صفحات ثقافية

كتابة بمشارط الجراحة لخيال مفترض لجسد القرن الـ 21: الجمـــال المقولـــب والجمـــاعي

null
احمد مغربي
لكن هناك، حيث يكون الخطر ينمو هناك أيضاً ما ينقذ
(هولدرين)
ما الذي تقوله تلك الأعضاء المفكّكة المتكاثرة جراحاتها إنفجارياً والمتناثرة أنوفاً وخدوداً وصدوراً وأوشاماً على الأجساد في مطلع القرن 21، والتي تبدو على مسافة قريبة من تعديل الجسد بالحمية والرياضة؟ ما الذي يربط بين إنفجار الجراحات التجميلية وبين التوصّل الى تفكيك شيفرة الوارثة (الجينوم) التي تحملها الجينات في الإنسان والسيول اليومية من الأخبار عن إنجازات الطب في الجينات وتراكيبها وتعديلاتها، على سبيل المثال؟ وكيف يكون الشخص هو نفسه، على رغم تعديل أنفه وخدوده وصدره وجلده؟ وفي هذه الحال، كيف تكون هويته الذاتية المتعينة؟ كيف يمكن وصف علاقته مع ماهيته وكينونته؟ إنها أسئلة كثيرة، تأتي من جراحات لا تكفّ عن التوالي.
يُشْحَذْ خيال إنسان القرن 21 يومياً بالإنجازات التقنية التي يتوصل إليها العلماء، خصوصاً تلك التي تتحدث عن قدرتهم على التلاعب بالجينات التي ظلّت إلى ما قبل ثلاثة عقود، عصية على قدرة الإنسان، وشكّلت في الأذهان معطى ثابتاً وحتمياً. استطراداً، ترافق ذلك مع مجموعة من المفاهيم الفلسفية التي تتضمن في قلبها الحتم والثبات والانسجام الداخلي، إضافة الى مفهوم مُحدّد عن الجسد الإنساني وعلاقاته، كما ظهر في فلسفة ديكارت كما سيرد لاحقاً.
من المستطاع القول سريعاً بأن الجسد الديكارتي، الذي يحوم فيه العقل فيه «كالشبح في الآلة» (بحسب وصفه الشهير) من دون أن يحلّ في أي أعضائه، يشهد تفجراً هائلاً في اللحظة الراهنة. أسقط ديكارت القدسية الدينية للجسد، بحيث صار آلة يمتلكها الإنسان، وليس محلاً لكينونة تكثّف الكون ومقدساته، لكنه بقي عصيّاً على فكرة أن تتدخل التقنية (مثل الطب) في تعديله وتبديله، على نحو ما يكونه الأمر في الجراحات التجميلية. وترافق الجسد الديكارتي، وهو نموذج الحداثة، مع تفكير موضوعي وعقلاني وعملاني، وكذلك فإنه مُصرّ على تقديم رؤية منسجمة للكون، بحيث شكّل الانسجام الداخلي لجسد الانسان وأعضائه ووسطه الداخلي (نوع من الغائية، بالتعبير الأرسطي)، افتراضاً أساسياً فيه. ولم يثبت ذلك الجسد العقلاني أمام ذائقة ما بعد الحداثة. لقد شهد تفكيكاً تدريجياً، ليصل إلى وضعه الراهن المُركّب والمُعقّد.
من المستطاع، قبل التفاصيل، الاقتباس من مارتن هيدغر، الذي لاحظ أن الإنسان المُعاصر ينظر الى نفسه باعتباره الكائن الذي يستجيب لمشروع التقنية في استنطاق الكون واستفساره، بالأحرى النظر إليه كمخزون لممكَنات افتراضية متنوعة يعمل عليها العلم، كأن يكون النهر مخزوناً للطاقة الكهربائية. ويبدو إنسان القرن 21، بعد أن مَلّكَته الحداثة جسده وأخرجته من «حرج» تطابق كينونة الإنسان مع جسده، ينظر إلى ذلك الجسد باعتباره مخزوناً فيه مُمكِنات افتراضية لا حصر لها. يغذي العلم الطبي يومياً تلك الممكنات الافتراضية، خصوصاً بما ينجزه في مجال الجينات. ويلوح خلف التلاعب الجيني، الذي يملأ صوته الجهير الإعلام يومياً، ظلالاً لفكرة تشير الى وجود تراكيب ووظائف لا حصر لها ممكنة ومفترضة علمياً. إنه الجسد ـ المخزون، بالتعبير الهيدغري، الذي تعمل عليه التقنية لتسير به صوب انكشاف افتراضاته. بهذا المعنى، تبدو تقنية طبية معينة، هي الجراحة التجميلية، وكأنها تعمل على الجسد ـ المخزون، لترسم صوراً متعددة انطلاقاً منه. كأنها كتابة بالأعضاء المنفصلة المُعدّلة بمشارط الجراحة، لخيال مفترض لجسد القرن 21. وتعبر تلك الكتابة عن انفكاك الجسد من فكرة أنه متكامل، كما تشير إلى أن ثمة أخيلة وأنماط تفكير وسطوات تتداخل في هذه العملية المعقّدة، التي يتوسط عقدها قدرة التقنية على التدخل في الكائن الحيّ وتعديله.
واستطراداً، من المستطاع تذكّر أن الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر رأى في وقت مبكّر نسبياً، أن استسلام الإنسان لكونه الكائن المستجيب للتقنية واستفسارها وانكشافاتها، يشكّل مساراً خطيراً يسير بالكائن البشري نحو الهاوية. فمثلاً، قيل عن تفكيكي شيفرة الجينوم بأنها وضعت الإنسان أمام الانكشاف الاقصى لهوية جسد. وبالتعبير الهيدغري، فإن مصير الانكشاف ليس في حد ذاته خطراً من بين الأخطار، بل هو الخطر عينه، بما يمثّله من استسلام للإنسان أمام منطق التقنية واستفساراتها. عندما لا يكون سوى المسخر للمخزون من الممكن الافتراضي، تظهر هاوية من أنه لن يعامل ذاته إلا بوصفها ذلك المخزون. وفي المقابل، فإن الكائن البشري المعرض لهذا التهديد، هو الذي يتغطرس وينصّب نفسه سيداً للأرض. ولاحظ هيدغر أن ذلك الوضع يراكم وهماً منتشراً مفاده أن الانسان في كل مكان لا يصادف إلا ذاته. ولاحظ أن ذلك يعني أيضاً أنه لا يصادف كينونته في أي مكان. ورأى أن هوية الفرد المعاصر باتت تتصل بمفهوم الانتماء المتبادل لأشياء متنوّعة تتلاقى في ذاته، التي تبدو وكأنها علّة ذلك التلاقي.
وفي المقابل، استعمل هايدغر شعر هولدرن عن «ما ينقذ» ويضمن الاستمرار والبقاء، للقول إنه يجب الخروج من محدودية التفكير بالتقنية ومخاطرها وتطلّب السيطرة عليها، للوصول الى الإمساك بماهية التقنية، من حيث هي تداخل بين الانكشاف والخباء.
وبذا، سار هيدغر بكلمة «أنقذ» لتعني أيضاً ما يقود نحو الماهية، من أجل إظهارها للمرة الأولى، وبالطريقة الخاصة بها.
الأرجح أن ثمة مجالاً للقول بأن الإنقاذ يأتي من التخلّص من الرؤى المحدودة، مثل سوء استعمال التقنية ونقد الطب بالقول أنه يُهدّد دوماً بصنع فرانكنشتاين وحشي، للوصول الى الإمساك بماهية التقنية والسير بها لتأمل ماهية الإنسان أيضاً.
الفأر الخارق المنتصر وهزيمة مايكل جاكسون
لنجرب قراءة ظاهرة الجراحات التجميلية من زاوية أخرى. لنبدأ مرة أخرى، انطلاقاً من مشهد مُركّب من جسدين حيّين. في جانب من الصورة، هناك «الفأر الخارق» الذي تناقلت وسائل الإعلام الخبر عنه قبل سنتين، والذي تلاعب العلم بجيناته بحيث صارت عضلاته أكثر قوة بعشرات الأضعاف. ((استطراداً، يحضر خيال «ميكي ماوس»، إذ يبدو الفأر الخارق في مختبر القرن 21 وكأنه تحقّق لخيال الفن عن فأر خارق في مطلع القرن العشرين. ربما ليست مصادفة. ألم يستنتج هيدغر في نقاشه عن ماهية التقنية، بقدرة الفن على التوصّل الى ماهية التقنية، وليس التفكير الذي يتراوح بين الافتتان بالمنجزات التقنية، والسعي الى السيطرة عليها. وقبله، توصل غاستون باشلار الى استنتاج مُشابه ولكن على مستوى أقل، عن علاقة الفن بالعلم)).
يبدو ذلك الفأر جسداً «منتصراً»، على رغم الالتباسات المتنوعة في ذلك القول، كما يرد لاحقاً. في المقلب الآخر من الصورة التي تفكر بالجراحات التجميلية، من المستطاع وضع جسد مايكل جاكسون (أو ربما الليدي ديانا والعارضات اللواتي قضين لأن أجسادهن لم تحتمل قسوة القولبة بالحمية والرياضة) مشروعاً فاشلاً ومحبطاً للقدرة على تعديل الكائن الحيّ بجراحات التجميل وأدويته. ربما تعطي هذه الأجساد تبريراً لصيحة نقّاد الحداثة بأنها أعلت كلام الجسد المتباهي بإشارات التميّز على صوت الصحة التي ذهبت الى صمت الأعضاء، إلى حدّ الموت. هل يصلح ذلك «الفشل» مثالاً أيضاً عن «الخطر» الذي تتحدث عنه كلمات هولدرن؟ ولكن عن أي فشل يجري الحديث؟ أهو فشل التقنية في استخراج الممكنات المُفترضة والمختزنة في جسم الإنسان (الجسد الطفولي الأبيض العابر للزمن عند جاكسون، والجسد الرشيق الشاب دوماً عند الليدي ديانا)، أم شيء آخر يتصل بعلاقة الإنسان مع التقنية، في هذه الحال التقنية الطبية؟ ما هي علاقة هذين الجسدين المُعدَّلين بجراحات التجميل التي انفجرت لبنانياً وعربياً في السنوات الأخيرة، سيراً على ما حدث في الغرب قبلاً. وبداية، يسهل القول إن الأجساد المنكشفة أمام الجراحات التجميلية تقلّد خيالاً لا يتوقف عن ضرب الأعين بالأجساد التي تشهر جمالها، ضمن المفهوم الراهن للجمال المقولب، وتمارس تعالياً بصرياً على مدار الساعة في أقنية عروض الأزياء والفيديو كليب والجنس والأفلام والمسلسلات وغيرها.
تلك أقوال سهلة وروابط مباشرة. لنجرّب شيئاً آخر. لنَعُدْ الى تلك الصورة المُرَكّبَة. بين «الفأر الخارق» ومايكل جاكسون، من المستطاع قراءة أشياء كثيرة. إن قيل إن الإثنين نماذج لجسد ما بعد الحداثة، فما الذي يقرأ فيه؟
ثمة نقاش عميم عن جسد الحداثة. من المستطاع العودة الى كتاب ديفيد لو برتون «أنثربولوجيا الجسد والحداثة» كنموذج عن ذلك النقاش. فقد رأى برتون أن الحداثة أفقدت الجسد علاقاته الموغلة في القدم والأسطورية التي ربطته بجماعة ضخمة وبهوية ممتدة، كما ربطته بالكون، وأعطته قداسة وجعلته بعيدة عن فكرة التعديل بيد الإنسان وتقنياته. جسد ما قبل الحداثة لم يكن فردياً، بل جزء من جسد أسطوري ضخم (العرق، القبيلة، الجماعة الإثنية…)، يرتاح الى التفسيرات الأسطورية التي تعطيه هالة قداسة وتصله بمرجع وحيد ومتعال ومقدس، بداية من أساطير الإحيائية عن علاقة جسد الإنسان مع الأجداد والغابة والأشجار والحيوانات، ووصولاً الى التقديس الديني للجسد الذي يملك رابطاً ما مع الإلهي. «خلق الله الإنسان على صورته ومثاله» (الكتاب المقدس). «إنا خلقنا الإنسان في أحسن تقويم» (القرآن). في ذلك الجسد، وُضعت أشياء غامضة وقوية مثل الروح. من شأن تعديل أداة في الجسد أن تشكّل انتهاكاً للكائن البشري بوصفه ثمرة الخلق الإلهي. من شأن ذلك التعديل للجسد أيضاً أن يمثّل تعدياً على جلد العالم ولحمه. ذهبت الحداثة بذلك الجسد الذي صار الإنسان يمتلكه كشيء. لم يعد كينونته. صار فردياً ومتعدد المراجع الى حد التذري. واستطاع الطب والأفراد استخدامه، حرفياً. لقد أصبح الجسد مقروناً بالملكية، ولم يعد مقروناً بالكينونة.
في المقابل، فتحت تلك الملكية أمام الطب باباً لدخول في باب تسليع الجسد والعمل في تجارته. يكفي التفكير في الأخبار عن الأعضاء وسوقها مثالاً عن ذلك. واستطراداً، يسير الطب نحو ماركنتلية قصوى في تجارة البيوضات الأنثوية أيضاً، التي تتصل مع التعديل الجيني وهو الأفق المقبل لما تفعله الجراحات التجميلية راهناً. إنه تعديل الجسد وأعضائه حتى قبل ان يتشكل.
ورأى برتون أيضاً أن الجسد الإنساني المُشرّح أصل صورة الحداثة عن الجسد. قبل شيوع ممارسات التشريح في القرن السادس عشر والسابع عشر، لم يكن الجسد متميزاً عن الشخص. لم يكن الإنسان قابلاً للانفصال عن جسده. ولم يكن قد خضع بعد لهذه المفارقة الفريدة المتمثلة بأنه يمتلك جسداً. ارتبطت مفاهيم الحداثة حول الجسد بصعود الفردية كبنية اجتماعية، وبانبثاق فكر علماني ووضعي وعقلاني حول الطبيعة، وبتراجع تدريجي في التقاليد الشعبية المحلية.
ولاحقاً، شرعت ثقافة ما بعد الحداثة في التبلور تدريجياً. ودخل الجسد في سيرورة إعادة ترميز، وكأن العالم الخائب يتطلع الى «روحانيات» جديدة، لكنها تناسب عيش الناس، أفراداً وجماعات، في مجتمعات ما بعد الصناعة ومعطيات العولمة. بات كل فرد يحيك رؤيته للجسد من دون الاهتمام بالتناقضات وعدم تجانس الاستعارات. أصبح الجسد وكأنه «كولاج» سريالي في المجتمعات الحديثة. ويُذكّر الإفراط في الصور المتداولة للكائن البشري بالجسد المقطّع للإنسان المصاب بالفُصام الشيزوفريني، بحسب ما لاحظ المفكر الفرنسي جيل دولوز، خصوصاً في حواراته مع فيلكس غوتاري عن الشيزوفرينيا. ونادراً ما يمتلك الشخص صورة متماسكة عن جسده، إنه يحوّل هذا الجسد إلى نسيج مبرقش من مصادر مختلفة. إنه بحث عن جسد ضائع وعن جماعة ضائعة.
الجمال الجماعي
منذ نهاية الستينيات، انطلق خيال جديد للجسد الذي فرض نفسه كموضوع لتفضيل الخطاب الاجتماعي ومكان هندسي لإعادة غزو الذات، ومكان المجابهة المرغوبة مع المحيط بفضل الجهد (الركض) والبراعة (الانزلاق) وكمكان مميز للرفاهية (الموضة) ولحسن المظهر (الجراحة التجميلية).
وإذ ترسّخ الجسد بوصفه «عامل تفرّد» أخذ يضاعف إشارات التميّز، ويتباهى على طريقة من يروج لشيء ما. لقد راهن الطب الحديث على الجسد وفصله عن الإنسان، فإذا به يصطدم اليوم بالعودة الفظة لرغباته الملتبسة والمتعددة، كمثل رغبته في التمدّد على حساب فرديته، كي يتواصل في شكله مع أجساد أخرى تشبهه فيضحى جزءاً من «جماعتها». إن التساؤل الجذري حول مفهوم الشخص يعبر أساساً عن الصدى الاجتماعي للطب الذي يشكل أحد مؤسسات الحداثة.
وقد حلّل الفيلسوف الفرنسي الراحل جان بودريار في كتابه (التبادل الرمزي والموت) تغيير الاتجاه في النرجسية وفرديتها راهناً. فمن مكان للسيادة، تحوّلت إلى أداة للرقابة الاجتماعية. صار الفرد مشغولاً بصورة للجسد يصنعها المجتمع وثقافته، لكنها تتغير كثيراً ولا تأتي من مرجعية وحيدة. لقد عاد المجتمع ليشتغل جسد الفرد، بل يصادره أحياناً. لا ينتبه الفرد إلى أنه يعيش مع جسده من خلال وساطات كثيرة، ربما تشكّل شاشة التلفزة مساحة لتلاقيها. ويظهر ذلك في التنميط اللامتناهي، لكنه المفتقد الى المرجع الواحد، لذا لا يبدو قمعياً على رغم قوته. إذا كانت هنالك إدارة للجسد بوصفه ملكية، فإنه يخضع لتقلبات البورصة، حيث القيم المؤكّدة تشطبها اندفاعة قيم جديدة، ففي سنّ عدم الحس والقيم، لا يعود للجسد سوى عمق الشاشة.
إذا كانت الفتاة تريد وجهاً وشفتين وأنفاً «رأته» (بالأحرى ضرب عينها مستولياً على عقلها) في أشرطة هيفاء وهبي وإليسا ونانسي عجرم، فما الذي يحصل للسيطرة الفردية على الجسد، وهي الدعوى الأساسية لجراحات التجميل والأوشام ورشاقة الحمية وغيرها؟ إذا سعى الرجل حثيثاً الى أجساد كرة السلة الأميركية الضخمة وجسد كرة القدم ولاعبيها وأوشامها هي صبوته، فكيف توصف درجة تفرّده فعلياً؟ ثمة سيطرة اجتماعية خفية، لكنها قاسية. يجد الفرد تميّزه في الاختيار، وفي انعدام المرجع الواحد وفي الانفكاك من التفكير الكليّ، لكن أقل تنبّهاً لتحوّل جسده سوقاً هائلة، تسندها ثقافة بصرية تتمدد عبر الشاشات، من التلفزيون الى الكومبيوتر. وفي المقابل، تتواتر إشارات الاحتجاج في الإصرار على البدانة مثلاً، وفي عودة الجسد غير المنظم للرياضات الشعبية وغير المنضبطة. ولا تفلح تلك الإشارات إلا أن تكون مجرد احتجاج مُحبَط، ويسقط بسهولة في صورة الماضي النوستالجي، ما يفقده القصد النفعي المسيطر على التصرّف الراهن في الأجساد.
هنالك أسئلة يصعب تجاوزها، مثل السؤال عن الخيال الذي جعل جسد الإنسان محلاً لاختبار المُمكن الإفتراضي. وفي كتابه «الممكن والتكنولوجيات الحيوية»، حاول المفكر كلود دوبرو تقصي المفاهيم (بالأحرى الإبستمولوجيا) المتصلة بالتقدّم الحاصل في الطب الراهن، خصوصاً في علوم الجينات، وضمنها الخيال الذي ترسمه عن الجسد وفكرة الحياة. وترتبط الجراحات التجميلية مع مسألة الممُكن المفترض في الجسد بأكثر من رابط. وأورد دوبرو بأنه من الممكن التفكير بأن الإفتراضي يقف في أساس العلم.
ولاحظ أن تفكيك شيفرة الجينوم حرّض الخيال الإنساني الى حدّ انفتاح حقل الممكنات المتحققة، ما حثّ على إعادة النظر في مفهوم المستحيل في البيولوجيا وكذلك الحدود المتحركة بينهما بحسب المعرفة والإنجازات. في الأصل، تُظهر فكرة التطور الدارويني أن العالم الحي اليوم، كما نراه حولنا، ليس إلا واحداً من عوالم متعددة ممكنة. إن الممكن وثيق الصلة بالواقعي وبالافتراضي أيضاً، إنه تقاطع عالمين أحدهما قد لا يتحقق أبداً والآخر كف عن التحقق دوماً إذ فشلت ذريعة أن وجوده مبرر لبقائه واستمراره وحتمه. وترسم الجراحات التجميلية صورة لقرن يميل الى جعل الفرد العادي متورّطاً في الإنجازات الطبية، وكأنها تنقل إليه المسؤولية لقدرة الطب على إنجاز التدخّل في الجسد البشري. وقبلاً، حمّلته المؤسسة الطبية الكثير من الأعباء بأن جعلت نمط حياته مسؤولاً عن أمراضه، كحال القول الشائع بالعلاقة بين نمط الحياة الشخصي وأمراض السكري والضغط والكوليسترول وغيرها. والمفارقة أن عالم ما بعد الحداثة، جعل الاشخاص العاديين مسؤولين عن مواجهات عسكرية وقع عبؤها قبلاً على المؤسسات العسكرية، كحال الصراعات في كوسوفو وأفريقيا والحرب على الإرهاب وحرب الأصولية الإسلامية المسلحة على «الكفار» وغيرها. في هذه الحروب، يصبح الشخص العادي مسؤولاً عن حياة جسده، وعليه أن يعيش مأساة عودته لتحمّل الهويات الكبرى التي يحملها الجسد. وتحتاج هذه العودة المقيتة الى نقاش من نوع آخر.
السفير الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى