صفحات الناس

اليوم الثالث: لا أعرف

null
عامر مطر:
نمت على أمل، واستيقظت على خوف حقير؛ خفت أن يكون آخر حلم أمل لي.
الملابس في الأكياس والصناديق، لم أفتحها بعد، ولا أعرف زمن وحدتها، ولماذا هجرها أصحابها. حتى الملابس تشيخ.
الملابس القديمة، قديمة جداً ونظيفة ومتماسكة. جيد.
الملابس والدفاتر ونحن. نتوجه نحوهم. مع نعس وجوع وحاجة للكحول. لابد أن نشرب لننجو من اختناق قد يخنقنا في ملامح الخيام التي تبعد نص ساعة عن بيتي في دمشق.
على يمين الطريق تتناثر خيم النزوح، وعرة طريق التراب إليها. كيف يمشي الأطفال حفاة هنا!
حين أوقفت ضحى سيارتها، توقفت عيونهم علينا، صرنا أقل غربة بالنسبة لهم؛ وجوهٌ ألفتها وحدتهم.
نزلنا، وبدأ جمعهم. لا مكان سوى العراء، نُجلس الأطفال فيه، لا مشكلة، فالعراء سكنهم منذ الجفاف إلى الآن.
قال أحد الأطفال لي، وهو يهرب: “بس انقلع، والله ما رح أجي”. لا أعرف كيف يمكن أن تقنع طفلاً جائعاً بالتعلّم؟ كيف أستطيع إقناعهم بالمشي نحونا، وهم حفاة!. لا أعرف.
ثلاثون طفلاً يجلسون مع رولا، وأنا أخاف مني أثناء جمعهم، لم أكن أستاذاً في حياتي.
خمسة أطفال لي، ومثلهم لنشوان، وضحى، والبقية الصغار لرولا.
خليل، وهبة، وعبد، وعلي، وشمس. هم أطفالي.
سألتُ أول الأطفال، ما أسمكِ؟ ضحك الآخرون! جاء الجواب: خليل.
خليل، يرتدي ملابس فتاة، ويعرف بعض الأحرف، ويستطيع العدّ للخمسين. درس للصف الثاني فنزح. عمره الآن 13 عاماً، يريد أن يصير سائق شاحنة لنقل العمال كسائق الشاحنة التي تنقلهم في كل فجر.
هبة، تقول أنها تعرف الكتابة والقراءة، لكنها لم تستطع كتابة اسمي أو قراءته. درست للصف الثاني أيضاً قبل نزوح عائلتها, عمرها 8 سنوات، ولا تعرف عملها في المستقبل، ربما معلمة، أو طبيبة أو أي شيء…
علي وشمس بعمر هبة وقدراتها الدراسية. أيضاً لم يفكرا بمهنة المستقبل.
عبد لم يدخل المدرسة أبداً، لكنه يعرف العد للخمسين ويريد أن يصير أستاذاً.
هبة تشعر بالخجل، تغطي خدودها بكفيها. لم تتوقع أن أطلب منها كتابة اسمي، أو أي كلمة أخرى…
عبد طلبَ الانتقال مني إلى نشوان، لماذا؟ لا يجيب. فاجأني طلبه. وهبة لا تتفاعل، خجلها واضح…
عبد وهبة وشمس مثل أطفال نشوان، لا يعرفون القراءة والكتابة.
وعلي يتمشى مع باسم، وهو الطبيب الذي جاء معنا؛ ليبحث عن أمراض يحملها الأطفال دون علمهم.
فقط أنا وخليل (أكبر الأطفال) ووحيدي الآن.
خليل يتلكأ ويتكلم ببطء شديد. هو يفضل أن يتكلم لي عن حبيبته التي تسكن في المخيم المجاور قبل الدخول في الأحرف. يريد أن يتزوجها مباشرة بعد إنهاء خدمته العسكرية، ويعيش معها في خيمة قرب خيمة عائلته هنا.
اغفر لي خليل، اغفر كتابتي لإسرارك.
يطلبني أحد شباب المخيم، ليبوح بخوف آباء الأطفال منّا. يريدون ورقة من جهة رسمية، تثبت حسن نيتنا! يقول: “مو ناقصنا نتصخّم أكثر”.
عدت إلى خليل، إلى الأحرف.
في طريق العودة، أسيل من السيارة، أثر متكسر يخط الطريق.

ملاحظة: هذه المادة توثيقية، عن يوم “الحبابين” الثالث.
فيس بوك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى