صفحات العالم

امسيحيو العراق: من سيبقى ليكمل؟

أمين قمورية
لم تنفع الاقلية المسيحية في العراق محاولاتها الحثيثة لتنأى بنفسها عن الصراع الطائفي او العرقي الذي تفجّر او فجّر بين السنة والشيعة، او بين العرب والكرد في العراق. ولم يشفع لها نضالها الوطني وكونها مكونا اساسيا من مكونات النسيج العراقي. ولم يحمها تاريخها العريق في بلاد الرافدين الذي يتجاوز عمره الالفي سنة، فدفعت ولا تزال الاثمان الكبيرة قتلا وتهجيرا واحراق كنائس والغاء وجود.
من بغداد الى كركوك، الى البصرة فالموصل، ومجددا الى بغداد، عجلة الظلم والانتهاكات تلاحق ابناءها ودور عبادتهم. لماذا؟ هم يسألون ونحن نسأل. لكن لا احد يجيب او يعرف السبب. انها الحرب ضدهم، او قل إنها اسوأ من الحرب لانك في الحرب تعرف من يقاتلك، اما هنا فلا تعرف سوى انك تموت او تهجّر… انه الرعب الذي يساوي بين كل ابرياء العراق ويوحّدهم.
في ظل الاحتلال الاميركي يُقتلون، وفي ظل الانسحاب من المدن يقتلون، وفي ظل الشرعية الوطنية يقتلون ايضا. وأعدادهم من تناقص الى تناقص مثلهم مثل بقية الطوائف المسيحية في هذا الشرق. كانوا اكثر من مليون عند سقوط ما يسمى “زمن الديكتاتورية”، فصاروا بضع عشرات آلاف في ما يسمى اليوم “زمن الديموقراطية”، ومن سلم منهم تشتت في اصقاع الارض من اميركا واوستراليا، الى لبنان وسوريا… وعذرا سلفا من السيدة فيروز اذا لم يلبوا نداء “منكمل باللي بقيوا”، فاذا ما استمرت الحال على هذا المنوال فقد لايبقى احدا ليكمل!
عند كل منعطف يكونون الضحية التي لا يُحسب لها حساب، ولا تجد من ينتقم لها بالتفجيرات الانتحارية، او بفرق الموت، او بالتطهير العرقي. وعند كل مفترق هم اول من يدفع الثمن. مرة كانوا ضحية الاخطاء السياسية التي ارتكبها المحتل وأزلامه عندما اطلقوا العصبيات العرقية والطائفية التي جعلت الاقليات الكبرى تتسابق على جعل مناطقها المغلقة نقية عرقيا وطائفيا ونظيفة من العراقيين الآخرين. ومرة كانوا ضحية طمع هذه الاقليات الكبرى المدججة بالسلاح في ضم مناطقهم الزراعية والتاريخية الغنية الى اقاليمها الموعودة بالانفصال او الحكم الذاتي. ومرة كانوا ضحية انفسهم بسعيهم الخاطئ الى التقوقع والانعزال على امل حماية انفسهم بالتجمع في سهل نينوى الخصب مما جعلهم مجموعة صغيرة في مواجهة المجموعات الكبرى المتكالبة على السيطرة والتمدد. ومرة كانوا ضحية محاولة تخويفهم لدفعهم الى طلب الحماية والالتحاق بالاقليات الاكبر والاكثر نفوذا. ومرة كانوا ضحية تواطؤ الاحتلال الاميركي وتجاهل حمايتهم عن قصد بهدف تبرير اخفاقاته وتصوير العراق انه بؤرة تخلّف وجاهلية واصولية سوداء، او بهدف جعل مسيحي العراق خصوصا والشرق عموما سلعة سياسية للبيع والشراء لاستجداء مسيحيي الغرب وكسبهم الى صفه في تبريره لاحتلاله الجائر. ومرة كانوا ضحية القانون الانتخابي الطائفي الذي جعل الدولة ومؤسساتها قطعة جبن تتقاسمها الطوائف الكبرى، مما حرمهم من التمثيل النيابي والبلدي. كما كانوا ضحايا الفوضى الامنية في العراق التي جعلت هذا البلد مرتعا لشذاذ الآفاق والتشدد الديني والتيارات التكفيرية.
وهذه المرة مجددا يدفعون ثمن عجز الحكومة المركّبة طائفيا والتي يشغلها التقاتل على السلطة والفساد وتقاسم المغانم وتبديد اموال العراق والحصص النفطية، عن ارساء الاستقرار الامني والسياسي بعد خروج المحتل من المدن.
استهداف المسيحيين في العراق لا يُفقد هذا البلد فقط مكونا اساسيا من مكوناته الرئيسية، بل يفقد هذا الشرق روح التسامح التي يتغنى بها، وهي اغلى ما بقي عنده، اذا كانت فعلا لا تزال موجودة.
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى