صفحات ثقافية

ألوان الكذب السبعة!

null
عزت القمحاوي
لم يعرف تاريخ الكتابة كاتباً ظل على مستوى واحد نصاً بعد آخر؛ فهذه حالة غير بشرية.
القاعدة هي التفاوت، ويبقى الاختلاف بين كاتب وآخر في حجم التفاوت، وفي صيرورة هذا التفاوت: هل يسير الكاتب في خط صاعد أم هابط أم متعرج؟
وراء الخط الصاعد كثير من الدأب، والخط الهابط يخطه كاتب استنام للنجاح وفقد خوفه من الكتابة أو تصرف بشكل لعوب، والخط المتعرج تصنعه المصادفات. وإلى النوع الأخير تنتمي روايات وقصص ماريو فارجاس يوسا الذي تعاني بعض رواياته من الطول المفرط وثقل الإيقاع كحفلة التيس، ومن أخطاء الحرفة (كما في النهاية الوعظية للرواية الفاتنة امتداح الخالة). وهو في هذا يختلف عن صديقه اللدود ماركيز الذي تتفاوت رواياته من دون هذه الأخطاء، على الرغم من أن ماركيز لم تبد عليه نعمة التنظير للرواية، مثل يوسا أو ميلان كونديرا، حتى مطبخه الشخصي كان يعرف كيف يتنصل من الغرباء الذين يطلبون دعوة لزيارته؛ ففي مقال ‘كيف تكتب الرواية؟’ يجيب على من يسألون هذا السؤال بأنه لم يكن ليبخل عليهم بالجواب لو كان يعرفه.
يوسا على العكس، يشبه كونديرا في معرفته النقدية، ويجاهر بهذه المعرفة في كتابين يُنظِّر فيهما للفن الروائي، ترجم صالح علماني منذ عامين أولهما ‘رسائل إلى روائي شاب’ وصدر عن دار المدى، وفيه يتخذ يوسا من الرسالة قناعاً يقول تحته ما يريد في مقالات حول الحبكة والإيقاع والزمن الروائي والشخصيات، وكل عناصر المعمار الروائي، تطبيقاً على عشرات الأعمال المعروفة. أما الكتاب الثاني فهو ‘حقيقة الأكاذيب’ وهو قراءات كتبها في أوقات مختلفة حول عدد من أمهات الروايات، واختار منها القاص والمترجم التونسي وليد سليمان سبعاً من المقالات وضعها تحت عنوان ‘إيروس في الرواية’ بموافقة من الكاتب الذي قدم للترجمة العربية مخاطباً القارئ التونسي فقط ‘إلى أصدقائي التونسيين الذين لم ألتقهم، يسعدني جداً أن يكون أول نص لي يصل بين أيديكم هو هذه المجموعة من المقالات التي تتناول حفنة من الكتب الرائعة’، وكأنه يعرف مأساة انتقال وتوزيع الكتب عربياً، فيتصور أن هذا هو أول ما يقرأه التونسيون له، وأنهم سيقرأونه وحدهم! لكنني وقراء آخرين، غير تونسيين، سنخلف ظنه ونقرأ الكتاب بمتعة نجدها في كثير من رواياته.
اختار وليد سليمان بحسه، قارئاً وكاتباً، الروايات التي توقع أن يكون القارئ العربي قد قرأها، وتشترك في قيمتها الأدبية المؤكدة وفي إيروسيتها التي جعلت صدورها الأول يرتبط بفضيحة أو ضجة: ‘الموت في فينيسيا’ لتوماس مان، ‘بيت الجميلات النائمات’ لياسوناري كاواباتا، ‘المحراب’ لوليم فوكنر، ‘لوليتا’ لنابوكوف، ‘مدار السرطان’ لهنري ميلر، حسناء من روما لألبرتو مورافيا، والمفكرة الذهبية’ لدوريس ليسنغ.
أعمال فازت باللعن للسبب نفسه في كل مرة: نزوعها للجنس، وعلى الرغم من العنوان الذي اختاره لها وليد سليمان، ليست الأيروسية رابطها الوحيد، بل رابطها الأخير؛ فما تشترك فيه هذه الروايات أعمق من هذا.
يجمع هذه الروايات ما يسميه يوسا بـ ‘الشعور المربك بأن أمراً ملغزاً قد بقي في النص بعيداً عن المتناول، حتى بعد قراءته بتأن أكثر. ثمة خلفية قاتمة وعنيفة، شبه منفرة، لها علاقة بالقدر نفسه، بروح البطل وبالتجربة المشتركة للجنس البشري’.
انه بعبارة أخرى الحضور التحتي الذي تتمتع به أعمال غنية تتعدد مستويات قراءتها وتتعدد دلالاتها مثل دوائر يصنعها إلقاء حجر في الماء. وليس شرطاً أن يعي كل قارئ كل هذه الدلالات، بل ليس شرطاً أن يعيها الكاتب، فهي تعبر النصوص مثل أمل خادع من دون ترخيص منه.
هذا النوع من الأعمال يفضح نصوص الرواج الجنسي أو السياسي أو نصوص التصادم مع الدين بشكل مباشر وعامي.
هكذا فإن رواية توماس مان القصيرة ورواية نابوكوف الطويلة اللتين تشتركان في التوله بغلام وطفلة، ترسل كل منهما برسائلها الملغزة في اتجاهات مختلفة. غوستاف فون آشنباخ الكاتب المنظم الأخلاقي يهرب من حياته إلى عالم بدائي ويشاهد الطفل البولندي تاديزيو الذي يقلب حياته رأساً على عقب، ويدمر في أيام النظام العقلاني والأخلاقي الذي تستند إليه حياة غوستاف، من دون أن يستطيع تقاسم ملذات أو حتى عذابات الشغف مع الكائن الذي أثارها.
جمال الطفل كان مجرد الحافز الذي أطلق حالة تدمير انتهت واقعية بالكوليرا التي يمكن أن نستقبلها في قراءة أخرى بوصفها تجسيداً لانحلال أوروبا الاجتماعي والسياسي، الخارجة من زمن الانفلات المرح إلى الاستعداد للتدمير الذاتي.
وبالمثل لم تكن غراميات همبرت همبرت مع الطفلة ذات الإثنتي عشرة سنة (الأصغر من جولييت شكسبير بعام واحد) مجرد غواية رجل ناضج لحورية صغيرة، فالوقاحة الكبرى هي التدني إلى مستوى الدمى المتحركة الذي بلغته شخصيات الرواية، وهناك السخرية المتواصلة من المؤسسات والمهن، والهجاء للطبقة المتوسطة الأمريكية وميوعة القيم في نظام الموتيلات التي نزل فيها الكهل والطفلة، بينما يمكن قراءة الرواية في مستوى آخر بوصفها خيبة أمل من قلة نضج الولايات المتحدة بعد حبه الجارف لها.
لا ينسى يوسا أن يذكرنا بألا نتأسى على ما تفقده النصوص بالترجمة، فنحن أيضاً كقراء قد نضيف إلى تلك النصوص من أوهامنا ومن إساءات القراءة؛ فنجده وهو بصدد الحديث عن جميلات كاواباتا، يخبرنا عن انبهاره بنهاية رواية لجونكيرو تانيزاكي، كانت البطلة قد حبست نفسها في منزلها لتطبخ وجبة لذيذة من السمك، بعد أن عرفت ضروباً من المحن. ورأى في تلك النهاية رقة مفرطة وحساسية معقدة يصعب على الإنسان الغربي فهمها، وظل على هذا الوهم بعبقرية النهاية إلى أن خربها له صديق ياباني عندما أخبره أن السمك الذي طبخته كان سماً، وهكذا فإن ما حسبه فعل انعتاق فردوسي تبين أنه حادثة انتحار عادية.
‘إيروس في الرواية’ هو حفلة الكاتب الذي يقدم في سبعة مقالات مترجمة برقة وعذوبة، دعوة حقيقية لتقاسم متعة تذكر روايات أحببناها، ونقارن ما توصلنا إليه، لنعرف إن كنا نصلح قراءً أم لا!
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى