفي الأبدي والمستمر. فما دام الجديد لا يلبث أن يصبح قديماً وأن النفي أيضاً فقد قدرته على الخلق، لذلك أصبح الفن يرتاد الحقول المختلفة من سينما وأدب وتشكيل بكثير من الفجاجة، فما من شيء إلا ويختصر، لكن ثمة شيئاً ما بصدد الاختمار، لذلك فما بعد الحداثة الفنية تنادي وتطالب بمحو الفوارق بين الحقول الفنية المختلفة، إذ تريد أن تكون أساساً للتجديد وللسعي الأبدي إلى الفرادة والاستبطان المنهجي للاحتمالات، إنها تتطلع إلى تفكيك أوصال الصنم الرومنطيقي للمبدع الفرد، المنغلق المتمحور على ذاته، حتى يتمكن الفنان التقني أن يلهو بإعادة تجميع أشلائه وفق هواه، إن ذلك يوجد في صيغته القصوى القائمة على رفض الحداثة والتي تقول “نعم لكل شيء”.
نفي الحداثة
تتقدم إذاً حركة ما بعد الحداثة نافية الحداثة ومعلنة رفضها لكل أسسها وأصولها. فالحداثة كانت أمبريالية وذات نزعة ذكورية متمركزة في حين أن ما بعد الحداثة ترفع راية التحرر. إنها حركة متشظية يمكن أن تتفتح فيها مائة زهرة، إنها تبشر بتعددية الثقافات، وإذا ابتعدنا عن الدخول في التوصيف النظري لكل حقل من المجالات الثقافية المتعددة ذلك أننا كنا قد بحثنا الجانب الأدبي في الفكر ما بعد الحداثي أو ما يطلق عليه أدب الصم في مكان آخر، فإننا سنركز على استخلاص الملامح أو الميزات العامة التي تشترك فيها ثقافة ما بعد الحداثة في حقولها المتعددة.
إن أول ما يمكن ملاحظته هو ردة الفعل النفسية الحادة تجاه الحداثة بحيث تسعى ثقافة ما بعد الحداثة إلى ترسيخ وجودها عبر تحطيم أو نقض الثقافة الحداثية، فإذا كانت الحداثة أمعنت في تشويه وإدانة الثقافة الجماهيرية من خلال تقديمها على أنها شيء بعيد عن الحضارة، فإن ما بعد الحداثة لا تريد فقط أن تتحرر من التحديد التراتبي لأمور الثقافة حيث الثقافة العليا والثقافة الشعبية، ولكن تمنح الأفضلية إلى تعدد أشكال التعبير الثقافي، كما أنها تلغي دور العقل، الذي ترى فيه أنه ينزع عن العالم انسانيته قبل أن يدمره، وتتصدى إلى العلم الوضعي الذي شكل أحد طموحات الحداثة، إذ هي لا تدخر جهداً في تحويل مشروع المعرفة إلى مشروع رمزي لغوي، استعاري، غير تنظيري، أي باختصار إلى مجرد عمل سردي.
إن المجتمع ما بعد الحداثي يبدو إذاً أشبه بمجتمع الخدمة الذاتية، والاغراء فيه بمثابة مسار شامل، ينزع إلى تنظيم الاستهلاك والمنظمات والاعلام والتربية والأخلاق، وهكذا جاءت علاقات الاغراء بديلاً من علاقات الانتاج، إنه يتجه نحو الحد من العلاقات السلطوية والزيادة في الخيارات الخاصة وفي منح الأولوية إلى التعددية، والازدراء بالقيم الكبرى وبالغائيات التي تنظم العلاقات في الأسرة والعمل والجيش وغيرها، وتعم السلبية بوصفها القيمة الوحيدة التي يسعى الجميع لتحقيقها مما ينتهي بالمجتمع إلى حالة من التذرر والقلق والتشاؤم.
ولكن هل يعني ذلك النظر إلى المجتمع ما بعد الحداثي بكونه سيئاً بالمطلق، إننا نغفل المنظورية النسبية التي يصر مفكرو ما بعد الحداثة على ترسيخها لدى النظر إلى المجتمعات، فالقيم التقليدية التي حكمت المجتمعات وثبتت جذورها مع قيم الحداثة لا تأخذ مكانة فضلى على القيم التي تنقضها أو تلحقها، إذ أن المجتمع هو يفرز قيمه الخاصة التي تعبر عن تحولاته وطموحاته مع ضرورة توخي الحذر في ربط العلاقة الميكانيكية وفق الأصول الماركسية بين الفكر والمجتمع، فالارتباط بينهما ليس اتصالاً دائماً بالضرورة كما أنه لا يعني قطيعة كاملة، فرواد ما بعد الحداثة يشككون في الجديد لأنهم خبروه وهم بذلك لا يؤسسون لمجتمعاً جديداً يبنون قيمه ويسعون إلى تحقيقه. فدور المثقف الرسولي انتهى بالنسبة إليهم وجاء دور الثقافة الشعبية لتعبر عن مكبوتاتها ومخزوناتها فهي جزء من الثقافة المجتمعية لا تنفصل عنها لأنها نبتت منها، وفي النهاية تبقى كل نظرة مقارنة مرفوضة لدى ما بعد الحداثيين لأنها تحمل بين طياتها حكم القيمة الذي لا يقيمون له وزناً لأنه من رواسب عصر يطمحون إلى التخلص منه.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى