صفحات سورية

تـركيا : حراك علماني يواجهه «صدّ» أوروبي

null


نظام مارديني

تبدو أنقرة في هذه المرحلة في حيرة من أمرها، منذ أجاز البرلمان التركي في التاسع من شباط الماضي التعديلات الدستورية التي ألغت الحظر المفروض على الحجاب في الجامعات والمعاهد التعليمية العليا، وكان رد العلمانيين سبق هذه التعديلات حيث فاجأ القضاء الحكومة التركية في السابع من شباط ـ يوم صوت البرلمان للمرة الاولى على قانون التعديلات ـ وانتخب مجلس القضاء العالي المتطرف العلماني حسن كارجا كلار رئيساً لمحكمة الاستئناف العليا للنظر في طلب المدعي العام لمحكمة التمييز عبد الرحمن يالشن كايا
الى محكمة الدستور اعلى سلطة قضائية في البلاد باغلاق حزب العدالة الحاكم وحظر النشاط السياسي لكل من عبدالله غول رئيس الجمهورية ورجب طيب اردوغان رئيس الحكومة لمدة خمسة اعوام. واحدثت موافقة المحاكم الدستورية على هذا الطلب صدمة في الشارع التركي، وكتب المدعي العام ان «هذا الحزب اصبح مركزا لكل النشاطات المعادية للعلمانية التي تشكل العنصر الاساسي لدستور الجمهورية التركية». غير ان البروفيسور سيف الدين غروسيل الاستاذ المحاضر في جامعة بهيجيشهير يرى «ان هذه المحكمة سياسية مئة في المئة . ان الامر يتعلق بكل بساطة بالنزاع من اجل السلطة».

وتعتبر هذه الخطوة حلقة جديدة ستهدد بإشعال التوترات بين الحكومة ذات المرجعية الاسلامية والمؤسسة العلمانية التي ترى ان حزب العدالة يسيء الى تقويض الفصل بين الدين والدولة، في الوقت الذي ينفي فيه الحزب انه يتبنى اي جدول اعمال اسلامي.

ولعل الابعاد السياسية لمسألة الحجاب تتجاوز في حقيقة الامر العلماني والمتدين، وتتلخص في أن حكومة أردوغان تسعى فعلا من خلال تعديل الدستور إلى تحقيق الهدف الاستراتيجي الخاص بسياستها ونظرتها «لأوربة» تركيا، وهو ما أكده وزير الخارجية التركية علي باباجان قائلاً «إن بلاده يجب أن تلغي حظراً على ارتداء الحجاب في الجامعات في إطار إصلاحات ديمقراطية تستهدف انضمام تركيا للاتحاد الاوروبي».

في ضوء هذه الوقائع جاءت موافقة المحكمة الدستورية العليا في الثاني من نيسان لحظر نشاط حزب العدالة والتنمية الحاكم، مثل الصاعقة التي فجرها وكيل النيابة العامة يالشين كايا في وجه المجتمع التركي بعد ما اتهم «العدالة والتنمية» بانه تحول إلى «بؤرة خطيرة تهدد العلمانية» في تركيا.

وستثير هذه الموافقة نقاشاً واسعاً في الاوساط القانونية التي ذكرت بتركيبة المحكمة الدستورية التي تضم 11 من الاعضاء، 8 منهم من ذوي الميول العلمانية خلافاً لرئيس المحكمة هاشم كليج المعروف عنه ميوله الاسلامية والمحافظة.

والتطور الاخير يشكل إشارة مهمة إلى المرحلة القادمة من التوتر بين الحكومة والقوى العلمانية، وبخاصة أن المحكمة ستضطر قريباً لاتخاذ قرارها في ما يتعلق بطلب حزب الشعب الجمهوري المعارض، الذي اعترض على التعديلات الدستورية التي ألغت الحظر المفروض على الحجاب في الجامعات، ولذلك ستطعن المحكمة في التعديلات المذكورة، وكان قد سبق لها أن منعت الحجاب في الجامعات عام .1989 ويذكر أن محكمة حقوق الانسان الاوروبية كانت قد أيدت عام 2005 قراراً يؤكد على دستورية قرار المحكمة الدستورية التركية. وهذا ما عزز من مخاوف حكومة «العدالة والتنمية» من ان يعاني موقفها من معركة الحجاب، من الانكشاف الغربي، الاوروبي تحديداً، غير ان زيارة رئيس المفوضية الاوروبية مانويل باروسو الى انقرة في العاشر من هذا الشهر، أزالت هذه المخاوف، إذ جاءت الزيارة تأييدا لحكومة أردوغان ، لاسيما بعدما أعلن رفضه القاطع لإجراءات إغلاق أحزاب سياسية تحظى بالقبول الشعبي في أي دولة ديمقراطية بما فيها تركيا ، وطالب باروسو «ان يكون قرار المحكمة الدستورية متماشيا مع مبدأ سيادة القانون والمعايير الاوروبية .

وكان أردوغان سبق زيارة باروسو بتقديم حكومته مشروع قانون الى البرلمان لتعزيز حرية التعبير في تركيا ، ممثلا في تعديل المادة 301 من قانون العقوبات التي واظب الاتحاد على انتقادها كثيرا والتي تنص على معاقبة من يسيء الى الهوية التركية معتبرا إياها مساسا بحرية التعبير .

وما بين «الصد» الاوروبي، و«المواجهة» الداخلية، تنتظر حكومة «العدالة والتنمية» الصوت الاميركي الذي لا يمانع بدخول المحجبات إلى حرم الجامعات، فالنظام العلماني الاميركي يختلف عن النظام العلماني الاوروبي، وقد اكد تقرير صدر في واشنطن ونشرته «ايلاف» في الخامس عشر من آذار، حول اتجاه اميركي في البحث عن «الاسلام المعتدل»، وفي «بناء شبكات من المسلمين المعتدلين في العالم الاسلامي»، وفي هذا الاتجاه يعتبر حزب العدالة والتنمية من الأحزاب الاسلامية المعتدلة الذي استطاع أن ينشئ ما يسمى بـ«الاسلام العلماني» الذي لا يتنكر لتدين مجتمعه ويؤمن بدستوره العلماني. ولكن تدرك انقرة ان الثمن الاميركي لتوجهاتها ليس في الداخل التركي بل خارج حدودها ، اي في ايران وسوريا.

وفي وقت تتفاقم فيه المساجلة داخل مكونات المجتمع التركي حول قراري البرلمان والمحكمة الدستورية، كان اللافت بقاء الجيش صامتاً، وهو الذي نصب نفسه منذ تأسيس الجمهورية حامياً للعلمانية، وإن جنح ضمناً وعلى استحياء للتذكير بموقفه الرافض «للحجاب»، مختفياً وراء قرار المحكمة الدستورية العليا، التي لا تكمن أهميتها لكونها الجهة الوحيدة صاحبة الحق في الاعتراض على التعديلات الدستورية المقترحة من قبل الحكومة والبرلمان، بل لأن دستور عام 1982 قد جعل من هذه المحكمة ذراعاً قضائياً للمؤسسة العسكرية تستقوي به دستورياً في الاطاحة بخصومها. غير أن الجانب المهم من قرار المحكمة الدستورية العليا انه يصدر عن «عقل مجلبب» كما يرى الباحث خالد الحروب، وهو بالاضافة إلى كونه تعديا على أولويات الحرية الفردية فإنه أيضاً يعكس روح الجانب العسكرتاري من الأتاتوركية. وهو جانب ظل دوماً واهي الصلة بالجوهر العلماني لفكرة الحرية وفصل الدين عن الدولة.

في هذا المنحى قد لا يبقى الجيش طويلا خارج النقاش والجدال الدائر داخل مؤسسات الدولة التركية، بل سيدخل المعركة بقوة خلال الفترة المقبلة مستنداً بذلك على قرار المحكمة الدستورية العليا. وهناك مؤشرات قوية على أن هذا القانون سيحدث أزمة في العلاقة بين الجيش التركي والحكومة، فعلى الرغم من أنه منذ وصول حكومة «العدالة والتنمية» إلى السلطة حرصت قيادات الجيش على ألا تتدخل بصورة مباشرة في الامور السياسية إلا أنها هذه المرة خرجت على هذا التقليد، فقد حذر رئيس أركان الجيش التركي الجنرال يشار بويك، وقبل مناقشة البرلمان للقانون من «تسييس الدين» في بلاده، وقال إن الجيش قد يتخذ مواقف «للحفاظ على الطابع المدني» مؤكداً ان «التطرف الاسلامي بلغ مستويات مزعجة» ، والمجتمع التركي «ينساق نحو تجمعات دينية ومذهبية وهو ما أصبح مصدراً لأنشطة مضادة للجمهورية». وأكد بويك أن الهدف الرئيسي للثورة التركية كان ايجاد دولة مدنية، معتبراً أن «الدولة المدنية هي ضمانة التطور نحو دولة عصرية»، مشدداً على أن «العلمانية هي حجر الاساس لكافة القيم التي شكلت الجمهورية التركية».

ولكن ثمة من لا يرى خطورة من مواجهة بين الجيش والحكومة وهؤلاء يستندون إلى ثلاثة أسباب:

الأول: أن حكومة حزب العدالة والتنمية قامت خلال السنوات السابقة وبصورة هادئة بإحداث تعديلات قانونية ودستورية كان من شأنها تخفيف قبضة الجيش على الشأن السياسي.

الثاني: أن أحد أسباب قوة الجيش في المجتمع ومصدر شرعيته هو انه يتناغم مع المزاج الشعبي وفي الحالة الراهنة، يبدو أن غالبية الشعب لا ترفض تعديل القانون الذي يسمح بلبس الحجاب في دور العلم.

الثالث: إذا كانت آلية الانقلاب العسكري هي الاكثر استخداماً من قبل من أجل تعديل مسار الجمهورية، فإن الجيش يدرك جيداً انه من الصعوبة عليه ان يتبع الاسلوب نفسه لان المجتمع الدولي لا يمكن أن يوافق على هذا الخيار. ولذلك جاء الانقلاب بالقانون تجنبا لاي مواجهة مع المجتمع الدولي .

([) كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى