صفحات سورية

العلمانيون السوريون: مراجعة أم ردة؟

null

محمد ديبو

تشكل العلمانية واحدا من أهم الموضوعات التي تشغل بال المفكرين والسياسيين السوريين في الآونة الأخيرة، ويعود سبب ذلك لما تعيشه المنطقة من أحداث يشكل الطابع المذهبي والطائفي أسها الأساس، خاصة في لبنان والعراق المجاورين لسوريا واللذين أثرا بشكل مباشر وواضح على طريقة تفكير الشارع السوري ونخبته، إضافة الى الجدل القائم في تركيا حول ماهية العلاقة بين الدين والدولة.

ولم يكن الحديث الدائر نتاج خارج ما، فقط، بل هو نتاج داخل مثقل بمشاكل متعددة، تستدعي حديثا مفرطا حول العلمانية، أهمها استبداد العلمانية السائدة (إذا اتفقنا على علمانيتها!) والعيش في ظل احكام قانون الطوارئ وغياب الحريات العامة وغياب كلي لفكرة المواطنة وتناقص متنام لمساحة الرقعة المدنية المستقلة عن تدخلات الدولة، إضافة إلى تنامي مظاهر التدين التي تأتي كرد فعل مباشر على إفلاس الأحزاب العلمانية في السلطة والمعارضة على السواء.

إزاء هذه الحال، تعرضت فكرة العلمانية لعملية شد وجذب بين مختلف التيارات السياسية، من سلطة ومعارضة، الأمر الذي أدخلها دائرة التجاذب السياسي بعيدا عن الأصول المعرفية والحاجة المجتمعية، اللتين وحدهما تحدّدان الصيغة التي يجب أن يستقر عليها المفهوم، بعيدا عن التجاذبات السياسية التي تتغير وفق تغير المصالح.

وإذا كان مفهوما (وإن لم يكن مقنعا) تذبذب فكرة العلمانية عند أحزاب المعارضة السورية، كتكتيك سياسي لا غير بغية إحراج النظام الحاكم فقط، فإن تخلي المثقف السوري الذي حمل لواء العلمانية لعقود خلت بين ليلة وضحاها عن علمانيته أمر محيّر ومربك، لصالح قوى دينية يخيّل له أنها تخلّت عن برنامجها في إقامة دولة دينية مستبدة هي الأخرى.

إن تخلي المثقف السوري عن علمانيته بتلك السهولة يطرح أسئلة متعددة أقلها مصداقية المثقف الذي يتوجب عليه البحث والتنقيب عن صحة أفكاره في الواقع المجتمعي لا في التجاذب السياسي الآني والضيق، الأمر الذي يحيل إلى ثقافة واحدة تحكم المثقف والسلطة والمعارضة على السواء، ثقافة تنتج الاستبداد وترسخه.

إن أي مراجعة للذات تشمل في حد ذاتها مكسبا للذات و للآخر، لكن هناك فرقا بين مراجعة تستمد شروطها من واقعها لتبني عليه، وبين ردة ترفض ما تم انجازه وتلغيه بجرة قلم لصالح مصالح سياسية ضيقة. وهذا ما يحكم تذبذب نظرة الأحزاب المعارضة ومثقفيها إلى العلمانية الآن، من خلال تأييدهم لعودة الأخوان المسلمين وحقهم في العمل السياسي داخل سوريا دون شروط ودون مساءلة لما مضى ، متناسين أن هناك فرقا بين الشعار الديموقراطي الذي تطرحه الحركة وبين بنيتها العقيديّة المغلقة التي تقوم أساسا على جوهر طائفي لم يتغير، ولم يُعد النظر به، لأن الإسلام الأخواني يحتاج لإصلاح ديني عميق من داخله لا مجرد يافطات تبشر بديموقراطية الطوائف.

وهذا ما بدا واضحا لا لبس فيه، من خلال ردود بعض الإسلاميين على مثقفين معارضين (ردود بعض الإسلاميين على مقالة ياسين الحاج صالح حول قضية محمد حجازي، مثلا لا حصرا..)، ردود يعتمد جوهرها على بنية فكرية متخلفة تعود لقرون خلت، بنية ترفض الآخر وتكفّره ما يعني أن الجذر المتحكم في تفكير العقل الاخواني هو ذاته لم تغيره شعارات الدمقرطة وحقوق الإنسان وغيرها من شعارات تطرحها الحركة اليوم، وهدفها إحراج النظام الحاكم لا غير، وهو حق لها سياسيا، دون أن نصدّقه.

وهنا يبرز السؤال التالي: ما دمنا نتمتع بحكم شبه علماني وإن كان مستبدا، لمَ نتراجع عن علمنة الدولة لصالح طائفيتها في بلد متعدد الطوائف والاثنيات. هل كي نصبح تحت حكم دولة دينية ومستبدة في آن؟

ثم ألم يحسب المنادون بذلك، رد فعل الطوائف والاثنيات الأخرى، وهو لن يكون سوى طائفي، أي أن كل طائفة ستشكل حزبها، لأن تمترس الأكثرية في طائفتها سيؤدي حتما إلى انغلاق الأقليات وتعبيرهم عن ذواتهم طائفيا. وهذا شيء شبه محسوم لأن الثقافة الطائفية هي المسيطرة تحت ستار علمانية لم يسمح النظام بإنضاجها بعد ضمن لعبة التوازنات التي يقوم بها ليبقى طافيا. الأمر الذي يتماهى في نهاية الأمر مع مشروع الشرق الأوسط الجديد الساعي إلى بلقنة المنطقة وتفتيتها لتصبح إسرائيل دولة طائفية دينية مقبولة ضمن دول الشراذم الدينية المكونة لشرق أوسط جديد لا مكان به لدولة علمانية.

تشكل المراجعة الحالية للفكر العلماني، فرصة طيبة لطرح حلول تتجاوز استبداد شبه العلمانية القائمة لصالح علمانية تتبنى عقلانية مفتوحة ترى في الديني بعدا من أبعاد المدني ، وفي الديموقراطية فكرة لا غنى عنها لأنها وحدها من يصحح شذوذ العلمانية القائمة، وفي المواطنة التي تعني انتماء المواطن إلى وطنه لا طائفته ولا دينه كما تبشرنا العقائد الإخوانية الجديدة،ضمان انتماء حقيقي وفاعل.

الأمر الذي يحتّم على العلمانيين البحث عن حلول لعلمانيتهم ودولتهم بعيدا عن التجاذب الحاصل بين النظام والمعارضة، لأنها تجاذبات آنية متبدلة تخضع لابتزاز المصالح المتغيرة بين مرحلة وأخرى.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. الأخ محمد ديبو المحترم
    أشكرك على هذه المادة الممتازة برأيي، وأتمنى التواصل معك لاعتقادي بصحة طريقتك في تناول الأمور. أرجو أن ترسل لي بريدك الأليكتروني لنتمكن من التواصل. وفيما يلي مادتان صغيرتان أرفقهما لك لسبب بسيط، لتعلم أننا نفكر بنفس الطريقة التي باتت تبدو وكأنها انقرضت. لكنها في الحقيقة فقط تبدو، لأن جذر مشكلة السياسة المعارضة في سوريا تكمن فيما تفضّلت
    أتمنى التواصل لنتفاهم أكثر
    علي
    الديموقراطية المدنية رايتنا السياسية
    الحوار المتمدن – العدد: 1926 – 2007 / 5 / 25

    تحدث أكثر من واحد من السادة المحاضرين، وممن عقّب على محاضراتهم، عن أن العلمانية لابد من التثقيف بها وتربية الأطفال عليها..إلخ. ومع أن هذا ضروري ولا غنىً عنه، لكنه قليل الأهمية في تأسيس مجتمعنا علمانياً. فعلمنة المجتمع مهمة سياسية بامتياز، ولا يمكن حل المهام السياسية بطرائق ثقافية أو تثقيفية.
    العلمانية مسألة سياسية أولاً لأن الفرد من الطبيعي أن يمارس حريته في التفكير والتعبير والسلوك بالطريقة التي يراها مناسبة، لكن ما قد يمنعه من ممارسة هذه الحرية هو فقط الفعل السياسي لبعض السلطات والأحزاب. وثانياً لأنها تدعو المجتمع إلى التعاقد على صيغة وضعية بعيداً عن أي مرجعية مقدسة، وهذه الصيغة سياسية بامتياز طالما أن المستوى السياسي هو الملاط الرابط لكل مستويات البنية الاجتماعية.
    وكمسألة سياسية، كانت العلمانية تاريخياً مكوناً أساسياً من مكونات البرنامج الديموقراطي الفاعل في بناء المجتمع مدنياً بالاتجاه المعاكس للصراعات الدينية. وبهذا شكلت رافعة سياسية لتمدين التناقضات الدينية، بتحويلها إلى مجرد اختلافات دينية لا علاقة لها بالسياسة. وهذا الفعل السياسي هو الذي قوّض أسس الأصولية الدينية. أما عندنا في سوريا فأعتقد أن الفعل السياسي الذي سيبني مجتمعنا مدنياً لن يرفع راية الديموقراطية العلمانية لثلاثة أسباب:
    • لأن بعض السلطات العلمانية باتت تخلق ما يمكن تسميته أصولية علمانية، إذ لا فرق قط بين فرض الأصوليين الإسلاميين للحجاب وبين فرض نزعه في تركيا وفرنسا.
    • لأن الحياة السياسية من حولنا أعطت للديموقراطية شكلاً يمنع الوحدة المجتمعية، شكل الديموقراطية الطائفية، هذه التي في ظلها ما عادت الأحزاب السياسية للطوائف تسعى لفرض قناعاتها الدينية على المختلفين عنها دينياً، بل صار كل همها استغلال الرابطة الدينية لأفراد الطوائف حتى تحتكر تمثيلهم سياسياً. في ظل هذا الواقع تقل احتمالات العنف لفرض تغيير القناعات الدينية.
    • لهذين السببين، والأهم لأننا نهدف إلى بناء مجتمع مدني، فأعتقد أن الراية السياسية المعبرة عن هذا البناء، والتي فيها كل الزخم السياسي المطلوب من وضوح الهدف وبساطة طرحه والحد من قدرة الحذلقة على تأويله، هي راية “الديموقراطية المدنية”.
    علي الشهابي
    دمشق
    18 أيار 2007

    * مداخلة ألقيت في مؤتمر “العلمانية في المشرق العربي” المنعقد في دمشق 17-18 أيار 2007
    الطائفية و-المعارضة الوطنية الديموقراطية- في سوريا
    علي الشهابي
    mailto:alisha_alisha101@yahoo.co.uk?subject=الحوار المتمدن -الطائفية و-المعارضة الوطنية الديموقراطية- في سوريا&body=Comments about your article http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=38215
    الحوار المتمدن – العدد: 1211 – 2005 / 5 / 28

    كلمة ألقيت في “ملتقى الحوار الوطني الديموقراطي” المنعقد في دير الزور بتاريخ 20 أيار 2005
    سأتكلم فقط في نقطتين:
    1ـ لقد باتت كل الأحزاب السياسية في مجتمعنا إما ديموقراطية أو نصيرة لها. وقد يخرج علينا حزب البعث بعد مؤتمره القادم ليقول إنه ديموقراطي. وبما أن هذا الادّعاء من حق الجميع، فهذا يعني أن الصراع السياسي عندنا بات داخل نفس المعسكر الديموقراطي الذي ينقسم بداهة إلى طرفين رئيسيين:
    الأول يسعى إلى تحقيق الديموقراطية الطائفية والعشائرية، وهذه الديموقراطية قد لا يدافع عنها أحد صراحة لأنها مخجلة جداً. ولكن كل من يسكت عن الطائفيين بذريعة توحيد الجهود ضد السلطة الديكتاتورية الطائفية إنما يدافع عن الطائفية بذريعة الديموقراطية. فالطوائف الدينية موجودة عندنا وهي لا تعيق اندماجنا كمواطنين سوريين، ولكن عندما يصبح وجودها سياسياً فإنها تلغي كل إمكانية لوحدتنا. فوجود الطوائف كديانات في المجتمع لا يمنع الوحدة، كما هي حال السنة والعلويين والمسيحيين في تركيا الديموقراطية العلمانية. أما ما يمنع الوحدة في مجتمع الطوائف فهو التشكل السياسي للطوائف، كما في لبنان والعراق.
    ليس عندنا في سوريا حتى الآن إلا حزبا الإخوان المسلمين وحزب التحرير الإسلامي اللذان يحاولان أن يمدا جذوراً لهما بين السنة. وفي حال أتيحت الفرصة أمام مجتمعنا ليتشكل سياسياً على أسس دينية، فستتشكل أيضاً أحزاب مسيحية ودرزية وعلوية وإسماعيلية. عندها على وحدة مجتمعنا وديموقراطيته السلام. ولهذا ينبغي أن يتلازم العمل ضد الديكتاتورية بالعمل ضد الطائفية. وهذا يرتب علينا من الآن ضرورة العمل ليس فقط ضد ديكتاتورية السلطة وطائفيتها وطائفية الأحزاب القائمة، بل أيضاً ضد كل إمكانية لتشكيل أي حزب طائفي. علماً بأن الإعلان عن عودة رفعت الأسد، ناهيك عن عودته فعلاً، يندرج في إطار تسعير هذه الطائفية. والخطوة الأولى على هذا الطريق، طريق العمل ضد الطائفية، أن ينعقد اجتماعنا الحالي تحت شعار “الدين لله والوطن للجميع”. لذا أرجو من رئاسة هذا اللقاء أن تطرح الآن على التصويت اقتراح تخطيط هذا الشعار وتعليقه في صدر القاعة. (رفضت رئاسة الملتقى هذا الاقتراح وأحالته إلى لجنة الصياغة للبت فيه، لكنها لم تتبنه).
    الثاني يسعى باختصار شديد إلى دمج كل المواطنين، بغض النظر عن انتمائهم القومي، من عرب وأكراد وأشوريين وسريان وأرمن وشركس، وبغض النظر عن ديانتهم أو طائفتهم، على قاعدة التساوي التام في المواطنة، على أساس تساوي الحقوق والواجبات، لصهر الجميع في بوتقة التكوين السوري القائم ضمن الحدود الجغرافية لسوريا الحالية.
    2ـ بما أن الكل يتكلم عن بناء مجتمعنا على أسس ديموقراطية، وبما أن هذا البناء لا يمكن أن يتم إلا بفعل المواطنين وأحزابهم السياسية، وفي ظل الضعف الحالي للمعارضة الديموقراطية، وبما أن الاتجاه العام يميل عملياً إلى انتظار النتائج التي سيتمخض عنها المؤتمر القادم لحزب البعث، لذا أقترح ضرورة قيامنا بصوغ مطالب يراها المواطنون معقولة بحيث يقومون بالتوقيع عليها لمطالبة مؤتمر حزب البعث بتبنيها كشكل من أشكال الضغط عليه. فهذه البداية هي البداية الحقيقية لبداية تولي المواطنين لقضاياهم، وأترك للجنة التي سينتخبها هذا اللقاء موضوع صياغة هذه المطالب.
    وشكراً
    إن رفض رئاسة الملتقى طرح هذا الاقتراح للتصويت حجب معرفة موقف غالبية المشاركين فيه من مسألة الطائفية في سوريا. وبالتالي، كي لا نحمل هذا الموضوع ما لا يحتمل من اتهام القوى والأفراد المشاركين فيه بالطائفية، أو على الأقل بمحاباة الطائفيين. وبنفس الوقت كي لا نقلل من أهمية هذا الموضوع في معرفة حقيقة هذه المعارضة، التي قد يؤيد بعضها ديموقراطية طائفية في سوريا، أعتقد أنه ينبغي على اللقاءات القادمة أن توضح موقفها من المسألة الطائفية. فوحدة المجتمع لا يمكن أن تتأسس إلا بتوحيد كل قطاعاته بالاتجاه المعاكس للطائفية. فمعظم القوى تطرح في برامجها ضرورة فصل الدين عن الدولة، فلماذا تتبناه برنامجياً وتنكص عنه سياسياً؟ أتمنى ألا يكون هذا التبني شكلاً من أشكال ممارسة التقية.
    علي الشهابي
    25 أيار 2005

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى