ما يحدث في لبنان

نافذة الدوحة… بين التحفز الإيراني و «الكسل» الأميركي والغربي

null

حازم الأمين

الوقائع الدامية في لبنان حصلت وفق وتيرتين إقليميتين ودوليتين متفاوتتين، الوتيرة الأولى إيرانية – سورية بدت مستعدة ومتحفزة، وهي أعدت العدة للتحرك والانطلاق، أما الوتيرة الثانية فتتمثل في الموقف الغربي، الأميركي – الفرنسي تحديداً، والذي كانت استجابته لما جرى في الأسبوع الأول للمحنة بطيئة ومتكاسلة، بحيث أوحت الأيام الأولى للمعارك بأن ثمة تخلياً دولياً استطاع حزب الله، وبالمعنى الميداني، استثماره الى ابعد الحدود. ويبدو الكلام عن دفع دولي او أميركي باتجاه المواجهة مع حزب الله تمثل في قراري الحكومة اللذين تم التراجع عنهما، نكتة امام هذه الحقيقة، خصوصاً اذا ما قيس التراجع السريع في مقياس الريبة الدائمة في ان الأميركيين وراء كل المؤامرات، اذ كيف يمكن تفسير ذلك التراجع في هذه الحال!

وبين الوتيرتين، الأميركية الغربية من جهة والسورية الإيرانية من جهة أخرى، ثمة وتيرة ثالثة اربكها غموض الموقف الدولي وعموميته، في مقابل وضوح النيات السورية – الإيرانية، وهي وتيرة الاعتدال العربي.

الكلام عن نتائج ما جرى في بيروت وفي المناطق اللبنانية الأخرى وما جره من نتائج على مستوى الاحتقان الاجتماعي والطائفي، يجب ان لا يغفل المعادلة التي أرساها كسل التجاوب الدولي مع المحنة اللبنانية في مقابل التحفز السوري الإيراني، اذ ان لذلك انعكاسات مباشرة على الوقائع اليومية في بيروت. ففي خلال ساعات المواجهات التي كشفت استعداد حزب الله لها، كان لشعور قوى الغالبية بأنهم وحدهم في المواجهة نتائج مباشرة على الأرض. الدعم العربي كان من الصعب ترجمته وقائع ميدانية، والتصريحات الخجولة والمتحفظة للمسؤولين الدوليين أرخت بثقلها على صدور المحاصرين في رأس بيروت.

لا شك في ان احداً لم يكن مستعداً باستثناء حزب الله، وستكون لهذه الحقيقة نتائج سياسية سريعة من دون شك. الثمن الذي سيدفعه الحزب سيكون في مجال آخر. القول بأن انكشاف الحزب في الداخل ستكون له نتائج تثقل عليه، صحيح الى حد كبير، ولكن لا قيمة لذلك في خضم التفاوض على نتائج ما جرى. ثمة دروس كثيرة تعلمها اللبنانيون في الأيام القليلة الفائتة، لكن الذاهبين الى الدوحة في جعبتهم الوضع الميداني بالدرجة الأولى، وهذا الوضع لا يعكس انتصاراً مظفراً لحزب الله، لكنه يستبطن ضرورة الأخذ في الاعتبار قدرة إيران وسورية على المبادرة ميدانياً، في مقابل حسابات دولية معقدة يجب ان تسبق أي قرار بالمواجهة.

الأرجح ان التسوية اذا ما قيض لها النجاح في الدوحة ستعني هضماً لهذه المعادلة، اذ على الأميركيين ان يدركوا ان ثمناً سيُدفع لقاء «التفوق» الإيراني السوري، وستعني التسوية ايضاً «عقاباً» وتخففاً عربياً من بعض الخطوط العامة للسياسة الأميركية في المنطقة، وربما جاء الترحيب الفرنسي بمؤتمر الدوحة في سياق بلورة اصطفاف يتجاوز حسابات أميركية، ويتعدى لبنان الى بعض الملفات الساخنة، من دون ان يصطدم بهذه الحسابات. فمن الواضح ان الاتجاه العربي للتعاطي مع التهديد الإيراني يختلف في حساباته وتقديراته عن النيات الأميركية. فالعرب، وتحديداً السعودية ومصر، معنيون على نحو مختلف بمخاطر الطموحات الإيرانية، وبعض اوجه هذه الطموحات ملحة بالنسبة إليهم كما هي الحال في لبنان (انتخاب رئيس للجمهورية)، وبعضها تتطلب معالجته الكثير من التأني، وهذه ليست حال الأميركيين حيث يشكل الوضع في العراق وفي إسرائيل (وإذا ما اندرج لبنان في هذه الحسابات فلجهة سلاح حزب الله لا لجهة انتخاب الرئيس) حسابين متقدمين في جدول المواجهة مع إيران.

يترجم هذا الاحتمال التباين في الترحيب بمؤتمر الدوحة، ويعطي للتسوية أفقاً ولو ضئيلاً بإمكان «هدنة» في لبنان يُمرر خلالها انتخاب رئيس للجمهورية وقيام حكومة.

وفي مقابل الثمن الداخلي الذي ستدفعه الأكثرية النيابية لقاء التسوية المرجوة، ثمة أثمان ستدفعها المعارضة من دون شك، وهنا الكلام عن المعارضة وليس عن حزب الله. ففي المفاوضات التي سبقت إعلان وثيقة التهدئة برز ان تنازلاً قدمته الغالبية ويتمثل في عمومية بند السلاح في حوار الدوحة، وتنازلاً مقابلاً قدمته المعارضة يتمثل في إهمال رغبة العماد ميشال عون بتأجيل بند انتخاب رئيس الى ما بعد الاتفاق على الحكومة. التنازلان يعطيان فكرة عن منطقة التضحيات التي من المفترض إنشاؤها حتى تستقيم التسوية. وما يدفع الى الاعتقاد باحتمال انعقاد تسوية في الدوحة اعتبارات أخرى:

ميل الغالبية النيابية المستجد الى ان المواجهة السياسية أجدى بكثير من المواجهة الميدانية، وهذه المواجهة يتيحها تأمين نصاب سياسي يحمي الأطراف التي بيدها مادة دسمة للمنافسة. ويمكن رصد هذا الميل في حركة وليد جنبلاط التي أعقبت اتفاق الفينيسيا.

شعور حزب الله انه راقص وحيد في حلبة الصراع «الميداني» من دون تمكنه من تحويل أي «إنجاز» ميداني الى حقيقة سياسية واضحة، بالإضافة الى الخسائر الفادحة التي تجرها المواجهات في المدن والشوارع والتي ثبت للحزب انها اقرب الى معارك مع الأهالي وليست مع أطراف سياسية مناهضة.

اثبتت الوقائع ان ثمة توازن رعب في الساحة المسيحية ادى الى تفادي انجرار هذه المناطق الى المواجهات، ولم يكن ذلك بفعل مناعة القوى بقدر ما كان خليطاً من شعور المعارضة باختلال في الموازين ليس في مصلحتها، قابلته رغبة من مسيحيي قوى 14 آذار في الإبقاء على مساحة مواجهة سياسية، ناهيك عن ان عرقلة «وثبة» حزب الله في الجبل عقدت احتمال امتداد المواجهة الى المناطق المسيحية. ويبدو من غير المنطقي ان تُخاض حرب في مناطق محددة في حين تبقى مناطق أخرى بمنأى عنها. المناعة الناجمة عن توازن الرعب في المناطق المسيحية ستُصعّب على الدافعين باتجاه التفجير مهمتهم، على قدر ما سيُضعف التفجير مناعة تلك المناطق.

قد يؤدي التمسك بالفراغ الرئاسي الى تهديد وحدة المعارضة، اذ من الواضح ان حزب الله وحركة امل صارا بعد معارك بيروت اكثر قناعة بضرورة انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وقد يؤدي بهما ذلك الى التساهل في بنود تفاوض لن يكون سلاح حزب الله واحداً منها طبعاً، فالتضحية ستكون في مكان آخر.

في اكثر التوقعات تفاؤلاً لن يكون مؤتمر الدوحة اكثر من محاولة ترميم لمعادلة متصدعة وضعيفة. فرصة لالتقاط انفاس على وقع تبدلات في الأمزجة الإقليمية والدولية، لا على وقع تغيرات جوهرية في المنطقة والعالم. ثم أنها هدنة لن تكون مريحة، فما جره إقدام حزب الله على السيطرة على بيروت ثقيل وثقيل، ويطاول معاني كثيرة. ثم ان التأمل في ما تعنيه الاستهدافات التي شملتها تلك الحملة لن يساعد على الاطمئنان، فما بالك مثلاً بتلك السهولة التي أُقفلت فيها وسائل إعلام «المستقبل»، وغيرها كثير من الوقائع المستجدة على هذا الحقل.

الحياة – 18/05/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى