صفحات ثقافية

اغلب القراءات النقدية لها تدور في المحيط الخارجي للتجربة: مقاربة نقدية في القصة الساخرة في سورية

null
أحمد عزيز الحسين
حظيت القصة القصيرة في سورية بمن يكتب عنها كتابة منهجية منذ ثلاثة عقود ونيف، وقد اتسمت المؤلفات المكتوبة عنها بالغزارة وتنوع المقاربات والرؤى النقدية، وفي هذا الصدد يمكن أن نذكر مساهمات حسام الخطيب وعدنان بن ذريل ونبيل سليمان وعبدالله أبوهيف ورياض عصمت ومحمد كامل الخطيب وعبدالرزاق عيد وأحمد جاسم الحسين وغيرهم. والملاحظ أن ثمة نزوعاً ساخراً بدأ بالتوضع داخل الفضاء القصصي السوري منذ الخمسينات في نتاج حسيب كيالي ويوسف أحمد المحمود، ثم في بعض نتاج وليد مدفعي وأديب النحوي وسعيد حورانية وزكريا تامر. وقد انضم إلى هؤلاء الكتاب، في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، عدد لافت للنظر من الكتاب الشباب، اقتصر بعضهم على كتابة القصة الساخرة كخطيب بدلة، وجمع بعضهم الآخر بين القصة الساخرة والقصة الجادة كوليد معماري وحسن م. يوسف وأحمد عمر ونجم الدين سمان ومحمد منصور ونجيب كيالي ومحمود عبدالواحد ومالك صقور، وقد وشى هذا التنامي باستمرار النزوع الساخر في القصة الساخرة وتحوله إلى مشروع اتجاه أو ظاهرة.
والواقع أن هذا النزوع لم يلقَ إلى الآن اهتماماً نقدياً يوصِّفه ويؤطره شأنه في ذلك شأن كثير من الظواهر الأدبية والثقافية في سورية، وقد اقتصرت مقاربته على كتاب يتيم قام بإعداده القاص خطيب بدلة عنوانه ‘الساخرون’ (صدر عن دار ‘الأهالي’ بدمشق عام 1990)، وعلى دراسة نقدية كتبها القاص محمد محيي الدين مينو، وخصصها لدراسة عالم خطيب بدلة السردي، (وصدرت عن دار ملهم بحمص عام 2005)، كما ظهرت خلال القرن الماضي بعض الدراسات النقدية القيمة لصلاح صالح ورضوان القضماني ونذير جعفر وآخرين، واكبتها بعض المراجعات النقدية ذات الطابع الإعلامي، لكنّ طابع الاحتفاء طغى على أغلب الكم المنشور؛ بحيث لم يضئ هذه التجربة من الداخل، ولم يفلح في وضع إطار منهجي رحب يقاربها من خلال تفكيك بنيتها النصية، والملاحظ أن هذه المساهمات، وإن حاولت دراسة حسيب كيالي ومن تلاه من كتاب القصة الساخرة، إلا أنها بقيت تدور في المحيط الخارجي للتجربة، واقتصرت طبيعة مقاربتها على المطابقة بين البنية النصية والبنية الاجتماعية، أو على الفصل بين لغة حسيب كيالي الساخرة (!!) وبنية القصة لديه؛ بحيث بدا واضحاً أن السخرية وفق المساهمات السابقة، تنبع في تجربة الكيالي من اللغة وحدها مفصولة عن البنية السردية المندغمة فيها، أو عن طبيعة المتن الحكائي نفسه ؛ وهكذا لم نعرف، مثلاً: لماذا استعان حسيب كيالي أو يوسف أحمد المحمود بمفردات محلية معينة في قصصهما، ألأنهما أرادا ذلك وتقصَّداه بمعزل عن علاقته بالمعمار الفني الذي تعالق معه؟ أم لأن بنية القصة لديهما وحركيتها الداخلية هي التي أوجبت عليهما استدعاء هذه المفردات دون غيرها؟
إن فهم ‘ السخرية ‘ في تجربة الكيالي / المحمود لا يتجاوز في أغلب الدراسات السابقة النظر إلى الألفاظ معزولة عن بنيتها النصية، وإلى المبنى الحكائي بوصفه بنية نصية صغرى مُنتجة في سياق بنية نصية كبرى، إذا استخدمنا مصطلحات الناقد المغربي سعيد يقطين.

بين المصطلح والمفهوم:

وفي رأيي المتواضع أن ما كُتِب عن جيل حسن م. يوسف ووليد معماري وخطيب بدلة وأحمد عمر وغبرهم لا يتجاوز المقاربة السابقة، ولا يرتقي فوق المفهوم الشائع لعلاقة اللفظة الساخرة (!!) بالقصة الساخرة، مع ملاحظة أنني لا أعتقد بوجود لفظة ساخرة معزولة عن معمارها السردي، فالمشتغلون في حقل السرديات يرون أن الكلمة في المتن السردي ما هي إلا عنصر مكون للمبنى الحكائي، والمبنى كيفية فنية يتجلى بها المتن الحكائي نفسه في بنية سردية، ولهذا فالسخرية لا توجد في المتن الحكائي وحده بل هي متموضعة في المبنى الحكائي بوصفه تشكيلاً فنياً للمتن الحكائي نفسه.
وقد توقف الناقد السوري صلاح صالح في محاضرته ‘مستويات السخرية في القصة السورية القصيرة’ التي قدمها في المهرجان الأول للقصة الساخرة في سورية (طرطوس1997) عند مصطلح ‘ السخرية ‘ ولاحق دلالته في المعاجم الاصطلاحية العربية وجذوره في التراث السردي العربي، كما رأى أن تجليات هذا المفهوم في القصة السورية مختلفة بين كاتب وآخر، وهي عند بعضهم تقترب من الكوميديا السوداء، في حين أنها عند آخرين قشرية ولا تمس الموضوع المتناول إلا مساً شفيفاً، كما توقف عنده الدكتور رضوان القضماني في مداخلته التي قدمها في ندوة المهرجان، وأشار إلى أن الشعرية في القصة الساخرة تنبثق من استخدام اللفظة وتوظيفها، وأن اللفظة الساخرة هي التي تصور الحدث، وأن الحدث في القصة الساخرة تخلقه ألفاظ ساخرة، وفي ضوء ذلك قرأ بعض القصص المقدمة في المهرجان مركزاً على كيفية تجلي هذا المفهوم في البنى النصية المدروسة، أما يوسف أحمد المحمود (أحد أعلام القصة الساخرة في سورية) فرأى في شهادته التي قدمها في المهرجان أن الكتابة الساخرة لا تحصل على وجهها الصحيح إلا أن تكون واقع الواقع، وأن تُكتَبَ بضمير المتكلم؛ بمعنى أن صاحبها ارتضى أن يسخر من نفسه، بل ومن قدره، يكتب بألفاظ حدثه على ما جرى هذا الحدث / واقع الواقع، وهو لا يأنف من استخدام ‘الألفاظ البذيئة!!’، الرذيلة، المعيبة، السافلة، المنحطة إذا اضطره تصوير الحدث إلى ذلك، أو لأن الألفاظ تولَدُ من الحدث على هيئته وعلى مثاله كما يقول.

نجم الدين سمان واللعب اللفظي:

انطلاقاً مما سبق أسمح لنفسي بتقديم هذه القراءة لنماذج من القصة الساخرة في سورية، وأبدأ مع قصة (بيجاما زرقاء سماوية) للقاص نجم الدين سمان، فألاحظ أولاً أن هذه القصة تستثمر اللعب اللفظي وتحوير الكلمات والأصوات، وأن هذا اللعب بدا مُتقَصَّدا في بعض مقاطع القصة لكن الكاتب استطاع بحرفيته وخبرته الفنية أن يجعله جزءاً من بنية النسيج السردي، وإن بدا للقارئ مفصولاً عن المعمار الفني للقصة في القراءة الأولى، وفي درجة متدنية من درجات السخرية هي السخرية اللفظية، التي تجيء فيها الألفاظ مفصولة عن بنية القصة ومملاةً عليها، ومستعصية على الدخول في نسيجها اللغوي؛ ولهذا يبدو عنصر ‘ القصديّــة ‘ عنصراً ملتبساً في صياغة بنيتها اللغوية، ويفتقر إلى العفوية الخالصة التي نعثر عليها في قصص سابقة وناجحة للكاتب في مقدمتها: ‘وشم في مفاصل مقبرة’ و’قصة الساعات’.

عبدالحميد يونس ورمزية القناع:

كذلك تستعصي قصة ‘ الصراع ‘ لعبدالحميد يونس (التي قدمها في المهرجان الأول للقصة الساخرة) على الانضواء في خانة هذا النوع من القص ، وأعتقد أن متنها الحكائي جاد، ولا ينهض على أي من التقنيات التي تبنى بها القصة الساخرة، وفي مقدمتها ‘تقنية المفارقة’ التي وظفتها قصتا ‘ إسماعيل الذبيح ذبيحا ً’ لأحمد عمر، و’ حارة شرقية وحارة غربية ‘ لتاج الدين الموسى بتباين في الخبرة والشغل الفني. وفي رأيي أن قصة ‘ الصراع ‘ تنحو منحىً رمزيّاً يوهم بواقع موضوعي يشي بتقاطب اجتماعي واضح، إلا أن التقنيات السردية المتكأ عليها للوصول إلى الرمز والإحالة إلى هذا الواقع لم يُفضِِيا إلى ذلك؛ لأن توظيف عنصر ‘ الدجاج ‘ في القصة بقي في حدود الدلالة على حيوان معين موجود في المرجع الخارجي الذي توهم به القصة، ولم يرقَ إلى مستوى الدلالة على إنسان ذي هويّة اجتماعية محددة، تقصَّدت القصة هجاءه والنيل منه في مستواها الدلالي، وكذلك الحال في دلالة ‘ الكلب ‘، فضلاً عن أن المعنى أُملِيَ على متن القصة إملاءً ولم ينبع من بنيتها الفنية، أو ينبثق من تضافر عناصرها السردية. والسؤال : أيكون ذلك لأن الكاتب شعر بأن الأقنعة الرمزية التي اتكأ عليها للوصول إلى هدفه لم تحقق له ما يريد ؛ فلجأ إلى التصريح بالدلالة في ختام قصته عندما تساءل: ‘ تُرى إلى متى ستبقى هذه الكلاب تلتهم كلَّ شيء؟ ‘.
ثم سؤال آخر: لماذا لجأت القصة إلى مخالفة العُرْف الشعبي دون مسوِّغ فني أو دلالي، وجعلت الكلب رمزاً للشراهة أو النهم في حين أنه رمز للوفاء في العرف الشعبي؟
وفي ظني أن الكاتب لم يفلح في الهرب من فخ التجريد الذي لفَّ فضاء القصة وجعلها تنحو منحى ذهنياً يفتقر إلى الملموسية والحياتية اللتين تطبعان أغلب قصصه الساخرة المنشورة في مجموعته المتميزة ‘الأشتر’ الصادرة عن وزارة الثقافة بدمشق عام 1994.

حسن م. يوسف وتقنيّة المقلـب

كذلك لا تندرج قصة ‘ تابوت الفحل ‘ لحسن م. يوسف، في خانة القص الساخر رفيع المستوى، بل تميل إلى التهكم والهزء، وهما درجتان من درجات السخرية، والمعروف أن بين هذه المصطلحات فروقاً دلالية وقفت عندها معاجم المصطلحات العربية وفي مقدمتها: معجم مصطلحات الأدب لمجدي وهبة، والمعجم الأدبي لجبور عبدالنور، ومعجم المصطلحات الأدبية لإبراهيم فتحي، ومعجم المصطلحات الأدبية المعاصرة لسعيد علوش.
وفي الظن أنَّ التهكم الذي يطبع هذه القصة مال إلى المباشرة هو الآخر، وافتقر إلى التشويق الذي وجدناه في قصص سابقة للكاتب أكثر نضجاً ولا سيما في مجموعته ‘الآنسة صبحا’ (دار الينابيع دمشق 1993)، كما تطرح القصة مسألة العلاقة بين التهكم والهزء والسخرية من خلال كلام الشخصيات الثانوية على شخصية ‘الفحل’ الذي سُرِّحَ من الجيش بمعلولية (علة) عام 1967: ‘سمِعتْ لكْ إنه خرنتي لادكَرْ ولا إنْتي’ (هكذا في القصة).
إن هذا المقبوس يرشح بالهزء والتهكم إلا أنه لا يقترب من السخرية الرفيعة، فضلاً عن أن الهزء والتهكم لا يُجسَّدان في القصة تجسيداً نصياًًّ مسوّغاً، بل يًصرَّح بهما في سياق السرد ؛ ما يشي بحضور الكاتب في مبناه الحكائي دون مسوِّغ فني.
لقد اتكأ الكاتب في تشكيل نصه السردي على تقنية ‘المقلب’ لكنَّ هذا المقلب جاء مقلبَ مكرٍ وخديعةٍ أكثرَ منه مقلباً ساخراً، ولهذا غابت عنه المفارقة بين مشهدين أو حالتين أو وضعين، وبدت نهايته ومستواه الدلالي مكشوفين للقارئ؛ ولهذا لا يهزُّ المقلب المتلقي، أو يشدّه، أو يجعله يشعر بوجود مسافة جمالية بين ما أرادته القصة وما حققته على صعيد التشكيل الفني. فضلاً عن أن استخدام ‘ ألفاظ بذيئة ‘ من وجهة نظر أخلاقية خارجية، في متن المقلب نفسه، لم يرتقِ به من الناحية الفنية، ولم يحقق له تفوقاً على المستويين المعماري والدلالي ؛ ولهذا جاء مفتقراً إلى السخرية والتشويق وأقرب إلى أن يكون مقلباً فضائحيّاً منه مقلباً ساخراً.
كما أن الكاتب قدَّم شخصية ‘الفحل’ دفعةً واحدةً ثم أطلقها في فضاء السرد مكتملةً إما من خلال تقنية ‘الراوي العليم’ أو من خلال المناجاة (الأسلوب المباشر . وقد حرمتنا هذه التقنية، في رسم الشخصية، من لذة التشويق، وجعلت الشخصية القصصية متعالية فوق الزمان والمكان؛ ولهذا لا يحس القارئ بعدها بالرغبة في متابعة ما جاء عنها في المتن الحكائي بعد تكشُّفها الوصفي في الافتتاحية السردية.
أما على صعيد الزمن السردي فقد بُنيت القصة من خلال الاتكاء على تقنيات تسريع السرد: الحذف والملخص والمشهد الحواري، وقد استخدم الكاتب لذلك مفاتيح سردية دالة من مثل: (مضت الأيام بسرعة هائلة) و(أمضى الفحل عشرين عاماً في الخدمة العسكرية)، ووشى هذا الاستخدام بحضور الكاتب في سيرورة السرد، كما نهضت صياغة المبنى الحكائي للقصة على التعاقب والتوازي بين زمن الحكاية وزمن السرد، ولما كان زمن الحكاية طويلاً؛ لذا اضطرَّ الكاتب إلى الاستعانة بتقنيات تسريع السرد، ما جعل الفجوات الميتة تكثر في الزمن القصصي وقرّبه من الزمن الروائي. وفي الظنّ أن بناء القصة جاء تقليدياً، وافتقر إلى اللعب الزمني الذي يرتقي بالقصة فوق مرجعها الذي توهم به، ويقربها من عالم التخييل الفني.
وفضلاً عن ذلك مال الكاتب إلى استخدام عبارات عامية في سياق السرد دونما مسوّغِ بنائي، كقوله: ‘وضع الصنايعية ‘، كما أنه أسرف في التفصيلات (مثلاً: ذهاب الفحل إلى المدينة وحواره الطويل مع صانع التوابيت وابنه) ؛ فأصاب القصة بالترهل وأبعدها عن الاقتصاد اللغوي والتكثيف اللذين تتميز بهما لغة القصة القصيرة عموماً، وقرأنا مثالاً لهما في قصة ‘الضيف’ لوليد معماري وفي قصص سابقة لحسن م. يوسف نفسه.

وليـد معماري: المفارقـة والتكثيـف

كذلك تتسم قصة ‘الضيف’ لوليد معماري بالادخار اللغوي والتكثيف، وتبتعد عن الترهل والحشو، وإن كانت تقع في بعض التكرار غير المسوَّغ إيقاعياً أو دلالياً، كقوله: ‘أنا رجلٌ خجولٌ بطبعي’ غير مرة، إلا أنها تنطلق كالسهم إلى هدفها فتصيبه دونما إطالة أو استطراد، وتنهض بنيتها الفنية على المفارقة، وتكاد تذكرنا باللوحات القصصية الثرية في كتاب ‘البخلاء’ للجاحظ، مع ملاحظة الفارق في آلية التشكيل الفني بين مبنى قصة ‘ الضيف ‘ ومتون قصص ‘ البخلاء ‘ على مستويي البنية والدلالة. وترشح القصة بالنقد الحاد لنموذج اجتماعي محدد وتدفع القارئ إلى الابتسام دونما حاجة إلى الاستعانة بمفاتيح سردية ساخرة، ولهذا يأتي تهكمها وسخريتها عفويين وبعيدين عن التقصُّد ؛ إلا أن مبنى القصة جاء تقليدياً هو الآخر ويفتقر إلى التشكيل الجمالي الذي يرتقي بالمتن الحكائي فوق هويته المرجعية ويدخله إلى خانة التخييل، ومن هنا بدت صلة القصة بالحكاية الشعبية قوية، وبدا التوازي بين زمن الحكاية وزمن الخطاب السردي واضحاً، وينهض على التتابع الخيطي، وقد اضطر الكاتب في بناء زمنه السردي كزميله حسن م. يوسف إلى الحذف، ولهذا جاءت الفجوات الزمنية المسكوت عنها في زمن السرد كبيرة، ما قرّب الزمن السردي من الزمن الروائي أيضاً. ولعلّ هذا عائدٌ إلى أن الكاتب بدأ حبكته القصصية من الحال الابتدائية ( العرض كما يسميها جون هالبرين )، ثم ارتقى بها إلى الفعل الصاعد فالعقدة فالذروة ثم الحل أو لحظة التنوير، كما يسميها رشاد رشدي، وهكذا كان حرصه على التوازي والتتابع الزمني للأحداث هو الذي جعله يستعين بتقنية ‘ الحذف ‘ حرصاً على الادخار اللغوي والتكثيف ورغبة في التخلص من الحشو والترهل، إلا أن هذا الحرص أبعد القصة عن أن تكون ومضة أو لوحة اجتماعية رغم قصرها، وقرّبها من الحكاية، وأوجد صلة قوية بين مبناها الحكائي والمعمار الفني لـ’ بنية الرواية ‘.

أحمـد عمـر: المفارقــة واللعـب اللفظي

كما تنهض قصة أحمد عمر ‘إسماعيل الذبيح ذبيحاً’ على المفارقة الساخرة بين وضعين: اندماج الخطيب وجمهور المصلين بقصة إسماعيل وما أفضت إليه من تراكم انفعالي أدى إلى إجهاش بعضهم في البكاء، وبين انصراف رزق (رئيس دورية الجمارك) إلى خفارة حذائه خوفاً عليه من السرقة، وتشي هذه المفارقة بحسّ ٍ اجتماعيّ ٍ ناقد، يدين التزلف والنفاق والانضواء تحت خانة ‘المقدّس’ حرصاً على إرضاء القطيع الاجتماعي. لكنَّ بناء القصة جاء تقليدياً أيضاً، إذ اعتمد على التعاقب الزمني الذي تـتتالى فيه الحلقات السردية ولا تتداخل أو تتجاور، وهذا ما جعل من الممكن القبض على حبكة (PLOT) تقليدية واضحة الارتسام في القصة، مع أن وقائع المتن الحكائي (FABLE) المسرودة في القصة تشي برغبة واضحة في صياغة مبنى حكائي (SUJET) يوهم بالواقع ولا يعكسه. وما يقوّي من الزعم السابق هو اعتماد الكاتب على تقنية ‘ الراوي العليم ‘ الذي يحيط بحاضر الحوادث الحكائية وماضيها وسلوك الشخصيات ودخائلها، وقد أجهض الكاتب بكيفية استخدامه لهذه التقنية إمكانية الإفادة من تقنية القطع المكاني (SPACE MONTAGE) من خلال هيمنته على سيرورة السرد وتدخله الواضح في السياق كما في هذا المقبوس: ‘ترك الخطيب إسماعيل تحت السكين والمصلين في انتظار وصول خبر جبريل، باستثناء رزق الذي كان مشغولاً بخفارة حذائه’.
إن انتقال القصة بين الماضي والحاضر، هنا، يتم بشكلٍ مباشر، ومن خلال تدخل الراوي العليم ( ظل الكاتب وأناه الثانية كما يقول واين بو ث WAYNE BOOTH). وينص الراوي صراحةً على هذا الانتقال، مع أنه كان بالإمكان عرض المشهدين المشار إليهما سابقاً من خلال تقنية التزامن (SIMULTANEILY) التي تتجاور فيها الأحداث أو اللقطات الفيلمية أو المشهدية مع ابتعادها في الزمن، وتتضمن إمكانية وضع فقرتين الواحدة بجانب الأخرى مما يدخل تسلسلاً يجبر القارئ على صرف بعض الوقت للانتقال من فقرة إلى أخرى كما يقول الدكتور حسام الخطيب، ويجنب الكاتب في الوقت نفسه الوقوع في فخ المباشرة والهيمنة على نصه. وقد عزّز الكاتب حس المفارقة باللعب اللفظي الذي وشى برغبة الراوي في السخرية من نموذج اجتماعي طفيلي محدد، كما طعّم قصته ببعض العبارات العامية مثل: (قد الدنيا- مجرساً – لخبط – شقرقته – خليك أنت بصرمايتك)، لكن هذا التطعيم بدا قصدياً مملىً على بنية القصة وليس نابعاً منها أو مندرجاً في نسيجها السردي، ويشي برغبة الكاتب في هجاء النموذج الطفيلي المذكور، وفي تعزيز حس المفارقة من خلال ما درج النقاد على تسميته بـ ‘ السخرية اللفظية!!’.
وفي الظن أن القصة لم تكن ببنيتها التي قامت على المفارقة أساساً بحاجة إلى هذا اللعب اللفظي الذي بدا بعيداً عن العفوية المستحبة، أو يفتقر إلى المهارة التي وجدناها في قصص سابقة لأحمد عمر وفي مقدمتها ‘ إخراج روح ‘ المنشورة في مجموعته الأولى ‘ مقصوف العمر’ ( دار الجليل ـ دمشق – 1990).

تاج الدين الموسى: المفارقة وهجاء التفاهة

كما تندرج قصة تاج الدين الموسى ‘حارة شرقية وحارة غربية’ في خانة القصص الساخرة التي تعتمد على تقنية المفارقة، وتدين الاهتمام بالسطحي والتافه، وتوغل في هجاء النفاق والوصولية والكذب، وتقوم بنيتها على المفارقة بين وضعين أو حالتين انفعاليتين متضادتين، ففي حين ينشغل فلاحو الحارة الغربية بلقاء الوزير، وينظفون طريق القرية وزواريبها وأزقتها من الأوساخ، ويطلون بيوتها بالحوار الأبيض، ويربطون حيواناتها السائبة وكلابها الشرسة، ويشترون ثياباً جديدة، ويجمعون ثمانين خروفاً لنحرها عند وصول موكب الوزير؛ يبقى مرافقو الوزير والوزير نفسه بعيدين عن الالتحام بالحالة الانفعالية التي يعيشها الفلاحون، ويحرصون على التعالي عليها بغية إظهار الفارق الاجتماعي بينهم وبين أهل الحارة الغربية، وتعزِّز القصة هذا التعالي حين تشير إلى أن المرافقين شاركوا في الاحتفال بالتصفيق فقط، ولم يحسنوا الانخراط في حلقة الدبكة التي شكلها الفلاحون، لأن ‘ إيقاع أرجلهم لم يوافق إيقاع أرجل الآخرين ؛ فتركوا الدبكة لأصحابها، وأخذوا ينسلّون واحداً بعد واحد ؛ ليعودوا إلى أماكنهم في صدر بيت الشَّعر’.
كما أن القصة تعزز حس المفارقة من خلال التناص مع الشِّعر وتوظيفه في سياق جديد لم يكن له من قبل. وقد حرصت القصة على الاحتفاظ بالمستوى الدلالي للأبيات الشعرية التي تعالقت معها، ولم تمنحها تأويلاً جديداً في سياقها الحكائي أو تسعَ إلى تغييبه في نسيجها، بحيث بدا تنافرها واضحاً مع هذا السياق؛ ما قوّى من حس الإدانة والسخرية في القصة، وجعل التضمين فيها وظيفياً دالاً؛ ومن هنا بدا حرص القصة على نسبة الأبيات إلى صاحبها وذكر مناسبة قولها حشواً وفضلةً ؛ إذ ليس هناك من مسوّغ نصي أو وظيفة بنائية لذلك.
وفي الظن أن المتن الحكائي للقصة يُـقـفـَـلُ بعودة الوزير ومرافقيه من حيث جاؤوا، وانصراف فلاحي الحارة الغربية إلى التهام الوجبة الدسمة التي كانوا قد أعدوها له، وأما ما تلا ذلك من وقائع تحرص القصة على ذكرها؛ فلا مكان له في المعمار الفني للقصة بل هو حشوٌ وفضلة، إذ إن غاية القصة هي إقامة نوع من المفارقة بين برود الوزير ووقاره المصطنع الكاذب و( بين) الحالة الانفعالية التي كان يعيشها الفلاحون بصدق، وإدانة الحالتين معاً: انصراف الفلاحين عن العمل بما هو قيمة إيجابية في الحياة، وانشغالهم بالتافه والسطحي والعابر في الحياة، وتظاهر الوزير بالحرص على مصلحة الفلاحين، واقتصاره على القيام بفعل لغوي بحت هو الخطبة فيهم، مع ما يرمز إليه هذا الفعل من تعالٍ وازدواج في شخصية الوزير نفسه. ومن هنا جاء حرص الكاتب على تطعيم قصته ببعض الألفاظ العامية في غير محله، من مثل (وزير الدولة لشؤون الله وأعلم ـ شقفة لحم ـ نزلنا في مناسف الطبيخ)، ويشي هذا التطعيم برغبته في دفع المتلقي إلى الضحك من النماذج المهجوّة أو إلى السخرية منها، مع أن بنية القصة حققت له ذلك دونما حاجة إلى ‘ السخرية اللفظية ‘ التي تومئ إلى حضوره في سياق السرد.

محمد محيي الدين مينو : المفارقة وهجاء الوصولية

كما تنبني قصّة ‘ حمارة المختار البيضاء ‘ لمحمد محيي الدين مينو على المفارقة، وتحقّق ما قاله أفلاطون في كتابه ‘ الجمهوريّة ‘ على لسان سقراط من أنّ المفارقة ‘ طريقة ناعمة هادئة في خداع الآخرين ‘، كما تنهض على ادّعاء المختار ما ليس له، وتهجو تظاهره بالفضيلة وتمسّكه بأهداب الدّين وميله إلى استعمال الّلغة بشكل مخادع بحيث تغدو الّلغة لديه صيغةً بلاغيّةً مفرغةً من دلالتها، يقول المرء فيها عكس ما يعني، أو يقول شيئاً، وهو يعني سواه.
وتتسم شخصيّة هذا المختار بالمفارقة بين منطوقها الّلغويّ وسلوكها العمليّ، فتبدو ادّعاءاتها متنافرةً مع السّياق الحياتيّ الّذي تتحرّك فيه. ولعلّ هذا الحكم يشمل المنطوق الدّينيّ لشخصيّة أخرى، هي شخصيّة الشّيخ عثمان الّذي يتمحور دوره النّصيّ في إقناع أهل القرية بصدق ما يتظاهر به مختارهم من حرص على الشّرف والتّمسّك بأهداب الدّين مع أنّ ذلك يغاير ما هو عليه في الواقع.
والقصّة لا تكشف ما إذا كان شيخ القرية عالماً بنفاق المختار وخداعه للنّاس، ولا تتعرّض بالهجاء لرجل الدّين أو رئيس البلديّة أو حلاّق القرية لتصديقهم المختار وتبنّيهم موقفه إلاّ أنّها تضع منطوقاتهم الّلغويّة في سياقات، يُشتمّ منها حماستهم العمياء وغفلتهم الفادحة وانفعالهم الشّديد، مما يدفع القارىء إلى التّساؤل عن المسوّغ الّذي يدفع هذه البطانة دون غيرها إلى تصديق المختار والدّفاع عن شرفه المنتهك على أساس أنّ شرفه هو شرف البلدة كلّها. وهذه المفارقة ليست لفظيّةً وحسب، وإنّما هي أيضاً مفارقة موقف، وفي هذا النّوع من المفارقة لا بدّ من وجود ضحيّة لصانع المفارقة، فمن هي الضّحيّة في هذه القصّة القصيرة؟
إنّها بلا شكّ أهل البلدة الّذين تبنّوا منذ بداية القصّة موقف المختار وبطانته الوضيعة، وظلّوا على ذلك حتّى بعد أن عرفوا أنّ الزّانية الّتي أجّجت غضب المختار هي حمارته البيضاء لا امرأته ولا إحدى بناته ؛ ولهذا ليس مصادفةً أن يكون أهبل القرية ‘ عيداوي ‘ هو العاقل الوحيد في تلك القرية، وهو الّذي تجرّأ على اتّخاذ الموقف المناسب ممّا جرى، فبصق على أهل القرية ومختارها وحلاّقها، ولعن رئيس البلديّة وأباه في حين يتخذ أهل القرية موقفاً حماسيّاً مغايراً، إذ إنّهم أغلقوا المدرسة والدّكاكين والبيوت، و’ تجمّعوا في السّاحة، والعرق يتصبّب من وجوههم، وكأنّهم في يوم حساب أو صيف قائظ ‘ ( حمارة المختار البيضاء، ضمن مجموعة: أوراق عبدالجبار الفارس الخاسرة، حمص 1999، ص12). وفي النّهاية يستحقّ عيداوي النّجاة من طوفان الدّمّ الذي أغرق القرية وأهلها، لأنّهم تورّطوا جميعاً في حالة الخداع والنّفاق والمراءاة والخروج على القيم الأخلاقيّة الرّيفيّة الأصيلة. وعندما يغرق طوفان الدم القرية وأهلها، يخرج ‘ عيداوي’ من جيبه مرآة مشروخة وهو يقهقه كالمجنون، ثم ينعم النظر فيها، فلا يرى إلا وجه ‘ نوف ‘ زوجة المختار التي رفسها الحمار، وهي معه في الزريبة فكسر أضلاعها، عندئذٍ يرمي من فوره المرآة على الأرض فتتناثر عظاماً ونملاً وشظايا؛ هكذا ينهي الكاتب قصته بدمار المخادع والضّحية معاً ‘ (المصدر نفسه، ص 18) ويبقى ‘ عيداوي ‘ أهبل القرية أو ضميرها الهاجع ـ كما يمكن أن نسمّيه ـ حيّاً.
والسّؤال هنا: لمَ استحقّ ‘ عيداوي ‘ وحده النجاة من طوفان الدّم مع أنّه متورّط في الإثم وارتكاب المحرّمات كغيره من أهل القرية؟ أتكون نجاته من الطّوفان مكافأةً له على (وعيه) وتخلّفه عن القطيع؟ وكيف نفسّر عندئذٍ ارتكابه الكبيرة في زريبة المختار؟ ولمَ أغرق طوفان الدّم مختار القرية ورجاله، وأغرق معهم أهل القرية كلّها مع أنّهم ـ كما يتبيّن من سياق القصّة ـ لم يكونوا واعين بحقيقة ما يجري، بل كانوا ضحية المختار نفسه وبطانته الفاسدة، ومزيفي الوعي ليس إلا؟
ثمّة أسئلة متعدّدة تراودنا، ولكنّها تبقى بلا أجوبة شافية، لأنّ الشريط اللغويّ القصير للقصّة لا يسمح للكاتب بالإجابة عنها على الرّغم من أنّه قد وظّف خبرته اللغويّة في بناء قصّة ساخرة، فجعل افتتاحيّتها السّرديّة ـ وهي قوله: ‘ على زلزال استيقظت خربة النّمل، هذا الزلزال أجهض الحوامل فئراناً، وأرجف البيوت ولحى الرّجال..’ ـ تشي بحدوث أمر جلل، يغضـب مختـار القريـة، ويجعلـه ‘ يضرب الأرض بعصاه الغليظة، فيوقظ الموتى في القبور، ويدوّي صوته في أرجاء القرية، فتفرع العصافير، وتهاجر إلى بلاد بعيدة ‘( المصدر نفسه، ص11).
ويشي اسم المكان في القصّة ـ وهو (خربة النّمل) ـ بالمفارقة بين النّمل وما يرمز إليه من حياة تعاونيّة و(بين الخراب) الذي يوحي به اسم المكان، وتتعزّز هذه المفارقة في المشهد الحواريّ الذي يـدور بين وجهــاء القرية، ويفضي إلى إقامـــة نوع من الالتباس بين (امرأة المختار) و(حمارته البيضاء)، ويتعزّز هذا الالتباس من خلال استخدام حلاّق القرية لمفردات تفيد ذلك من مثل قوله: ‘ سأقطع أذنيها، وأجزّ شعرها ‘، فقطع الأذنين وجزّ الشّعر لا يكون في العُرْف اللغويّ الشائع إلاّ للحيوان، ويعزّز هذا الزّعم أنّ شيخ القرية استخدم في معرض التعليق على الموقف نفسه مصطلحات دينيّة، لا تنصرف إلاّ إلى الإنسان من مثل قوله: ‘ سننظر في أمرها، فإن زنت أقمنـا عليهـا الحَـدّ، وإن لم تفعـل مـا حرّمـه اللّـه عفونـا عنهـا، والعفو من شيم الرّجال’ (المصدر نفسه ص17).
تصلح هذه القصّة بسبب تشكيلها المعماريّ للتّرميز على الرّغم من اعتراف الكاتب، في حوار شفهي معه، أنّهـا قصّـة حقيقيّـة، حدثت فعـلاً في إحـدى قرى مدينتـه (حمص)، كما أنّها تحتمل تأويلاتٍ متعدّدةً بسبب غموضها المريب وقابليّة شخصيّاتها للارتقاء إلى مستوى النماذج الفنـّـيّة. وهذا المنحى يعزّزه أنّ الكاتب لم يحرص في بناء نصّه السّرديّ على أن يجعله موازياً للمرجع الذي يوهم به، بل حرص على بناء نصّ يوهم بالواقع ولا يعكسه، ولهذا لم يحمل المكان القصصيّ لديه تسميةً معروفةً في المرجع الخارجيّ، فغدت قصّة ‘ حمارة المختار البيضاء ‘ صالحةً للتعميم، وهو ما جعلها تنجو من مغبّة المطابقة مع ذلك المرجع الخارجيّ وخفّف من ضغطه عليها.

* كاتب سوري مقيم في الإمارات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى