ما يحدث في لبنان

سنّة وعلويون في موقد الطائفية

null
سوسن الأبطح
لم أصدّق أذنيّ وأنا استمع إلى ما يخبرني به أحمد المرج، عضو المجلس البلدي الطرابلسي عن منطقة «باب التبانة»، التي أقضّ مقاتلوها مضاجع المدينة وهم يتبادلون الصواريخ والمدافع مع أهالي «جبل محسن» الملاصق لهم على مدى يومين متواصلين، قتل خلالهما أكثر من 10 أشخاص وجرح عشرات آخرون، هذا غير البيوت التي أحرقت والعائلات التي تشردت. قال الرجل الذي يعرف المنطقة عن كثب بمقاتليها وأزقتها الضيقة وأسرارها الدفينة ما لم يجرؤ على الاعتراف به غيره، وهو أنه من الخطأ الكلام على معارضة أو موالاة في «باب التبانة»، ففي هذه المنطقة جماعات مسلحة تنتمي لأطراف سياسية سنية متناقضة، ومناصرو عمر كرامي يقاتلون إلى جانب مناصري سعد الحريري ونجيب ميقاتي ومحمد الصفدي، وكأنهم رجل واحد حين يستشعرون ضرورة الدفاع عن منطقتهم في مواجهة سكان «جبل محسن» العلويين بغالبيتهم. كلام عجيب، ربما لا تحبه الموالاة وتحرص على إظهار باب التبانة وكأنها منطقة موالية، لها لكنها مشاغبة ومتمردة. لكن الحقيقة المرّة، والتي بات من الصعب التغاضي عنها، ان منسوب الطائفية ارتفع في لبنان إلى حد تجاوز زعامات الطوائف ومقاماتها الدينية أحياناً، وبات على هؤلاء أن يقوموا بجهود جبارة كي يلحقوا بتطرف قواعدهم الشعبية أو يرضوا نزقها. صحيح أن السياسيين هم الذين اشتغلوا على التعبئة المذهبية والشحن الطائفي، ولعبوا على الوتر الفئوي لتحقيق مكاسب صغيرة وحقيرة أيضاً، لكن شرارة التطرف سرعان ما تشتعل حتى تحرق أصحابها قبل غيرهم. وربما أن أصحاب الخطب الرنانة من كل طائفة ومذهب، لم يتوقعوا ان يزايد جمهورهم عليهم بهذه السرعة، وعلى هذا النحو الجامح، لكن واقع الحال يشي بالأسوأ.
وما هو خطير، أن المقاتلين من أهالي باب التبانة بصرف النظر عن انتمائهم السياسي، هم من يقررون بدء المعركة أو الرد من عدمه على جبل محسن، كما أنهم ليسوا بالضرورة ملزمين بإيقاف القتال متى أعطيت الأوامر بذلك من قياداتهم. فثمة من يخبرك بأن الزعيم لا يريد أن يخسر ناخبيه ايضاً، والمقاتلون وأسرهم هم ناخبون أولاً وأخيراً، وفي معرض الدفاع عن الكرامة والشرف، تكون الكلمة الأخيرة للسلاح والقبضاي الذي يحمله، لا للسياسي الذي يجلس في مكتبه.
هكذا بات من الواضح أن القيادات السنية التي تجتمع في الصالونات الأنيقة لتوقيع الاتفاقات بين باب التبانة وجبل محسن، ليست بالضرورة صاحبة الأمر والنهي على الأرض، وهي إن أمسكت ببعض خيوط العواطف المتأججة، فخيوط أخرى تفلت منها، فيما القيادة العلوية واحدة، بمقدورها أن تضبط الميدان بكبسة زر. هذا يفسر المسافة الزمنية، التي سقط خلالها ما يزيد على خمسة قتلى، بين الاتفاق في الصالونات وتنفيذه على الأرض، وهي المسافة التي تفصل بين الزعماء ومناصريهم.
هكذا نفهم ان الشعور السني المتصاعد بالاضطهاد، بعد «غزوة» بيروت وقبلها أيضاً، لن يعود بالفائدة على أحد، ولا حتى على الزعامات نفسها. فلم يعد من صوت يعلو على صوت الطائفة في لبنان، بدليل أن مقاتلي باب التبانة لم يتذكروا وهم يواجهون جيرانهم العلويين سوى انتمائهم إلى مذهب واحد، وهذا أكثر من مرعب ومخجل. وبمقدورك أن تسمع من عشرات الأشخاص في المنطقتين المتنازعتين منذ ثلاثين سنة، أن أي طرف ثالث يمكنه وبلمح البصر، أن يشعل حرباً ضروساً لا تبقي ولا تذر، وان المنطقتين بائستان وهما ضحيتان لصراعات لا ناقة لهما فيها ولا جمل، ومع ذلك فهما لا تتوبان عن الاقتتال. وهو اعتراف بالخطأ مع الإصرار على التمادي فيه، وما التعصب في اللغة إلا «عدم قبول الحق مع ظهور الدليل بسبب الميل إلى جانب دون آخر».
فمنذ كنا صغاراً ونحن نسمع أن «الحرب علْقت بين فوق وتحت»، أي بين جبل محسن وباب التبانة، كبرنا وما زلنا نكرر هذه العبارة السقيمة كلما بدأت القبيلتان السنية والعلوية اقتتالهما الأخوي، الذي يتخذ سكان المنطقتين (100 ألف نسمة) رهائن. تغيرت عناوين كثيرة لهذه الحرب الطويلة بين الطائفتين الجارتين، وتبدلت يافطات بدأت بتحرير فلسطين ولم تنته بإخراج السوريين من لبنان، وما يزال عند الطرفين من الغضب والروح الثأرية والاندفاع ما يكفي وقوداً لحروب مئة سنة مقبلة. فقد ارتاح الآباء المقاتلون الذين شاركوا في الحرب الأهلية، وسلموا المهمة لأولادهم، ولن نستغرب أن يرثهم جيل ثالث لإكمال المهمة. فبما ان الموضة الطائفية بين سنة وشيعة هي في أوجها، وسوق الطائفية يلقى رواجاً مميتاً، فهذا يعني أن لسنة طرابلس وعلوييها صولات وجولات مستقبلية عليهم أن يخوضوها دفاعاً عن الكرامة والعرض، وإلا فما نفع الرجال. وعليك ألا تسأل في هكذا أحوال عن العقل. فالعصبية في لغتنا السمحاء آتية من «العصب»، أي «تلك الأربطة والأنسجة التي تشد المفاصل إلى بعضها البعض ـ هذا بحسب لسان العرب ـ عند الإنسان وبهيمة الأنعام على حد سواء، وهي عكس الإدراك والوعي كصفتين إنسانيتين خالصتين. وفي لبنان تغلب «العصبية» وتتفانى الكائنات في التعصب الذي وحده يستطيع أن يشد أزر الطائفة الواحدة، ويجعلها متراصة مترابطة لمواجهة الطوائف الأخرى (العدوة).
والعداء السني ـ العلوي في طرابلس، أكثر أصالة وعراقة من العداء السني ـ الشيعي، المستجد على الساحة، فهو مرتبط بذكريات النظام السوري في لبنان، الذي تحمّل الطائفة العلوية وزره وكأنها ممثلة رسمية له على الأراضي اللبنانية. والمضحك المبكي انك في أوقات الصفاء لا تستطيع أن تفصل بين «فوق» و«تحت»، فالتداخل شديد، والجيرة تأخذ مداها، زيجات وصلات قربى، أما حين يجنّ الجنون، ويزمجر الدم القبلي في الشرايين، يمتشق كلٌّ سلاحه، ويسدد طلقاته بلا رحمة.
الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى