صفحات مختارةميشيل كيلو

هل ننهض دون فكرة جامعة؟!

null
ميشيل كيلو
كانت منطقتنا، عبر التاريخ القديم له، احد مراكز إنتاج الأفكار الجامعة. وباستثناء سنوات قليلة أعقبت عمليات اجتياح أجنبي كبرى اخترقتها، وعقود حديثة هي عقود عقم وقحط استبداديين، قتلت عقل الأمة وأضعفت قدرتها على الإبداع الفكري والروحي، فإن منطقتنا كانت مختبرا تاريخيا فريدا أمد العالم بزاد فكري/معرفي وأفكار جامعة، لولاها لما كانت هناك حضارة بالشكل الذي تعرفه البشرية وتعيشه اليوم.
ومنطقتنا المعنية هي المنطقة التي توصف بالعربية، والتي مرت بأطوار متنوعة، عرفت خلالها قبائل وشعوبا ودولا وإمبراطوريات، ومرت بحقب حروب وسلام، وعاشت فترات تقدم وتراجع، مجاعات وازدهار، لكنها بلورت خلالها المفردات الضرورية لإنتاج المدنية ثم الحضارة البشرية، مثل التفكير المجرد: الأسطوري والديني والعلمي، واكتشاف الصفر – والحساب والرياضيات -، والأديان السماوية، وتدجين الطبيعة وأنسنتها، وصهر وتحويل المعادن، واختراع الزراعة والمهن والحرف، واللغة والكتابة، والدولة والإدارة، والتجارة والمدن، واكتشاف النار… الخ، مما جعلها حاضنة وموطن ما هو معروف من حياة بشرية في كل مكان وزمان، حتى ليمكن القول إنه لولا إسهامها لكان الإنسان مختلفا ومتخلفا كثيرا عما هو عليه اليوم.
كانت مدنيتنا على الدوام مدنية الأفكار الكبرى، ‘الجامعة’، التي جعلت الإنسان أهلا للتطور والتقدم والنمو والابتكار والأمن، ومكنته من دفع الحياة دفعا حثيثا ومتواصلا نحو الأمام، ومن إنضاج شروط التقدم الإنساني، الذي انتقل إلى مناطق أخرى أضافت بدورها تفاصيل مهمة على المرتكزات المدنية والحضارية، الروحية (الفكرية والعملية) التطبيقية، التي وصلتها من منطقتنا، وقدمت قراءات ملائمة لما بلغها من ميراثنا الفكري والروحي، وحصلت عليه من أساليب وتقنيات عمل وعيش كانت قد نشأت عندنا.
هذه السمة، التي ميزتنا في أطوار تاريخية متنوعة، أصابها وهن شديد أدى إلى ضياع جزء كبير منها في أطوار أخرى، وخاصة تلك التي بدأت مع القرن الثاني عشر، حين أدت عوامل متنوعة إلى ضياع قدرتنا على تطوير نظم معرفة وعمل، وتاليا قيم وأفكار جامعة، ودفعت بنا إلى السير في دروب تفكك وجمود حولتنا تدريجيا من ذات فاعلة في التاريخ والواقع إلى موضوع لغيرنا، فسقطنا شيئا فشيئا في قبضة قوى دهمتنا فاحتلت منطقتنا مباشرة أو هيمنت عليها من بعيد، وشرعنا نتخبط في مأزق لم يبق جانبا من جوانب وجودنا إلا وأصابه، أو يوفر نشاطا من أنشطتنا إلا وأضعفه وجمده، حتى صرنا ككرة تتقاذفها أرجل القوى الأجنبية، بما في ذلك الشديدة التأخر منها، التي انقضت علينا ودمرت ما عندنا من عمران وحضارة، واقتلعت الجدارة التاريخية والأهلية المدنية من صدور أناسنا، حتى صرنا حطاما مرميا في فراغ تاريخي/مجتمعي أفقدنا موهبة التفكير الخلاق، فرضخنا لمن هم أقل تقدما منا، ولمن استعاروا لغتنا وديننا كي يتسلطوا علينا ويحتلوا إرادتنا وعقولنا، فضلا عن أرضنا وموطننا.
هذه الحقبة المديدة اتسمت بالافتقار إلى أفكار جامعة، فكان غيابها أبرز علامات سقوطنا. ومع أن قومنا استمروا خلالها في النظر إلى أنفسهم كمسلمين، وفي رؤية حياتهم ووجودهم بدلالة دينهم، فإن عقائدهم كانت مغايرة للمحمدية، دين الأفكار الجامعة، الذي انتشل العرب من العدم وجعلهم في مركز الكون، وأعاد لهم القدرة على إقامة نظم عيش وعمل وتفكير خلاقة، وابتكار وتبني قيم إنسانية تتخطاهم إلى بني البشر أجمعين، بغض النظر عن جنسهم أو لونهم أو مكانهم.
بعد فترة عرفها العصر الحديث، هي فترة ما عرف بالمد الناصري، سادت فيها الفكرة القومية كفكرة جامعة حملت وجها إسلاميا، ونزوعا عداليا، ورؤى تحررية، ووعدا ديمقراطيا، وتطلعا شعبيا… انتكس الوطن العربي إلى طور ما قبل مدني على يد قوى هزمها العدو الإسرائيلي في حرب حزيران (يونيو) عام 1967، فلم تجد ردا على الهزيمة والعجز غير احتجاز مجتمعاتها في أطر سلطوية خانقة، حالت بينها وبين التمسك بأي نوع من الأفكار جامعة، بل وبأية أفكار عدا مزق فكرية مسبقة، مستعارة من أيديولوجيا شمولية طورها الاستبداد الديني والسياسي في العصرين الوسيط والحديث، لها مضمون تقليدي/رجعي معاد للإنسان، لكن النظام العربي حدثها قمعيا وتعبويا، فقضت على روح التجديد والإبداع لدى المواطن العربي، وأضعفت صلاته بالحياة، وأهليته العقلية والنقدية، وجعلته بيدقا في جمعات متصارعة/متقاتلة، تتربص كل واحدة منها بغيرها، بينما ضعنا وبتنا لا نعرف إن كنا عربا أم أعاجم، ننتسب إلى مجتمع واحد وموحد أم إلى جماعات متضاربة الرؤى والمصالح والأهداف، ونجهل إن كنا نعيش في دول تجمعنا وتحمينا أم في دويلات تفرض علينا كره الذات ومقت الصديق وبغض القريب!.
ما الفكرة الجامعة التي تسكننا اليوم وتشكل إسمنتا يقوينا كأشخاص ويعزز مجتمعاتنا ويمتن أواصرها، ويزودنا بقدر من الشعور بالانتماء المشترك يجعل أمن وسلام وحرية كل واحد منا ضرورة لا غنى عنها لأمن وسلام وحرية سواه؟ هل هي الفكرة الدينية ؟ أم الفكرة القومية والوطنية، أم الاجتماعية ( الاشتراكية ) أم فكرة الحرية والتحرير، أم فكرة التقدم…؟ ليست هناك جاذبية شعبية حقيقية لأية واحدة من هذه الأفكار، لذلك ترانا نتخبط وقد وهنت روابطنا حتى صار من الصعب أن تصمد أمام أي تحد جدي، وغدت قاب قوسين أو أدنى من التفكك، واضطربت أسس حياتنا وتنافرت، فإذا هي صالحة للصراع والنزاع وليس للحوار والمسالمة، بينما تمسك بنا يد سلطوية ظالمة، تضعنا عن عمد على حافة الهاوية ومشارف الانهيار، لتقول لنا إنها هي وحدها تضمن بقاء مجتمعاتنا واستمرارها. بالمناسبة، فإن المطالبين بالديمقراطية يعتبرونها الفكرة الجامعة التي نحتاج إليها للخروج من أزمتنا ولتوطيد وحدة وتماسك مجتمعاتنا، في حال تعرضت نظمها الهشة لعدوان جبابرة العالم المتربصين، أو ماتت بضربة قاضية تأتيها من مكان ما، وغدونا عرضة للتفتت والاقتتال. الديمقراطية فكرة جامعة بوسعها قطع الطريق على احتمال كوارثي كهذا، فهي تقوي روح الإخاء لدى المواطنين، وتزيد قدرتهم على رد الأخطار، وهي لا تتعارض مع الفكرة الدينية أو القومية أو الاجتماعية أو الوطنية، وتوطد رغبة المواطن في حماية غيره بقدر ما يحمي نفسه، لحاجته إليه كشريك في الوطن والمصير، وكان الاستبداد قد جعل منه خصما وعدوا لا سبيل إلى التعايش معه بسلام واحترام.
لكن الديمقراطية ليست بعد فكرة جامعة عند العرب، مثلما كانت الفكرة القومية في أواسط الخمسينات على سبيل المثال، أي قبل ضياع صفتها هذه بسبب إفشال (أو فشل) مشروع النهوض الناصري، ووقوع الفكرة القومية بين يدي خصومها. بخلو حياته من الأفكار الجامعة، يعيش المواطن العربي موزعا بين بؤسه المقيم وبدائله المستعصية، وبين طموحاته الكبرى وإمكاناته الهزيلة، وبين عجز نظامه وضعف مجتمعه، فهو كالتائه يكثر من التخبط، وهو يصاب بالخيبة واليأس، عندما يكتشف أنه لم يغادر ضياعه، وأن نجاته لا تبدو وشيكة.
ليس الوطن أفضل حالا من المواطن، فهو يفتقر بدوره إلى فكرة جامعة تضع قدرات نظامه في خدمته، فيكون له لا عليه. لذلك نجد وطننا الكبير مفكك الإرادة تائها يتخبط بدوره في صحراء سياسات قاحلة، تتقاذفه أهواء ورغبات المتحكمين فيه، دون أن ينجح في إيقاف تدهوره أو بلوغ أي هدف من أهدافه، مع أنها غدت جميعها شديدة التواضع، ومستعصية إلى أبعد حد، في آن معا.
لم يعرف التاريخ أمة نهضت بغير أفكار جامعة، أيقظتها وحفزت روحها ودفعتها إلى تغيير واقعها. إلى أن نبلور، نحن عرب هذا الزمان البائس والعصيب، أفكارا كهذه، ونطورها ونرسي عليها نهوضنا، سيتواصل سقوطنا في الهاوية، وسيتدحرج كل بلد من بلداننا بمفرده إلى قاعها، وإن لاحت في الأفق، بين حين وآخر، ومضات برق يوهمنا بعض حكامنا أنها ستبدد الظلمة، مع أنها لا تلبث أن تزيدها، بعد حين، حلكة وسوادا.
إن أمة تفتقر إلى أفكار جامعة هي أمة في طور انحدار وسقوط. متى نعي واقعنا هذا، ونفهم أن الفكرة الجامعة ليست شعارات وأكاذيب، بل هي جهد فكري وروحي خلاق ومجدد تنتجه أمة مواطنين أحرار، لا نهضة ولا حياة لها بدونه!
‘ كاتب وسياسي من سورية

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى