صفحات العالم

تحرك عربي أمام طموح سوري قديم

د. خالد الدخيل
شهد يوما أمس وأول أمس تحركات عربية فاجأت الجميع. في القاهرة حصل اجتماع ثلاثي لم يعلن عنه من قبل، ضم الرئيس المصري حسني مبارك، والرئيس الفلسطيني، محمود عباس، ووزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل. في نهاية الاجتماع غادر وزيرا خارجية السعودية ومصر فجأة إلى أبوظبي على طائرة الوزير السعودي. بعد ذلك جاءت الأخبار بأن اجتماعاً عربياً موسعاً لوزراء خارجية عشر أو اثنتي عشرة دولة عربية سيعقد في أبوظبي. ماالذي يحدث؟ هو السؤال الذي فرض نفسه مباشرة. لعله من الواضح أن هذه التحركات تأتي في أعقاب الحرب على غزة، ودعوة خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس”، لإيجاد مرجعية فلسطينية بديلة، واختتام زيارة موفد الرئيس الأميركي جورج ميتشل للمنطقة. في الوقت نفسه تأتي هذه التحركات العربية بالتوازي مع تحركات أخرى في اتجاه العاصمة الفرنسية من قبل الرئيس الفلسطيني الذي طار إلى هناك مباشرة بعد اجتماع القاهرة، ورئيس الوزراء القطري، حمد بن جاسم، والمبعوث الأميركي. اللافت هنا أن كل هذا الحراك يأتي من قبل أعضاء ما أصبح يعرف في المنطقة بـ”جبهة الاعتدال العربي”. لكن وجود رئيس الوزراء القطري يعطي الانطباع بأن الجبهة العربية الأخرى، المسماة بـ”جبهة الممانعة” كانت حاضرة بشكل أو بآخر في هذه التحركات. وهذا ليس لأن قطر دولة “ممانعة”، لكنها حليفة لهذه “الجبهة”.
اللافت أيضاً أن محاولة الإجابة على السؤال السابق جاءت هي الأخرى بشكل يعكس اختلاف الرؤية للأحداث على قاعدة “الاعتدال” و”الممانعة”. صحيفة “الحياة”، مثلا، وهي صحيفة سعودية، ومن ثم تعتبر ناطقة باسم الاعتدال، قدمت تلك التحركات العربية، ونقلا عن مصادر رسمية في القاهرة على أنها استهدفت التركيز “على استعجال المصالحة الفلسطينية للتوصل إلى موقف موحد يمهد لبدء مفاوضات جادة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وإحياء عملية السلام”. كما أشارت إلى أن اجتماع القاهرة “ناقش طرح أفكار جديدة لم تتضح بعد”. وحسب الصحيفة فقد قال مصدر فلسطيني (السفير الفلسطيني في القاهرة نبيل عمرو) إن “الاجتماع ناقش أيضا أفكاراً جديدة نقلها المبعوث الأميركي”. حسب هذه الرؤية تعكس التحركات العربية المفاجئة قلقاً واضحاً من تفاقم تداعيات الحرب على غزة، وخاصة محاولة الطرف الآخر، أو أطراف “الممانعة” استثمار هذه التداعيات لتعميق الانقسام الفلسطيني، وبالتالي استخدام “حماس” للضغط على الطرف الآخر، أو السلطة الفلسطينية، لإضعاف موقفها في التجاذبات التي تعتمل حالياً في المنطقة، وخاصة في مسألة التسوية. ولعله من الواضح أن إضعاف السلطة لصالح “حماس”، سيؤدي إلى إضعاف الموقف الفلسطيني، مما يجعل من التسوية أمراً مستبعداً في الوقت الحاضر، ومن ثم خسارة أطراف الاعتدال، وخاصة مصر التي تقود جهود التسوية. من هذه الزاوية تهدف المصالحة الفلسطينية إلى قطع الطريق على محاولة سوريا وإيران توظيف الورقة الفلسطينية.
من جانبها تقدم الصحف اللبنانية المحسوبة على سوريا، الدولة العربية الوحيدة في محور “الممانعة”، رؤية لا تختلف كثيراً إلا في تركيزها على هذا الجانب من الانقسام العربي، وتقديم الحدث من الزاوية الأخرى. صحيفة “السفير” وضعت عنوان تغطيتها للتحركات العربية هكذا: “محور الاعتدال العربي ينعقد اليوم في أبوظبي لإنقاذ المبادرة المصرية… واحتواء حماس وإيران”. وتلخص الصحيفة رؤيتها للأحداث في أن “المبادرة المصرية التي التفت دول الاعتدال العربية حولها كآلية لاستعادة الدور في الموضوع الفلسطيني تقترب من الفشل” وأن “الموقف الذي أعلنه رئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل في العاصمة القطرية الدوحة وكشف فيه النقاب عن مداولات تجري لإنشاء مرجعية فلسطينية أخرى، هي القشة التي قصمت ظهر البعير… ورأى محور الاعتدال العربي، وخصوصاً مصر، في هذا الموقف إشهاراً للطلاق من جانب حماس عن العمل العربي المشترك وارتماء كاملا في أحضان إيران. وبدا أن من واجب هذه الدول الإقدام على خطوة مهمة على هذا الصعيد. ولم تعدل من هذه الرؤية تفسيرات حماس اللاحقة لكلام مشعل ولا حتى تراجعها عن بعض ما قالته في هذا الشأن. أما صحيفة “الأخبار” اللبنانية، والقريبة من سوريا، فتنقل عن ما أسمته مصادر مطلعة بأن “السعودية تقود تحركات عربية لتنسيق المواقف، وعزل إيران ونفوذها وبلورة موقف عربي موسع ضد التمدد الإيراني في القضية الفلسطينية…”. وتبدو الصحيفة هنا أبعد عن طبيعة التحركات الجارية، ومن ثم فهي لا تقدم خبراً حقيقياً بقدر ما تقدم قراءة أو رؤية للحدث. ولذا تضيف الصحيفة اعتماداً على ما تسميه المصادر بأن “الهدف الأساسي هو إنشاء شبه جدار حماية أو تحالف غير مرئي، مالي وسياسي، من دول لديها خلافات مع إيران”. اللافت في كل ذلك أن ما يقال حتى الآن لا يمثل رأياً رسمياً، ليس في العلن على الأقل. لكن يبدو كما لو أن الأطراف العربية المختلفة تمارس جزءاً من التخاطب فيما بينها من خلال الإعلام.
مهما يكن هناك عنصر آخر في الإطار الذي تتم فيه التحركات العربية الأخيرة، وهو العنصر المتعلق بمحاولات سورية قديمة جديدة لامتلاك ورقة فلسطينية مهمة. وقد جاءت حرب غزة بفرصة جديدة لتحقيق الهدف نفسه. فالعقدة السورية المزمنة أنها لم تنجح قط في امتلاك ورقة فلسطينية مهمة. كانت هذه الورقة دائماً أقرب إلى مصر: مصر الراحل عبدالناصر أولا، ومصر مبارك الحالية ثانياً. وبسبب ذلك كانت سوريا ولا تزال تشعر بشيء من العزلة داخل منطقة الشام. فالأردن عصي على السيطرة السورية، والفلسطينيون حسموا أمر تحالفهم مع مصر منذ أيام الرئيس الراحل ياسر عرفات. حاولت سوريا في الماضي السيطرة على الورقة الفلسطينية، وتسبب ذلك في صدامات مريرة مع منظمة التحرير، خاصة أيام الحرب الأهلية اللبنانية. كان الفلسطينيون يدركون الهدف السوري، وكانوا يقاومونه بتصميم واضح. لهذا السبب بقيت علاقة المنظمة مع دمشق تتراوح بين البرودة، والتوتر، والصدام أحياناً. لم يتبق لسوريا في مواجهة إسرائيل إلا لبنان. وحتى هذا الأخير أجبرت سوريا على الخروج منه بعد اغتيال الحريري، إلى جانب أنها وجدت نفسها في مواجهة انقسام لبناني إزاء العلاقة معها.
عند هذا المنعطف برزت “حماس” كخيار مغر لدمشق لتحقيق ما كانت تطمح إليه منذ عقود. هذا يعني أن تحالف سوريا مع “حزب الله” اللبناني هو ضروري بالنسبة لها، لكنه ليس كافياً بحد ذاته. لابد من ورقة فلسطينية تعطي سوريا شيئاً من الشرعية والرمزية الفلسطينية. “حماس” بعد الحرب على غزة أصبحت تملك، أو قريبة من هذه المواصفات. مشكلتها أن توجهاتها تعمق الانقسام الفلسطيني، وأن السياسة السورية لم تحظ من قبل بثقة الفلسطينيين. تحتاج “حماس” إلى طرف يوفر لها غطاءً عربياً، ويعزز من موقعها على الساحة الفلسطينية أمام منظمة التحرير. وعند هذه النقطة تحديداً التقت مصالحها مع سوريا. المشكلة أنه مع استعدادها لتوفير الدعم السياسي، إلا أن دمشق لا تملك توفير الغطاء العربي اللازم والمطمئن. إلى جانب ذلك الثمن الذي تنتظره دمشق مقابل هذا الدعم قد يكون باهظاً لـ”حماس”. من هنا إصرارها على إبقاء قناة للتواصل مع مصر، وحرصها على عدم الاصطدام مباشرة مع السعودية. طهران أيضاً لا تملك مثل الغطاء الذي تحتاجه “حماس”. الهدف البعيد لـ”حماس” هو أن تكون بديلا لمنظمة التحرير. وسوريا لا تمانع في إضعاف المنظمة، أو حتى استبدالها بمن هو مستعد للتحالف معها. لكن كيف يمكن تحقيق ذلك؟ أين تقع إيران في هذه الصورة؟ علاقتها مع “حماس” ليست استراتيجية كما هي علاقتها مع “حزب الله”. لكن “حماس” تبقى قاسماً مشتركاً في هذه المرحلة بين عاصمة الأمويين والعاصمة الفارسية. لذلك تدعم طهران المساعي السورية للحصول على ورقة فلسطينية تقوي من موقفها تحت غطاء المقاومة. سوريا هي البوابة الوحيدة أمام طهران للدخول إلى الساحة العربية.
شعور مصر بما يحصل دفعها إلى إعلان مواجهة مكشوفة مع طهران، وأخرى مغلفة مع دمشق. أيضاً أعلنت السعودية عن موقف مشابه أمس بعد جلسة مجلس الوزراء. ومن ثم فالتحركات الأخيرة جزء من السباق على صياغة تداعيات الحرب على غزة، والاستفادة منها لتحسين موقف السلطة الفلسطينية، وتعزيز فرص المصالحة. النجاح في ذلك يعني إبقاء سوريا بعيدا عن ورقة فلسطينية مهمة، أو على الأقل إضعاف هذه الورقة بما يؤدي إلى تحييد فعاليتها.
جريدة الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى