ذاكرة الصفحاتصفحات مختارة

حول غياب المفكر النقدي التنويري محمد أركون 1928 – 2010

null
باريس: توفيّ ليل الثلاثاء – الأربعاء في العاصمة الفرنسية باريس المفكر الجزائري/ الفرنسي المثير للجدل محمد أركون. وذكرت تقارير إعلامية إنّ أركون توفيّ بعد معاناة كبيرة مع المرض، وأركون هو مفكر وباحث جزائري من مواليد العام 1928 في بلدة تاوريرت في تيزي وزو بمنطقة القبائل الكبرى الأمازيغية بالجزائر، و انتقل مع عائلته إلى بلدة عين الأربعاء (ولاية عين تموشنت) حيث درس دراسته الابتدائية بها. وأكمل دراسته الثانوية في وهران، وإبتدأ محمد أركون دراسته الجامعية بكلية الفلسفة في الجزائر ثم أتم دراسته في “السوربون” في باريس.  وحصل على شهادة الدكتوراه في الآداب، كما درّس بجامعات عديدة في أوربا وأمريكا والمغرب، واهتم بدراسة وتحليل الفكر الإسلامي.
وأركون عضو اللجنة الوطنية لعلوم الحياة والصحة بفرنسا، وعدة لجان أخرى. من آرائه إعادة قراءة القرآن برؤية عصرية وتجريده من القداسة التي تعيق دراسته وهو ما جعله عرضة لانتقادات التيارات الأصولية المتشدّدة.
وترك أركون مكتبة ثرية بالمؤلفات والكتب، ومن أهم عناوينه: ملامح الفكر الإسلامي الكلاسيكي، دراسات الفكر الإسلامي، الإسلام أمس وغدا، من اجل نقد للعقل الإسلامي، الإسلام أصالة وممارسة، الفكر الإسلامي: قراءة علمية- الإسلام: الأخلاق والسياسة- الفكر الإسلامي: نقد وإجتهاد- العلمنة والدين: الإسلام، المسيحية، الغرب- من الإجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي- من فيصل التفرقة إلى فصل المقال: أين هو الفكر- الإسلامي المعاصر؟- الإسلام أوروبا الغرب، رهانات المعنى وإرادات الهيمنة.- نزعة الأنسنة في الفكر العربي- قضايا في نقد العقل الديني. كيف نفهم الإسلام اليوم؟- الفكر الأصولي واستحالة التأصيل. نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي- معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية. وغيرها.
وكان غالبا ما يشدد على أهمية الفلسفة ودورها “في الابقاء على العقل في حالة حيوية تدفعه الى الابداع ذلك ان الموقف الفلسفي هو موقف التساؤل عن صحة ما يقدمه العقل وان ما مر بالجزائر على سبيل المثال منذ حرب التحرير في منتصف الخمسينيات الى الان له علاقة بالفكر والفلسفة” كما ذكر في محاضرة بمعرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1977
محمد أركون رائد حوار الأديان رحل عن 82 عاماً
لم يكد المفكر الجزائري محمد أركون يتلقّى دعوة الى الاشتراك في ندوة حول نصر حامد أبي زيد في القاهرة، حتى وافاه الموت على سرير المرض في منزله الباريسي. ورحل أركون، الباحث الكبير في الفكر الإسلامي عن 82 عاماً أمضى قسطاً كبيراً منها منكباً على الفكر الديني، قارئاً وكاتباً، مقتفياً آثار المفكرين والفلاسفة الإسلاميين التنويريين الكبار.وكان أركون أستاذاً لامعاً لتاريخ الفكر الإسلامي في جامعة السوربون في باريس وفي جامعات عالمية كثيرة، وأحد رواد الدعوة الى الحوار بين الأديان.ولد محمد أركون في 1928 في قرية توريرة ميمون الصغيرة في منطقة القبائل (شمال شرق الجزائر)، في بيئة اجتماعية بالغة التواضع. وبعد إنهاء الدراسة الابتدائية في قريته، أتم دروسه الثانوية لدى الآباء البيض في وهران ثم درس الأدب العربي والحقوق والفلسفة والجغرافيا في جامعة الجزائر العاصمة. ثم تولى التدريس في عدد من الجامعات قبل أن يعين في 1980 أستاذاً في السوربون الجديدة – باريس 3. ودرّس فيها تاريخ الفكر الإسلامي وطوّر اختصاصاً هو الإسلاميات التطبيقية. ومنذ 1993، بات أستاذاً متقاعداً في السوربون، لكنه استمر في إلقاء محاضرات في أنحاء العالم كافة. وفي العام 2008، تولى إدارة مشروع «تاريخ الإسلام والمسلمين في فرنسا من القرون الوسطى حتى اليوم»، وهو كتاب موسوعي شارك فيه عدد كبير من المؤرخين والباحثين.وترك أركون كتباً كثيرة ذات منهج علمي ورؤية تحليلية جديدة، وسعى في كل ما كتب الى ترسيخ الحوار بين الأديان والحضارات، وجاب الكثير من مدن العالم محاضراً عن الدين الإسلامي والحضارة العربية.
المفكر الجزائري محمد أركون فتح العقل العربي على اللامفكَّر فيه ورفض الإسلاميون فكره النقدي المعاصر
كان لرحيل المفكر الجزائري محمد أركون أمس الأول صدى غير عادي، فهو المفكر الإسلامي الذي رفضه الإسلاميون، ولم يستسغ الفرنسيون، الذين أمضى حياته في كنفهم، الأفكار التي طرحها، ولا التوليفة التي قدمها في فهمه الحضارات. ينتمي إلى جيل ميشال فوكو وبيار بورديو وسواهما من الذين قدموا ثورة ابستمولوجية، وغيروا في منهجية الفكر الفرنسي. وهو الذي سحب ثورته المعرفية تلك إلى الفكر الإسلامي والعربي، وتميز بانفتاحه وشجاعته، فلم يتوقف عند هزّ المفكر فيه في المجتمع العربي الإسلامي، إنما تعداه للدعوة إلى خوض غمار اللامفكر فيه.
اعتمد أركون المنهجيات العلمية التطبيقية في قراءة القرآن، وأخضع النص الديني للتحليل الألسني التفكيكي والتأمل الصوفي. ورأى أن تعدد المذاهب في الإسلام في مراحل سابقة يدل على وجود حريات في الإسلام سمحت بالكثير من التنوع، وهاجم ما حدث ويحدث من استغلال السياسيين للدين. كما رأى أن الحرية الدينية ليست بعيدة عن العلمانية، وأن المجتمع الإسلامي في تطوره ليس بعيداً عن العلمانية.
سيرة أركون حافلة بالسجالات. فهو ولد العام 1928 من عائلة فقيرة، في بلدة تاوريرت ميمون بمنطقة القبائل الكبرى الأمازيغية بالجزائر، واصل دراسته الثانوية في وهران، ثم دراسته الجامعية في الجزائر، ثم بتدخل من المستشرق الفرنسي لوي ماسينيون التحق بجامعة السوربون في باريس، وكان فكر المؤرخ والفيلسوف ابن مسكويه موضوع أطروحته.
عُين أركون أستاذا، ذا كرسي، لتاريخ الفكر الإسلامي والفلسفة في جامعة السوربون العام 1970، بعد حصوله على درجة دكتوراه في الفلسفة منها، وعمل كباحث مرافق في برلين خلال العامين 1986 و1987. شغل منذ العام 1993 منصب عضو في مجلس إدارة معهد الدراسات الإسلامية في لندن. رأس تحرير مجلة «أرابيكا» للدراسات العربية والاسلامية. كان أستاذاً زائراً في العديد من جامعات أميركا وأوروبا وأفريقيا وآسيا.
كانت له عشرات المؤلفات، فهو كتب مؤلفاته بالفرنسية والإنكليزية، ثم ترجمت إلى العديد من لغات العالم، ومنها العربية التي نقل إليها مترجمه المعروف هاشم صالح وحده 13 كتاباً.
من كتبه المعرّبة: الفكر العربي، الإسلام: أصالة وممارسة، نقد العقل الإسلامي، الفكر الإسلامي: قراءة علمية، الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد، الإسلام: الأخلاق والسياسة، العلمنة والدين: الإسلام المسيحية الغرب، من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي، من فيصل التفرقة إلى فصل المقال: أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟ الإسلام أوروبا الغرب: رهانات المعنى وإرادات الهيمنة، نزعة الأنسنة في الفكر العربي، قضايا في نقد العقل الديني، كيف نفهم الإسلام اليوم؟ الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي، معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية، من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، تاريخ الجماعات السرية، تاريخية الفكر العربي – الإسلامي، الفكر الإسلامي: قراءة علمية، قضايا في نقد العقل الديني.
توفي ليل الثلاثاء الأربعاء في العاصمة الفرنسية باريس، عن 82 عاما، بعد صراع طويل مع المرض.
محمد أركون… غياب مفكر واستمرار الجدل
لافي الشمري
لن يخفت الجدل الذي أثاره المفكر الجزائري محمد أركون بآرائه وكتاباته، برحيله عن عالمنا، لا سيما أن أستاذ تاريخ الفكر الإسلامي والفلسفة في جامعة السوربون يعتبر أحد أبرز الباحثين في الدراسات الإسلامية المعاصرة، كما أنه تصدى لبعض المسلّمات والبديهيات في الأديان. كرّس الراحل فكره ونقده للنظريات المتأصلة في الدين، داعياً إلى المزج بين دراسة الأديان السماوية في علم واحد مشترك.
في مدينة باريس قطع أركون تذكرة رحلته إلى العالم الآخر، تاركاً دعوة للمشاركة في ندوة فكرية عن المفكر نصر حامد أبو زيد كان أبدى موافقته على المشاركة ضمن فعالياتها.
خاض الراحل معارك فكرية مع جهات ومؤسسات كثيرة، منحازاً إلى حوار العقل المعتمد على أسس وضوابط بحثية دقيقة، رافضاً المضي في سجالات فكرية لا طائل منها حسب وجهة نظره.
اشتهر أركون باعتناقه المنهج الألسني النقدي، محدداً ما يقصده بقراءة ودراسة القرآن الكريم بمعنى التحرر من القيود الإيمانية في التعامل مع ما جاء في الكتاب المقدس، وهو رأى أن القراءات الإيمانية تستند إلى مبادئ ومسلمات يصعب جعلها مادة للنقاش عند أفراد المجتمع كافة، مشيراً إلى أن هذا التعامل مع القرآن الكريم يرفض رفضاً قاطعاً التشكيك في محتواه، وفي هذا الإطار كان يدعو أركون المستشرقين إلى تفكيك البديهيات المؤسسة للتماسك لكل الإيمان، مطالباً بتطبيق نظريات فلسفية تهتم بتشريح المحتوى الديني بعيداً عن المتدثرين بعباءته والمتعصبين لمبادئه.
مرتكزات أساسية
تدور كتابات محمد أركون ودراساته في مجملها حول موضوع أساسي، وذلك بقصد تحقيق هدف إستراتيجي، وهو توجيه عامة المسلمين إلى الطرق المستحدثة في التفكير والاتصال بالتاريخ وتفهم ما يجري في المجتمعات المعاصرة، لكن للوصول إلى هذا الهدف يقول أركون إنه لا بد من تحقيق ثلاثة شروط دفعة واحدة وهي: أولاً زحزحة الإشكالية الإسلامية الخاصة بالقرآن من أجل التوصل إلى مقاربة أنثروبولوجية للأديان السماوية، أو ما يطلق عليها بأديان الوحي.
ثانياً: إجبار المفكرين اليهود والمسيحيين على القيام بالزحزحة نفسها، من أجل دمج المثال القرآني داخل بحث مشترك يتناول المكانة اللغوية والأنثروبولوجية للخطاب الديني المتضمن للوحي.
ثالثاً: تبيان الأضرار الفكرية والثقافية الناتجة عن الفكر العلماني والوضعي عند اختزال الظاهرة الدينية في مجرد صيغ عابرة وزائدة وباطلة.
دعا أركون إلى تطبيق ما أنتجته علوم الإنسان والاجتماع، أي التاريخ والألسنيات والفلسفة والأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا، بالإضافة إلى استخدام البنيوية والتفكيكية والنقدية لدراسة الإسلام كنص ودين وتاريخ وسياسة، وقد انتقد الطريقة التي استخدمها الغربيون في دراسة الإسلام، كما انتقد الطريقة التي عالج ويعالج بها المسلمون دينهم وتاريخهم وفكرهم.
قطيعة فكرية
التزم أركون هذا المبدأ رافعا لواء القطيعة المعرفية متمسكاً بالأنثروبولوجيا الدينية، داعياً إلى دمج دراسة أديان الوحي اليهودية والمسيحية والإسلام في علم واحد مشترك.
وفي كتابه ‘أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟’ يركز أركون نقده على العقل الإسلامي وإشكاليته التاريخية، فيستخدم منهجية تاريخية ‘أبستمولوجية’ أساسها تفكيك النصوص وتحليلها بعمق ووضعها في إطار اجتماعي تاريخي واسع يتم من خلاله التخلي عن المنهج السردي الوصفي والتوجه النقدي لكل الأساليب والمناهج والمقاربات السائدة في وصف الظاهرة الإسلامية، سواء ما كان سائداً منها عند العرب والمسلمين في غياب الحوار والعقلانية في التحليل، أو مما كان يحمله الاستشراق من مغالطات فادحة وخطيرة في آن، مضيفاً: ‘وبما أن الفكر الإسلامي قد عرف الحوار والمناظرة والإبداع في مراحل تاريخية سابقة، كما ورد في نصوص الغزالي وابن رشد، إذ يبرز التفوق العقلاني وحرية البحث والإبداع في إشكاليات متصلة بقضايا دينية حساسة، لذلك كان لا بد من العودة إلى الانفتاح الفكري والروح المعرفية التي ميّزت تلك المرحلة، المنطلقة من وجود إسلام صحيح أصيل يتطابق مع مفهوم الدين الحق، وانطلاقاً من هذا يفترض في الفكر الإسلامي المعاصر أن يدرك معنى ‘القطيعة المعرفية’ التي يعيشها ويتجه إلى الربط بين المعاني التاريخية في كل ما يطرحه ويعالجه من مشاكل دينية أو فلسفية أو ثقافية، لأن ثمة فارقاً بين المسلم المقلد والمسلم المتحرر من المعارف الخاطئة، والذي يترتب عليه أن يعي طبيعة القطيعة المعرفية في الفكر الإسلامي، وتخطي مشكلات تفسير النصوص المُنزَّلة وتأويلها وما يترتب عليها من طرق الاستنباط عند الفقهاء في وضع أحكام الشريعية.
السياج الدوغماتي
يدعو أركون إلى دراسة الأديان عبر التَّحليل ‘الأبستمولوجي’ مستفيداً من منهج ميشال فوكو ‘الحفري’ وذلك بالحفر في اللاهوتية الراسخة داخل السياج الدوغماتي المغلق لكل طائفة أو دين، ثم تفكيك ما هو مترسب في ذاكرة الوعي الجماعي عبر القرون. ويحلل أركون في كتاباته موضوع الاستخدام الأيديولوجي للدين من قبل الحركات الدينية، ويعتبر أن هذه الحركات هي سياسية ايديولوجية استخدمت مناهج الغرب وأفكاره من أجل نشر أفكارها وشعاراتها، مؤكداً أنه لا يمكن التصدي لهذه الحركات إلا بالزحزحة المشتركة بين الديانات السماوية.
خطر الأصولية
يتحدث أركون عن ظهور الحركات الإسلامية، ويعزوها إلى ظاهرة التزايد الديموغرافي والهجرة العامة لسكان الأرياف إلى المدن، مما زاد حدة الصراع على السلطة من قبل الأطراف وفي غياب قيم التسامح، كل هذا ساعد على نشوء التطرف والتشدد بطريقة لا مثيل لها أبداً في العالم. ويحذر أركون من خطر الأصولية، لأنها بحسب رأيه تعني تحول الخطاب الديني المفتوح إلى قانون واحد لا يقبل النقاش، وهذا النوع من الأصولية يولّد التّزمت في كل شيء، وهذه الظاهرة تنسحب على كل ديانات الوحي، ويؤكد أركون ‘عدم امتلاك الفكر الإسلامي المستنير الجهاز الفكري ولا الإمكانات العلمية، التي تراكمت في الغرب تحت اسم الحداثة ليتصدى للفكر الأصولي، كما أن الفكر النقدي الذي يمثله بعض المثقفين لا يمكن أن يقف في وجه الحركات الإسلامية، لأنها تستخدم الظاهرة الشعبوية، وهذا هو الوتر الحساس الذي يجيد الإسلاميون اللعب على أوتاره’.
ويقترح أركون حلاً لهذه الأمور ‘من خلال مشروع متكامل يقوم على رعاية العقل الفلسفي والعلمي للدين كما حصل في الغرب’.
من أقواله:
● يتحمل السياسيون مسؤولية مراوحة التنوير العربي مكانه مقتصراً على التنظير.
● لم يأل المثقفون والتربويون جهداً في البحث، إذ إن التنوير اكتسب اهتماماً في حقبتي الخمسينيات والستينيات.
● إن الأنظمة السياسية العربية الوليدة، التي نهج بعضها سياسة الحزب الوحيد، لم تعتمد على الإسلام كمرجعية لها في الحكم، بل اعتمدت على سياسة علمانية في ظل الصراع الذي كان قائماً بين الاتحاد السوفياتي من جهة، والولايات المتحدة وأوروبا من جهة أخرى، إذ مالت بعض الدول العربية جهة الشرق بينما اختارت أخرى الميول تجاه الغرب.
● يجب أن تبدل المواقف والآمال للوصول إلى المعطيات التي ستؤدي إلى انتعاش التفكير البناء والمحرر للعقل العربي والإسلامي.
● العقائد الدينية تطرح مشاكل جسيمة إذا لم نعتن بها فيصبح الدين فاشلاً.
● يتعين علينا دراسة قضية تهميش المرأة من الناحية الأنتروبولوجية وفق وسائل وأطروحات دقيقة متعلقة بالبنية النسائية للمجتمعات البدائية.
● التاريخ الذي يدرس في العالم العربي، هو تاريخ مخلوط بالميثولوجيا، ولا يعتمد المناهج العلمية في الروايات التاريخية، الاجتهاد الحقيقي يقوم على التعددية.
● المرأة ليست مهمشة في الوطن العربي وحسب بل عانت تهميش الرجل في العالم كافة.
● هدف التنوير الأسمى هو منح العقل البشري جميع الحمايات والأسباب التي تمكنه من أن يواصل المشوار.
● الإيمان الكاثوليكي مرتبط ارتباطاً منذ بدايته بما نتعلمه ونتلقاه من ممارسة ‘اللوغس’.
● المشكلة التي أصابت الفكر الإسلامي تعود إلى أن المفكرين القدماء أقدموا على دراسة العلوم العقلية مع العلوم الدينية، لذلك يقتضي عند دراسة الفكر الإسلامي أن نلجأ إلى تطبيق العلوم والمناهج الحديثة مع الابتعاد عن العقائدية الدوغماتية.
● في أوروبا عوامل تاريخية واجتماعية لم نجدها في الفكر الإسلامي جاءت ثمرة للفرق بين ما يقوله العقل الفلسفي والعقل الديني.
● النقد التاريخي الذي يطبقه عالم الفيلولوجيا -المستشرق- على التراث خطوة لابد منها، لكنه غير كافٍ، لذا ينبغي تعميقه عن طريق التحليل الأنتربولوجي من أجل إحداث التطابق بين المادة العلمية ومضامين التراث.
آراء ومواقف
التحليل السيميائي في نظر المفكر أركون يفرض على الباحث ممارسة تدريب من التقشف والنقاء العقلي والفكري لابد منه، بقوله: ‘يمثل فضيلة ثمينة جداً، لاسيما أن الأمر يتعلق هنا بقراءة نصوص محددة كانت قد ولِدت وشُكِّلت طوال أجيال عديدة، وحينئذ نتعلم كيف نقيم مسافة منهجية تجاه النصوص أو بيننا وبين النصوص ‘المقدسة’، من دون إطلاق أي حكم من أحكام اليتولوجية أو التاريخية التي تغلق باب التواصل مع المؤمنين فوراً’.
القراءة اليتولوجية والإيمانية لا تخدم القرآن ولا الفكر الإسلامي حسب أركون، مؤكداً ضرورة خدمة الفكر الديني بعناصر مستقلة تستند إلى أسس بحثية دقيقة.
ويؤكد أركون أن الأديب طه حسين اهتم كثيراً بالاستعادة النقدية للتراث الديني أو الثقافي أو كليهما، بينما لم يزحزح المناقشة من أرضيتها السابقة نحو دراسة تمهد للأطر الاجتماعية والثقافية السائدة.
ويرى أن دراسات المفكر نصر حامد أبوزيد تدل على مدى اتساع اللامفكر والمستحيل في التفكير فيه.
ويمتدح أركون كتاب جاكلين شابي بقوله: ‘كتابها يقدم المثال العملي المحسوس على إمكان تحقيق طفرة نوعية، إبستمائية وإبستمولوجية، في الكتابة التاريخية عن القرآن. إن المؤلفة ترسم حدودا لا يمكن اختراقها بين القانون المعياري لمهنة المؤرخ من جهة وبين مجال الفكر الإيماني والمعرفة الإيمانية من جهة أخرى’.
الجريدة

نص الكلمة التي القاها بمناسبة منحه جائزة ابن رشد للفكر الحر لسنة 2003
سيداتي وسادتي
زملائي وأصدقائي
لست أدري من أين أبدأ لأقول لكم وأعبّر عما أحس به هذا اليوم. أود أولاً أن أشكر وأهنئ الزملاء والأصدقاء الذين بادروا بإنشاء هذه المؤسسة تحت اسم مفكرٍ يفتخر به العالَم، إنهم أدركوا حاجة جميع الشعوب والمجتمعات العربية الماسّة إلى الحرية والتنوير وأيضاً المجتمعات والشعوب التي تنتمي إلى الفكر الإسلامي الذي لا ينفصل عن اللغة العربية. والعالم الإسلامي يكاد يمزج بالعالَم كلّه.
وأود أن اشكر أخي وصديقي Stefan Wild  الذي عبّر تعبيراً صحيحاً أُحسّ به في أعماق قلبي وعقلي، وهو الأول الذي أشار كباحثٍ إلى الكتاب الذي أصدرته عام 1984 بعنوان “نقد العقل الإسلامي”. أقول هذا لإنصاف الزملاء الباحثين في الغرب، ولا أود أن أسمّيهم المستشرقين لأنّ كلمة المستشرقين والاستشراق تُعبّر عن جدلٍ وجهلٍ لما قام به من يجب أن نسمّيهم بالباحثين العلماء بالغرب الذين اعتنوا  بالتراث العربي والإسلامي منذ القرن التاسع عشر واعتنوا به بالمناهج والأطر الفكرية العلمية التي برزت بأوروبا وظهرت بأوروبا ولم تظهر بأي ثقافة أخري في العالَم. أعني بذلك ما نسمّيه الحداثة.
الحداثة ظاهرةٌ فكريةٌ علميةٌ ثقافيةٌ سياسية حقوقيةٌ ظهرت بهذه المنطقة من الكرة الأرضية التي نسمّيها أوروبا ولم تظهر بمنطقة أخرى. أقول هذا كمؤرخ تاريخي، والمؤرخ هو الذي يُعلمنا بما يجب أن نتشبث به فيما يتعلق بالمسيرة الفكرية للعقل البشري. المؤرخ لا يعتني بلغته وثقافته ووطنه ودينه فقط، طبعاً هو يعتني بتلك الأشياء لأنه ينضج من تلك الأشياء وبتلك المرجعيات الأولية. لكن المؤرخ يخترق إذا كان مؤرخاً مفكراً، لا مؤرخاً حاكياً، راوياً لما حدث في الماضي فقط، لأنّ هناك أنواع ومواقف فيما يخص الحركة والعمل التاريخي كعلمٍ شاملٍ أو كعلمٍ مخصص لسرد الحوادث كما حدثت في ماضٍ من الماضيات في الثقافات العديدة.
إذاً أبدأ بهذا لأقول أن الفكر الغربي سنحت له الفرصة أن يتطور تطوراً شاملاً ويتبنى جميع التيارات الفكرية المتواجدة في فضاء البحر المتوسط. والأديان هي التي كونت الذهنيات البشرية في هذا الفضاء الجغرافي التايخي وألحّ على هذا المفهوم كمفهوم يجب علينا أن نستعمله في تدريسنا للتاريخ، تاريخ الفكر والتاريخ السياسي والتاريخ الثقافي الذي لعب الدور الذي نعرفه وأدّى بنا إلى الوضع التاريخي الذي نعيشه اليوم.هذا ما أسمّيه ” بالإسلاميات التطبيقية”، لا نُدرّس الإسلام كإسلامٍ على حدته، لا ندرس الفكر  الإسلامي على حدته ونقدّمه كالفكر الذي قدّم دين الحق للأنامي كما يقول التيار الإسلاموي ولا أسميه الإسلامي، وهذه تسمية سوسيولوجية وليست بتسمية جدلية. وعندما أقول إسلاموي أمام جمهورٍ إسلامي يغضب عليّ ويقول أني أعاديه.
وإني أتكلم كعالِِِمٍ اجتماعي ينظر ماذا يوجد في المجتمع، التيارات التي تبرز في المجتمع ولم تبرز من قبل، التيارات التي نشاهدها اليوم في المجتمعات العربية والإسلامية لم نسمع بها قط في أي بلدٍ عربي. قبل الستينات والخمسينات من القرن الماضي كان الفكر العربي يتكلّم عن الثورة العربية الاشتراكية، لم يتكلم عن الإسلام لتأييد هذه الثقافة. هذا ظهر من بعد.
إذاً أرجع الآن إلى ابن رشد، أشكركم على اختيار هذا الاسم لأن هذا الاسم يُمكّننا من أن نقدّم تاريخ الفكر إسلامياً عربياً كان أم لاتينياً أوروبياً مسيحياً كتيارات متكاملة متناقشة متفاعلة في فضاء البحر المتوسط والحدود الأنتروبولوجية والفكرية بين فضاء البحر المتوسط والأديان والتيارات الفكرية والثقافات التي توجد وراء نهر إندوس  في الشرق الأقصى بآسيا. هناك تجد تفكيراً آخر، آفاق أخرى للحقيقة لإنارة وإرشاد حياة البشر، حياة الإنسان. وهذه النظرة ما وراء نهر إندوس أيضاً داخلة في تاريخ الفكر في فضاء البحر المتوسط.
ابن رشد أذكركم من ناحية أخرى، عاش بالأندلس وكان من معاصريه ابن ميمون اليهودي الذي توفي في 1204 بينما توفي ابن رشد 1198 أي انهما كانا معاصرين. بعدهما سيأتي مفكر آخر من أوروبا اللاتينية توماس الإكويني الذي توفي 1274. هذه الأسماء الثلاثة تعاصروا وتواصلوا فكرياً. ابن ميمون كتب باللغة العربية وهو يهودي ويفكر في الأطر التي تكونت في القرون السابقة في الفلسفة من جهة وفي علم الكلام من جهة أخرى. وإننا اليوم نميّز بين الفلسفة وعلم الكلام وندرّس هذين العلمين في شعبتين مختلفتين. هنا في ألمانيا تعترف الدولة بتدريس اللاهوت، أما في فرنسا فالدولة لا تعترف بتدريس اللاهوت في الجامعات العمومية الرسمية. هذه أيضاً ملاحظة مهمة جداً بالنسبة لتاريخ الفكر الشامل كما أحاول أن أذكره. المفكرون الثلاثة أنتجوا ما أنتجوه في إطارٍ فكريٍ يصفه المؤرخون اليوم بإطارٍ فكريٍ وسْطَوِيْ -ينتمي للقرون الوسط- وهي مرحلة من مراحل تطور الفكر في فضاء البحر المتوسط. وهذه المرحلة ستصبح مرحلة ذات قيمة تاريخية فقط، لا يمكننا الاعتماد عليها كمرجعية فكرية معرفية للتعرف على الأديان مثلاً بعد ظهور الحداثة في أوروبا كما أشرت. هذه نقطة مهمة جداً، أعني بهذا أننا نفتخر بابن رشد كمرجعية لأنه وقف أمام مفكر مسلم آخر أنتج أيضاً مؤلفات مؤثرة ومهمة جداً وهو الغزالي. ويكفي أن أذكركم بقيمة المناظرة التي وقعت بين المفكريْن في إطار الفكر الذي يُعبّر عنه باللغة العربية في القرون الوسطى. الغزالي أصدر كتاباً بعنوان “فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة” ونحن اليوم في الإسلام والزندقة، نحن اليوم نعيش في الإطار التفكيري الذي تقيّد به الغزالي في كتابه. إذ الغزالي في كتابه كان قادراً أن يقول كمفكر هذا مسلم حقيقي نعترف بإسلامه وهذا غير مسلم خرج عن دين الحق. وهذا كلام وتفكير خاص بنوع من ممارسة التفكير اللاهوتي. وردّ عليه ابن رشد بعد ثمانين عاماً بكتابه المشهور “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال”. هذا عنوان يدل على إطار تفكيري مختلف لأنه يُعلن للقارئ أنّ المؤلّف سينظر إلى الجهتين وينظر بإلحاحٍ وبموقف نقدي للجهتين: الحكمة والشريعة. وهنا يقارب ابن رشد المشكل مقاربة تسائلية لا مقاربة حاسمة ليقول هذا حق يجب أن نتقيد به ونتبعه وهذا باطل … الموقف الفلسفي لا يتبنى هذا النوع من فصل المقال. وفي هذا الموقف نجد عِبرةً نحتاج إليها اليوم حاجةً ماسة في الفكر الذي يصف نفسه بالإسلامي. وألحّ على هذا التعبير لا لأقول أني أعرف الإسلام، بل لأصف فقط المواقف الفكرية التي نشاهدها اليوم في الساحة العربية الناطقة باللغة العربية كما ينطق بها ناطقوها اليوم. أقول اليوم لأن اللغة العربية انفصلت عن معجمها الفكري النقدي الفلسفي، أصبحت لغة طغى عليها الخطاب الإيديولوجي والموقف الإيديولوجي.
تنظرون كيف يمكننا أن نربط بين الموقف الفكري الذي نلتمسه في هذه المناظرة وما يجب علينا أن نقوم به لتطبيق هذه التجربة الفكرية لما نعاني منه اليوم كفكرٍ عربي وكفكرٍ إسلامي. الموقف النقدي يعتمد على معرفة تاريخية مدققة محكمة بالوسائل الفيلولوجية التي تعلّمناها كلنا من الفكر الألماني ومن الباحثين الألمان. والمنهاج الفيلولوجي بدأنا نسمع به في الفكر العربي في عهد ما أسميناه النهضة. طه حسين تعلّم المنهاج الفيلولوجي في السوربون وطبّقه على دراسة “الشعر الجاهلي” وشاهدنا ماذا وقع لهذا الكتاب لأن علماء الأزهر لم يسمعوا بهذا المنهاج في حياتهم قط. والمنهاج الفيلولوجي ظهر في إطار الحداثة، لم يظهر في إطار الفكر التاريخي وكتابة التاريخ في القرون الوسطى. هناك طبعاً من يتسائل عن الوثيقة التي يقرأها إذا هي صحيحة تاريخياً أم مختلقة. المؤرخون يعرفون ذلك. هذا يختلف عن المنهاج الفيلولوجي الذي يرتبط بالموقف التاريخي الذي يُؤرخ للفكر خارج السياج الدغماتي الذي يتبناه ويعمل به الفكر اللاهوتي. واليوم الفكر اللاهوتي تغيّر وتبنى المناهج التاريخية، ولكن ليس كل اللاهوتيين حتى اليوم في ألمانيا يتبنون هذا المنهاج الفيلولوجي خاصة إذا طبّقناه لما نسميه بالنصوص الدينية المقدّسة التي لا يمسّها إلا المطهّرون.
ومع هذا أود أن أشير إلى جانب آخر مهم جداً: أرجو أن لا تكون هذه المؤسسة، “ابن رشد للفكر الحر”، أن لا تكون على نفس التيار الذي يقول : يكفينا أن نرجع إلى المفكرين القدماء حتى نحيي الفكر الإسلامي ونعتمد عليه كما نقلناه عن تلك الكتب ومن هؤلاء الكُتّاب.
لا، هناك ظاهرة الحداثة والتي لا بد من الدخول فيها، لا بد من تبنّيها كإطار فكري، وليس مجرد تطبيقها دون تسائل ودون التعرّف على التاريخ والتقديم التاريخي النقدي لجميع التراث العربي. لذلك لا يمكنني أن اكتفي بكيفية الاستدلال الذي نجده في فصل المقال مثلا عند ابن رشد لأعالج اليوم قضايا الشريعة وأعالج اليوم نفس الموضوع الذي عالجه في العلاقات بين الحكمة والشريعة. وهذا يؤدينا إلى نقد العقل الإسلامي اليوم وهذا ما يربطني بتجربة ابن رشد.
ولكن أود هنا إلى أن أشير أيضاً أن ابن رشد ليس الوحيد الذي أشير إليه وأتفاعل مع فكره. هناك عقول أحبّها والتقيت بها عندما كنت أعمل في أطروحتي التي قرأتموها بالعربية “نزعة الأنسنة في الفكر العربي في القرن الرابع الهجري” ومن المفكرين العرب الذين أحبهم وأحْييهِم ليكونوا معنا في هذه الحداثة أخي الحميم أبو حيّان التوحيدي لأنه كان مفكراً ثائراً لأنه يثور ثورة فكرية وصابرة بعيدة كل البعد عن العنف وعن الجدل العقيم. وكُتُبِ أبو حيّان تشهد شهادة قوية ملحّة على أن الفكر العربي بدأ يفتح فضاءً للفكر الذي يتبناه كل عقل بشري وهو ما نسمّيه “الأنسنة” أي Humanismus. انظروا يا اخوتي أُجبِرتُ إلى أن أجد اصطلاحاً عربياً لأترجم تياراً عربياً موجوداً حياً في اللغة العربية وكان لهم مفهوم لفظي يدلّ على مفهوم Humanismus  وهو مفهوم الأدب. كان يكفيني أن أقول نزعة الأدب في الفكر العربي في القرن الرابع الهجري. ولكن لو اخترت هذا العنوان يُفكّر القارئ وكأنني أعني فرع الأدب في كلية الآداب مثلاً وهذا بعيد كل البعد عن المقصود. وهناك مفهوم عربي موجود حي ولكن مات، مات، لم يعد صالحاً لتغذية الفكر اليوم وللتعبير عن شيء أساسي بلغة الفكر العربي في القرن الرابع الهجري، واختفى تاريخياً هذا التيار كما اختفى الفكر الفلسفي كله بعد وفاة ابن رشد. هذه أيضاً ظاهرة تاريخية لم يُؤرّخ لها بعد المؤرخون. هناك دراسات عديدة ولكن ليست دراسات بهذا الذهاب والإياب إذا صحّ التعبير. من القرون الوسطى وما حدث في القرون الوسطى إلى يومنا هذا وظروفنا هذه التي نعيش فيها ونعاني منها في الفكر العربي المعاصر والمجتمعات العربية المعاصرة.
وهذا المثل “الأدب” الذي نحتاج إلى إيجاد اصطلاح له واصطلاح “الأنسنة” جديد للقارئ الذي يتسائل لماذا لا يقول الكاتب مثلاً الفكر الإنساني، هذا الأستاذ أركون يُعقّد كلامه ولا نفهم ماذا يقول فلا نقرأ كتبه. بحرٌ من المصطلحات كما يقول أحد النقّاد… نعم …بحرٌ من المصطلحات، نحتاج إلى ذلك البحر من المصطلحات. ولكن الطّامة الكُبرى أن الفكر العربي المعاصر منذ الخمسينات والستينات من القرن الماضي لم ينقطع فقط من الفكر العربي الكلاسيكي من القرن السابع إلى القرن الثالث عشر الميلادي، بل انقطع الفكر العربي المعاصر من التفكير الذي ورد في القرن التاسع عشر إلى بداية الحرب العالمية الثانية. تلك الفترة التي وصفها العلماء بالفترة اللبيرالية وهي فترة النهضة كما نسميها. انظروا الفرق بين المواقف الفكرية لمحمد عبده وتفتّح محمد عبده وفكره البرغماتي حتى فيما يخص الإفتاء في الشريعة ومواقف من نسميهم اليوم بالإسلاميين، يتشبث بهم ويخضع لهم ويسجد لهم ملاين من المسلمين. انتقل الفكر الليبرالي إلى فكرٍ شعبَويٍٍ كما أقول إسلاموي. هذا تعبير سوسيولوجي. وطبعاً التفكير السوسيولوجي يفتح أبواباً وآفاقاً للنقد الفلسفي.
كما تعلمون لي كتاب فيه عناوين استعملتها باللغة العربية ولم استعملها باللغة الفرنسية وكل عنوان يشير إلى ميدان واسع من البحوث والتفكير. والعنوان الذي أشير إليه هو ” الفكر الأصولي واستحالة التأصيل”. هذا عنوان متحدٍ جداً وكثير من القرّاء العرب حتى الذين نصفهم بالمثقفين لا يُدركون ما أعنيه باستحالة التأصيل، لا من جهة الفكر الإسلامي المبني على التأصيل، تأصيل الشريعة في النصوص القرآنية ونصوص الحديث. طلب الأصل لاجتهاد طلب الأصول ووجود الأصول التي تُستنبط منها الأحكام الشرعية. هذا يعني أن الموقف التأصيلي أصيلٌ في الفكر العربي الإسلامي. وكان المفكرون المسلمون في القرون الوسطى يعتقدون أن عملية التأصيل كما مارسوها، كما مارسها جميع من ألّف كتباً في أصول الفقه وفي أصول الدين كان أمرا ًقد يكون سهلاً بشرط فقط أن تتبع قواعد النحو وتعرف معاني الألفاظ المستعملة في القرآن أو الحديث بدون أي معجمٍ تاريخي صحيح يُعتمد عليه. يقومون باستدلالاتهم لبراهينهم ويقررون أنّ هذا الحديث صحيح وهذا الحديث مُختلق، أنّ هذه الآيات تُفهم على هذا النحو. هذا هو التأصيل. هذا النوع من التأصيل يُعلََّمْ ويلقّنْ في المدارس.
ولكن بعد القرن الثالث عشر والرابع عشر بطل حتى هذا التمرين للعقل لكي يتدرّب على كيفية الاستدلال الصحيح الذي يُعترف به. وبقينا هكذا على شيء أصبح خيالياً، أن هناك شريعة مؤصلة وهذه العملية قام بها الأئمة المجتهدون وأيدها الأئمة الإثنا عشر حيث الإمام المعصوم هو الذي يؤيد ويقرر وكفانا بذلك فليس هناك حاجة إلى أن يُجدّد النظر في عملية التأصيل.  “بداية المجتهد” مثل آخر لأقول أنه لا يمكن أن نعتمد على ابن رشد مع احترامنا له، إن بداية المجتهد كتاب في المذهب المالكي وما كان يُناظر المذاهب الأخرى في طرق التأصيل، هذا كلّه لا يعتني به أحد.
واليوم بعدما قام به العقل في تطوير ما نسمّيه الحداثة، أقرؤوا فلاسفة اليوم هنا في ألمانيا، في فرنسا، في إنجلترا وحتى وأقول حتى في أمريكا لأن أمريكا طبعاً لها فلسفة ولكن فلسفة إذا نظرنا إلى تلك الفلسفة اللبرالية البرغماتية وقارنّاها بفلسفة كانت وهيجل واللذين مارسوا فلسفة على طريقة أخرى ومستوى آخر لا بد أن نرى الفرق الكبير كما قلت. إذا قرأنا الفلاسفة اليوم الذين يتسائلون كيف نؤصّل مثلاً حكماً أخلاقياً، الأخلاق؟ ما هي أسس الأخلاق؟ على أي قيم ومبادئ يمكننا اليوم أن نفرض على عقول اليوم في مجتمعاتنا الديمقراطية موقف أخلاقي يتشبث به ويعترف به ويخضع له العقل الراهن؟. كنت عضواً في فرنسا بلجنة التفكير عن تطبيق الأخلاق في ميدان العلوم البيولوجية التي تحصر جميع تصوراتنا للإنسان ولوضع البشر. وعندما نجلس لنفكر معاً كلجنة في قضية من القضايا التي تَطرح متى يمكننا أن نعتبر الإنسان إنساناً من حيث التعريف البيولوجي للإنسان قبل أن ننتقل إلى حكم أخلاقي كما نسميه، يجب أن نبدأ من الأساس وهو أساس بيولوجي وليس منزّلاً من السماء وغير مرتبطٍ بالنصوص. هذا يطرح القليل مما قدّمته هنا في هذه المناسبة. ما يُطرحُ لدينا ليست قضية الأديان مع أن الأديان أصبحت تلعب في مجتمعاتنا دوراً من الأهمية بمكان ولكنّه دورٌ سياسيٌّ ملبّس بالمعجم الديني.
وكيف إذاً مشكلة المشاكل فيما يخص الفكر العربي خاصة فكر اليوم؟ وجب علينا أن نتسائل عن الظاهرة الدينية وهي مفهوم أنتروبولوجي لا بد من طرحه، لا بد من البحث حتى يُصبح هذا المفهوم هو المنطلق لنقول شيئاً يقبله العقل فيما يخص بدين الإسلام الذي هو دين من بين أديان أخرى متعايشة متواجدة لدينا وتتخاطب بالإرهاب، الدين الهندوسي بالهند يخاطب الإسلام بالإرهاب، والدين الإسلامي يخاطب ما يسميه الغرب بالإرهاب. العنف، العنفُ في هذه المرحلة التاريخية من تاريخ البشر. العنف ظاهرةٌ كأنها ظاهرة جديدة لدينا، كأنها لم توجد في جميع المجتمعات من لدن الخليقة، والعنفُ بعدٌ مكوِّنٌ للحياة البشرية، بعدٌ عريقٌ بيولوجياً في جسدنا ونظامنا العصبي، ومغذى فكرياً بما نلقنه لأبنائنا في المدارس وهم صغار لا يمكنهم أن يردوا على معلمهم ويقولوا له أنت جاهل تعلمنا الجهل، والمعلّم عندنا لا يزال يقمع التلميذ والطالب حتى يسمع لجهله لأنه يعلم الجهلَ. ولا سبيل إلى أن نربي  الأجيال الطالعة على التعرف، تعرّف علمي على ظاهرة العنف، لأن العنف أصبح قيمةً سياسيةً لا مفر منها. الثورات التي مررنا بها بعد الحرب العالمية الثانية في جميع العالم، الثورات والحروب التحريرية مبنية على العنف، وهكذا أصبح العنف يُنتج الأبطال، يُنتج الزعماء الذين يترأسون الشعوب. والمجتمعات تعرف أن هذا العنف ينقلب، من كونه والاعتماد عليه كقيمة سياسية لا بد منها يفرضها التاريخ علينا، ينقلب هذا العنف إلى قيمة أخلاقية، إلى قيمة وطنية يؤمن بها الجميع ويحتفل بها الشعب. أنظروا أين نحن من زمن ابن رشد بقرطبة، أين نحن من الظروف الاجتماعية والثقافية والسياسية والقيم الدينية التي كانت قائمة حينذاك. وإن التعريف الانتربولوجي للعنف لم يكن ممكناً التفكير فيه في ذاك الوقت.
هكذا نفهم وجود تلك المصطلحات التي نستعملها فيما أكتب ما لا يمكن التفكير فيه. عندما أقول ما لا يمكن التفكير فيه في الفكر الإسلامي المعاصر، أقصد أولاً الفكر الفلسفي الذي أصبح تاريخياً مرفوضاً وفي الميدان الذي لا يمكن التفكير فيه لأسباب دينية ثقافية وسياسية. وعندما نرفض ما يمكن التفكير فيه كالمعتزلة أيضاً في موضوع “خلق القرآن” كان مما يمكن التفكير فيه، إذ تناقش فيه وفكّر فيه الكثير من المفكرين. وبعد الخليفة القادر الذي أصدر في العقيدة القادرية أن من قال بخلق القرآن فدمه حلال،  أصبح التفكير في قضية مهمة كخلق القرآن لا يمكن التفكير فيها. أذاً هذا مفهوم يرجعنا إلى التاريخ ، يرجعنا إلى سوسيولوجية الفكر، الكثير يعتقدون أن هذه فلسفة، لا، هذا ليس بمصطلح فلسفي. إني أصف وضع الفكر والمُفكِّر في مجتمع من المجتمعات.
واليوم مثلاً لي أفكار، لي مواقف لا يمكنني أن أعبّر عنها أو أعلنُ عنها أمام الجمهور، لأنّ الجمهور لا يمكنه أن يفهم فوراً ما أقصده، أما مع الطلاّب فعندنا وقت لنبني هذه المفاهيم. أما في محاضرة أو في كتاب فالمعذرة فلا أستطيع قول أو كتابة ذلك وهذا أيضاً يربط كلامنا مع تجربة ابن رشد حيث كان الفقهاء المالكيين يهاجمونه، لم يرضوا باعتنائه بالعلوم الدخيلة والتي تعني الفلسفة.
واليوم كفّرني الشيخ محمد الغزالي بالجزائر يا سيدي سفير الجزائر وأنت عليم بذلك، نعم وتعرف الأسباب وكان ذلك أمام الجمهور الجزائري في ملتقى الفكر الإسلامي في الجزائر العاصمة سنة 1987 وكنت أشرح جملة كتبتها في كتابي عن الفكر العربي وذكرتُ فيه “القرآن خطاب Mythos ” وقد ترجم الأستاذ عادل العوّا سابقاً كلمة Mythos بكلمة أسطورة بالعربية، في وقت لم يكن معروفاً حتى في فرنسا الفرق بين الأسطورة والقصص، فأصبح الاصطلاح ” القرآن خطاب أسطوري” وهذه هي الطّامة الكبرى. أنظروا اللغة العربية، إنّ اللغة تجعلنا أسرى فلا يمكن أن نتحرك، تضع حدوداً. إنّ هذه المصطلحات في اللغات الفرنسية والألمانية والإنجليزية ليس فيها مشكلة لأنها كلها تنتمي إلى أصول اللغة اليونانية. والمشكلة حدثت لأني اكتب بالفرنسية. طبعاً يمكنني أن اكتب بالعربية التي أتقنها، ولكني إذا كتبت مجلداً واحداً في الفرنسية سيصبح ثلاثين مجلداً بالعربية وذلك لنقص المصطلحات المناسبة لكل ما أقوله بالفرنسية. ولكن المشكلة ليست عند عادل العوا أستاذ الفلسفة في دمشق، بل أن معظم الكتاب والمدرسين العرب يستعملون كلمة أسطورة لشرح كلمة Mythos . ومفهوم ميثوس هو مفهوم أنتروبولوجي وليس تاريخي، هي مقولة من مقولات العقل  البشري، لا يمكن أن تقول هذا جائنا من أرسطو وأفلاطون فقط. والميثوس متواجد دائماً مع اللوغُسْ لا نفرق بينهما ولا يزالان يتصارعان في كل خطاب ينتجه العقل البشري في كل لغة وفي كل ثقافة. وأنا ماذا اعمل لأني مسلم ولأني عربي؟ أربط هذه الكمية العظمى من المفاهيم وأضعها في لغة قرآنية كانت هي كخطاب القرآن قد أدركتْ وميّزتْ تميزاً دقيقاً بين الأسطورة والقصص. يقول القرآن في صورة يوسف ” إنا نقصُّ عليك أحسن القصص”.
لذلك كافحتُ ولا أزال أكافح لمحو الترجمة الجارية على اللسان العربي. ولكن المشكل هي مع الشعوب العربية ومع الصحافة ومع خطاب الشارع، والمدرسة لا تساعد أبداً فهي متماشية مع الخطاب الشعبوي، المدرسة تستعمل الخطاب الشعبوي وهذا هو الواقع.
أرجو أن أكون قد وضّحتُ ماذا يربطنا بعقل ابن رشد  وبشجاعة ابن رشد وبصمود ابن رشد أمام الحملة الفقهية، الفقهاء الذين كانوا ممن نسميهم اليوم المثقفين العضويين، يعني يعملون في النظام السياسي وفي النظام المعرفي أيضاً الذي تكوّن بالفكر التأصيلي كما وصفته والذي يختلف عن التفكير الفلسفي. هذا كله يربطنا بابن رشد، ونحتاج إلى ابن رشد وإلى الفارابي وإلى ابن سينا وإلى جميع المفكرين الذين أقاموا هذا البعد الفكري من الفكر البشري ولكن في نفس الوقت يجب أن نتسلّح بأسلحة أخرى لنقوم بأعمال أخرى جديدة طارئة كل يوم وكل يوم تتجدد وتتفاقم فكرياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً كما نشاهد ذلك يومياً مع الهجرة الإسلامية في المجتمعات الأوروبية. نعرف ذلك في ألمانيا وفي فرنسا وفي إنجلترا.
الاصطدام ليس باصطدام الحضارات كما قال أحد القائلين الذي لا أسميه باسمه لأنه أصبح نبياً لكثيرٍ من الناس الذين يستشهدون به. هناك اصطدامات بين منظومات من الجهل المؤسس. الجهل المؤسّس مفهوم تاريخي، مفهوم لغوي ومفهوم أنتروبولوجي. ليس هناك مجتمعاً، ليس هناك فكرأ، نظاماً فكرياً لا يستتبع في منظومته وممارسته إنتاج جهله، لا نستشعر به أنه جهل فيما ننطق به وهذا ما يحدث في جميع المجتمعات العربية منذ خرجنا من ملامح النهضة ودخلنا في معارك الإيديولوجيا المميتة للفكر الحر وهذا ما جمعنا هنا.
أشكر مرة أخرى الذين جعلوا هذا اللقاء ممكناً وأرجو للمؤسسة حياة طويلة وتوسع في طموحاتها حتى تكون مؤسسة في كل بلد عربي وأقول هذا بحضور الممثل للجامعة العربية وصار لي الشرف أن التقي بعمر موسى أمين عام الجامعة العربية في القاهرة في 25/9/2001 وقلت هذا أمامه وقد وعدنا أنه سيتابع العمل لوضع أسس لكي نبني عليها كما نرجو أن نبني بهذه المؤسسة.
وشكراً لكم.
هنا مساهمة من مفكرين وباحثين في إضاءة فكر أركون
الراية العالية في ليل الثقافة العربية
أدونيس
كمثل غيره من المنارات، يُنهي محمد أركون سفره في ليل العالم الثقافي العربي – الإسلامي. كان نقطة التحامٍ وراية عالية في المعترك الذي يخوضه الجهل والتخلّف والعماء، ضد المعرفة والتقدم، وضد الإنسان.
وكان يُدرك أن هذا المعترك يتخطّى، بمعناه ودلالاته، السياسة وأنظمتها. فلئن كانت الحركات الأصولية في مختلف تجلياتها، تتخذ من السياسة ميدانها المباشر، فقد فَطِنَ محمد أركون الى أن عملها السياسي مهما نجح في أن يستنفر، باسم حماية الدين والدفاع عنه، قوى مختلفة ومتنوعة، وأن يجيّشها، فإن مدار هذه الحركات يتخطى السياسي الى ما هو أبعد وأعمق: الى الثقافي – الإنساني. هكذا كان يعي أن أخطر ما تقوم به الحركات الأصولية، لا يتمثل في السياسة، كما يرى كثيرون بين الأنظمة وجماعاتها، وإنما يتمثّل بالأحرى، في العمل على تحويل الثقافة الى طبيعة. ذلك أن النظر الى الثقافة بوصفها طبيعة، أي فطرية وثابتة ونهائية كمثل الطبيعة، ليس، في الممارسة، إلا تهديماً منظّماً للثقافة وللطبيعة في آن. وفي هذا تهديمٌ للإنسان نفسه، ونفيٌ لكل إبداع.
*
مرة، في نقاشٍ حميم حول بعض أطروحاته، اقترحت عليه، باسم صداقتنا الطويلة المتينة، أن نبادر الى التأسيس لفريق عملٍ يخطط لكتابة تاريخ جديد للثقافة العربية، يخرجها من «تمركزها» حول نفسها، ومن أطر الانقسامات الدينية والمذهبية، ومن المناهج الكتابية التقليدية، ويقرأ الحياة العربية والإبداع العربي في سياق الثقافة الكونية ومُشكلاتها. قَبِلَ الفكرة، مبدئياً، وسألني أن أضع مخططاً مختصراً، نبعثه في اجتماع قريب. وهكذا فعلت، وأسمح لنفسي هنا بأن أوجزه في هذه النقاط السبع:
1 – الذات، بوصفها اندراجاً في الطبيعة (فترة ما قبل الإسلام)،
2 – الذات، بوصفها اندراجاً في ما بعد الطبيعة (الوحدانية، النبوّة، الوحي… الخ)،
3 – الذات، بوصفها معرفة (العقل، الحدس، الحقيقة… إلخ)،
4 – الذات، بوصفها مخيّلة (الفنون، الآداب…)،
5 – الذات، بوصفها رغبةً (الجسد، الحب، الجمال…)،
6 – الذات، بوصفها علاقة (الآخر، الأرض، التاريخ…)،
7 – الذات، بوصفها سياسة (الجماعة، المدينة، القانون، النظام… الخ).
في اجتماع لاحق، ناقشنا هذا المخطط، ودخلنا في تفاصيل كثيرة، ومما قاله، متسائلاً:
ألن يوسّع هذا المشروع حدود الحرب التي شُنّت علينا؟ حتى الآن، يشنُّها أهلُ الجهالة. وفي هذا المشروع ما يؤلّب علينا أهل الوظيفة والتعلّم، أولئك الذين يحتلّون المدارس والمعاهد والجامعات والمؤسسات.
كيف لنا أن نتحمّل مثل هذه الحرب الواسعة؟
فكّر في الأمر.
*
فكّرتُ، أيها الصديق الراحل، وأفكّر.
أعرف مثلَك أن السائد في ثقافتنا وحياتنا يتمثل في الأفكار التي تقول بالإصلاح. وأعرف مثلك، في ضوء الخبرة التاريخية، أن الفكر الإصلاحي يستند، قبل كل شيء، الى المسبّقات الراسخة، وأنه لا ينغرس في الواقع لكي يغيره، بل لكي يدعمه. ولطالما تساءلنا معاً: كيف يمكن أن نُصلح وضعاً بالفكر نفسه الذي أدّى الى نشوئه؟
فكّرت، أيها الصديق الراحل، وأفكّر.
لم تعد المسألة في الحياة العربية – الإسلامية مسألة إصلاح.
إنها مسألة تأسيس.

*
أيها الصديق الكبير الراحل،
لا أقول لكَ وداعاً. سأرجئ هذا الوداع. لكن، باسمه، أتابعُ الاحتفاء بصداقتنا في الحرية والإبداع، الصداقة التي تُميت الموت.
الحياة

الطريق الى التحديث
جورج طرابيشي
عرفت محمد أركون، أول ما عرفته، من خلال كتبه بالفرنسية قبل أن تشيع ترجمتها إلى العربية. وقد عرفت معه، أنا المثقف المشرقي، الوجه المميّز للمثقف المغربي الذي يمتلك من المنهجيات المعرفية الحديثة ما لم نكن نملكه نحن مثقفي المشرق. ثم قُيّض لي إثر هجرتي إلى فرنسا عام 1984 أن ألتقيه شخصياً وأن أحظى بموافقته لتقديم أطروحة دكتوراه إلى السوربون تحت إشرافه. وقد قضيت عامين لإنجاز الأطروحة. ولكن لمّا قدمتها له قال لي إنه لا بد أن أترجمها إلى الفرنسية حتى وإن كان موضوعها عن الثقافة العربية. ووقفت متهيباً أمام عملية الترجمة التي كانت ستقتضي مني ما لا يقل عن سنتين من العمل ومن الشلل عن الكتابة. ولكن أركون هو نفسه من حسم الإشكال إذ قال لي: «وما حاجتك إلى شهادة دكتوراه أصلاً بعد كل الكتب التي كتبتها؟ هل أنت بحاجة إلى أن توقع باسمك مسبوقاً بـ «د.» كما باتت العادة تجرى هذه الأيام؟ انظر إليّ: إنني، وأنا الذي يتولى تخريج الدكاترة، ما عمدت مرة إلى توقيع كتاباتي باسمي مسبوقاً بدال نقطة. وبالفعل اخترت أن ألا أضيع الوقت وأن أنشر الأطروحة كما هي بالعربية، إذ كان موضوعها يتصل بقضية الساعة التي صارتها في الثقافة العربية قضية الموقف من التراث، وكان عنوانها: المثقفون العرب والتراث: التحليل النفسي لعصاب جماعي عربي».
ثم تجدد بعد زهاء عشر سنوات لقائي بالراحل أركون عندما أسسنا مع مثقفين مشارقة ومغاربة عدة «المؤسسة العربية للتحديث الفكري» التي تولى رئاستها الراحل الآخر نصر أبو زيد. وكان أركون هو من اقترح هذا الاسم لرابطتنا معبّراً بذلك عن همه الذي كان بمثابة البوصلة لكل ما كتبه: تحديث الثقافة العربية كعتلة للنهوض بالمجتمعات العربية. ولأقل بمنتهى الاختصار إن هذا التحديث كان الحلم الأكبر لمحمد أركون، ولا سيما منه التحديث الديني. فأكثر ما كان يتمناه أركون هو أن يرى الإسلام وقد شق طريقه أخيراً إلى الحداثة. ولم يكن يرى من طريق آخر إلى ذلك سوى أن يستعيد الإسلام بعده الروحي. وبدلاً من تسييس الإسلام كان ينتصر بقوة لروحنة الإسلام. وهذا القاسم المشترك بيننا هو ما كان يجعله يخاطبني بالقول مازحاً: «الشيخ جورج «و» فقيه ديار الهجرة جورج»!
الحياة

الممنوع والممتنع
علي حرب
من عجيب الصدف أن يرحل ثلاثة من أعلام الفكر، شهراً وراء آخر. فها نحن، بعد غياب الجابري ونصر حامد أبو زيد، نفاجأ بغياب الفيلسوف الجزائري وأستاذ الإسلاميات في جامعة باريس محمد أركون.
وأركون هو واحد من أصحاب المشاريع الفكرية النقدية الذين تركوا بصمتهم في الثقافة العربية المعاصرة. ولكنه لم يدرج عمله النقدي تحت الصفة أو الهوية العربية، بل اختار الإطار الإسلامي. من هنا عنون كتابه الأول الصادر بالفرنسية: نقد العقل الإسلامي.
وقد استخدم أركون في استراتيجيته النقدية عُدَّة فكرية متعددة الرؤوس بتعدد الاختصاصات والمناهج، مستفيداً بذلك من الطفرة المعرفية التي شهدتها علوم الإنسان في النصف الثاني من القرن العشرين، في مجالات اللغة والفلسفة والإناسة والتاريخ والتحليل النفسي… بكل ما انطوت عليه من الجدة والابتكار، بآفاقها العقلية وحقولها الفكرية وشبكاتها المفهومية.
ولم يؤْثر أركون، لمشروعه النقدي، العنوان الإسلامي لأنه أوسع وأشمل، بل لأنه لم يشأ تحييد المجال الديني من عمل الدرس، بل أخضعه للتحليل والتشريح، أصولاً وفروعاً.
وهكذا فإن النقد الأركوني استهدف الجبهتين: الممنوع والممتنع. والممنوع يشمل كل ما يحظّر قوله أو كشفه أو المجادلة فيه من الثوابت والمقدسات والمتعاليات…
ولكن الأهم، عند أركون، ليس فقط الجرأة الفكرية على قول ما يمنع قوله، بل تفكيك الممتنع، أي ما يستعصي على الفهم أو التناول، لا بسبب الضغوط من جانب الطاغية أو الكاهن، بل لأنه ما من نشاط عقلي إلا وتلابسه الأوهام.
من هنا فإن تجديد الفكر يتم بإخضاع العقل لعمل التفكيك للكشف عن بداهاته الخادعة وقوالبه الضيقة وممارساته المعتمة… وما حاوله أركون هو الحرث في هذه المنطقة التي تتشكل مما هو مهمّش أو مستبعد أو محرّم أو مسكوت عنه، مما أتاح له زحزحة الإشكالات وإعادة صوغ القضايا وتركيب الثنائيات.
ولا شك أن أركون، إضافة الى جرأته الفكرية، قدم الجديد والثمين من الأفكار والمعارف في ما تناوله من القضايا والمسائل. فالذي يقرأ أعماله يخرج بعد قراءتها على غير ما دخل، أعني يفوز بفهم جديد، وجدير بالاعتبار، للإسلام والدين عموماً. وهذا العمل ليس بالقليل. فمن غير فهم تسيطر الثرثرة والشعوذة أو العماء والإرهاب.
فتحية لأركون الذي رحل، ولكن آثاره باقية، ما بقي قراء ينشغلون بها أو يشتغلون عليها، لتجديد مناهج الدرس وأدوات المعرفة، بقراءاتهم الخصبة والفعالة، لا سيما إذا كانت النصوص المقروءة تتعدى أصحابها باحتمالاتها المفتوحة وإمكاناتها الغنية.
الحياة
الحافر عميقاً في بنية الفكر العربي
سعد البازعي
حين علمت بوفاة محمد أركون كنت بالصدفة المحضة أشاهد مقابلة تلفزيونية على قناة «الحرة» مع الكاتب الكويتي أحمد البغدادي. كنت أقول ها هو البغدادي أستاذ العلوم السياسية الكويتي الذي توفي قبل أسابيع قليلة، والذي التقيته العام الماضي ولأول مرة في ندوة حول التنوير أقيمت في الكويت وكان ضيفها أو متحدثها الرئيس هو المفكر الجزائري محمد أركون. كانت تلك الندوة لقائي الأول بأركون أيضاً.
رحم الله البغدادي ورحم أركون فهما ككل البشر بحاجة إلى رحمة الله. كان الاثنان من أهل الرأي والمدافعين عن حرية التعبير عنه، كما كانا رموزاً لما عرف في العالم العربي بالتنوير أو الاستنارة (بغض النظر عما يعنيه هذا المصطلح بالضبط) فجزاهما الله خيراً عن جهودهما.
لقد توفي أركون ولما يمضي وقت طويل على وفاة عدد من أعلام الفكر البارزين في الثقافة العربية الإسلامية. قبله رحل الجابري، وقبل ذلك عبدالوهاب المسيري ومحمود أمين العالم وغيرهم كثير. ترك أولئك أثراً بعيداً على الفكر العربي الحديث وحفروا عميقاً في بنية الثقافة العربية المعاصرة. وليس أحد منهم بحاجة إلى الاستدلال على أهميته، فهي واضحة وضوح الشمس. لكنهم بحاجة إلى الكثير من التحليل والتقويم لمزيد الاستفادة من عطائهم.
من بين الأسماء التي أشرت إليها يبدو لي أن من يقف مقابل أركون هو المسيري، فقد سار هذا الأخير من منطلق إسلامي باتجاه الحضارة الغربية ناقداً لها وداعياً إلى إعادة تقييم العلاقة بها، في حين انطلق أركون من منطلقات غربية باتجاه الحضارة الإسلامية، ناقداً للفكر والتيارات الدينية تحديداً. كلا المفكرين اتكأ على أدوات فكرية غربية في نهاية المطاف.
في ندوة التنوير في الكويت علقت على محاضرة أركون حول التنوير الغربي وعلاقته بالثقافة الإسلامية وذكرت له وللحضور أننا في العالم العربي أقل نقداً للتنوير من الغرب نفسه (كما في نقد مدرسة فرانكفورت مثلاً). لكنني كنت وما زلت أدرك أن أركون وإن لم ينقد التنوير كان يقدم للعالم العربي الإسلامي عطاءً بالغ الأهمية في نقد ثقافة ذلك العالم. لقد تعلمت منه مثلما تعلم الكثيرون كيف نعيد النظر في بعض مسلمات التاريخ الثقافي الإسلامي، وأفدت منه كما أفاد كثيرون في ضرورة تحويل ذلك النقد إلى مسار لدخول العالم المعاصر. نعم لم أجد نفسي متفقاً مع بعض أطروحاته الأساسية لكني كنت وما زلت أراه إحدى العلامات الكبيرة في مسيرة الفكر العربي الإسلامي.
الحياة

خارج جدران اليقين
عيسى مخلوف
بعد وفاة نصر حامد أبو زيد يفارقنا محمد أركون. ماؤنا القليل أصلاً يصبح أقلّ، فيما يتكاثر من حولنا الجفاف.
عمل محمد أركون طوال أكثر من نصف قرن على تقديم قراءة جديدة للإسلام. قراءة تستند إلى مرجعيات ومناهج علمية وتنطلق من الفكر النقدي العقلاني. وستظلّ أفكاره، حتى بعد رحيله، مدار بحث في الأوساط العلمية والجامعية، شرقاً وغرباً.
لا شكّ في أنّ فرنسا كانت محطة مهمّة في تكوين محمد أركون المنهجي هو الذي جاءها من الجزائر لمتابعة تحصيله العلمي. كان من بين أساتذته المستشرق المعروف ريجيس بلاشير ومن بين أصدقائه مفكرون وعلماء اجتماع كان لهم الأثر في توجهات فكره النقدي وأدواته، ومن بينهم المستشرق والمؤرّخ الآخر كلود كاهين الذي ساهم في تجديد المنهج التاريخي للشرق الإسلامي، والفيلسوف بول ريكور وعالم الاجتماع بيار بورديو. ولقد اكتشف مع هذا الأخير معنى القراءة الأنتروبولوجية وطرائقها لمجتمع محدّد وكيفية بناء جهاز مفهومي جديد. ففي كتابه «الحسّ التجريبي» قدّم بورديو تصوّراً علمياً أنتروبولوجياً للثقافة وللحياة اليومية لمنطقة القبائل الجزائرية، أي للبيئة التي ولد ونشأ فيها أركون، وتعمّق في تحليل تلك البيئة الشفهية التي لا تملك ذاكرة مكتوبة.
ضمن هذا المناخ العلمي، بدأ مشروع محمد أركون في تأسيس قراءته الجديدة للإسلام والتي لا ترتكز إلى الاجتهاد والتأويل وإنما إلى المنهج العلمي والفكر النقدي. ولا أظنّ أنّ هذا المشروع خضع إلى الآن إلى قراءة معمّقة في المجتمعات العربية والإسلامية، بل هو لا يزال محصوراً في بعض الأوساط الجامعية التي تبحث عن نوافذ أخرى وسط عالم يزداد انغلاقاً على نفسه. أما من جهة الوسط الثقافي الفرنسي (من المعروف أنّ معظم نتاج أركون كُتب باللغة الفرنسية، ونَقل القسم الأكبر منه إلى العربية هاشم صالح وكأنه جزء من نتاجه هو نفسه)، فلم يلتفت لنتاج أركون الذي تمحور حول نقد العقل الإسلامي، أوّلاً لأنّ هذا العمل، بحسب أركون نفسه، يتوجّه في المقام الأول إلى المسلمين أنفسهم، وثانياً لأنّ القراء الفرنسيين كانوا غارقين في «الإسلاميات الكلاسيكية»، ولاحقاً، بعد السبعينات والثمانينات من القرن العشرين، في خطاب العلوم السياسية.
أراد أركون أن يوسّع ميدان الدراسات الإسلامية ويذهب إلى دراسة الظاهرة الدينية ككلّ، أي أنّه انتقل إلى تقديم دراسة نقدية مقارَنة للأديان الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام. وذلك، في رأيه، يفتح آفاقاً جديداً لتدريس الإسلام ولفهم أعمق للثقافة العربية.
ضمن مشروعه لنقد الفكر الإسلامي، تناول محمد أركون أيضاً مسألة فهم الحضارات واحترام الاختلاف، وانتقد الاستشراق الذي ينظر إلى الثقافات الأخرى بصفتها ثقافات غريبة. ودعا، انطلاقاً من نزعته الإنسانية المتأثرة بفلاسفة عصر الأنوار في فرنسا، إلى نبذ العنف والعمل على إرساء حوار عميق بين الحضارات لتفادي الصدامات التي تعيق النموّ والتقدّم وتعود بالأذى على الإنسانية جمعاء.
يقول نيتشه: «اليقين سجن». في قراءته الفكرية وتحليله النقدي للعقائد، وقف أركون ضدّ كلّ أشكال السجون والجهل والعنف، وضدّ ما أسماه «السياجات الدوغماتية»، وذلك للخروج من عمى الأحكام الواحدة المطلقة والتحليق في رحابة الأسئلة الجوهرية بحثاً عن الحقيقة في أوجهها المختلفة.
الحياة

الثورة على الاستشراق والمآزق
رضوان السيد
عرفتُ أعمال محمد أركون الأولى في مطلع السبعينات عندما ذهبتُ للدراسة بألمانيا، وتعلمتُ هناك بعض الفرنسية. وما كان التعرف على كتاباته مُصادفة، إذ كنتُ قد بدأت الاهتمام بالقرنين الرابع والخامس للهجرة (العاشر والحادي عشر للميلاد) واللذين اكتملت خلالهما التكوينات الرئيسية للثقافة العربية الإسلامية، وازدهرت شتى التيارات الفكرية. وكنا جميعاً نحن المهتمين بالحضارة الإسلامية قد قرأنا كتاب آدم متز (الصادر عام 1901 بالألمانية): نهضة الإسلام، والذي ترجمه محمد عبدالهادي أبو ريدة الى العربية بعنوان: «الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري. المهم أنني بدأتُ الاهتمام بالماوردي (المتوفى عام 450هـ) صاحب الكتاب المعروف: الأحكام السلطانية، عن مقولة الخلافة، ومؤسسات الدولة في عصره، ووجدت أن الجميع يرجع الى أطروحة أركون الحديثة الصدور يومها عن «الإنسانوية في القرن الرابع الهجري: نموذج مسكويه». وقد تابع بعدها الاهتمام بالقرن وشخصياته مثل العامري ويحيى بن عربي والتوحيدي، ونشر عنهم جميعاً مقالات، كما نشر لهم نصوصاً قصيرة في الـ BEO واستوريا إسلاميكا، ثم في أرابيكا في ما بعد.
قرأت له مقالة ممتازة عن «السياسة والأخلاق عند الماوردي»، وسارعت الى ترجمتها وترجمة مقالة أخرى لهنري لاووست عنه، لخصّتهما بعد ذلك في مقدمتي على نشرتي لقوانين الوزارة وسياسة الملك للماوردي (1978) ووقتها سارعت بالمقالة (الصادرة عام 1968) معجباً الى استاذي جوزف فاك أس (1974) الذي قال لي ضاحكاً: أعرفها وهي مقالة ممتازة وفكرتها جديدة، فما اهتم أحد من قبل حقاً بدراسة آراء الماوردي في كتابه غير المهشور، والمعروف بأدب الدنيا والدين، لكن صديقي أركون ترك الآن تقاليد الاستشراق، وانصرف لنقده ونقضه! وما لبث فان أس أن زوّدني بالفعل بعدد من المقالات الجديدة (التي كتبها أركون في نقد الاستشراق نقداً ابستمولوجياًَ، وليس تاريخياً كما فعل العروي، أو من حيث الخطاب في علاقته بالسلطة كما فعل فوكو وبعض اليساريين. لكنه ما لبث أن ترك مسألة الاستشراق الى حد بعيد بعد كتاب ادوارد سعيد (1978)، وانصرف لمصارعة الدوغمائيات في ديانات التوحيد، وبخاصة في الإسلام، وعلى الأخص: الإسلام السني!
إنما في ذلك الوقت كانت قد نضجت لديه رؤية «الإسلاميات التطبيقية التي أراد من خلالها ايضاح منهجه في الخروج على الفيلولوجية الاستشراقية. وبالإسلاميات التطبيقية التي تعتمد الرؤى والمناهج والمعارف الحديثة في علوم المجتمع والإنسان، ومسائل نقد النص، اقبل على قراءة بعض السور القرآنية قراءة تأويلية تبحث تارة عن اللامفكر فيه في النص، وطوراً عن العجيب الغريب والمدهش. وظل على هذا النحو طوال الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، يجرّب كل الجديد على النصوص وعلى الرؤى، ويضع «البرامج» ويعيد المطلوبات ويكررها، ويصطدم بالمستشرقين أو بالحداثيين المتطرفين أو باليمين الأوروبي العنصري، لكن نقطة تركيزه تبقى: تحطيم الأرثوذكسيات والدوغمائيات في العقل الإسلامي القديم، لكي يستطيع المسلمون عيش الحداثة وتنفسها. أما في العقد الأخير من السنين، فإن آراءه هدأت بعض الشيء. إذ ما عاد ثائراً على الفكر الإسلامي القديم كله، وصار انتقائياً مثل يساريي الخلدونيين وليبراليي الرشديين.
وطريقة الاستاذ أركون منذ أواخر السبعينات، أن يعمد لترجمة كتبه الى العربية بعد ظهورها بالفرنسية بشهور قليلة. والاستاذ هاشم صالح هو مترجمه المعتمد. وقد بلغ أوجه شهرته لدى الشبان العرب في التسعينات وما بعد. وأسقط عن نفسه الحرم الذي فرضه عليه الإسلاميون. ومع أن كتبه في الأكثر مقالات مجموعة، لكنني لا أعرف بين المفكرين العرب من هو مثلُهُ نشاطاً وعملاً وبحثاً عن المعرفة الجديدة في كل آن، وسعياً للإقناع الهادئ بأطروحاته.
آخر مرة رأيته فيها في مطار الدار البيضاء شكى إلي مما كتبه ديفيد بورز في كتابه الأخير. فقلت له: لكنك ذكرت يا أستاذ رأياً له قبل عشر سنوات في «الكلالة» باعتباره رأياً ثورياً يغير نظام الأسرة في الاسلام! فما ابتسم كما كان يفعل عندما أمزج بين المزح والجد في حديثي معه، وقال: في مقالته التي تذكرها كان الأمر أمر الكلالة، وهو الآن أمر الإسلام كله والنبوة كلها!
ما رأيت مثل أركون في معرفته بالتراث الفكري والأدبي العربي – الإسلامي. ثم انه متضلع في علوم الإنسانيات المعاصرة. وكان يملك منذ السبعينات هماً حقيقياً للنهوض بالدراسات العربية الاسلامية بعيداً عن مناهج المستشرقين غير الملائمة. ثم تجدد لديه هدف آخر عمل عليه طوال ثلاثين عاماً وهو تحرير العقل الإسلامي من الموروث، وتكسير الأرثوذكسية، من طريق فكفكة النصوص والاقتحام من طريق اللامفكر فيه. والردود السلبية التي لقيها حولته الى مناضل لا يتوانى ولا يهادن ولا يراجع، ولا يمل من تكرار الفكرة بأساليب شتى، كما انه لا يرد مباشرة على ناقديه، وإنما يجيب على الإشكاليات في مقالات وكتب. وقد صدرت له بالعربية والفرنسية في الأعوام الخمسة الأخيرة خمسة كتب، وعشرات المقالات التي لو عاش لعاد فجمعها في كتب. رحم الله أركون، فقد خسرنا معرفته وبراءته وقامته الفكرية العالمية العالية.
الحياة

بحثاً عن سياق تاريخي واجتماعي
برهان غليون
لا شك في أن محمد أركون هو من أعلام الفكر العربي الحديث، وقد تصدّى بجرأة وعمق لقضايا الفكر الديني وإعادة قراءة التراث والنصوص في ضوء معطيات العصر الذي يعيش فيه. إنه رائد من رواد الفكر النقدي، وقد اختط منهجاً جديداً لقراءة التراث الفكري الاسلامي يختلف عن المنهج الاستشراقي القائم في شكل أساس على التحليل الفيلولوجي أو اللغوي. وبدا أركون مختلفاً في مقارباته عن خط المفكرين التقليديين والمحافظين.
وعرف أركون بما دعا اليه في ما سمّاه «الاسلاميات التطبيقية» التي أكد فيها أن ليس من الكافي في القراءة النقدية والتحليلية الارتكاز الى تحليل اللغة والمفردات ولا بدّ من وضع النص في سياقه التاريخي والاجتماعي والمعرفي. وقد أضاف أركون الكثير من الاجتهادات والمقاربات في نتاجه الفكري، وكان يرى أن التاريخ موسوم بالصبغة الايديولوجية وأن كل قراءة ايديولوجية هي قراءة موجهة وغير قادرة على الوصول الى الحقيقة الموضوعية. ويصر أركون على المعرفة العلمية للدين وهي تتيح بحسب رأيه امكان اعادة النظر في التاريخ الاسلامي.
وأعتقد أن محمد أركون ترك منظومة فكرية مهمة يجب على المفكرين الآن أن ينطلقوا منها ويعملوا على تطويرها.
الحياة

محمد أركون: نهاية الفكر الإصلاحي
عباس بيضون
بعد نصر حامد أبو زيد ومحمد عابد الجابري تأتي وفاة محمد أركون الجزائري، لتفرغ الساحة تقريباً من رموز الإصلاح الديني الإسلامي، بعد أن تلقى هذا الإصلاح ضربات سياسية وبدا تفوقه المعرفي نفسه في خطر. أركون الجزائري، المولود 1928 في
بلدة عين الأربعاء في منطقة القبائل، شعر منذ صباه بقسوة محاولة فرنسا الاستعمارية للجزائر واقتلاعها من بيئتها وتراثها، لكنه شعر أيضاً بانحباس الإسلام في التفكر «في ما لا يمكن التفكير فيه»، وتعاليه على الواقع والتاريخ كما قال، وسعى إلى دمج الإسلام في ثقافة العصر، وبدأ من حيث بدأ إصلاحيون سبقوه إلى التمييز بين النص القدسي المنزل وبين فهم الفقهاء المتعدد المتنازع، لكنه أضاف إلى ذلك نزعة إنسانوية ترقى إلى الثورة الفرنسية والتنوير الغربي، واتجاهاً انتروبولوجياً لا يوازن بين الثقافات ولا يؤمن شأن ليفي ستراوس لتراتبها، وأفاد شأن البنيويين من علم اللغة، كما بدأ مع دو سوسير وحاول انطلاقاً منه أن يقرأ النصوص الإسلامية الكبرى. وشأن الابستمولوجيين تكلم عن القطيعة المعرفية، واعتبر أنها كانت أصل القطيعة السياسية التي أصابت المجتمعات الإسلامية، ويمكننا القول إن أركون سلط على التراث الإسلامي حزمة أضواء هي في مجموعها ثقافة العصر وخزينه المعرفي. والحق أن هذه الشبكة الواسعة جعلت النص الأركوني صعب المتناول وحيرت القراء فيه.
رأى أركون أن المسلمين شأن الشهرستاني وابن حزم قرأوا التاريخ الإسلامي كأنه مستقل بنفسه، قائم برأسه، ولم يضعوه في البحر الواسع لتاريخ الأديان، ولم يتناولوه بالنقد والعلم الذي تناول به الغربيون تاريخ المسيحية، كأن الإسلام لا يتعرف بممارسته وتاريخه، بل هو لدى المفكرين الإسلاميين يعارض تاريخه ويكذبه على طول الخط. إنه النقيض لكل تاريخ ولكل ممارسة، بينما الدين لدى أركون ليس النص المنزل وحده بل هو ممارسته وتاريخه والفهم المتعدد له. انحاز أركون إلى الحرية وتصدى لكل أرثوذكسية، أرثوذكسية المستشرقين وأرثوذكية التراثيين، ورأى أن الفرق بين النص القرآني وفهم الفقهاء له واسع، فالقرآن لا يزال يدعو الناس إلى الفهم والوعي «أفلا تتدبرون» «أفلا تفقهون»، نداء طرحه الفقهاء جانباً فابتعدوا عن التدبر والفهم وحبسوا الدين في أبنية جامدة.
كتب أركون بالفرنسية والإنكليزية وإن كانت كتبه في جزء كبير منها سجالاً مع الفكر الإسلامي المكتوب بلغات أخرى، لكنه بالدرجة نفسها ينتمي إلى الفكر الغربي الجديد، كما عبر عنه فوكو وبورديو وليفي ستراوس ودريدا، أي أنه أنتج في قراءته للتراث الإسلامي فكراً جديداً مثلما فعل فوكو بتاريخ الجنون والجنس، وكما فعل ليفي ستراوس في الإيتنولوجيا. هذا ما جعل فكر أركون غربياً بقدر ما هو إسلامي. لقد كان بالدرجة نفسها حاجة عربية وإسلامية، تدل على ذلك الترجمة والقراءة الواسعتان لكتبه إلى العربية. وثمة من يعتبره أهم مفكر إسلامي في القرن العشرين.
أما إيمان وإسلامية أركون، رغم كل هذا المدد الغربي، فأمر لم ينكره أركون رغم اشتباه الكثيرين الذين كفروه، مثلما كفروا الجابري وأبو زيد، وكلاهما أعلن غير مرة إيمانه ودينه.
السفير

الفلسفة العربية تودع وريث ابن رشد
الرباط ــ ياسين عدنان
لم يكن أحد يتوقع أن يصير ذلك الطفل الأمازيغي الضئيل الذي تلقّى تعليمه الأول في مدرسة كاثوليكية صغيرة بين جبال منطقة القبائل الجزائرية (شمال البلاد) أحد رموز العقل الإسلامي في العالم. ابن قرية تاوريرت ميمون ـــــ مسقط رأس الكاتب والإثنولوجي مولود مهدي ـــــ في منطقة تيزي وزو، ظلّ يجهل العربية إلى أن انتقل برفقة أسرته إلى ضواحي وهران هرباً من شظف العيش وسط الجبال.
في عاصمة الغرب الجزائري، سيجد الفتى الأمازيغي نفسه مجبراً على تعلّم لغة القرآن خلال مرحلة التعليم الثانوي.
كان ذلك تحدياً شبه مستحيل. لكنّ محمد أركون الذي أخذ عن والدته الصبر والجلد والهدوء سيتعلم سريعاً العربية ومحبة الفلسفة. هكذا، نال شهادة البكالوريا بتفوّق ليجد نفسه طالباً في قسم اللغة العربية في «كلية الآداب» في الجزائر العاصمة.
أركون (1928 ـــــ 2010) العالِم الجزائري وأستاذ تاريخ الفكر الإسلامي والفلسفة في جامعة «السوربون»، غادرنا مساء أول من أمس الثلاثاء في باريس، بعد صراع مع السرطان. لم يكن أركون الطالب المتحفِّز يظن أن محاضرة بسيطة سيلقيها في بداية الخمسينيات، في كلية الجزائر، أمام زملائه الطلبة تحت عنوان «مظاهر الإصلاح في مؤلفات طه حسين» ستثير غضب بعض رفاقه.
إعجاب أركون بطه حسين جعله يعكف طوال سنوات الإجازة على أعماله ليدرسها قبل أن يخلص إلى غياب الانسجام في مشروع صاحب «الأيام».
لكن، من كان يجرؤ على انتقاد طه حسين في مرحلة كانت فيها شعارات القومية العربية أحد أهم أسلحة حركة التحرر الوطني؟ لهذا، فقد استاء الطلبة من أركون، وقاطعه أغلبهم.
منذ البداية، فهم الباحث الشاب الدرس جيداً. النقد ليس هواية عربية. لكنّ المصيبة هي أن روح النقد كانت قد تلبّست تماماً ابن تاوريرت ميمون، ولم يعد هناك من مجال للتراجع.
ولأن النقد يحتاج إلى أدوات، فقد غادر أركون الجزائر في عام 1954 باتجاه باريس لتعلّم منهجية البحث على أيدي مستشرقين كبار من أمثال شارل بيلا، وهنري لاوست، وأساساً ريجيس بلاشير المتخصص في فقه اللغة، الذي تعلَّم منه منهجية تحقيق النصوص وتدقيقها ودراستها على الطريقة التاريخية الوضعية.
كان أركون في السادسة والعشرين حين انخرط في إعداد أطروحة دكتوراه عن الممارسات الدينية في منطقة القبائل الكبرى تحت إشراف جاك بيرك، قبل أن يغيّر وجهة البحث إلى القرن الرابع الهجري ويتوقف عند «نزعة الأنسنة في الفكر العربي الإسلامي». حدث التحوّل مصادفة. فقد ذهب أركون مرة إلى المعهد الوطني للغات والحضارات الشعرية ليستمع إلى محاضرة للوسيان فيفر عن «ديانة رابليه». هذه المحاضرة جعلت الباحث الشاب يفكر بجدية في قلب نظام الدراسات المتعلقة بالإسلام.
هذه اللحظة المعرفية القوية هي التي ستقوده إلى صداقة كل من مسكويه (932 ـــــ 1030) ورفيقه أبو حيان التوحيدي (923 ـــــ 1023).
كثيرون يعدّون أركون تلميذاً لابن رشد واستمراراً لمشروعه، لكنّ صاحب «الفكر الأصولي واستحالة التأصيل» ظلّ دائماً يحيل على التوحيدي، معتبراً صاحب «المقابسات» أخاه الروحي ومعلـمه الأول. فالتوحيـدي يمثّل بالنسبة إلى أركون إحدى اللحظات الأساسية في تاريخ العقل الإسلامي.
الرجل هضم الثقافة الفلسفية السائدة في القرن الرابع الهجري، كذلك فإن الحداثة التي تضمنها فكر أبو حيان قامت على عقلانية منفتحة متعددة، وعلى فهم للإنسان لم تبلغه الحداثة الغربية إلا مع المتأخرين من رواد ما بعد الحداثة، من أمثال ميشال فوكو وجاك دريدا.
«الإنسان» إذاً هو كلمة السر التي همس بها أبو حيان لمحمد أركون. والبعد الإنساني في العلاقات ما بين الشعوب والديانات والخطابات الفكرية ظلّ مركزياً في فكر صاحب «الأنسنة والإسلام مدخل تاريخي نقدي».
كما أن الاهتمام بنزعة الأنسنة في الفكر العربي الإسلامي، وخصوصاً مع التوحيدي ومسكويه، ظل في عمق انشغالاته الفكرية. لكن يبقى مشروع «الإسلاميات التطبيقية» الذي حاول أركون أن يقطع به مع «الإسلاميات الكلاسيكية» التي كرستها كتابات المستشرقين أهم إنجازاته الفكرية.
بعدما اهتم في ستينيات القرن الماضي بمنهجية اللسانيات، وبالضبط التحليل اللساني التفكيكي الذي قرأ على ضوئه القرآن والسيرة النبوية ونهج البلاغة ورسالة الشافعي وسيرة الشيخ المفيد (محمد بن محمد بن النعمان)، سيعدد أركون مناهجه، محاولاً إخضاع النص الديني لمحكّ النقد التاريخي المقارن.
كان مقتنعاً بأنّ المسلمين لم يمارسوا بعد تاريخ الأديان. وما كتبه أبو الفتح الشهرستاني عن «الملل والنحل» لا يدخل في هذا الباب. فما يلزم اليوم هو الاشتغال برصانة فكرية ودقة منهجية على تاريخنا الروحاني الذي يختلف كثيراً عن التاريخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي للإسلام.
هكذا، بمحاولة تطبيق المناهج العلمية على القرآن والنصوص المؤسسة، تكرّس مشروع «الإسلاميات التطبيقية» وتواصلت إصدارات أركون المخلخلة للدرس الإسلامي التقليدي: «القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني»، و«الفكر الأصولي واستحالة التأصيل»، و«تاريخية الفكر العربي الإسلامي»، و«الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد»، و«الفكر الإسلامي: قراءة علمية»، و«أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟».
درس الإسلام باعتباره ظاهرة دينية تاريخية معقدة ضمن منظور أنثروبولوجي مقارن
ظلّت المصاحبة التحليلية النقدية لتاريخ الإسلام وفكره في صلب انشغالات الرجل على امتداد أعماله حتى إصداره الأخير «تاريخ الإسلام والمسلمين في فرنسا منذ العصور الوسطى وحتى اليوم»، وهو الكتاب الذي تقصَّى فيه تاريخ الروابط التي جمعت العالم الإسلامي بفرنسا منذ معركة بواتييه (1356) مروراً بالحروب الصليبية وانتهاءً بالوجود الإسلامي في فرنسا ساركوزي.
لكن في كلّ أعماله وكتاباته، ظل محمد أركون حريصاً على كشف العوائق الذهنية والمعرفية والعراقيل الاجتماعية التي تحول دون تحقيق المصالحة مع زمننا، ومع الحداثة الكونية. دعا إلى تجديد الفكر الإسلامي، وإلى ضرورة الانخراط في قراءة جديدة لتراثنا الديني بمناهج حديثة.
حاول من خلال إسلامياته التطبيقية دراسة الإسلام باعتباره ظاهرة دينية تاريخية معقدة، وذلك ضمن منظور أنثروبولوجي مقارن. كذلك انخرط في مشروع علمي دؤوب من أجل تنقية الإيمان من التشددات والتعصبات التاريخية التي علقت به، وذلك من خلال البحث عن نزعة أنسية تفكر في الإنسان وقضاياه وقيمه وحقوقه
الدنيوية.
واليوم، حين يرحل أركون مباشرة بعد المفكّرَين، المغربي محمد عابد الجابري والمصري نصر حامد أبو زيد في السنة نفسها، صار يحق للواحد منّا أن يضع يده على قلبه. ففرسان العقلانية يترجّلون تباعاً، لتبقى الساحة نهباً لفقهاء الظلام، وسعاة اليأس… والغربان.
سيوارى محمد أركون في الثرى في الدار البيضاء في المغرب، مسقط رأس زوجته، حيث عاش مدةً من الزمن، على أن يتحدّد موعد الدفن لاحقاً، وفق ما أفادت به عائلته. كذلك يخصص «معهد العالم العربي» في باريس وقفة تكريميّة للراحل عند السادسة والنصف مساء 27 أيلول (سبتمبر) الحالي
الأخبار

بين التكفير والاضطهاد الرسمي
الجزائر ــ سعيد خطيبي
ترك محمد أركون خلفه الباب مفتوحاً على تأويلات عديدة. غيابه سيحرمنا صوتاً، طعن على امتداد العقود الثلاثة الماضية في مشروعية أنظمة سياسية عربية تستمد حضورها من اللّعب على وتر الدّين. «الدّول العربيّة التي ظهرت مباشرةً بعد نهاية المرحلة الكولونيالية، تحاول فرض سلطة دينية، وتوجيه حرية المعتقد لخدمة مصالحها، مانعةً الخوض في نقاشات حرّة حول النص القرآني». أمام هذه المواقف الحادّة، قد يُفرح رحيل أركون الكثير من معارضيه في الجزائر.
بين تكفير الجماعات الإسلامية المحافظة، وانتقادات الدوائر السياسية، وخصوصاً في الجزائر، عاش محمد أركون حياة منفى. بقي موطنه الجزائر خالياً من أي تشكيل ديني يتبنّى أطروحاته، في مقابل اتساع حضور الطرق الصوفية التي اتهمها الراحل بالتواطؤ مع القوى الاستعمارية، مطلع القرن التاسع عشر. طرح كلّفه انتقادات واسعة، من مختلف زعماء التوجه الصوفي، في بلد المليون ونصف المليون شهيد، وهم يستحوذون على عدد مهم من المقاعد، في البرلمان، وحقيبة وزارية ثابتة. معطيات أسهمت في منع تداول مؤلفات أركون في الجزائر، وعدم اعتماد نصوصه ضمن الكتب المدرسية.
في عام 1991، عندما تدخّل الجيش الجزائري لمنع «الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ» من تسلّم مقاليد الحكم التي حصلت عليها بعد الانتخابات التشريعيّة، انتصر أركون لمنطق الروح الديموقراطية رغم موقفه النقدي الصريح من الإسلاميين.
عايش أركون مختلف التحوّلات التي عرفها تاريخ الجزائر المعاصر، من الثورة التحريرية، إلى الحرب الأهلية. وأصرّ دوماً على أهميّة إعادة تعريف الهويّة المغاربية إجمالاً، وعدم حصرها في بعديها الإيديولوجي والجغرافي. محمد أركون لم يرمِ شخصيته الأمازيغية الجزائرية، المتمتعة بروح العناد. ولم يرضخ أمام مواقف المنع التي أعلنتها في وجهه الجهات الرسمية في بلاده. بقي مؤمناً بأنّ الاعتراف به سيبلغ يوماً ما أرض الأجداد، بعدما طاف مختلف بقاع العالم، ونال جوائز مهمة منها «جائزة ابن رشد للفكر الحرّ» (2003).
الأخبار
هزمهم الموت ولمّا يكسبوا معركة «التنوير»
ياسين تملالي
يا لِيُتْم العقلانية العربية وهي تنظر إلى ثلاثة من آبائها يُوارون في الترابَ في أقل من أربعة شهور: محمد عابد الجابري ونصر حامد أبو زيد ومحمد أركون. يا لسوء حظ معتزلة القرن العشرين: هزمهم الموت من دون أن يكسبوا معركة «التنوير» في بلدانهم. بدأ المعتزلة قلةً قليلةً، لكنّ الزمن ـــــ على قسوته عليهم ـــــ كان أرقّ عليهم منه على خلفائهم المعاصرين. قالوا إن «القرآن مخلوق». مع ذلك، لم «يجمع العلماء» على تكفيرهم. معتزلةُ القرن العشرين لم تحمهم كثرتُهم (النسبية). بدأت محنتُهم حالَ تغريدهم خارج السرب. بعضهم كأركون، غادر بلَده طويلاً، ولمّا عاد إليه منتصف الثمانينيات مدعواً إلى «مؤتمرات الفكر الإسلامي»، فهم أنه لم يؤت به إلا ليُسبغ عليها صفة الشرعية الأكاديمية. البعضُ الآخر، كأبو زيد، أُجبر على اللجوء إلى المنفى بعدما كُفّر وطُلّق من زوجته بحكم سوريالي من محكمة سوريالية. ومن لم يتعرض للنفي كالجابري، لم يسلم من ألسنة المتطاولين.
سبّب المعتزلةُ «محنة ابن حنبل» وشارك بعض أقطابهم في «محاكم التفتيش» المأمونية. الجابري وأبو زيد وأركون، عكسَ ما يُروّج له بعض من يخلطون بينهم وبين غلاة «التنوير» التسلطي، لم يسبّبوا محنة أحد. لم يعذّب أحدٌ بسببهم، لكنّ براءتَهم لم تحمهم من إهانات أهونُها اتهامُهم بأنهم في خدمة الحكومات الجاثمة على صدور أوطانهم.
عاش المعتزلة في أوج مجد دولة تمتد أطرافها من حدود الصين إلى المحيط الأطلسي. لم يكن فكرُهم، على أهميته، شرطاً ضرورياً لبقائها. مع ذلك، ما أعظم أثَرهم في تاريخ الدولة العباسية. معتزلةُ اليوم، ممن يغيّبهم الموت واحداً تلو الآخر، نشأوا في بلاد مستعمرة، العقلانيةُ فيها شرط أساسيٌ لنهضتها. مع ذلك، تبدو كتاباتُهم فيها ترفاً بالغاً إن لم يعدّها بعضهم كفراً لا عقابَ عليه سوى الموت.
انتُقد المعتزلة أشد الانتقاد، لكنّ بغداد في عهدهم لم تكن تحت سلطة بيزنطة، فلم يُجابَهوا إلا نادراً بأن فكرهم «مستوردٌ دخيل». أما ورثتُهم اليوم، فما إن ينطقوا حتى يهبَّ المتزمتون ليصفوهم بأنهم «رأسُ حربة الغزو الثقافي»، ناسين أن لا أحدَ غيرهم انتقد الاستشراقَ وحجّم تأثيرَه في مؤسسات أكاديمية ذات تأثير كبير في القرار السياسي الأوروبي والأميركي.
هذه محنةُ معتزلة القرن العشرين، اجتهدوا فحوربوا وشرّدوا، وقضى كثيرون منهم في المنفى. ماتوا غرباء. هذه محنةُ ولادتهم في زمن تُقهر فيه بلدانهم باسم الرقي، وتقاد باسم العقلانية إلى المعتقل.
الأخبار

هكذا تكلّم… آخر المعتزلة
ريتا فرج
كأنّ رحيل العلّامة محمد أركون المباغت هو بمثابة اغتيال للعقل العربي الناقد. مَن هم ورثته من المجدّدين العرب الذين اجتهدوا في زعزعة اليقينيات والدوغمائيات العقائدية؟
العالِم الجزائري وأستاذ تاريخ الفكر الإسلامي والفلسفة في «السوربون»، قارع المسكوت عنه في الإسلام التاريخي. أسّس لمشروع نقد الفكر الإسلامي في أكثر من أطروحة أثارت جدلاً ثقافياً قلّ نظيره بالنسبة إلى أقرانه ممن حفروا في أركيولوجيا التاريخ. تعود مكانته المعرفية والأكاديمية إلى كونه اعتمد في قراءته للنصوص التأسيسية على المناهج الغربية الحديثة، من اللسانيات والسيميائيات، وصولاً إلى وضع الظاهرة المدروسة ضمن سياقها الزمكاني. كلّ أدواته النقديّة وظّفها لإخراج الإسلام من الدوغما التي تكبّله.
«الإسلام أوروبا الغرب»، و«العلمنة والدين»، و«الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد»، و«الأنسنة والإسلام مدخل تاريخي نقدي»، أطروحات صاغها صاحب مشروع نقد العقل الإسلامي على مدار عقود، وبذل جهده الفكري في تأكيد حيوية «الحدث الإسلامي» و«الحدث القرآني» ـــــ لجهة الحركية، والتفاعل مع المتحوّل ـــــ بعدما ميّز بينهما، من دون أن يعني ذلك أنَّه لم يموضع «القرآن» في تجلياته التاريخية. تحرّى أركون بعقل العقل عن المسبّبات التي عاقت محاكاة الإسلام للعصر، كما فعلت المسيحية الغربية حين أعدّت عدّتها مع ديكارت، رائد العقلانية الأوروبية.
المقارنة بين «الديانات التوحيدية الثلاث» ـــــ وهو المصطلح الذي ابتكره صاحب «نحو نقد العقل الإسلامي» ـــــ مثّلت أحد أبرز المناهج التي عمل عليها، بعدما خلص إلى أنّ الحقبة التي يمر بها الإسلام الراهن لا ترتبط فقط بالتفسيرات الخاطئة للنص المقدس. الإسلام اليوم يعيش الأزمة نفسها التي خبرتها المسيحية الغربية في قرونها الوسطى، حين «أجبرت بعد مقاومات عنيدة وتأخر زمني، على هضم مكتسبات الحداثة العلمية والفلسفية والقبول بها».
منذ خرقه المسكوت عنه في إسلام النص وإسلام التاريخ، كرّس أركون جهده الأكاديمي (نقلت غالبية كتبه إلى العربية عن «دار الطليعة» و«الساقي» بجهد تلميذه هاشم صالح) في التحري الأنثروبولوجي والأركيولوجي عن العوامل التي تعوق المواءمة بين الإسلام والحداثة، متأثراً بطريقة فوكو. لم يكتفِ بهذا الحدّ، بل رأى أن الإسلام لا يتناقض مع العلمانيّة، لأنّه خبرها منذ التأسيس لأواصر الدولة الأموية تحت عنوان «إيديولوجيا التدبير»، لتبلغ ذروتها مع الفكر المعتزلي (المذهب الرسمي في عهد الخليفة المأمون). «فالإسلام بذاته ليس مغلقاً على العلمانية»، لكنّ الدوغمائيات المعاصرة أوصلته إلى الانسداد اللاهوتي الراهن.
على إيقاع اللطف الإلهي الذي يعني بالمعنى القرآني «نور العقل»، جادل أركون عقائد الانغلاقيين الذين مثّلوا امتداداً للأشاعرة. هو شديد التأثر بالمعتزلة، روّاد الاجتهاد.
يمثّل أركون حلقة الوصل التاريخية لمعارك الإصلاحيين من أمثال الأفغاني والكواكبي وعلي عبد الرازق ومحمد عبده التي تابعت مسيرتها مع طه حسين ومحمد عابد الجابري ونصر حامد أبو زيد وعبد الله العروي وهشام جعيط. لم ترهبه يوماً فوضى العنف باسم الإسلام. الواقع المأزوم فرض عليه خوض معركة الفكر على أكثر من جبهة. التحديث بالنسبة إليه حاجة ملحة، وقراءة التراث وتأويله يحتاجان إلى قواعد تستنطق النص المقدس. قواعد لا يفقهها سوى الحداثيين، أو الحركيين كما يصنِّفهم الراحل السيد محمد حسين فضل الله.
أركون الذي تمرَّس في دراسة ظاهرة الوحي القرآني بمدلولها التاريخي، كان السبّاق في هذا المجال. الاتجاه الإسلامي الرسمي الذي لا يقبل تاريخية الوحي والقرآن، لا بد من أنّه انزعج من اجتهاداته. غير أن المواءمة بين القرآن والتاريخ، وبين الإسلام والحداثة، لم تكن وحدها التي شغلته. ردَّ على بعض المستشرقين الذين شوّهوا صورة الإسلام في الغرب كرمز للعنف واضطهاد المرأة. كانت له في هذا المجال أفكار علمية من دون أن يدخل في جدلية هدم علم الاستشراق وتصويره في السياق الإمبريالي كما فعل إدوارد سعيد في أطروحته الشهيرة.
يكرّس المسار المعرفي عند أركون جهده لإدخال علم الإسلاميات التطبيقية على التراث، بغية تفكيكه وتعريته من الأوهام التي تكبله، وهو في هذا المجال تأثر بمدرسة الحوليات الفرنسية وأضاف إليها مناهج جديدة. لقد فاجأنا أركون برحيله، تاركاً إرثاً علمياً لا يوازيه فيه أحد من ناحية الإعداد لمشروع متكامل عنوانه نقد العقل الإسلامي.
الأخبار

محمد أركون.. رحيل المفكر الأساسي
هاشم صالح
هذا زمن الرحيل.. بالأمس محمد عابد الجابري واليوم محمد أركون وبينهما نصر حامد أبو زيد. ثلاثة من أقطاب الفكر العربي الإسلامي يرحلون في بحر أشهر معدودات. وكنا في أمسّ الحاجة إليهم ولمواصلة أبحاثهم وتجديداتهم. فالعالم العربي أصبح يتيما بعد غيابهم. وذلك لأن المجددين في الفكر الإسلامي ليسوا كثيرين إلى الحد الذي نتصوره. إنهم يعدون على أصابع اليد الواحدة أو اليدين.
كان أركون منخرطا في وضع اللمسات الأخيرة على فكره وإعطائه صيغته النهائية. ولكن لم يخطر على بالي أنه كان في سباق مع الزمن. كنت أتوقع أنه سيعيش مثل أستاذه وصديقه الفيلسوف الفرنسي بول ريكور: أي فوق التسعين. ولكنه لم يتجاوز الثمانين إلا قليلا. وكنت أتمنى له العمر المديد لكي يحل لنا المشكلات التراثية العويصة قبل أن يرحل. ولكن الأعمار بيد الله. عندما اتصلت به لآخر مرة قبل أربعين يوما فقط، لم يكن يخطر على بالي إطلاقا أنه على وشك الرحيل. فقد جاءني صوته على الخط قويا، واثقا، متفائلا، وأكاد أقول شابا. في السنوات الأخيرة كان محمد أركون يتبع طريقة أدهشتني؛ وهي أنه يعيد كتابة نصوصه القديمة بعد إجراء تعديلات وتحسينات وإضافات كثيرة عليها. هذا ما فعله مثلا مع نصه الكبير عن «مفهوم العقل الإسلامي». فقد نشره لأول مرة قبل ثلاثين سنة ثم أعاد كتابته مؤخرا وتوسيعه وتعميقه. وكنت أنتظر بفارغ الصبر ما سيقوله عن موضوع آخر حساس جدا ألا وهو «الصراع المذهبي في الإسلام» وبالأخص الصراع السني – الشيعي. وكان قد كتب بحثا عن الموضوع قبل ثلاثين سنة أيضا بعنوان «نحو توحيد الوعي الإسلامي المتشظي». ولكنه يعتبر بدائيا بالقياس إلى ما كان سيقوله الآن بعد أن نضج فكره واتسع وبلغ الذروة.. كنا ننتظر إضاءاته عن الموضوع للخروج من هذا الانقسام الخطير الذي يهدد الأمة ويبدد الطاقات ويتيح للخارج أن يستغل الوضع ويفتتنا أكثر فأكثر. كان أركون ذا نية طيبة؛ أي يحب دائما أن يجمع لا أن يفرق. كان فيلسوف النزعة الإنسانية في الفكر الإسلامي. كان يحببك في الإسلام وتراثه عندما يتحدث عنه، ولكن الإسلام مجددا، مضاء بنور العقل، وعظمة الفكر.
أعترف بأني فجعت برحيل أركون المفاجئ وغير المتوقع على الإطلاق. لم يكن صوته على الخط يوحي بأنه سيرحل بعد خمسة أسابيع فقط. لم يعطني هذا الانطباع على الإطلاق. لم أكن أعرف أنه مريض فعلا.
أو قل: لم أكن أتجرأ على مساءلته والدخول في تفاصيل قضية حساسة من هذا النوع. من هنا صدمتي ودهشتي وألمي. لقد كان محمد أركون بالدرجة الأولى أستاذا كبيرا، أي بروفسورا حقيقيا. وكان خطيبا مفوها لا يشق له غبار وبخاصة في اللغة الفرنسية. كانت متعة ما بعدها متعة؛ أن تستمع إليه وهو يتحدث عن شؤون الفكر الإسلامي وشجونه. عندئذ كان يصول ويجول على هواه. وكان دائما يقارن بينه وبين الفكر المسيحي أو العلماني في أوروبا لكي تتضح الصورة أكثر فأكثر؛ فبضدها تتميز الأشياء. وعندئذ تجيء الإضاءة مضاعفة وتنفتح أمامك أكوان معرفية لم تكن في الحسبان. عندئذ تفهم الأشياء عن جد. عندئذ تفهم سبب التقدم والتأخر، النهضة ثم الانحطاط. بل وكان يعطينا المفاتيح القادرة على استنهاض المسلمين والعرب من جديد. كان أستاذ تاريخ الفكر المقارن بامتياز. كنا بعد حضور دروسه لا نفهم فقط تاريخنا وإنما أيضا تاريخ الآخرين. كان يرتفع بك إلى أعلى مستوى معرفي ممكن. وأحيانا تتعب، تلهث، لا تستطيع أن تجاريه. كان يتحدث أمام الطلاب بكل تمكن واقتدار. وكنا نهابه ونحترمه ونعرف قيمته الاستثنائية. بل وكان يفرض هيبته حتى على كبار أساتذة الجامعة الفرنسية في الملتقيات والندوات والمؤتمرات. وكان ذلك يدهشني جدا ويملؤني فخرا واعتزازا. فما كنت أتوقع أن يتجرأ مفكر من أصل مسلم جزائري على مواجهة كبار مفكري فرنسا على أرضيتهم الخاصة بالذات. أعتقد أنه لم يكن هناك إلا شخص واحد يمكن أن يجاريه في هذا المجال هو إدوارد سعيد، الذي رحل هو الآخر أيضا قبل الأوان.
برحيل أركون تطوى صفحة من حياتي أنا الآخر أيضا. فقد ارتبط اسمي باسمه كمترجم أساسي لأعماله، وإن لم أكن المترجم الوحيد، على عكس ما يظن الناس. أيا يكن من أمر فقد كنت المتحمس الأكبر لمشروعه الفكري، ولا أزال. كنت أعتقد أنه «المنقذ من الضلال» والانغلاق والظلام بالنسبة للعالم العربي والإسلامي كله. كان أركون ذا منهجية واضحة، ومصطلح دقيق، وعلم مكين. وكان متشددا، صارما، مع نفسه ومع الآخرين. كان يجبرك وأنت تترجمه على أن تطلع على كل نظريات العلوم الإنسانية والفلسفية والأبستمولوجية. وهكذا تضرب عصفورين أو حتى ثلاثة بحجر واحد. بعد قراءته أو الاستماع إليه كنت ترى التراث الإسلامي بعيون جديدة غير السابقة. كنت تشعر بأنك أصبحت فجأة أكثر ذكاء وعبقرية. كان تاريخ الإسلام كله يضاء أمام عينيك دفعة واحدة. من هذه الناحية لا يجارى. وأعتقد شخصيا ودون مبالغة، أنه المجدد الأكبر للإسلام في عصرنا الراهن. كنت قد تحدثت عن إضاءاته الفكرية لتراثنا العربي الإسلامي أكثر من مرة. ولا أستطيع أن أغوص هنا في خضم أكبر معركة فكرية في تاريخنا. يكفي أن أقول بأن صاحب مشروع «نقد العقل الإسلامي التقليدي» لم ينتظر تفجيرات 11 سبتمبر (أيلول) لكي يدق ناقوس الخطر ويدعو المسلمين والعرب إلى خوض المعركة الحاسمة مع الجمود الفكري ورواسب الذات التراثية. منذ خمسين سنة وهو يجدد هذا التراث ويفكك تراكماته الخانقة ويطبق عليه أحدث المناهج العلمية والمصطلحات الفلسفية.
الشرق الأوسط

العقل الديني يتشكل في التاريخ وبه نجعل الإسلام في الحداثة والعصر
بعد غياب أحد رواد الحداثة العربية الباحث المصري نصر حامد أبو زيد، قبل أشهر، ها هو رائد مشروع “نقد العقل الاسلامي” المفكر الجزائري محمد أركون يرحل وهو في عز عطائه وفي قلب معركة التجديد في الفكر الإسلامي، مما يشكل خسارة فادحة للساعين في العالمين العربي والإسلامي إلى الخروج من نفق التخلف والظلامية وولوج التنوير والتحديث المتعدد الجانب.
يحتلّ محمد أركون موقعاً مركزياً في السجال الفكري والعقائدي مع الأصوليات الإسلامية وغير الإسلامية. فقد عمل منذ عقود على قراءة مختلفة ومغايرة للسائد للنص الديني والتراث الإسلامي، بحيث أعطى عنواناً لمشروعه الفكري: “نقد العقل الإسلامي”. على غرار أمثاله من دارسي النص الديني والتراث، نال أركون نصيبه الكبير من التهجّم الشخصي والفكري على أطروحاته، واتّهم بالتكفير والزندقة والمروق عن الدين وتشويه سمعة الدين الإسلامي، وغيرها من التهم، وكان يمكن أن يناله الأذى الشخصي لو كان يعيش في البلدان العربية أو الإسلامية. أتاحت له إقامته في الغرب الكتابة بحرية وممارسة دوره النقدي والتحليلي من دون أن  يشعر بهاجس الإعتداء الذي سيطاوله من الفتاوى التي ستصدر في حقه وتهدر دمه.

في تحديد العقل الإسلامي
في كتابه “معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية”، قدّم أركون تحديداً لما يعتبره العقل الديني إجمالاً والإسلامي تحديداً والمنطلقات التي يقوم عليها، تالياً المعضلات التي ينتجها هذا العقل في ممارسة المسلم، فأشار إلى “أنّ العقل الديني يحصر تساؤلاته وتحرّياته وإنجازاته داخل الحدود المنصوص عليها من قبل ما يدعوه بظاهرة الوحي المسجّلة في الكتب المقدسة: توراة، إنجيل، قرآن. وهي الكتب التي شكلتها الأمم المفسّرة في الأديان الثلاثة على هيئة نصوص رسمية” (ص56). واضاف مبيّنا مدى تأثير معطى الوحي على العقول: “لقد وجّه وأخضع العقل اللاهوتي المؤسس في كل مجالات التمييز والمحاجة والإكتشافات والنص على جميع أنماط المعرفة ومستوياتها. وهكذا راحوا يقدّمون الأحكام الأخلاقية – التشريعية التي تنظم علاقات البشر في المجتمع على أساس أنها تمثل التعبير الحقيقي لإرادة الله بالنسبة إلى مخلوقيه. لقد جعلوا الناس يتصورونها ويفهمونها ويستبطنونها ويطبقونها وكأنها تمثل فعلاً مشيئة الله. وهكذا راح الفكر اللاهوتي يبذل كل ما في وسعه لكي يحدّد “عقلانياً” الأسس الإلهية الموجهة لكل ما يفعله الإنسان” (ص56).
إذا كان الفكر اللاهوتي في الأديان الثلاثة يملك قواسم مشتركة، إلاّ أنّ ذلك لا يمنع وجود خصوصيات تتصل بمكان وزمان قيام كل دين واجتهادات الفقهاء في وضع التشريعات لما يفترضونه ظاهرة الوحي، خصوصاً عند بلورة هذا الفكر اللاهوتي في القانون الديني الذي يسمّى بالشريعة. لقد عرف الإسلام هذه القوننة ووضع علماء الفقه أسسها وطاولت في محتواها أموراً كثيرة تخص الإنسان في ممارسته العملية. وعلى رغم الإنقسامات في الإسلام بين مذاهب وفرق، إلاّ أنّ قواسم مشتركة ظلّت تجمع بينها في الوجهة العامة للقضايا والموضوعات الخاصة بالأمور اللاهوتية والإنسانية المتمركزة حول الله، والتي يمكن إختصارها في النظر إلى “الله الحي، الخلاّق الذي تجلّى في التاريخ الأرضي للبشر مرات عدة عبر رسله وأنبيائه. وقد بلّغ أوامره ونواهيه من طريق الوحي الذي نقل إلى الأمة المؤمنة التي تؤيد الذاكرة الحية لجميع التعاليم والأحداث المؤسسة للدين الحق. وأمّا المجتمع الأرضي فيقاد من قبل ممثلين لله على الأرض (أي الخليفة أو الإمام). وهم يسهرون على تطبيق الشريعة، أو القانون الإلهي، بدون أن يكون لهم الحق في تعديل أحكامها. وهذه الأحكام لا تهدف فقط إلى ترسيخ نظام العدل والتضامن في المجتمع، وإنما تهدف إلى شيء آخر أيضاً. فهي لا تتخذ كلّ معانيها وأبعادها إلاّ إذا استنبطت وطبّقت من قبل كل مؤمن، وذلك ضمن المنظور الأخروي للنجاة الأبدية في الدار الآخرة: أي العودة إلى الله. فكل شيء يأتي من الله، وكل شيء يعود إليه. وعندما أقول كل شيء فإني أقصد: العالم، التاريخ، الكائنات الحية. فالطبيعة مسكونة من قبل الله وموضوعة تحت تصرف الإنسان كمكان ووسيلة لتحقيق النجاة في الدار الآخرة. وهذا يعني أنّ النجاة تتمثل بالمسار الأرضي الذي يؤدي بالضرورة إلى يوم الحساب، فالبعث والنشور، فالحياة الأبدية إمّا في دار الثواب وإمّا في دار العقاب، إمّا في الجنّة وإمّا في النار” (ص58-59).
بعدما حدّد المفاصل الرئيسية للعقل الديني، ومنه في القلب العقل الإسلامي، طرح أركون على امتداد كتاباته الواسعة عناصر مشروعه في نقد هذا العقل فرآه “مشروعاً تاريخياً وأنتروبولوجياً في آن واحد”، فهذا المشروع “لا يكتفي بمعلومات التاريخ الراوي المشير إلى أسماء وحوادث وأفكار وآثار دون أن يتساءل عن تاريخ المفهومات الأساسية المؤسسة كالدين والدولة والمجتمع والحقوق والحرام والحلال والمقدس والطبيعة والعقل والمخيال والضمير واللاشعور واللامعقول، والمعرفة القصصية (أي الأسطورية) والمعرفة التاريخية والمعرفة العلمية والمعرفة الفلسفية” (“أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟”).
تكمن أهمية مشروع أركون في أنها تقوم على عملية النقد الشامل للنص الديني والتراث والممارسة التي نتجت منهما في ضوء ما هو جارٍ اليوم من فكر وفتاوى باتت تخلع القدسية على كل شيء في حياة الإنسان المسلم العادي وخصوصاً على الأشياء المادية الأكثر دنيوية ووسمها بصفة دينية بحيث يصبح نقدها مسّاً بالدين نفسه وبأصوله. في هذا المجال نظر أركون إلى أنّ عملية نزع هذه القدسية عما هو غير مقدس تشكل  أكبر عملية تحرير للعقل المسلم في زمننا المعاصر، وذلك من أجل أن يتمكن هذا الإنسان من التصالح مع نفسه أولاً وتالياً مع الزمن الذي يحيا ضمنه.

في المنهج
انخرط أركون في قراءة النص الديني والتراث الإسلامي معتمداً على منهج في القراءة يقوم على ربط الوثائق والنصوص بالمرحلة الزمنية التي كتبت فيها، ووصلها بتعيين طبيعة القوى الإجتماعية السائدة، والحركات الفكرية المتكوّنة في تلك الفترة، ممّا عنى لديه أنّ شرط نقد العقل الإسلامي يكون في استخدام هذه المنهجية التاريخية في التدقيق بكل المعطيات التاريخية. من هذا المنطلق أنكر أركون أن يكون العقل الإسلامي عقلاً أبدياً أو أزلياً، بل على العكس، إنّ هذا العقل بنصوصه المؤسّسة وبتطور التشريعات والإجتهادات التي نجمت عنه، هو بالتأكيد عقل له بداية كما له نهاية، أي باختصار هو “عقل يتشكّل في التاريخ”. وشدّد أركون على التوجّه الذي يجب أن يسلكه الباحث في التراث الإسلامي بحيث لا ينبغي له الإكتفاء بتجميع المعلومات والوقائع بمقدار ما يجب عليه الدخول في عملية تفكيكها لإستخلاص النتائج المرجوة منها. فتفكيك الظاهرة الإسلامية من طريق تطبيق القراءة التاريخية لها، هو الذي يمكنه أن يقدم إطاراً فعلياً لتحليل جميع اشكال الخطاب الإسلامي المعاصر على جميع مستوياته، وتأويلها، وهو وحده الذي يشكل عنصراً حاسماً في مقارعة الفكر الأصولي الذي يهيمن على المجتمعات العربية والإسلامية.
توصّل أركون عبر دراساته إلى تعيين الحلقة المركزية في رأيه لمشكلة المجتمعات العربية والإسلامية، فرآها مجسمة في ضرورة “نقد العقل الإسلامي”، لأن العقل العربي نفسه لا يزال عقلاً دينياً، كما أنّ العقل اللاهوتي الموروث منذ مئات السنين لا يزال يهيمن على الثقافة الإسلامية والعربية على السواء. يزداد الأمر ملحاحية من خلال ما تقدمه المجتمعات العربية والإسلامية من خلع القدسية على الممارسات الأكثر دنيوية ومادية وتعيين الحلال والحرام فيها وفق اجتهادات لا حدود لها، بما فيها ربطها بإسم الله والنبي من أجل أن تحظى بالمشروعية والقداسة المطلقة.

في قراءة القرآن
أولى أركون اهتماماً خاصاً بقضية قراءة القرآن وبالوسائل التي استخدمت في توظيفه على امتداد التاريخ الإسلامي والعربي، فأشار إلى استخدام هذا النص في الصراعات الإجتماعية والسياسية بحيث عمدت كل فئة اجتماعية – تاريخية إلى فهمه وتفسيره بما يخدم أهدافها ومصالحها، بل كانت تلجأ إلى الدفاع عن مواقعها عبر الإحتماء بعلم الدين وهيبته المقدسة التي كانت لا تناقش ولا تمسّ، فحوّلته عقيدة خاصة انغلقت داخلها وأطلقت حكمها على سائر التأويلات فصنّفتها في خانة الضلال والإنحراف والكفر. انطلاقا من هذه الوقائع يمكن تفسير نشوء الفرق الدينية في التاريخ الإسلامي التي يقال إنّ عددها وصل إلى حدود السبعين فرقة.
شدّد أركون على ضرورة التموضع في عصر القرآن والبيئة التي نشأ فيها لدى كل محاولة لقراءته وتفسيره وتأويله، وهو أمر يتطلّب قبل كل شيء الإبتعاد عن إسقاطات الحاضر ونظرياته والإيديولوجيات السائدة فيه. انتقد أركون في هذا المجال الوجهة التشريعية التي يصبح القرآن عندها مختزلاً إلى أسطورة وتالياً إلى إيديولوجيا، فيما يتناول القرآن في جوهره الوضع البشري من حيث الكينونة والحب والحياة والموت: “ففي ما وراء المثال القرآني والإسلامي، فإنّ هدف القراءة كلها هو المساهمة في تحرير المعرفة التاريخية من إطار القصة ومجرياتها من أجل جعلها تتوصل إلى وظيفة الكشف عن الرهانات الحقيقية للتاريخية” (“القرآن، من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني”، ص174).

في المخيال الديني
احتل موضوع المخيال الديني موقعاً مهماً في مشروع أركون لنقد العقل الإسلامي، وهو في أطروحاته أتى بجديد فعليّ لم يكن معروفا في الفكر العربي والإسلامي، إذ ركّز على الأثر الذي يتركه المخيال الديني على المستويات التاريخية والسوسيولوجية والنفسية، وتكمن الخطورة في ما نشهده من استخدام الحركات الأصولية لهذا المخيال في وصفه أداة تتسم باللاعقلانية لكنها كفيلة تجييش الجماهير. يبيّن هذا المخيال كم أنّ مشكلات زمننا الراهن تغور عميقا في الماضي البعيد وتمتدّ جذورها فيه، بحيث بات يصعب فهم هذا الحاضر وتشخيص معضلاته من دون الغوص عميقاً في تاريخنا، ذلك لأنّ المظاهر والدلالات الخيالية تمثل حالة ذهنية وعقلية يصعب التشكيك في قوتها وكونها محركة أساسية وفعّالة للتاريخ. حدّد أركون فهمه لموضع المخيال والهدف من التركيز على أهميته بالقول: “عندما أقول المخيال، أو أستخدم مصطلح المخيال، فإني لا أريد أن افرّغ نموذج العقلانية المستخدمة في كل تراث ديني من أيّ وجهة نظر عقلانية. وإنما أريد بالأحرى إدخال مقولة أنتروبولوجية لكي أفسّر كيف أنّ تصور الوقائع، وكلّ اللغات اللاحقة المستخدمة للدلالة على هذه الوقائع، قد نقل من إطار التحليل العقلاني إلى الدائرة الخيالية للتصورات العقلية والتصوّر العاطفي. إنّ الخيال، على طريقته، هو ملكة من ملكات المعرفة. إنّ المخيال يساهم في هذه الفاعلية بصفته وعاء من الصور وقوة إجتماعية ضخمة تكمن مهمتها في إعادة تنشيط هذه الصور بصفتها حقائق رائعة، وقيماً لا تناقش، تكون الجماعة مستعدة لتقديم التضحية العظمى من أجلها. إنّ أعضاء الجماعة الذين ماتوا من أجل القيم المشتركة يصبحون شهداء ويضيفون بذلك أبعاداً تقديسيةً وتنزيهية إلى هذه القيم. وعبر هذه العملية التاريخية والإجتماعية والنفسانية تغتني الذاكرة الجماعية، ويمتحن المخيال الإجتماعي ويظل حياً” (“القرآن، من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني”، ص29).

الإسلام بين الدين والدولة
تطرّق أركون في سياق أبحاثه إلى قضية الدولة والدين في الإسلام وساجل الفكر الأصولي الذي يذهب إلى الإصرار على وحدة المجالين السياسي والديني، فأعطى أهمية للتفريق بين السلطة السياسية زمن النبي والإضطرار إلى وضع “تشريعات” مستجيبة حاجات محدّدة يتطلّبها الواقع، وبين إدعاءات الفقهاء لاحقاً بأنّ النبي قد أسّس دولة دينية استكمل الخلفاء الراشدون بناءها وتطويرها في ما بعد. لكنّ النقطة التي شدد عليها أركون، إضافة إلى رفضه مقولة الدولة الدينية، هي حاجة السلطة السياسية دوماً على امتداد التاريخ الإسلامي إلى إسباغ المشروعية الدينية على السلطة السياسية وقراراتها، واستخدام الوحي في سبيل ذلك.
انطلقت مقولة أركون الأساسية من أنّ الدين أخضع إلى السياسة منذ التاريخ القديم وليس العكس، “فهذا الإخضاع الذي تعرض له العامل الديني من قبل العامل السياسي من خلال تجربة الأمويين لا ينبغي أن يخلط بذلك الخلط المنسوب للإسلام ما بين الروحي والزمني… ويمكننا القول إنه بعد موت النبي لم يتح للإسلام أن يحظى بالشروط المتميزة والممتازة نفسها التي كان يحظى بها سابقا على مستويي التعبير الرمزي والسياسي. فمحمد كان يرسّخ يوماً بعد يوم وللمرة الأولى نظاماً سياسياً محدداً، ثم يركّز قواعده وبشكل ناجح ومطابق على مجريات عملية الترميز. أقصد بذلك أنّ كلّ قرار قضائي – سياسي يتخذ من قبل النبي، كان يلقى مباشرة تسويغه الديني الرمزي وغائيته من خلال العلاقة المعاشة مع الله” (“الفكر الإسلامي، نقد وإجتهاد”، ص 63).

في قراءة الأصوليات
تخترق الأصولية، بما هي إيديولوجيا وممارسة في عوامل صعودها وازدهارها، كل كتابات أركون، فولج إلى دواخلها وحلّل خطابها. لا ينفصل نشوء الأصولية عن الكيفية التي يلجأ إليها الفقهاء في قراءة النص الديني وإسباغ أصول إلهية على القانون المسمى “شريعة”. تلجأ الأصولية الإسلامية إلى استخدام معظم المعجم الديني القديم بكل ما يحويه من طقوس ومبادئ دينية من أجل “خلع المشروعية على نشاطاتها السياسية ومعارضتها للأنظمة القائمة… مما يعني تحويل الدين إيديولوجيا سياسية يفقده روحانيته المتعالية”. تستخدم الأصولية النص القرآني والحديث  فتنتزعهما من سياقهما التاريخي وتعمد الى اللجوء إلى الإسقاط على الواقع الراهن بما يخدم توجهاتها وأفكارها.
قدّم أركون في كتابه “الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، نحو تاريخ آخر للفكر الأصولي”، قراءة مسهبة لتعيين العوامل الداخلية والخارجية لنشأة الأصولية الإسلامية، وأسباب هيمنة هذا الخطاب واتخاذه أبعاداً ضخمة تمكّنه من تجييش ملايين المسلمين حوله، وخلق مناضلين سياسيين يعملون على نشره وتثقيف الناس به. فبالنسبة إلى العوامل الداخلية، رأى وجوب “أن نذكر أولاً التزايد الديموغرافي أو السكاني الهائل الذي حصل في وقت قصير جداً ووسّع بالتالي من القاعدة السوسيولوجية للأصوليين، أو قل وسّع من القاعدة الشعبية للمخيال الإجتماعي المغذّى من قبل الخطاب القومي للتحرير الوطني والمضاد للإستعمار أولاً، ثم من قبل الخطاب الأصولي الذي تلاه أو حلّ محلّه في السنوات الأخيرة. فهذا الخطاب الأصولي أراد تأسيس الهوية من جديد أو إعادة الإعتبار اليها بعدما خانتها “النخبة” المعلمنة التي حكمت البلاد بعد الإستقلال” بحسب زعمه” (ص223-224). كما شدّد على العوامل الخارجية التي اعتبرها عاملاً رئيسياً في صعود الأصولية الإسلامية وانتشارها، فرأى “أنّ الحداثة الإقتصادية والتكنولوجية الغربية تمارس ضغطاً مستمراً على كل المجتمعات العربية والإسلامية التي لم يتح لها أن تساهم في تشكيل هذه الحداثة” (ص225).
انجدلت هذه الأسباب بانهيار مشروع التحديث العربي، فتزايدت الأزمات الإقتصادية والإجتماعية، وفشلت أنظمة الإستقلال في الجواب عنها، يضاف إلى ذلك الهزائم القومية أمام إسرائيل وعودة الاستعمار إلى الإحتلال المباشر للأرض العربية، مما جعل الأصولية الإسلامية تسعى لملء الفراغ الذي تسبب به فشل سياسات الأنظمة، فقدّم الإسلام السياسي نفسه بوصفه الحل والمنقذ والمخلّص للأمة العربية والإسلامية، واقترح أفكاره التي اختلط فيها الدين بالسياسة في شكل واسع، وتقدّم زعماء الحركات الأصولية بخطاب يعبّر فعلاً عن الآمال الخائبة التي وعدت بها الأنظمة شعوبها، وعن الإحباط الذي أصاب الملايين من المسلمين والمقرون بالقمع والإضطهاد ، في وقت تحتاج الملايين من القوى الشابة الى أمل بخلاص وفرص عمل وحياة فيها حد من الإطمئنان لمستقبلها… لم يكن ذلك النجاح لانتشار الفكر الأصولي غريبا عن طبيعة التطور الإجتماعي، فالمجتمع يقفل على الفكر الحر والنقدي عندما يهيمن عليه الفقر والهموم والأزمات المتعددة، بل ويفتح صدره للفكر الأصولي الموروث وما يحمله من غيبيات وأحلام وخيالات”.
لكنّ الخطاب الإسلامي الأصولي لم يكتف بالنظرية، بل كانت أهميته تكمن في الإنتقال إلى وضعه موضع التطبيق، وهو أمر لا يتحقق من دون تسلم السلطة. اقترن الخطاب النظري بوجهة في الممارسة تستلهم فيها النص الديني الإصطفائي والرافض للآخر، مما عنى في كل مكان تمكنت فيه الأصولية من السلطة إتّباع سياسة ديكتاتورية تمارس عبرها إلغاء الحياة السسياسية ومنع سائر القوى من الفعل.

نحو علمنة منفتحة بعيدة عن الأدلجة
ناقش أركون قضية العلمنة من زوايا مختلفة عمّا درجت عليه إيديولوجيات لم تر في الطرح العلماني سوى قضية فصل الدين عن الدولة من جهة، أو في موقف سلبي من الدين نفسه. قدّم مقاربات للعلمنة منفتحة وبعيدة عن الأدلجة أو الإختزالية، وساجل بقوة مع المشاريع العلمانية التي جرى تطبيقها في العالم العربي والأوروبي، وبيّن السلبيات التي حوتها، واقترح بذلك على الفكر الإسلامي وجهة متوافقة من منطق نقد العقل الإسلامي وقابلة لأن تساهم في تحرّر المجتمعات العربية والإسلامية إذا ما قيّض لها التطبيق.
حدّد أركون فهمه للعلمنة بأنها “موقف للروح وهي تناضل من أجل امتلاك الحقيقة أو التوصل إلى الحقيقة… والعلمنة هي شيء آخر أكبر بكثير من التقسيم القانوني للكفاءات بين الذرى المتعددة في المجتمع. إنها أولاً وقبل كل شيء مسألة تخص المعرفة ومسؤولية الروح (أي الروح البشرية، الإنسان). هنا تكمن العلمنة أساساً وتفرض نفسها بشكل متساو وإجباري على الجميع” (“العلمنة والدين”، ص10). على امتداد أطروحاته حول العلمنة، أصرّ أركون على ربطها بقضية الحرية وجعل المفهومين مترابطين، وشدّد على رفض تحوّل العلمنة لإيديولوجيا وظيفتها قولبة الفكر أو الحد من حريته. والعلمانية كما رآها هي أحد تجليات الحداثة في مرحلتها المتقدمة، حيث يتميّز النظام العلماني بإحترام الفرد وحرية الضمير، وضمان الحرية الدينية لجميع المواطنين من دون استثناء، إضافة إلى الإعتراف بالتعددية الدينية وبحرية الإعتقاد أو عدمه بما فيها الحق في تغيير الدين. كما أنّ الدولة العلمانية هي دولة حيادية تقف فوق الجميع وتعاملهم على قدم المساواة أمام القانون، لكونهم يمتلكون الحقوق نفسها وتترتّب عليهم الواجبات ذاتها ايضا.

في النظرة إلى الأديان
نجمت ضرورة العلمنة لدى أركون عن نظرة خاصة إلى الأديان التوحيدية وغير التوحيدية، وهي نظرة ترفض النظريات التي لا تعترف بموقع الدين الإجتماعي والروحي فتصل إلى نفي الدين واقتراح علمانية “صلبة” لا موقع فيها للبعد الروحي الذي يحتاجه الإنسان. قال في كتابه “العلمنة والدين” ما يأتي: “فالدين، أو الأديان، في مجتمع ما هي عبارة عن جذور. ولا ينبغي لنا هنا أن نفرّق بين أديان الوثنية وأديان الوحي. فهذا التفريق أو التمييز هو عبارة عن مقولة تيولوجية تعسّفية تفرض شبكتها الإدراكية أو رؤيتها علينا بشكل ثنوي. إنّ النظرة العلمانية تعلن أنها تذهب إلى أعماق الأشياء، إلى الجذور من أجل تشكيل رؤيا أكثر صحة وعدلاً ودقة. ففي ما وراء التحديدات التيولوجية، نجد أنّ كلّ الأديان قد قدّمت للإنسان ليس فقط التفسيرات والإيضاحات، وإنما أيضا الأجوبة العلمية القابلة للتطبيق والإستخدام مباشرة في ما يخص علاقتنا بالوجود والآخرين والمحيط الفيزيائي الذي يلفّنا، بل وحتى الكون كله، وفي ما وراءه الدعوة “فوق طبيعة” أو خارقة للطبيعة، أي تلك التي تتجاوز الطبيعة المحسوسة والقابلة للملاحظة والعيان” (ص23).

هل الإسلام مغلق على العلمانية؟
يستدعي السؤال ما هو أعمق ويتصل بقضية أعمّ: هل يستعصي الإسلام على الحداثة؟ لأنّ العلمانية في تطورها التاريخي إنما كانت الإبنة الشرعية للحداثة في أوروبا، بما هي مرحلة من التطور السياسي والإقتصادي والإجتماعي والحروب الدينية والصراعات بين الكنيسة والسلطة، ناهيك بالفكر الفلسفي المستند أساساً إلى العقل الذي تولّد خلال عصر الأنوار… كلها أنتجت العلمنة بما هي فصل للدين عن الدولة وتحرير الانسان من سلطة الإله والغيبيات، إضافة إلى تحقيق الديموقراطية وسيادة القانون. السؤال أرّق أركون فسعى إلى الإجابة عنه مستحضراً التاريخ الإسلامي القديم والحديث، ساعياً إلى رؤية الجانب الإيجابي وموضحاً المعوقات الرئيسية في هذا المجال.
في كتابه “الإسلام والعلمنة”، قال أركون: “إنّ الإسلام في حد ذاته ليس مغلقاً في وجه العلمنة. ولكي يتوصل المسلمون إلى أبواب العلمنة فإنّ عليهم أن يتخلصوا من الإكراهات والقيود النفسية واللغوية والإيديولوجية التي تضغط عليهم وتثقل كاهلهم، ليس فقط بسبب رواسب تاريخهم الخاص بالذات، وإنّما أيضا بسبب العوامل الخارجية والمحيط الدولي. وعليهم لكي يتوصلوا إلى ذلك أن يعيدوا الصلة مع الحقيقة التاريخية للفكر الإسلامي في القرون الهجرية الأربعة الأولى. فالواقع أنه قد وجدت في أرض الإسلام بين القرنين الثاني والثالث للهجرة حركة من المثقفين يدعون بالمعتزلة. وقد اضطهدوا في ما بعد من قبل التاريخ الإسلامي نفسه… كان هؤلاء المفكرون قد عالجوا بعض المسائل الأساسية للساحة الفكرية التي تهمّنا هنا، وذلك بسبب مرجعيتهم الثقافية المزدوجة والمتمثلة بظاهرة الوحي والفكر الإغريقي. فبالإضافة إلى دراستهم للوحي الإسلامي ، فإنهم قد اهتموا أيضا بذلك المحور الآخر للفكر، وتلك الممارسة الأخرى للعقل… لقد وصل الأمر بهؤلاء المفكرين إلى حد طرح مشكلة ما دعوه “القرآن المخلوق”. إنّ مجرد اعترافهم بأنّ القرآن مخلوق يمثل موقفاً فريداً تجاه ظاهرة الوحي، إنه يمثل موقف حداثة في عزّ القرن الثاني الهجري أو الثامن الميلادي. وكان هذا الموقف التيولوجي المبتكر الذي اتخذه المعتزلة يفتح حقلاً معرفياً جديداً قادراً على توليد العقلانية التي شهدها الغرب الأوروبي بدءاً من القرن الثالث عشر، لولا معارضة الارثوذكسية الظافرة في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي على يد الخليفة القادر. فالقول إنّ القرآن مخلوق ليس مجرد كلام وإنّما يعني إدخال بعد الثقافة واللغة في طرح المشكلة. وهما من صنع البشر لا من صنع الله. إنه يعني إدخالهما أو أخذهما في الإعتبار في ما يتعلق بالجهد المبذول لإستملاك الرسالة الموحى بها. وذلك يعني الإعتراف بمسؤولية العقل ومساهمته في جهد الإستملاك هذا” (ص59-61).
مما لا شك فيه أنّ الحركات الأصولية التي تتخذ من أركون موقفاً معادياً، وتصب جام غضبها على المنهج التاريخي الذي استخدمه في قراءة التراث الديني الإسلامي، تدرك جيداً أنّ هذه القراءة سوف توصل آجلاً أم عاجلاً إلى مرحلة من التقدّم يتحرّر الناس خلالها من هيبة رجال الدين وسيطرتهم على العقول، وما يمكن أن يقوده هذا التحرّر إلى فصل الدين عن الدولة ووضع كل واحد في مكانه الصحيح، وبما يعيد إلى الدين موقعه الروحي والأخلاقي وليس هيمنته على السياسة واستخدامه إياها في الصراعات السياسية والإجتماعية. خلافاً لما يدّعيه الأصوليون من أنّ فصل الدين عن السياسة فكرة مستوردة من الغرب، فإنّ هذا الفصل أتى حصيلة التقدم وتحرير الإنسان واستخدام العقل في رؤيته لقضاياه. لذلك لا تقول العلمنة بمناهضة الدين أو السعي للحدّ من ممارسته في المجتمع، بل إنّ العلمنة في العالم الإسلامي مضادة لهذا الإستخدام الفجّ للدين في السياسة بما يخدم أغراضاً سلطوية ومنفعية خاصة وإنتهازية، وهو أمر مختلف عن حقيقة ما يمثله الدين من أبعاد قيميّة روحيّة ودينيّة وإنسانيّة. في هذا المجال يطرح سؤال حقيقي حول عوامل نهوض المجتمعات العربية والإسلامية في الميادين الفكرية والثقافية والإقتصادية والإجتماعية، بمعنى قيام نهضة وصراع يسمحان بمقارعة الثقافة التقليدية السائدة في جميع هذه الميادين، بما يمكّن من الوصول إلى العلمانية كحصيلة منطقية لهذه التحولات، وليس بفرض العلمانية “من فوق” واعتبارها مجرد قوانين موضوعية باردة. لن تنشأ العلمنة وثقافتها في المجتمعات العربية والإسلامية إلاّ عبر هذا الصراع الداخلي الذي وحده يسمح بتحقيق هذا الحد من العلمنة بما يضمن تطوّرها لتصبح شاملة في ما بعد.
إذا كان أركون قد رحل في مرحلة تبدو الحاجة العربية والإسلامية ماسة الى أمثاله، إلا أنّ ما تركه من كتابات، بات قسم كبير منها متوافرا باللغة العربية، سيشكل مرشدا لأجيال راهنة ومقبلة وزادا تنهل منه في استكمال معركة التنوير العربي والإسلامي، الذي سيظل أركون من أكبر الرواد في إطلاقها والصراع من أجل ترسيخها داخل العقل العربي.
خالد غزال
النهار

أركون المصلح الأكبر للإسلام فــي عصرنــا الراهــن
هاشم صالح
أود أولا القول ان رحيل المفكر الجزائري الكبير محمد أركون يشكل خسارة كبرى للفكر العربي والاسلامي. فقد كان من المفكرين المسلمين القلائل الذين يسيطرون تماما على مناهج البحث العلمي الحديث ومصطلحاته. وكنا بحاجة ماسة اليه لتشخيص مشاكلنا وما أكثرها. لقد كان ذخرا او كنزا فكريا بالمعنى الحرفي للكلمة. ولا أعرف من الذي يمكن ان يحل محله او يعوضه في المدى المنظور. لا ريب في ان هذه الأمة التي أنجبته قادرة على ان تنجب سواه. لكن متى؟ هذا هو السؤال. أحيانا يمضي وقت طويل قبل ان يظهر مفكر كبير في التاريخ. وأريد ثانيا القول اني أقصد القطيعة الابستمولوجية هنا بمعنيين: بمعنى انه هو ذاته كان يشكل قطيعة فكرية بالقياس الى كل ما سبق من تاريخ الاسلام. هذا من جهة. وأما من جهة أخرى فقد كان هو الذي بلور مصطلح القطيعة الابستمولوجية بالنسبة إلى الفكر العربي الاسلامي ككل، وقسمه الى حقبتين كبيرتين متمايزتين. فلنحاول تفصيل الكلام في كل هذا الآن.
لا ريب في ان اركون يشكل قطيعة معرفية كبرى في تاريخ الفكر الاسلامي. فقبله لم يتجرأ أحد، حتى ولا طه حسين، على احداث القطيعة مع النظرة التراثية المهيمنة على المجتمعات والعقول. أكاد أقول ان فكر اركون يقسم تاريخ الاسلام الى قسمين كبيرين: ما قبله وما بعده. تاريخ الاسلام لن يقسم بعد الآن الى ما قبل الفارابي وما بعده، او ما قبل ابن سينا وما بعده، او ما قبل ابن رشد وما بعده، او ما قبل طه حسين وما بعده. أقول ذلك على الرغم من أهمية هؤلاء وعظمتهم. وانما سوف يقسم الى ما قبل محمد اركون وما بعده. فلعله الوحيد الذي تجرأ على طرح مسألة الوحي من خلال منظور مقارن، واسع، حديث. بمعنى انه ربط الوحي القرآني بالوحي التوراتي والانجيلي اي التوحيدي بشكل عام دون ان يطمس خصوصية القرآن الكريم وعبقريته كما يفعل بعض الاستشراق. ومعلوم انه وصل الأمر ببعضهم الى حد اعتبار القرآن عبارة عن فوتوكوبي، اي نسخة طبق الأصل، عن التوراة! لقد ساهم في تأسيس منهجية الدراسة المقارنة للكتب التوحيدية الثلاثة كاشفا عن نقاط الاتفاق ونقاط الاختلاف في ما بينها. ثم بشكل أخص كشف عن علاقة هذه الاديان السماوية بالاديان الارضية: اي بأديان الشرق الاوسط القديمة لوادي الرافدين وسواها. انظر علاقة طوفان نوح التوراتية والقرآنية بملحمة غلغامش مثلا. كما ميز بين الخط الديني التوحيدي من جهة، والخط الفلسفي اليوناني من جهة أخرى. وهما التياران الكبيران اللذان سيطرا على الشرق كله، وايضا الغرب كله طيلة قرون وقرون. وميز عندئذ بين الخطاب النبوي من توراتي وانجيلي وقرآني، وبين الخطاب الفلسفي المنطقي العقلاني. فالتركيبة اللغوية للخطاب الاول غير التركيبة اللغوية للخطاب الثاني. الاول، اي الخطاب النبوي، يعتمد على المجازات الخارقة المنبجسة ويقترب من لغة الشعر. هذا في حين ان الخطاب الارسطوطاليسي يعتمد على المحاجات المنطقية والبراهين الاقناعية ويستخدم اللغة بطريقة مختلفة تماما.
خارج المألوف
وربما كان أركون الوحيد، من بين مثقفي الاسلام، الذي طبق على القرآن الكريم المنهجية النقدية التاريخية التي كانت قد طبقت سابقا على التوراة والانجيل من قبل علماء أوروبا وفلاسفتها. وأضاء بذلك النص المؤسس للاسلام بشكل رائع غير مسبوق. عندئذ عرفنا معنى القرآن بالفعل بعد ان تحررنا من النظرة التبجيلية الاسطورية المهيمنة على العقلية الجماعية منذ مئات السنين، وبخاصة منذ عصر الانحطاط. وهو الوحيد الذي درس التراث الاسلامي كله من خلال منهجيات العلوم الانسانية الحديثة وكشف بالتالي عن خباياه وحررنا من الافكار المسبقة والتصورات الخرافية او الهلوسية الخاطئة. ولعله الوحيد الذي تجرأ على الخروج من ذلك المنظور الذي رسخه حديث الفرقة الناجية في الساحة الاسلامية على مدار القرون. وهو الحديث الذي يقول ان هناك فرقة واحدة في الجنة وبقية الفرق في النار. وحررنا بالتالي من النزعات المذهبية والطائفية الراسخة في العقول حتى اليوم. بمعنى آخر فإنه قلب كل المنظور التقليدي للاسلام رأسا على عقب. من هنا الثورة المعرفية او القطيعة الابستمولوجية الراديكالية التي أحدثها هذا الرجل في تاريخ الفكر العربي الاسلامي. وهي قطيعة لم يدرك الناس بعد مدى حجمها وخطورتها وأبعادها، بل حتى لم يدرك مغزاها أغلب المثقفين العرب. وبالتالي فالمفكر الذي رحل عنا قبل يومين لن تعرف قيمته على حقيقتها الا بعد جيل او جيلين ربما. انه سابق لأوانه بكثير، او قل انه سابق على الوعي الاسلامي الحالي بمسافات ضوئية. ولهذا السبب فانهم يقولون لك انه مثير للجدل، او محطم للمقدسات، او خارج على الاديان، بل حتى على الايمان! في الواقع انه كان خارجا على كل الارثوذكسيات او الانغلاقات المذهبية والطائفية. لقد فكك كل الارثوذكسيات الانغلاقية سنية كانت ام شيعية. ودعا الى توحيد الوعي الاسلامي المتشظي على أرضية الفكر الديني العقلاني المسؤول. وكان يأخذ من الاسلام جوهره المصفى، اي الروحانيات والقيم التنزيهية والاخلاقية العليا، ويطرح ما تبقى. وبالتالي فقد كان مؤمنا، لكن ايمان العلماء والفلاسفة الكبار، لا ايمان التعصب والجهل والحقد على الآخرين، ان لم يكن تكفيرهم.
الكل يعلم اني كنت قد تبنيت مشروع محمد اركون الفكري ترجمة وشرحا وتعليقا منذ اكثر من ثلاثين عاما حتى الآن. وهو المشروع الذي يحمل العنوان العريض التالي: نقد العقل الإسلامي. وقد أصدرت منه ما لا يقل عن ثلاثة عشر كتابا. لكن هذا لا يعني أني ترجمت كل ما كتبه محمد اركون على عكس ما يتوهم معظم الناس. فالواقع اني لم أترجم حتى الآن الا ربعه وربما أقل. لكن ما ترجمته حتى الآن يكفي لاعطاء فكرة عن هذا المشروع الفكري الذي يتنطح لدراسة التراث على ضوء العلوم الانسانية الحديثة. فهو يسلط أضواء المنهج الالسني البنيوي على القرآن، وكذلك أضواء المنهج التاريخي، والمنهج الاجتماعي، والمنهج الانتربولوجي، والمنهج اللاهوتي المقارن، ثم أخيرا التقييم الفلسفي. ومن يطلع على ترجماتي وشروحاتي لابحاث اركون يكتشف الفرق الهائل بين ما يقوله هو عن التراث، وما يقوله مفكرو الاسلام التقليدي السائد. لكن بما ان كتب التقليديين تحتل الساحة منذ مئات السنين، ثم بالاخص تحتل عقول ملايين الناس، فان فكر اركون يبدو غريبا، خارجا على المألوف، بل مضادا للعقلية العامة الشائعة لعموم العرب والمسلمين. وهذا أمر طبيعي في الواقع. فالجديد دائما يصدم الناس ويزعج حساسيتهم وطمأنينتهم الراسخة. بل قد يشكل انتهاكا غير مقبول للعقائد واليقينيات الموروثة المسيطرة على وعينا كحقائق مطلقة منذ قرون.
سوف يكون من التبجح والغرور الزعم أني قادر على تلخيص مشروع أركون عن «نقد العقل الاسلامي» في أطروحات معدودات! فهذا أمر لا تتسع له مقالة واحدة ولا حتى عدة مقالات. كل ما سأفعله هو الاقتراب من بعض الأفكار الأساسية التي بلورها عن التراث الإسلامي طيلة أربعين سنة من التدريس في مختلف جامعات العالم من السوربون، إلى اكسفورد، إلى برنستون، إلى شيكاغو، وحتى طوكيو والهند وبكين والصين.. لكني أعتقد أنه لو عُلّقت أطروحات محمد أركون على أبواب المساجد الكبرى للعالم الإسلامي لأحدثت نفس الضجة أو الفرقعة التي أحدثتها أطروحات مارتن لوثر عندما علقت على باب كنيسة روتنبرغ عام 1517! ولربما اهتز العالم العربي من أقصاه الى أقصاه.. صحيح أن عصر أركون لم يعد عصر لوثر، وأن الفرق كبير بين الزمنين والأطروحتين، لكن هناك تشابها من حيث الحماسة الاقتناعية والإخلاص العميق والطاقة التفجيرية أو الثورية لدى كلا الرجلين. واذا كان لوثر هو المصلح الأكبر للمسيحية في القرن السادس عشر فان أركون هو المصلح الأكبر للاسلام في عصرنا الراهن، مع فارق أساسي هو: ان حلول لوثر لم تعد كافية وانما ينبغي ان نضيف اليها كل ما جاء بعدها، أي لاهوت التنوير وما بعد التنوير او فكر الحداثة وما بعد الحداثة. كانت أطروحة أركون الأساسية التي ناقشها عام 1969 في السوربون تقول ما يلي.
القطيعتان الكبيرتان
لقد وُجد في القرنين الثالث والرابع للهجرة، أي التاسع والعاشر للميلاد، تيار إنساني وعقلاني عربي – إسلامي. وقد تجسّد في شخصيات فكرية وأدبية كبرى كالجاحظ، والتوحيدي، ومسكويه، وأبي الحسن العامري، وابن سينا، والفارابي، وبقية الفلاسفة والأدباء الكبار. وهذا التيار يختلف كثيراً عن التيار الدوغمائي للعقل الديني السائد على طريقة الفقهاء المعادين لعلم الكلام والفلسفة. فمسكويه مثلاً كان يعتنق فعلاً العقلانية النقدية على طريقة الفكر الإغريقي. وكانت فلسفة أرسطو تشكل مرجعية كبرى بالنسبة إليه مثل التراث الديني القرآني تقريبا. لكن تبقى الغلبة في نهاية المطاف للقرآن الكريم بالطبع لأنه وحي الهي في حين ان الفلسفة كلام بشري. هذا هو منظور ذلك الزمان: أقصد منظور القرون الوسطى، سواء في الناحية الاسلامية او في الناحية المسيحية. في ذلك الوقت كانت الفلسفة خادمة لعلم اللاهوت الذي يعتبر أشرف العلوم وأعلاها شأنا. لكن هذا الموقف الإنساني أو الفلسفي البعيد عن التعصب أو الانغلاقية المذهبية والطائفية اختفى من الساحة العربية – الإسلامية بعد القرن الحادي عشر وهيمنة السلاجقة الاتراك على مقدرات العالم العربي والاسلامي. وكان ذلك على إثر قرار اتخذه الخليفة القادر عام 1020 وحرّم فيه فكر المعتزلة وأباح دمهم. ومعلوم انهم من اكثر المذاهب عقلانية في الاسلام. ثم تمت تصفية الفلسفة في المشرق بعد رد فعل الغزالي العنيف عليها ولم تقم لها قائمة حتى مطلع القرن التاسع عشر والاتصال بالفكر الأوروبي. وبعد أن صُفِّيت في المشرق انتقلت إلى المغرب وإسبانيا وانتعشت لفترة أخرى من الزمن على يد ابن الطفيل وابن باجة وابن رشد وسواهم، وذلك قبل أن يُقضى عليها هناك أيضاً قضاء مبرما. وهكذا انتهت المرحلة الكلاسيكية المبدعة من عمر الحضارة العربية – الإسلامية، ودخلنا في مرحلة الجمود، أو التكرار والاجترار لعدة قرون. وهي ما يدعى عصر الانحطاط الذي انقطع عن الابداع الفكري السابق ودخل في مرحلة التكرار والاجترار والجمود. وعندئذ حصلت قطيعة معرفية مؤسفة في تاريخنا بين العصر الذهبي، وعصر الانحطاط. هذه القطيعة يركز عليها اركون كثيرا ويعتبر ان نتائجها كانت كارثية على الفكر العربي والحياة الاسلامية ككل. فبدءا من تلك اللحظة انتقل مشعل الحضارة الى اوروبا ودخلنا في ظلمة كثيفة مطبقة لم نقم منها حتى الآن. كما دخلنا في عصر الطوائف المنغلقة على ذاتها كالقلاع المحصنة والكارهة لبعضها البعض بل المكفرة لبعضها البعض. وبالتالي فلا يُدهشنَّ أحد إذا كانت الحركات الأصولية المتزمتة هي التي تسيطر على الشارع العربي اليوم. فالعكس هو الذي ينبغي أن يدهشنا، وذلك لأننا وَرَثة هذا التيار المنغلق الذي انتصر عملياً منذ القرن الثالث عشر ـ أي بعد موت ابن رشد عام 1198- ولسنا ورثة تلك المرحلة الكلاسيكية والعقلانية المبدعة التي تنهض مرحلة الانحطاط كحجاب حاجز يحول بينها وبيننا فلا نعود نراها. لذلك يعتقد الكثيرون انه لا يوجد تفسير للاسلام غير تفسير بن لادن والظواهري والسلفيين المتزمتين. فمن كثرة ما سيطر هذا الفهم الحنبلي الوهابي الظلامي للاسلام على العقول لم نعد نصدق انه يوجد تفسير آخر سواه. بل أصبح البعض يعتقد ان الاسلام دين مضاد للعقل! وهذا من اكبر الأخطاء. فالاسلام هو دين العقل بامتياز اذا ما فهمناه على وجهه الصحيح: أي كما كان يفهمه ابن مسكويه والتوحيدي والفارابي وابو الحسن العامري وابن رشد وكل الكلاسيكيين الكبار. نعم إن هزيمة الفكر في الساحة العربية – الإسلامية تعود إلى ثمانمئة سنة خلت، وليس إلى الأمس القريب أو ما قبل الأمس. من هنا صعوبة المواجهة الجارية حاليا مع الاصولية والاصوليين او السلفية والسلفيين. فأنت تناضل ضد قرون من الانحطاط والجمود لا ضد عشر سنين او عشرين سنة.
المسألة قديمة جداً ومتجذّرة في أعماق أعماقنا. أقصد مسألة الانحطاط والجمود التاريخي. وبالتالي فإن النهوض لن يكون عملية سهلة أو ميسورة. فمن نام مدة ألف سنة على التاريخ أو الحضارة فلن يستيقظ بسهولة، أو بين عشية وضحاها. يضاف إلى ذلك أنه لا يكفي أن نستعيد تلك الفترة الكلاسيكية الخلاقة ونعمّم كتب مسكويه، والتوحيدي، والجاحظ، والفارابي، وابن سينا، وحتى ابن رشد بعد تبسيطها على مختلف المدارس الثانوية والجامعات العربية كي تنحلّ المشكلة. لا ريب في أن ذلك مفيد وضروري، وقد يعيد لنا الثقة بأنفسنا لأننا نكتشف عندئذ أنه كان لنا أسلاف كبار يفكرون بشكل عقلاني وينتجون حضارياً وإنسانياً. كما أنه يكشف لنا عن وجود تيار آخر في تراثنا الإسلامي غير تيار التزمت والتعصب، تيار طُمس وحُجب، بل كُفّر، طيلة عصر الانحطاط وموت الفلسفة. بل انهم لا يزالون يكفرونه حتى الآن. فمن يجرؤ على الاستشهاد بأقوال الفارابي وابن سينا وابن رشد في كليات الشريعة او في حضرة المتدينين؟ بل حتى على شاشات التلفزيون تجد صعوبة احيانا في الاستشهاد بهم؟ انظر الفضائيات العربية وكيف تبث الفكر التقليدي الظلامي على مدار الساعة.
لكن ذلك على عظمته لا يكفي. لماذا؟ لأن التراث العربي – الإسلامي كله بما فيه الفترة المبدعة والخلاقة منه ينتمي إلى ما ندعوه ابستمولوجيا: الفضاء العقلي القروسطي. بمعنى آخر فإنه ينتمي إلى مرحلة ما قبل الحداثة. فهذه الحداثة الأوروبية التي تشكلت في القرن السابع عشر على ايدي غاليليو وديكارت وهوبز وسبينوزا، ثم في القرن الثامن عشر على ايدي فلاسفة التنوير كفولتير ومونتسكيو وروسو وكانط وسواهم، لم يساهم فيها الفكر العربي أو الإسلامي بذرة واحدة! بل إنه لم يطلع عليها، أو لم يأخذ علماً بها، إلا بدءاً من القرن التاسع عشر عندما أخذ محمد علي يرسل البعثات العلمية إلى فرنسا. وهنا نجد أنفسنا أمام قطيعة ثانية أشد هولا وخطورة من الاولى: انها قطيعة الفكر العربي مع الفتوحات الكبرى للحداثة العلمية والفلسفية، بل حتى اللاهوتية. فهو لم يسمع بها حتى الآن او قل لم يستوعبها. وهي حداثة راحت تتشكل تدريجا في اوروبا منذ القرن السادس عشر حتى اليوم. حول هاتين القطيعتين الكبيرتين تركز جانب كبير من فكر محمد اركون الذي غادرنا فجأة وبدون استئذان.
(كاتب سوري يعيش في باريس عرّب 13 كتاباً لأركون)
السفير الثقافي
المقاربـة الملتبسـة للإسـلام
احمد زين الدين
بذل المفكر الراحل الدكتور محمد أركون جهوداً فلسفية مضنية للإضاءة على خطاب الإسلام الحديث، بأشكاله الأصولية ومعتقداته التخييلية والميتولوجية. وتفحّص عن كثب، مفاهيمه المتداولة ومصطلحاته الموروثة والمكتسبة. وحاول أن يطرح الإشكالية الإسلامية في سياق الحداثة. بيد أن مواقفه وتفسيراته وتصوراته ما انفكت مثار جدال وخلاف بين من يعدّه راديكالياً وليبرالياً في فهمه للإسلام، ومن يحسب أنه في موقف ملتبس لم يحرره من منطق الإسلام الكلاسيكي، وإنْ استخدم في معظم دراساته الأدوات النقدية الغربية، واستند إلى مناهجها التفكيكية. وهذا الالتباس، أو المنزلة بين المنزلتين، مرده في الكثير من الأحيان، اعتقاده أن العقل العربي الإسلامي المعاصر، غير قادر على استيعاب فكرة التطور خارج النماذج التاريخية التي عاش في فضاءاتها، أو نشأ عليها. لذلك استبدل عنوان كتابه الأساسي الذي ترجم إلى العربية من الفرنسية، وهو critique de la raison islamique ، أي «نقد العقل الإسلامي» «بتاريخية الفكر العربي الإسلامي»، لتجنّب ردة فعل القراء العرب والمسلمين إزاء ما يحمله العنوان، من تبخيس في العقيدة، قبل أن يعيد، بعد ربع قرن تقريباً العنوان الأصلي للكتاب. وغالباً ما كان حريصاً على أن يحتاط في آرائه، لا سيما في قضايا تقدح في المعتقدات الإسلامية الشائعة، حتى أنه اتهم في قضية سلمان رشدي بالتواطؤ مع الأصولية الإسلامية، عندما نافح في مقال لصحيفة اللوموند الفرنسية عن حق المسلمين في الاعتراض على من يطعن بالوظيفة النبوية، الموجودة في جميع أشكال لاهوت الوحي. بل إن مواقفه عامة من الحداثة العلمانية الأوروبية يشوبها الكثير من التوجس، وهو ينتقد غياب البُعد الغيبي كمنظومة مرجعية في الفكر الأوروبي الحديث.
ويرى، وهو الذي لا يستبعد الوظيفة الهامة للمتخيل الأسطوري في حياة الجماعة، ان معظم التيارات السياسية الحديثة كالاشتراكية والليبرالية والرأسمالية تيارات دينية بشعائرها وأنظمتها المعرفية وقناعاتها. ولأن الأمر على ما هو عليه، لذلك يحض على إعادة النظر في دور العلمانية في الإسلام، وإعادة دمجها في سيرورة اجتماعية واقتصادية لمصلحة المعوزين والمهمشين، لكن هذا التذبذب يظل من سمات الفكر الأركوني الذي يقف دائماً بين حدين، يجعله في نظر الباحثين غارقاً في حالة من الغموض المقصود الذي يحجب حقيقة هذا النحو من الإسلام المحدث. وفي قضية شائكة مثل الحركة العلمانية، يسعى الى الانتقال من العلمانية الغربية الراديكالية التي حررت العقل باستبعادها المعتقدات الخيالية، وانتصارها للمعرفة الوضعية والتاريخانية المنفصلة عن الوعي الأسطوري، التي قضت على اللاهوت، إلى علمانية إسلامية مفروضة بحكم التطور الاقتصادي والسياسي والتكنولوجي. لكنها علمانية لا تتنكر للسمو الديني، ولا للرمزية الدينية.
ومع هذا لعب محمد أركون دوراً أساسياً من خلال مترجمه، وأحد حوارييه هاشم صالح، لا يمكن التغاضي عنه، أو تجاهله، أو الاستخفاف به، وهو إثراء الفكر العربي الحديث بمصطلحات ومقتبسات غربية حديثة، ذات أصول فوكوية أو دريدية، أعاد تطعيمها في صلب المتن العربي الحديث، مثل اللامفكر به، والعلاقة بين الخطاب التاريخي والخطاب التيولوجي، والمقاربة السيميائية، حيث يأخذ المفكر الراحل بعين الاعتبار الدور الذي تلعبه شبكة العلامات والرموز والأشكال والإشارات والأزياء، في تأسيس نظام معنوي ورمزي ينبني عليه نظام سياسي واجتماعي وحقوقي. وتطبيق علوم الإناسة والمجتمع على دراسة الإسلام، ونقد المفاهيم الاستشراقية، وعلاقة التاريخ بالمتخيل من جهة، وبالحقيقة من جهة أخرى، والبنيان القصصي في الخطاب القرآني. ويقف عند العجيب أو الساحر الخلاب في القرآن، الذي أسف لرميه في الإسلام، كما في المسيحية، داخل دائرة العقائد الخرافية والأدب الشعبي، في حين أن وجود هذا النمط العجائبي، يتيح في نظر أركون متعة الفضول وإشباع الجانب العاطفي لدى الإنسان، ويحوّل المعطيات المحسوسة للتجربة الواقعية الملموسة، إلى دعائم للإشارات الرمزية المدهشة والعجائبية الموجهة لتأسيس دلالة متماسكة للتعالي. وهو في هذا المقام، يرى الى أن العديد من القصص القرآني تبلغ ذروة سيكولوجية، لا تستقبل، حسب عبارته، العجيب المدهش فحسب، وإنما هي تتطلبه كدعامة ضرورية لكل تجربة انفتاح على الكائن والكينونة. وترعرعُ أركون في كنف المجتمع البربري القبائلي المعروف بتدينه الشديد وإسلامه الشعبوي الأوليائي، جعله يراعي هذا الجانب من الإسلام الخرافي، السحري والقصص العجائبية التي تُنسب للأنبياء والأولياء، كرافد شعوري وعاطفي موروث، وقد اعترف للباحث الهولندي رون هاليبر، بأنه ذهب للحج بصحبة أمه إلى ينابيع غازية، ينسب الناس اليها أرواحاً، وزار أشجاراً من الزيتون الضخمة المعمرة التي تسكنها الأرواح، ويتلمّس الناس بركتها. وتركت دراسته في ما بعد، في ثانوية فرنسية علمانية إبان الجمهورية الفرنسية الثالثة، وإقامته في باريس، طابعها المحيّر عليه، من خلال نظرته الملتبسة وقراءته المزدوجة المراوغة للفكر العربي، حيث يحاول التوفيق بين الإطار الثقافي الكتابي للدين الإسلامي الكلاسيكي، الكهنوتي، والإطار الشعبي الشفوي الروائي، والإيمان الذي تهيمن عليه الدلالات العجائبية والغرائبية. ويرى الى أنّ اختزال الإسلام إلى تصوّر وضعي يحوّل المؤمن إلى إنسان لا عقلاني، هو تصوّر خاطئ يقلّص الإيمان ويدمّره.
ويمكن اقتفاء الخطوات المنهجية الأولى لمحمد أركون، في كتابه في «الفكر العربي»، الذي صدر في اوائل الثمانينيات، حيث اعترف فيه بفضل ميشال فوكو عليه، لا سيما دراسته عن «اركيولوجية المعرفة»، كما سبق لإدوارد سعيد في كتابه «الاستشراق» ان أقرّ بهذا الفضل ايضاً، وقد غلب على كتاب أركون في ضوء المصطلحات الفوكوية، التنقيب عن النسق المستتر وراء المفاهيم والتصورات الشائعة بوصفها تشكل قواعد وأسساَ لتكوين المعرفة الموجهة لأفكار أي عصر من العصور، وقد أبرز أركون في هذا السياق مستوى الخلاف بين الخطابين الأوروبي والغربي. فالأول ينحو في رأيه، إلى حل أزمة العقلنة، أما الخطاب الإسلامي العربي فيستعمل في ايديولوجية التحرر والكفاح ضد القوى المستغلة الخارجية والداخلية. ويلاحظ أركون في المجتمع العربي ـ الإسلامي ضرورة الاستجابة لتحديات الحياة الحديثة، لكنه يشير إلى صعوبة الانفتاح على الحداثة المادية والعقلية التي تميل إلى نزع القداسة عن المجتمع، مع المحافظة في الآن عينه، على النظام التقليدي ومسلماته المعرفية، ومعاييره الفكرية والعقائدية، وهو يدعو عموماً في معظم دراساته، إلى الخروج من السياج الدوغمائي المغلق الذي يقاربه ليعي، كما يقول، سر رسوخه وتوسعه وديمومته منذ أربعة عشر قرناً حتى اليوم. وهو يصل من طريق المقارنة، وبالتعويل على منحى ماكس فيبر، إلى أن الغرب إذا توصل إلى تفتيت هذا السياج الدوغمائي الديني الغيبي الذي كان يحيط به، بدءاً من القرن السادس عشر، فلأن البورجوازية التجارية الرأسمالية، هي التي عملت على الخلاص من هذا العائق، الذي كان يحول دون طموحها المادي والسياسي المنشود. في حين غابت عن الحيز الإسلامي العربي الطبقة الاجتماعية القادرة على تحريك التاريخ وتوجيهه، بما يشبه الدور الذي لعبته البورجوازية في الغرب، والذي يساعدها على التحرر من الهيمنة الدوغمائية. واركون يلقي على عاتق رجال الدين المسلمين مسؤولية هذه المراوحة، لأنهم لم يستطيعوا الحصول على استقلالية فعلية تحررهم من قبضة الحكام، ولم يستطيعوا بلورة نظرية نقدية متماسكة للروابط ما بين السيادة العليا الروحية والسلطة السياسية التنفيذية.
السفير الثقافي

العبــور الضــروري من بوّابة الأبستمولوجيات الحديثة
انطوان سيف
لا يملك المرء إلا أن يضبط انصدامه وألمه المضاعف والمتراكم من هذه المصادفة السيئة الطالع للغياب المكثّف وشبه المتزامن، لغياب ثلاثة من أبرز المفكرين العرب المعاصرين: محمد عابد الجابري، ونصر حامد أبو زيد، ومحمد أركون، بوتيرة مسافة شهرين متعاقبة بين الواحد والآخر من هذه السنة نفسها. ثلاثة احتلوا واجهة المشهد الثقافي العربي الراهن من خلال تعقُّبهم أحوال العقل الإسلامي، على مدى تاريخه وبمختلف مسمياته، وكرَّسوا لدراسته عمرهم بكامله، تاركين مؤلفات عدة باتت ـ على تنوُّع مناهجها واختلاف تطلعاتها ومطامحها ـ جزءاً أساسياً من الفكر العربي المعاصر. وقد لا تخلو هذه المصادفة من تأويلات حول أفكار الاقفال واسدال الستار ونهاية مرحلة وبداية أخرى، غافلة عن حقيقة ان للسيرة الذاتية لكل منهم ـ في خضم المتغيرات الكبرى التي عايشوها ـ مساراً «لمراحل» عدة داخل هذه السيرة الذاتية عينها! نهر الأفكار المتعرِّج، والمتخفِّي في الغالب، اتخذ تسمية تاريخ التأريخ الذي كان دأبهم في الحقل الذي اختاروه ميداناً لتجاربهم في المعرفة.
إلا ان أركون يبقى من بين الجميع ذا خصوصية فريدة في اهتمامه الأساسي بموضوعات الإسلام الذي ينتمي إليه إيماناً وفكراً وحضارة، كان يقطن في عقر دار الحداثة، في أوروبا، منتمياً إليها (الانتماء المزدوج)، متقناً إحدى أبرز لغاتها، مرافقاً ديناميتها الدائبة على توكيد ذاتها بوصفها الرافد الأبرز للثقافة العالمية الحديثة. من هذا الموقع، ومن التزامه الذاتي بالتحرر والتجاوز كان الرائد في الرهان على الأبستمولوجيات الحديثة التي شهدتها أوروبا بعيد نهاية الحرب العالمية الثانية، على تجديد الفكر الإسلامي، وخروجه من سلاسل أسره الممتد أكثر من ألف سنة التي كبَّلته بها «قراءات» مجمدة للتراث الديني، لا تني تعيد ذاتها، على الرغم من تبدَّل كل الشروط الثقافية والاجتماعية التي اقتضتها في مرحلة قديمة من المراحل.
لقد انبرى أركون لشرح هذه الإنجازات المنهجية المعاصرة على تنوُّع ميادينها وعلومها الإنسانية. وككل الثوار الحقيقيين الناصعين، كان أركون متحمساً لها من غير حدود، مؤمناً بحرق مراحل الانحطاط الحضاري العربي والإسلامي بمزاولتها. لم ينحز إلى حقل معرفي أو إلى منهج من دون آخر، ولم يغرق في سجال لاختزال بعضها من دون بعضها الآخر، «آلف» بين المدارس الابستمولوجية المتباعدة لا بل المتنافرة، وضمها معاً للافادة منها جميعها، متوِّجاً تنوُّعها بالرؤية الفلسفية (غير المعنية في مذهب، أو مذاهب محددة) الجامعة.
كان أركون مدججاً بجبهة حداثوية واسعة، لتطبيق مبدأ التماثل الذي يقوم على «الأنسويَّة» الشاملة، والتي لها (ليس فقط في الغرب المعاصر، أو في فلسفات سابقة وقديمة) حضور في الثقافة العربية الإسلامية، نموذجه الأبرز مع أبي حيَّان التوحيدي من القرن الرابع الهجري (الذي قال عنه أركون، في حوار له مع منشور «الشروق»، في الكويت 23/2/2009: «تأثري الوحيد كان بأبي حيَّان التوحيدي الذي اعتبره أخي التوأم، ويمكن ان يحرقوني معه، فلا أعترض»). فالأنسوية، أو الإنسانوية، هي المفهوم القاعدي للأنثروبولوجيا (التي تعني أثيمولوجيا: علم الإنسان)، والتي تقوم على وحدة الإنسان، والجنس البشري، ووحدة العقل الإنساني في الزمان والمكان وفي كل الأعراق، وبالتالي في أن معالجة أزماته، وصوغه تطلعاته، لها أبستمولوجيات واحدة. إن صلحت هنا، فلا بد من ان تكون صالحة ثمة مع بعض التكييف.
لذا لم يقم أركون سدوداً بين الحضارات رغم خصوصياتها، ولم يقف موقفاً أيديولوجياً ضد بعضها أو انتصاراً لبعضها الآخر (ومنها بالطبع حضارتنا)، ولم يقف ضد الاستشراق مثلاً لأسباب أيديولوجية، بل لأسباب أبستمولوجية منها ان المستشرقين الأوروبيين الذين يحبذون تطبيق الأبستمولوجيات الحديثة على مجتمعاتها، لا يطبقونها، ولم يطبقوها في السابق، على ثقافات الشرق المدروسة (العربية والإسلامية)!
ومن هذا المنظور الأنثروبولوجي الثري والشامل والإنسانوي راهن أركون، وكان السباق بين العرب والمسلمين في ذلك، على ان النهضة الجديدة المأمولة في العالم العربي والإسلامي، التي تنطلق من اصلاح التربية وبرامجها ومناهجها، يجب ان تتضمن مادة تدريسية أساسية في المدرسة والجامعة، هي «علم الأديان المقارن» الوحيد القادر على تعميق الفهم للوحي وإرساء السلام بين البشر، أي المساواة الإنسانية.
لقد ذهب أركون إلى حد تطبيق هذه الأبستمولوجيات الحديثة، مفاتيح الحداثة وبوَّابتها التي لا بديل منها، على كل النصوص بدءاً من النص القرآني التأسيسي للإسلام، واضعاً بذلك حداً لتراث التفسير القديم الذي بات خارج التاريخ. لذا كانت مقولة «التاريخانية»، أي فهم كل إنتاج بشري في إطار ظروفه التاريخية الفريدة، مدخلاً لتحديث فهمنا للتراث، أي جعله في متناول «وضعنا» الإنساني الفكري، أي انتشاله من غربته عنا.
هذه الأفكار الأركونية، في المنهجيات وفي التطلعات، كانت أشبه بدروس وأمثولات لنخبة إسلامية (وعنده، هي ضمناً وغالباً، عربية) تقوم هي بهذه المهمة الثقافية: فهو لم يفعل كثيراً لتطبيقها في قراءات موسَّعة، بل مضخمة التراث؛ حسبه أنه قدم نماذج نوعية معبرة عن فرادتها وجذريتها التغييرية المتفائلة.
ساءه كثيراً ـ لا الوقوف بمواجهة أفكاره، فهذا كان يتوقعه، ومن الأوساط التي يعرفها ـ بل من الذين «تتلمذوا» على يده في دروس الأبستمولوجيا علناً وسراً ـ وجحدوا بمراميه واتهموها واتهموه! اتهموه بأنه مستشرق، لعدم كتابته بالعربية بل بالفرنسية، على الرغم من معرفته الدقيقة بالعربية شفاهة وقراءة (وفي هذا المجال قال متألماً قبل وفاته بفترة وجيزة «يتهمونني بالبربرية وبمعاداة العربية رغم انني أفنيت عمري لإثرائها»). واتهموه بمعتقده وإيمانه… وكلها من بضاعة أزمنة الهزائم والتراجع.
في آخر طلاته الفكرية (إصداره كتابين عام 2010) أسرَّ بخيبته من «الإصلاح» و«الجهاد» الجديد… وقال مقولة جديدة هي «الهدم سيبني عليها إكمالاً»، بالقطع، لرؤاه. دلالتها مثيرة، ومضامينها لن تبوح بمفاصل انقلابه الأخير…

مغامـرة النقـد الصـارم حتــى النّهايــة
كرم الحلو
برحيل محمّد أركون، ينطوي رمز كبير من رموز النقد الثقافي في الفكر العربي المعاصر، فهذا النقد الذي أخذ يتشكّل منذ سبعينيّات القرن الماضي أعاد الاعتبار إلى المسألة الثقافيّة بوصفها مكمن العلّة في المأزق النهضوي العربي، حيث توجّه عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري ومحمد أركون وأدونيس وهاشم صالح وغيرهم إلى نقد الأبنية الثقافيّة العربيّة التاريخيّة التي هي في نظرهم الأساس الفعلي للمحنة الحضاريّة العربيّة، بهدف تأسيس رؤية عقلانيّة للإنسان والمجتمع والتاريخ، متحرّرة من اليقينيّات السائدة، منفتحة على كلّ الأسئلة التي اعتبرت حتى الآن في عداد الممنوع التفكير فيه، رؤية تجد في الثقافة، الإجابة الحاسمة عن السؤال النهضوي المؤجَّل: لماذا تأخّر العرب وتقدّم الآخرون؟
إن جمود الأبنية الثقافية العربيّة في منظور روّاد هذا الخطاب هو مصدر الشلل الحضاري للمجتمع العربي وتعطّل فاعليّته في إنجاز حراك إيجابي يؤول به إلى وضعيّة حضاريّة جديدة. ومن دون تغيير هذه الأبنية المتكلّسة المفارقة للواقع والعصر يستحيل تخطّي الوضع الحضاري العربي المأزوم و«المهزوم».
في هذا الاتجاه ذهب أركون، إذ إن الحراك الثقافي الذي يلغي الأبنية الثقافية العربية الماضويّة السائدة في منظوره يمثّل شرطاً ضرورياً للحراك الاجتماعي الإيجابي. إنّه لمن الواضح، كما يقول، «أنّه إذا لم نتحرّر من التصوّر اللاهوتي القروسطي، فإنّنا لن نستطيع أن نتحرّر على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو الأخلاقي أو حتى الاقتصادي، لذلك فإنّي أكاد أقول ان تحرير الأرض مرتبط بتحرير السماء». فالعقل في أوروبا قد أخذ يقلع حضارياً بدءاً من القرن السادس عشر أو السابع عشر، منطلقاً على أسس جديدة غير تلك التي كان يعرفها سابقاً. بدءاً من تلك اللحظة أخذت أوروبا تتفوّق على العالم الإسلامي.
من هنا كان نقد أركون لـِ»العقل الإسلامي» الذي ينضوي تحته «العقل العربي»، بما هو «عقل ديني أو لم يتجاوز بعد المرحلة الدينية من الوجود». هذا العقل هو قواعد وتصوّرات ومبادئ فاعلة في الواقع الاجتماعي منتجة له، الأمر الذي لا بدّ من مواجهته بثورة فكريّة «يجب أن تذهب إلى أعماق الأشياء وتغيّر منظورنا جذرياً للتراث فتجعله قوة تحريريّة تساعدنا على الإقلاع والانطلاق الحضاري، بدلا من أن يبقى قوة معيقة تشدّنا إلى الخلف في كل مرّة».
في هذا الإطار، دعا أركون إلى مراجعة نقديّة صارمة للعقل الإسلامي، مراجعة بطوليّة للماضي والحاضر على السواء ينبغي ألا تهمل أي ترسُّب أو أيّ عقبة من العقبات المتراكمة على مرّ العصور. كل المشاكل والأضابير المغلقة ينبغي أن تُفتح ويحفر عليها أو يُحفر حولها. كل المعارف الخاطئة المجترّة بشكل تواكلي على مرّ العصور ينبغي أن تُعرّى وتُدان. كلّ الأساطير التي يتعلّق بها الناس كأنّها متعالية أو مقدّسة ينبغي أن يُكشف عنها النقاب. باختصار، ينبغي تغيير كلّ شيء من أساسه.
وهكذا دعا أركون إلى إخضاع الظاهرة الدينيّة كما الحداثة للتفحُّص النقدي لرهانات المعنى التي تزعمان امتلاكها وعلاقتها بإرادات الهيمنة التي تحوّل المعنى إلى نظام هيمنة وسيطرة، ما وضعه في مواجهة مع الفقهاء واللاهوتيّين الذين يزعمون أنّهم هم وحدهم القادرون على استخراج المعنى الحقيقي أو الصحيح من النصوص، كما فعلت الأنظمة الميتافيزيقيّة عندما توهّمت أنّها توصّلت إلى المعنى الكلّي. أمّا اليوم، فلم يعد أحد يقتنع بوجود معنى كلّي، نهائيّ وأخير، ولم يعد أحد يستطيع أن يدّعي أنّه يمتلكه.
لكن أرخنة معرفتنا للماضي، المكتسب العلمي الذي حققته الحداثة، لا يزال يشكّل «اللامفكّر فيه» بالنسبة للفكر الإسلامي المعاصر الذي لا يزال مسجوناً داخل سياج دوغمائي مغلق ينْزع التاريخيّة عن النصوص التأسيسيّة والشخصيّات الكبرى للإسلام، لكأنّ ثمة استمراريّة ابستمولوجيّة بين أول تبلور لصيغة الإسلام في القرون الهجريّة الأولى، وبين الصيغة التي يتّخذها الخطاب الإسلامي الأصولي السائد حالياً. فالتدجين الاجتماعي للفرد الإسلامي لا يزال مستمراً كما كان منذ 1400 سنة. أنماط الإدراك والتصوّر، وأنماط المحاجة والتأويل ورؤية العالم لا تزال هي هي. بهذا المعنى يمكن التحدث في رأي أركون عن «أبستميه» أصولي مدهش في إستمراريّته وطول أمده وقدرته على الانبعاث والتجييش حتّى في زمننا هذا.
على هذه الخلفيّة الإيديولوجيّة بنى أركون موقفه العلماني الذي لا يعني بأيّ حال إغفال دور الدِّين. فالأديان قدّمت إلى الإنسان الأجوبة العمليّة في ما يخصّ علاقتنا بالوجود والآخرين، بل حتى الكون كلُّه وفي ما وراءه. والوحي عامل تاريخي تنبغي دراسته بكل قوته وتأثيره على المسار التاريخي للشعوب والثقافات وأنظمة الفكر. إن الفلسفات التي تحذف الظاهرة الدينيّة من ساحة اهتماماتها ليست فلسفات علمانيّة بل علمانويّة، أما الموقف العلماني فيشكّل «موقفاً للروح أمام مسألة المعرفة»، لا يتناقض بالضرورة مع الدين. بهذا يضع أركون الموقف الديني والموقف العلماني على مسافة متساوية، ولا مبرّر في رأيه للأوضاع الصراعيّة بين الموقفين أو استبعاد أحدهما للآخر، إذ إنهما «مرتبطان بانشطار عميق يتموضع داخل الإنسان نفسه».
لم يلقَ مشروع أركون النقدي أصداء إيجابيّة إلاّ في أوساط النخبة المثقفة العلمانيّة، وقد تحدّث هو بالذات عن فشل مؤلّفاته في المجتمع العربي الإسلامي، وكان يدرك منذ البدء صعوبة مهمّته إذ إنّ كلّ خطاب بشريّ ينطوي في رأيه على إرادة القوة: «كلّما كان فكري قويّاً وقادراً على احتلال مساحة واسعة من منطقة المعنى، كان ردّ الفعل ضدّي عنيفاً، وإذا وصلت انتقاداتي إلى الدائرة الأسطوريّة لحكايات التأسيس، فإنّ الحرب «المقدّسة» أو «العادلة» أو «الشرعيّة» سوف تُشنّ عليّ فوراً».
يتفهّم أركون الأوضاع الديموغرافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة للمجتمعات الإسلاميّة المعاصرة الرافضة خطابه، بقوله: «لو أن الأطر السائدة في العالم العربي أو الإسلامي متقبّلة للفكر النقدي، لكانت كتبي تناقش في كلّ الأوساط وليس في أوساط النخبة المثقّفة فقط». والأدهى، أن أركون واجه في الوقت نفسه التهميش والإحباط في الغرب، حيث يجد المثقف النقدي الإسلامي نفسه مسجوناً داخل قمقم إسلامي، وينظر إليه كمسلم تقليديّ مرفوض ومرمي في دائرة عقائده الغريبة. لكنّه في وطنه يواجه موقفاً عدائيّاً أشدّ صعوبة يتمثّل بالتكفير والسجن والتصفية الجسديّة، ما يضطره للاندماج في الخط السائد وتقديم التنازلات وحتى التخلّي عن خطّه النقدي الحرّ في التفكير والكتابة.
لقد كان محمد أركون مثقفاً نقدياً أكاديمياً رصيناً وشجاعاً، خاض مغامرة النقد حتى النهاية، وإن لم تجد كتاباته النقديّة الانتشار والتأثير اللذين توخاهما في حياته، فإنّ التاريخ سينصفه كرائد من روّاد الحداثة العربيّة ساهم في تأسيسها فكرياً ودينيّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً.

السفير الثقافي

كرّس فكره لتأسيس مشروع عربي إسلامي حداثي وعقلاني
طيب تيزيني
تتوالى الخسائر الكبرى، التي يُمنى بها الفكر العربي منذ بضعة شهور، مُفضياً إلى هزات مفصلية تتمثل في خسائره لعدد من المفكرين العرب البارزين حقاً. فلقد توفي المفكرون الثلاثة محمد عابد الجابري ونصر حامد أبو زيد ومحمد أركون على نحو مأسوي. لم تفصل وفاة الواحد منهم عن وفاة الآخر إلا شهور ضئيلة، فظل خط الأسى يتصاعد، إلى أن وصل نهاية الثّلاثية الأولى. ويجيء ذلك في أحوال تعاظم الأسى العربي ومعه تعاظم الحطام العربي. وفي فلسطين والعراق ولبنان وفي جيوب عربية أخرى يكاد طلائع المفكرين والمثقفين والكتاب والقراء العرب، ومعهم كل من يقوم بدور إبداعي تجديدي لهذا أو ذاك من أنساق الثقافة العربية، يفقدون كل حين وآخر من النساء والرجال العرب الذين كرسوا حياتهم للثقافة العربية الوطنية والعقلانية والديموقراطية. لقد كان الموت كما كان دائماً: أن يغتال الناس كيفما جاءت الأمور. ولكن حين تلم جائحة الموت بالحياة ، فإن اضطراباً يكون قد أخذ يخترق الحياة، دون أن تكون هنالك موانع في وجه الموت؛ نعني هنا، الموت الذي يحول دون الوصول إلى عمل جامع كبير يلم صناع الكلمة والثقافة العضوية.
وفي هذه الحال، ضروري أن ندرك أهمية أن يولد مفكر في وطن أو أوطان يُراد لها أن تُقصى من مسار الحياة الخلاق. وفي التقليد العالمي والعربي أن ظهور شاعر (أو مفكر) إنما كان يعني مِدماكاً في حياة البشر التواقين إلى المتابعة في مشروع النهوض الحضاري عموماً، بالرغم من تشظي المجموعات العربية الفاعلة في حقل البناء الفكري والثقافي والفني والأخلاقي، في هذه الحال، يكاد الأسى يكون قد لفّ معظم تلك المجموعات تحت وطأة ما لا يحصى من المشكلات والمعضلات، خصوصاً منها اثنتان كبريان تحاصران الوضعية الثقافية والفكرية العربية، هما النظم السياسية الأمنية العربية، التي تسعى إلى تجفيف كل ما ينتج حياة سياسية وثقافية وقضائية صحية، فلقد عممت هذه النظم الفساد والإفساد الإيديولوجي والأخلاقي، وأسقطت منظومة القيم المؤسسة على الحرية والعدل. وهي تسهم في تكريس الدعارة والمخدرات والخيانة؛ هذا بالإضافة إلى تفكيك مفاهيم كبرى مثل الوطن والدولة الوطنية والعلمانية والتقدم التاريخي.
احترام منجزاته
لقد كرس الراحل الصديق محمد أركون معظم عمله الفكري التأسيسي في سبيل مشروع عربي إسلامي يتسم بالحداثة والعقلانية. وكان إلى ذلك بل في مقدمته قد اشتغل على صعيد البحوث والدراسات المنهجية. وكان كذلك ذا حذر شديد حيال النزعات الميكانيكية في هذه الدراسات، نظراً إلى خصوصيتها المنهجية العربية والإسلامية، على صعيد الفلسفة وعلم الكلام والأنتروبولوجيا وما اصطلح عليه بـ«سوسيولوجيا الإخفاق». وقد اقتحم الراحل مواقف هامة وصل منها إلى اتهام مستشرقين فرنسيين بخيانة البحث العلمي في حقول الدراسات الإسلامية، انطلاقاً من أنهم لم يعمموا ما عرف تحت مصطلح الإسلاميات التطبيقية، مفضلين إبقاءها بعيداً عن النظر من قبل الطلبة العرب في أوروبا، بل كــذلك من قبل الباحثين العرب وآخرين.
كان المفكر الكبير قد وضع يده على رغبة تلك المجموعة من المستشرقين في إقصاء أولئك من التجديد على صعيد المناهج أو الكشوف على صعيدها. فنقدم بذلك مهمة كبرى فككت هذه الأخيرة كمهمة في اتجاه تطوير تلك من طرف، وإدخالها في سياق البحث العلمي في اللغة الغربية، من طرف آخر. وفي ذلك كله كان الأستاذ أركون باحثا كبيراً ومتمرساً في مجمل حقوق الثقافة العربية والإسلامية وفي الحق، لا يصح أن نطرح مهمة إعادة البحث المعمق في تراث المفكر البارز من دون أن تكون هنالك جهود دقيقة من قبل أصدقائه وتلامذته والمهتمين الباحثين لتهيئة كل ما أبدعه وأنتجه الراحل، إضافة الى تعميمه في كل الحقول الفكرية العربية. إن ما تركه أركون للباحثين والمثقفين العــرب يحــتاج إلى عمل مكثف لتقديمه لمراكز البحوث والدراسات، كي يقــدم للطــلاب خصوصاً، كي يفيـــدوا منه بكيفية دقيقة.
وهذا حد أدنى لاحترام منجزات أركون وتقديمه واجباً بالحد الأدنى أمام العلم والحقيقة والوطن.
السفير الثقافي

محمد أركون و’اللامفكّر فيه’في الثقافة الإسلامية
مالك التريكي
كان الأستاذ محمد أركون، الذي انتقل إلى رحمة الله في الرابع عشر من هذا الشهر، مفكرا بصيغة الجمع. فريقا بحثيا في رجل. تصدى بمفرده لقضية أكاديمية جليلة الخطر كان موقنا أنه لا قبل لأحد بها: قضية تأسيس تاريخ جديد للفكر الإسلامي -تاريخ منفتح- انطلاقا من ‘نقد العقل الإسلامي’ الموروث. ونظرا إلى أن هذا المشروع، الذي أطلق عليه اسم ‘الإسلاميات التطبيقية’، هو مشروع شائك وشديد الطموح، فقد ظل يدعو منذ أواخر الستينيات إلى أن تتجند له مجموعة متنوعة من الباحثين حتى تتضافر في إخصابه مختلف المقاربات والإضاءات التي يمكن أن تثمرها العلوم الإنسانية والاجتماعية.
ورغم أن هذه الدعوة لم تلق إلا استجابة محدودة (حيث لا يكاد يكون للأستاذ أركون أتباع أو ورثة موضوعيون إلا في بعض الأوساط الجامعية في تونس والمغرب)، فقد ظل عاكفا طيلة أربعين عاما، في جهد دؤوب متصل، على بلورة هذا المشروع الراديكالي. بل إن ما يدعو إلى الإعجاب حقا هو أنك كلما لقيته وجدته يتقد في سبيل هذه القضية الفكرية حماسة، كما لو أنه قد باشر العمل فيها للتو. وقد حظيت أعمال أركون باحترام بالغ في الأوساط الفكرية الأوروبية والأمريكية ولدى نخبة متخصصة من الباحثين والمثقفين العرب. بل إنه نال في الغرب شهرة لم ينلها أي من باحثي الدراسات الإسلامية العرب سوى نصر حامد أبو زيد. لكنه ظل ينعى على المؤسسات الجامعية والساحة الثقافية في الوطن العربي عدم الاطلاع ولو على بعض من إنتاجه الغزير، ناهيك عن ارتياد ما يفتحه من آفاق فكرية.
ولشهرة أركون في الغرب أسباب. منها أنه استقر في السوربون منذ بداية الستينيات (في تزامن مع استقرار ادوارد سعيد أستاذا في جامعة كولومبيا)، ومنها أنه خاض هو أيضا معركة ضد الاستشراق (ولو أنه فعل ذلك بأسلحة إبستمولوجية – مغايرة لأسلحة ادوارد سعيد- ضد محدودية المقاربات اللغوية والفيلولوجية الموروثة عن القرن التاسع عشر). لكن أهم هذه الأسباب، في رأينا، هو أن إشكالية أركون المركزية (نقد العقل الديني) هي إشكالية مألوفة في الفكر الغربي منذ بداية عصر الأنوار، باعتبار أن التنوير الغربي قد انبنى على التأسيس لمشروعية نقد الدين ونقد السلطة. كما أن النتيجة المنطقية لمشروع أركون (تبيان تاريخية النص القرآني)، مثلما يتضح على وجه الخصوص في كتابه ‘القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني’، هي غاية مقبولة بل مطلوبة لدى الفكر الغربي المعاصر الذي يعدّ كل ‘كتاب’، توراة كان أم إنجيلا أم قرآنا، مجرد نص من تأليف البشر لا بد من فكه وتشريحه بأحدث أدوات العلوم الاجتماعية ومناهجها، أي لا بد من إرجاعه إلى نسبية سياقه الثقافي وظرفية نسجه الإنشائي. وبما أن الفكر الغربي لا يقرّ بأي أفضلية للقرآن الكريم على العهدين القديم والجديد، وبما أنه يستهجن أن يعتقد أي باحث بأفضلية أي من هذه النصوص الدينية على نصوص هوميروس أو شكسبير مثلا، فإن من غير المستغرب أن يرى هذا الفكر في علاقة محمد أركون بالمنظومة الإسلامية تماثلا مع علاقة سبينوزا بالمنظومة اليهودية والمسيحية: أي علاقة قائمة على ‘نزع القدسية’، سواء صح ذلك في حالة أركون أم لم يصح. إذ إن التصورات والانطباعات كثيرا ما تكون، في مثل هذه الشؤون، أشد عنادا من الوقائع والمقاصد.
ولعل أحسن ما يعبر عن الأفق المعرفي الذي كان الأستاذ أركون يرنو إليه هو عنوان ‘اللامفكّر فيه في الفكر الإسلامي المعاصر’ الذي وسم به كتابه الذي صدر بالإنكليزية عام 2002. فقد ظل طموحه يتمثل في البحث عن المطموس والمسكوت والممنوع (إضافة إلى المحرّم الذي كان يحرص على التفريق بينه وبين المقدّس) في صلب الثقافة الإسلامية لأنه يعتبر أن استدامة موروث ‘اللامفكّر فيه’ و’اللاقابل للتفكير فيه’ هي التي لا تزال تحول دون بروز حركة إصلاح ديني وانبلاج فجر نهضة تؤسس لحداثة إسلامية منفتحة. على أن من الجدير بالتذكير أن اللامفكر فيه موجود في كل الثقافات، مثلما بيّن قبل حوالي ثلاثين عاما أبرز نقاد الثقافة الأمريكية، نعوم تشومسكي، في مقال بديع شهير بعنوان ‘حدود الفكر الممكن التفكير فيه’.
القدس العربي

قراءة النص الديني عند المفكر الراحل محمد أركون
عبدالمجيد خليقي
تتميز المنهجية (القراءة) الأركونية في الدراسات الإسلامية بسمات عدة: أولاها انطلاقها من مكتسبات الحداثة الغربية، ومحاولتها ثانياً تقوية الوظيفة النقدية للعلوم الاجتماعية من خلال تطبيقها على التراث الإسلامي. وهذه القراءة تختلف عن القراءات السائدة في الشرق والغرب، قديماً وحديثاً لأنها تتسلح بالنقد، وتنقب في طبقات التراث لاستخراج مكبوته ولا مفكّره، كما إنها تتوجه كذلك الى الحداثة الغربية لتبرز مناقبها ومثالبها موظفة أداة أو آلية دعاها أركون “بالإسلاميات التطبيقية” من جهة و”الإسلاميات القانونية” من جهة أخرى.
فالأولى تروم دراسة التراث وفق منهجية حفرية تطال المكتوب والمُقال والمُعاش، كما تتوجه الى الإسلاميات الكلاسيكية لنقدها وإبراز محدوديتها.
أما الإسلاميات القانونية، فهي أداة تنصبّ بالنقد أساساً على العقل التشريعي، لأنه دعامة العقل الإسلامي في صيرورته الى الآن. كما تنتقد كذلك المنظومة الحقوقية الأوروبية الحديثة، عبر عقد مقارنة بينهما، بغاية إبراز كل الانحرافات الأسطورية المنطقية التي تعرّض لها العقل هنا وهناك.
ويبدو من الصعب الحديث عن القراءة الأركونية من دون الانخراط في تحليل موضوعها وهو العقل، لأن العقل عند أركون يختلط فيه الموضوع بالمنهج. ومن هنا صعوبة ضبط المشروع الأركوني في كل جوانبه. فالموضوع يكشف عن نفسه من خلال المنهج، كما إن نضج هذا الأخير وتبلوره يعود الى الموضوع. وهكذا، وبناء على هذا المطلب، لا مندوحة لنا من التعرض الى المتن أثناء تعرّضنا للجانب المنهجي في المنظومة الفكرية الأركونية.
لقد أفلحت القراءة الأركونية في فتح ورشات عديدة، جعلت المتلقي يتحمس لها ويعمل على الانخراط فيها، سيما وأن فتح إضبارة الماضي الإسلامي ينطلق من هموم الحاضر، والمتمثل في السؤال المركزي الذي أرّق ويؤرّق أركون: كيف نقرأ الإسلام اليوم؟ هل الإسلام شيء والمسلمون شيء آخر؟ وكيف يجب على المسلم اليوم أن يتكيّف مع معطيات الحداثة الغربية؟
ولاحظ أركون أن الإسلام الأقنومي هو السائد الآن باعتباره كياناً جوهرانياً لا يتغير ولا يتبدل على مسار التاريخ. لذا لا بد من القطع معه. وهذه إحدى تجليات القراءة الأركونية للتراث. فالقطيعة عملية طالت المجتمع العربي الإسلامي منذ ظهوره، وهي ذات أوجه متعددة أهمها قطيعتان اثنتان: الأولى قطيعة مع الماضي السكولائي بعد انهيار الحضارة الإسلامية في القرن الثالث عشر الميلادي. والثانية قطيعة حصلت بين أوروبا والعالم الإسلامي منذ القرن السادس عشر الميلادي. وداخل القطيعة الأولى توجد قطائع أخرى فرعية كالقطيعة الاجتماعية والقطيعة الاقتصادية، والقطيعة اللغوية والنفسية… أما بالنسبة الى القطيعة الثانية مع الغرب، فتعد الثورة الفرنسية أم القطائع، لأنها قطيعة تاريخية، أفلحت في فصل الدين عن السياسة، معتبرة إياه شأناً شخصياً.
لكن أركون يضيف قطيعة أخرى يعتبرها أساسية في فهم بنية الفكر الإسلامي، أسماها القطيعة الإبستيمية، وهي قطيعة كبرى ينتظم فيها كل الفكر الإسلامي الوسيط منذ انحطاطه الى اليوم. إذ من تجليات الإبستيمي الإسلامي، الخلط بين الأسطوري (الخيالي) والتاريخي، واستدماج بنية الأصل في معتقد المسلم، وكذا القول بحقيقة واحدة ثابتة سرمدية. هذا علاوة على تقديس اللغة العربية وتفوّقها على كل اللغات الأخرى.
ولفهم تشكّل وصيرورة بنية هذا الفكر، وظّف أركون مصطلح “الزمان الطويل”، بهدف الكشف عن اللامفكّر فيه.
فالإبستيمي والزمان الطويل واللامفكّر فيه والقطيعة ورأس المال الرمزي والمخيال الاجتماعي هي جزء من الترسانة المفاهيمية التي قرأ بها أركون عقول الفِرَق الإسلامية على أنها بالرغم من اختلافها الظاهري تعود الى عقل واحد مجبول بفكرة التأصيل والذي ما زال شغالاً الى وقتنا هذا.
فاللامفكّر فيه مستنبط من المفكر فيه. وأركون عندما يعود الى التراث قصد التفكير فيه، يدرك أن هناك أشياء لم يفكر فيها في الماضي، وبفعل عامل الزمن تحولت الى أشياء أصبح مستحيلاً التفكير فيها، كمسألة تاريخية النص القرآني وتشكّله ومسألة الوحي، ومسألة خلق القرآن، ثم مسألة الشخص المواطن، ومسألة العلمنة وحقوق المرأة، ومسألة المعتقد. فكيف، إذاً، يمكن التعامل مع هذه القضايا في ضوء متطلبات الحداثة؟
[الانتهاك
هنا تنجلي أداة منهجية أخرى أسماها أركون بالانتهاك. فهذا المفهوم يعني حسبه اختراق المفاهيم والمصطلحات واللغة التي باتت تشكل سياجاً محرّماً على كل مجدد. وهذا الانتهاك يجب ألا يؤول الى الإلغاء. وتعقبه أداة أخرى تتمثل في الزحزحة التي تفيد خلخلة البنيات المتكلسة والبداهات المتحجرة، وتطال العقل والإيمان والفرد، بهدف تجاوزها. وهذه هي الأداة الثالثة في هذا الثالوث المنهجي. فالانتهاك والزحزحة والتجاوز هي مفاهيم إجرائية يوظّفها أركون بهدف الانخراط في إسلام حداثي. إلا أن هذا الثالوث المنهجي لا يطبقه أركون بكيفية آلية على كل المفاهيم التراثية بل يراعي في هذه العملية مسألة الخصوصية. فالإيمان مثلاً، يؤكد أركون، ينبغي أن يتعرض للزحزحة من دون التجاوز. لأن الإيمان حسبه ضروري في ظل نظام العولمة. وهذه نقطة لا يمكن تجاهلها.
وهذه الأدوات الإجرائية التي تعتمدها القراءة الأركونية تستند الى مساهمات العلوم الإنسانية الكونية الحديثة كالألسنيات والأنثروبولوجيا والسيميائيات وعلم النفس الاجتماعي والأنثروبولوجيا التاريخية وعلم الأديان المقارَن. هذا علاوة على علم الأعصاب والفينومينولوجيا والنقد الأدبي ونظرية التواصل وفلسفة التفكيك. ويبدو لي أن القصد من هذا التعدد المنهجي عند أركون هو التقليل من هامش الخطأ، والعمل على تجاوز الاستخدام الإيديولوجي للتراث ماضياً وحاضراً، غير مستثن الخطاب الاستشراقي باعتباره خطاباً بارداً إزاء الإسلام، كما إن الحقيقة حسبه تساهم في بنائها أطراف عدة، ومن هنا نسبيتها.
وهكذا تقوم هذه القراءة الأركونية للتراث على مجموعة من الأدوات وتنصبّ على التراث، كما تنصبّ على الفكر الغربي، دليلها هو الحداثة.
[الفصل
فالنقد الأركوني يبني معطياته أولاً على ضرورة الفصل بين الظاهرة القرآنية والظاهرة الدينية. فالأولى يقصد بها القرآن كحدث شفهي يتعين دراسته وفق قراءة تزامنية أولاً قبل وصله بنا ثانياً. والثانية ضاربة بجذورها في التاريخ وملتبسة بالسياسة والإيديولوجيا. ودور الباحث هو الوعي بضرورة التمييز بين الظاهرتين حتى تسهل مقاربة ظاهرة الوحي وفق منهج أنثروبولوجي مثلث الأضلع هو الوحي، التاريخ والحقيقة. وهذا يتطلب زحزحته عن موقعه والدعوة الى تشكيل لاهوت إسلامي تحريري يكون للإنسان دول فعّال فيه، ويقطع مع اللاهوت التقليدي الذي لا مكان فيه للإنسان. وهذه العملية لا تقتصر على ظاهرة الوحي الإسلامي فقط، بل تطال كذلك الظاهرة الدينية عامة التي عرفتها مجتمعات الكتاب. وهنا تكمن جدة القراءة الأركونية التي من مقاصدها تأهيل المجتمعات الإسلامية لاستيعاب مكاسب الحداثة بدل اتخاذ موقف سلبي منها، منبهاً الى ضرورة عزل الأنظمة اللاهوتية التي شكلها حماة المقدس والتي كان لها دور سلبي في التعامل مع الوحي عبر تحنيطه وقطعه عن مجاله التداولي الثقافي.
من هنا تصدت القراءة الأركونية لكل الأنظمة التفسيرية التقليدية قديمة كانت أم حديثة، فأبرزت تهافتها ومحدوديتها، ذلك أنها لم تكن لتتمكن من التمييز بين المعنى وآثار المعنى كما هو الشأن مع الطبري وأمثاله الذي كان يغيب عنه مفهوم تاريخية الوحي، وسقط من حيث لا يدري في تسخير الآيات القرآنية، حيث لجأ الى عملية النسخ لتبرير نظام الإرث آنذاك. وهذا ما نبه إليه أحد المستشرقين المعاصرين “باورس” وأكده أركون في ما بعد، رغم المآخذ الأركونية على هذه الدراسة الاستشراقية والمتمثل في مصادمتها الوحي الإيماني الإسلامي الذي ما زال غير مؤهل لتقبّل مثل هذه الأفكار التي تدخل في دائرة المستحيل التفكير فيه.
يثمّن أركون هذه المحاولة الاستشراقية وينفصل عنها في الوقت نفسه، داعياً الى بديل منهجي يراعي حساسية المسلم من جهة من دون أن يفرط في ثوابت الصرامة العلمية من جهة ثانية.
كما تتجه هذه القراءة الأركونية كذلك الى الأنظمة التفسيرية الحديثة بدءاً من مدرسة المنار الى المدرسة الإيديولوجية المعاصرة مروراً بالمدرسة البيانية بهدف نقدها وإبراز محدوديتها وخلفيتها الإيديولوجية، لأنها جميعها تفتقر الى المنظور الأنثروبولوجي، وتتجاهل السياق الثقافي للنص التأسيسي، مما جعلها قراءة إيديولوجية تلغي البعد التاريخي في فهم النص الديني، معتقدة أن المعنى ثابت ونهائي يتعيّن التوصل إليه فقط. وبذلك فهي تدخل في وفاق مع أفق انتظار المتلقي، من دون أن تتمكن من إشراكه (المتلقي) في عملية بناء المعنى عبر استشكال ظاهرة الوحي، فباتت هذه القراءة الإيديولوجية باختلاف أطيافها وألوانها غير ناجحة ومفعمة بالشكوك.
[نقاش
ومما يضفي على القراءة الأركونية جدة وحداثة، دخولها كذلك في نقاش حاد تارة مباشر وأخرى ضمني مع أنواع القراءات الحداثية الأخرى سواء كانت هيرمينوطيقية (نصر حامد أبو زيد) أو مقاصدية (الطالبي) أو تاريخية (فضل الرحمان)، فالقراءة الأركونية تحاول أن تقتطع لنفسها حيزاً يميزها عن القراءات الحداثية الأخرى، عبر اختزالها الإشكالية المطروحة ذات الصلة بنقد العقل الإسلامي. فبؤرة البحث الأركوني ومجمل مشروعه ينصبّ على هذا العقل الإسلامي وكيفية تشكّله. فهذا العقل يخترق كل المتن الأركوني ولا ينحصر فقط في مؤلف واحد كما يرى بعض الدارسين المعاصرين.
فإشكالية أركون المركزية التي ينبني عليها مجمل مشروعه هي العقل الإسلامي في كل مظاهره ومستوياته، لا فقط مستوى العقل النظري وإنما كذلك المعيشي والشفوي والرمزي وكل ما يشكّل محصلة الإنسان المسلم سواء على مستوى النظر أو العمل.
ويعود أركون الى علم أصول الفقه للشافعي ليرى فيه بداية تأسيسية لهذا العقل الإسلامي الذي ما زال شغالاً الى اليوم. فهو عقل تشريعي تأصيلي يستند الى تقنيات الاستدلال لاستنباط القواعد التشريعية والقانونية من القرآن والسنة، مغلقاً الباب أمام كل اجتهاد أو تنظير. فكانت بذلك بداية تشكل الأرثوذكسية الإسلامية التي ما زالت آثارها سارية الى اليوم في العالم الإسلامي المعاصر. لذا وجب نقد هذا العقل الفقهي الذي يندرج مع غيره من العقول الأخرى المنافسة له في نظام فكري (إبستيمي) واحد. والأداة المؤهلة لهذا النقد تجد ترجمتها في “الإسلاميات القانونية” التي تروح تشريح العقل الحقوقي (القانوني) في إهابه الإسلامي أولاً والغربي ثانياً بهدف إبراز مثالبه ومحدوديته في الإسلام. وكذا العمل على إبراز الطابع الإنساني للعقل القانوني وانتشاله من كل انحراف وضلال. أما “الإسلاميات التطبيقية” فهي تنصبّ على باقي جهات هذا العقل الإسلامي فتقوم بخلخلتها وإزاحتها عن موضعها الأصلي حتى يتسنى تجاوزها (نقدها).
[الاستدلالي
وإذا كان مشروع نقد العقل الإسلامي عند أركون يتبدّى من خلال نقد العقل الإسلامي في تجلياته المتعددة، فإنه يعرّج على العقل التأسيسي لينظر فيه، معتبراً إياه عقلاً غير منطقي ولا استدلالي، بل هو عقل العجيب والمدهش يلعب الخيال دوراً مركزياً في بنائه، منتقداً الإسقاطات اللاحقة على هذا العقل حيث أضحى عقلاً فلسفياً نابذاً لكل رمز ومجاز، في حين أن القرآن مفعم كله بالتعابير الرمزية وبالأشكال المجازية، وبالتالي فهو عقل أقرب الى القوة العاقلة منه الى العقل كملكة للاستدلال.
ويلاحظ البعض أن هناك هوّة في النقد الأركوني بين العقلين: العقل المتعالي أو المقدّس، وبين تجلياته (Les Théophanies): المدونة الرسمية المغلقة، ولماذا انصبّ نقد أركون على العقل الكتابي من دون الشفوي.
والمتتبع للمتن الأركوني يصعب عليه الانسياق وراء هذا الطرح. فالمنهجية الحفرية الأركونية هي منهجية يتبدى دورها في الانتهاك والخلخلة والتجاوز. وإذا كان الوحي هو أمر إلهي لا مراء فيه، وإذا كان الخطاب الشفوي حسب التحليل اللساني يختلف حتماً عن الخطاب المكتوب نظراً للتوظيف الذي يطاله أثناء عملية الانتقال، فإن وراء جمع المدونة الرسمية المغلفة على الأقل عاملاً سياسياً/ايديولوجياً، تحكم في عملية الجمع، وألغى مدونات أخرى كانت موجودة ومعاصرة للمدونة الرسمية، فحق بذلك البحث في هذه المعضلة، ويرى أركون ان هناك مواقع معرفية يجب التعرض لها بالفحص والنقد، تعد بمثابة مقدمات اختبارية لنقد العقل الديني، سواء كان اسلامياً أو غير اسلامي. وهذه المقدمات ليست سوى ما اسماه اركون بالمثلثات الأنثروبولجية التي من دونها يستحيل نقد العقل الاسلامي.
ورغم ان القراءة الأركونية توجه نقدها صوب الماضي، فانه لا يسلم من نقدها كذلك الخطاب الاسلامي المعاصر باعتباره خطاباً جماعياً متعدد الأوجه ومعبراً عنه في كل اللغات الاسلامية. اذ ان أركون لا يتوانى في ادخال هذا الخطاب في نظام الفكر التقليدي نفسه، فهو امتداد للعقل الاسلامي الدوغمائي يستظل بالماضي التيولوجي ويتماهى معه، مدعياً احتكار المعنى ومقيلاً الفكر الحر من مهامه النقدية. انه في آخر المطاف عقل استسلامي تحركه هواجس ظرفية وأغراض سياسية، ويعد نكوصاً في نظر أركون عن مرحلة “النهضة” العربية في القرن التاسع عشر الميلادي. واذا كان هذا ينطبق على العقل الأصولي، فان العقل النضالي القومي هو كذلك له أقانيمه ومرجعياته، في ضوئها يحاكم غيره. لذا لزم مقاومة هذين العقلين والدعوة الى بناء عقل متحرر من كل الأوهام والعقد، وذلك عبر قراءة نقدية ذات صلة بالمناهج الاجتماعية الكونية المعاصرة، وهذا العقل التطلعي ليس شيئاً آخر غير العقل الاستطلاعي الذي يعد مفتاح اقفال دهاليز الفكر الأركوني.
[العقل الاستطلاعي
فهذا العقل الاستطلاعي هو عقل حداثي، يتخذ الحداثة أداة وغاية وفي ضوئها يقرأ التراث العربي الاسلامي وكذا التراث الغربي، موظفاً “انثروبولوجيا الحداثة” ليدعل العقل الغربي في الميزان، وحتى يبرز أن الحداثة ليست ابداعاً غربياً كما يرى الغرب، وانما هي حدث ضارب الجذور في التاريخ. فالحداثة ليست معاصرة زمنية أو تزامنية، حسب اركون، وانما هي موقف وتوتر روحي يطال كل الأزمان والعصور. من هنا حديثه عن الحداثة العربية الاسلامية في العصر الوسيط، واعتباره القرآن في لحظته التدشينية حداثة وتجديداً او لحظة قوية من لحظات الحداثة. وهذه النظرة الأركونية للحداثة التي تجعل من هذه الأخيرة كما فعل يتسم بالتجدد والتجديد، يبدو انها تطمس السمة النوعية للحداثة باعتبارها قطيعة نوعية (جذرية) مع ما هو تقليدي.
وقد ترتب عن هذا اللبس في مفهوم الحداثة لدى أركون نتائج منطقية تأدى اليها اركون منها وجود نزعة انسانية مبكرة في الفكر الاسلامي الوسيط من روادها الجاحظ ومسكويه وابن رشد.. الذين تمكنوا بعبقريتهم من صهر الثقافات الأجنبية في بوتقة البيئة الاسلامية. ومن هنا اتسام الموقف الانسي بالجرأة واختراق المحظور، ودعوته الى ردم الهوة بين المعقول والمنقول. الا ان هذه النزعة الانسانية – حسب اركون – ستتوقف في الاسلام ابان انحطاطه، وستختفي، لأن الموقف العقلي الذي كان يساندها قد اختفى هو الآخر كذلك، اذ لا وجود لنزعة انسية في غياب نزعة عقلانية تدعمها. وهذا الغياب القسري لهذه النزعة الانسانية في الاسلام سيفتح الباب على مصراعيه أمام ظهور نزعة انسانية في الغرب في العصور الحديثة واعية بذاتها.
كما ان من نتائج القول بحداثة غير محصورة في الغرب، ميل أركون للدفاع عن وجود علمانية في الاسلام تمتد جذورها الى حقبة المدينة (تجربة المدينة)، حيث يلتبس الديني بالسياسي. ويحلل المثلث الأنثروبولوجي (العقل – المجتمع – السلطة/السيادة العليا) كما صاغه أركون، هذه العلاقة بكيفية واضحة، مبرزاً كيف ان الاسلام منذ بداياته الأولى كان يفصل بين ما هو روحي وما هو زمني، وأن الخليفة – لا الامام ـ كان يجمع بين يديه السلطتين الدينية والزمنية معاً، وأنه لفهم هذه العلاقة جيداً – يؤكد أركون – يجب ادخال العامل التاريخي في الحسبان، والعمل على توضيح الفرق بين الامام والخليفة والسلطان، وكيف ان مسألة الخلافة أو السلطة في الاسلام كانت دائماً تحل بالوسائل الدموية لا بالطرق المشروعة، لذا يجب تجاوز الفهم العامي لعلاقة الدين بالسياسة باعتبارهما اطاران مختلفان، والدعوة الى تحليل تاريخي يقول بوجود علمنة في الاسلام من دون القفز على الدين.
ومحصلة هذه المشاكل المتولدة عن الفهم الأركوني للحداثة يعالجها مشروع نقد العقل الاسلامي باعتباره مشروعاً استقرائياً استكشافياً حفرياً مستنطقاً للمسكوت عنه ومزيلاً لأنواع التلبيس والحجاب الذي يعمل من أجله العقل المنبثق وهذا العقل المنبثق أو الاستكشافي لا يتوانى عن ممارسة نقد مزدوج للذات الاسلامية أولاً، ثم للذات الغربية ثانياً. ويضطلع بمهام متعددة وقواعد صارمة. فهو عقل شفاف يشي بما يحمل، كما انه يحرص على الشمولية في المعالجة، معتمداً على التعدد والتنوع المنهجي، واضعاً نصب عينيه المتلقي المشروع، الذي يجب ان يوجه اليه الخطاب، سواء في الشرق أو الغرب. ناهيك باعتماده على نظرية التنازع بين التأويلات، وأن النص حمال أوجه من الحقيقة يتعين الكشف عنها من دون تحنيط المعنى. بل العمل على الكشف عن صيرورته وهو ما يسميه أركون مستعيراً عبارة كريستيفا “بالتوليد الهدام للمعنى”.
فهذا العقل الاستكشافي، رغم انه نشأ في قلب العولمة الا انه ما فتئ يوجه سهام نقده للعقل العولمي او بلغته هو – حسب عبارة دريدا – للعقل التلفزي التكنولوجي العلمي الذي أفرزته العولمة.
فمن مهام هذا العقل الاستطلاعي إذاً، ان ينتقد النزعة الانسانية التجريدية باعتبارها نزعة شكلية، لا تخدم الانسان بقدر ما تزيد من استعباده، ويدعو مقابلها الى نزعة انسانية كلية ذات منزع عالمي لا تؤمن بالحدود، وتفتح جسوراً بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، مهمتها هي وضع حد للعنف السائد في المجتمعات المعاصرة، بالرغم من نزعته الأنثروبولوجية. الا ان هذا التصور الأركوني للنزعة الانسانية يصعب تحقيقه على أرضية الواقع. فهو أقرب الى المثال او الماهية المطلقة منه الى التحقق العيني.
[الأصولية المعاصرة
ويحمل اركون الأصولية المعاصرة او الاسلام الحركي مسؤولية العنف المهيمن في الساحة الاسلامية المعاصرة، تبعاً للقراءات الحرفية للنص الديني التي ينهجها، داعيا الى قراءة أكثر انفتاحا قراءة تأخذ بعين الاعتبار النص والواقع وتستلهم معطيات العلوم الاجتماعية وعلم الأديان المقارن والأنثروبولجيا الدينية وتعمل على ادخالها الى المدارس حتى يتأتى التحرر من هذه القراءات الانغلاقية التي لا تؤمن الا بالاقصاء. من هنا دعوة أحد المفكرين العرب المعاصرين البارزين الى دمقرطة تفسير القرآن لتجديد معانيه، حتى لا يبقى عرضة للقراءات “البرية” كما يقول اركون نفسه.
وهكذا يتجلى المشروع الاركوني في ثرائه وتعدد مستوياته، يناضل على عدة جبهات وفاتحا عدة ورشات يطمح ان ينخرط فيها مفكرون عرب آخرون لهم الهم نفسه، المتمثل في اعادة بناء مفهوم جديد للمواطن والمواطنة (أو المواطنية)، يجد ارضيته الخصبة في الحداثة، وينهل من منبع العقلانية المعاصرة الذي يعد فكر أركون جزءاً منها. وهذه الذات، أو المواطن، التي يحلم اركون باعادة بنائها لا تقوم لها قائمة الا اذا تم اخضاع المعتقد الديني لمبضع النقد. فالايمان التقليدي لم يعد مجدياً اليوم امام تحديات الحداثة، ولا بد من معالجته في ضوء محك التجربة مع الزمن، اي لا بد من استشكاله، وآنذاك يمكن الحديث عن ذات فاعلة ايجابية لها القدرة على التصدي للمشكلات التي تعترضها وايجاد حلول لها بمعزل عن كل قوى خارجية عنها، فاتحة الباب امام ضرورة التخلص من دين المعنى عبر اقصاء كل الحواجز وتكسير كل السياجات المغلقة التي ظلت تحاصر العقل الاسلامي منذ بروزه الى الآن. وهذه احدى المهام التي نيطت بالعقل الاستطلاعي باعتباره مركباً ثقافياً وأداة منهجية مفتوحة على كل الاحتمالات. فهو عقل متسكع، بلغة أركون، لا يؤمن بالحدود ويعيد النظر في نفسه باستمرار فهو عقل تعددي يقتحم كل المجالات، ان كان يسجل عليه انه صرف اهتمامه عن التجربة الصوفية خاصة ان “الاسلاميات التطبيقية” هي أداة تبحث في كل العقول الفرعية التي انتجتها الحضارة العربية الاسلامية، مما لم تعد معه مسألة السكوت عن العقل العرفاني أمراً مبرراً.
واذا كان العقل الاستطلاعي يبدو لأول وهلة عقلاً جماهيرياً يعانق هموم الشعوب الاسلامية والغربية، فان واقع الحال يشدد على نخبويته وعلى استحالة تواصله مع مختلف طبقات القراء. فهو، اذا، بحاجة الى ايجاد متلق مشروع له من الكفاية والجرأة ما يجعله يستوعب المشاريع العلمية الأصيلة ويعمل على نشرها وتعليمها.
وهذا العقل الاستطلاعي يمارس مهامه النقدية عبر أداتين متلاحمتين: احداهما عملية تطبيقية تتمثل في “الاسلاميات التطبيقية” التي تعانق تجليات العقل الاسلامي. فهي ممارسة علمية متعددة الميادين والاختصاصات، أما الأداة الثانية فهي نظرية تنصب على العقل الاسلامي ذاته باعتباره اصلا وتشريعاً. وقد اطلق عليها اركون اسم “الاسلاميات القانونية” التي تروم نقد وتفكيك العقل التشريعي الانساني المنسوب تعسفا الى المتعالي، وذلك عبر منهج مقارن بين الاسلام والغرب يتوخى ربطه بالتاريخية. ويبدو لي أن مصطلح “اسلاميات قانونية” لم يظهر له اثر في مؤلفات اركون الأولى، وانه وليد عمله الأخير، “النزعة الانسانية والاسلام”، وان كان يشير الى ان فكرة ضرورة نقد العقل القانوني في السياق الاسلامي كانت تراوده منذ كتب النسخة الأولى لتقديمه مفهوم نقد العقل الاسلامي، معنى هذا ان اركون ما فتئ يراجع مشروعه الفكري باستمرار وكذا أدواته. فهو يناضل بلا كلل من اجل ان يكتمل مشروعه النقدي. الا انه يبدو انه مشروع لم يكتمل، وأن اركون ما انفك يفاجئنا بالجديد.
وفي المحصلة النهائية، فان القراءة (القراءات) الأركونية مهما قيل في حقها مدحاً أو ذماً، فانها تمكنت من ان تستل الاقلام وتفتح الاضبارات وتقدح المواجهات، وتسجل التحفظات، وتثير الحماسات وتوقع في الاحراجات. وهذه الدينامية التي تحفل بها العقلانية الاركونية لا تتوافر الا في المشاريع الفكرية الأصيلة كالمشروع الاركوني. لذا اختلفت النعوت التي تطلق عليها. فهناك من يعتبرها عقلانية رافضة او تنتمي الى تيار الرفض المطلق أو النقد السلبي. وهناك من يعتبرها عقلانية كلامية كالجابري.
والأمر لا ينحصر هنا، بل يتعداه الى تحديد الموقف الأركوني. فهناك من يشدد على ان الفكر الأركوني فكر حداثي بامتياز. وهناك من لا يتوانى في نعت هذه الحداثة الأركونية بالاسلامية (اسلمة الحداثة) فهي حداثة اسلامية عصرية، او من يربطها بالأصولية.
والمتأمل في هذه الخرائطية التأويلية للعقلانية الأركونية لا يسعه الا ان يندهش لهذه المحمولات – المتعارضة مع بعضها – للعقلانية الأركونية، والتي تبين عن عواصة فهم هذه العقلانية وغناها وتعدد روافدها. الا ان ما ينبغي ان نشدد عليه هنا هو ان هذه العقلانية الأركونية لا يمكننا بحال من الأحوال تصنيفها في خانة لا العقلانيات الماضوية، ولا الاسلاموية ولا حتى الرافضة بالمعنى السلبي للكلمة، وانما هي عقلانية تمتح من منهل الحداثة، ولا تني تنقد كل ما يعترض طريقها. فهي اذا كما قال البعض عقلانية نقدية، بل نذهب الى حد اعتبارها عقلانية استشكالية تجعل همها هو استشكال كل القضايا التي تعالجها وجعلها محط تساؤل مستمر.
من “قراءة النص الديني عند محمد اركون” لعبد المجيد خليقي (منتدى المعارف)
المستقبل

محمد أركون: مشروع نقدي كبير
محمد وقيدي
فتحت نافذة بريدي الإلكتروني صبيحة الأربعاء الخامس عشر من شتمبر، وكان القصد كالعادة هو الاطلاع على ماتوصلت به من رسائل،ففوجئت بأن الرسالة التي سارعت إلى فتحها تحمل نبأ فاجعا هو وفاة الأستاذ محمد أركون. داهمتنا على الفور جملة من الأسئلة التي تتعلق بعلاقتنا الشخصية بالرجل، وأخرى تتعلق بمكانته العلمية وتأثيره في الفكر العربي والإسلامي المعاصر، ثم بمصير الأفكار التي عبر عنها خلال حياته العلمية على مدى زمني تجاوز أربعة عقود.
كان آخر لقاء لنا بالرجل هو حضورنا إلى جانبه في الندوة التكريمية التي أقامتها على شرفه كلية الآداب والعلوم الإنسانية بن مسيك بالدار البيضاء. نوقش فكره من جوانبه المختلفة في هذه الندوة التي حضرها جملة من الباحثين. ولم تكن حال الأستاذ أركون خلال هذه الندوة(يونيو2010) توحي بأنه سيرحل عن هذه الدنيا بعد فترة وجيزة. وكان زملاؤنا في الكلية التي انعقدت بها الندوة قد شرفونا برئاسة الجلسة التي ألقى بها أركون محاضرته. ودعنا الرجل بعد نهاية الندوة على أمل لقاء جديد، ولكن الوفاة حالت دون هذا اللقاء.
عندما قرأنا خبر الوفاة تذكرنا اللقاء الأخير، ولكن شريط الذكريات عاد بنا أيضا إلى أول لقاء، وإلى كل اللقاءات المختلفة التي جمعتنا بالراحل في مناسبات متعددة. كانت أول معرفتنا بالأستاذ أركون عام 1976 عندما حضر إلى كلية الآداب بفاس التي كنا عضوا في هيئة تدريسها من أجل محاضرة عرض فيها، كما كان شأنه دائنا، معالم دعوته المنهجية من أجل دراسة مجددة للفكر الإسلامي في العصر الوسيط، وللفكر الإسلامي المعاصر وقضايا العالم الإسلامي المعاصر. وخارج القاعة التي ألقيت بها المحاضرة كان لنا ولزملائنا نقاش حول هذا المشروع الكبير.
كانت لنا لقاءات أخرى عديدة تعرفنا من خلالها على شخصية أركون ومكانته العلمية وعلى صدى الأفكار التي يحملها مشروعه. فقد زرنا الرجل في مكتب عمله بباريس سنة1978، وطلبنا منه حينئذ قبول الإشراف على بحث جامعي لنيل الدكتوراه. لم يقبل الرجل الاقتراح فحسب، ولكن صدر عنه أكثر من ذلك اقتراح فاجأنا في وقته ودل على سمو تقويم الرجل للأوضاع. فبينما كنا نطمح إلى درجة السلك الثالث التي كنا نواجه هنا صعوبة في مناقشة بحثنا المتعلق بها، إقترح علينا تسجيل هذا البحث لنيل دكتوراه الدولة. وكان الموضوع يتعلق عندئذ بمكانة العلوم الإنسانية في الثقافة العربية المعاصرة. لن نقول إننا خرجنا في ذلك الوقت أكثر ثقة في النفس فحسب، فهذا شعور ذاتي، بل إننا تعلمنا من الرجل طريقة في التقويم. لقد خرجنا من مكتبه ونحن نحمل درجة جامعية عليا كنا نود أن نحصل عليها بعد مدة من الزمن. كان ماوراء ذلك هو معرفة الرجل بنا من خلال لقاءات سابقة وتقديره لمستوانا العلمي. لم يكتب لهذا المشروع أن يصل إلى نهايته لأننا انقطعنا عن إنجازه لأسباب ذاتية وموضوعية. ولكن حتى في حالة عدولنا عن المشروع لسعته وتعقده بالنسبة لشهادة جامعية، لم نجد من الأستاذ أركون إلا تشجيعا على المضي في عملنا البحثي في إطار جديد، وظلت علاقة الصداقة التي بدأت تنمو بيننا مستمرة في كل لقاءاتنا وإلى حين وفاته.
كانت لنا لقاءات أخرى بمحمد أركون كان له الفضل فيها بتشجيعنا على المضي في البحث. فعندما صدر كتابنا عن باشلار سنة 1980، وكنا إذاك بباريس، حملنا أول نسخة نهديها إلى الأستاذ أركون، وسمعنا منه بعد تفحص للكتاب كلاما طيبا عن اهتمامنا وطلب منا الاستمرار في نفس الطريق.
نترك الجانب الذاتي من العلاقة، علما بأنه من بواعثنا للشعور بالفقدان على إثر وفاة النفكر الفذ المتمثل في محمد أركون. ونبدأ النظر في قيمته الموضوعية. فقد حضرنا لموسمين جامعيين (1978-1980) دروس الأستاذ محمد أركون بجامعة السربون الثالثة إذاك، وهي دروس كانت تدور حول الفكر الإسلامي وكان أركون يقدم فيها الاقتراحات التي يتضمنها مشروعه الكبير في دفع دراسة التراث الإسامي إلى نهج مسارات منهجية جديدة تعتمد على العلوم الإنسانية النعاصرة والمعطيات المفهومية والمنهجية التي تبلورت مع تطور تلك العلوم. كان أركون يدعو إلى حضور هذه العلوم اللغوية والسيميائية والسيميولوجية والأنثربولوجية والتاريخية والسياسية. وكان يدفع كل باحث يتصل به من أجل دراسة تهم الفكر الإسلامي إلى الاطلاع على معطيات تلك العلوم لجعلها أساسا لكل تحليل للظواهر الدينية وللنصوص الفكرية التي نتجت عن الحضارة الإسلامية. ومثل صاحب أي دعوة منهجية جديدة، فقد لقي مشروع أركون قبول عدد من الباحثين له، دون أن يغيب مع ذلك الاعتراض على مضمون هذا المشروع ، علما بأن هذا الاعتراض اتخذ أحيانا أشكالا عنبفة لما كان فيه من مراجعة لخلاصات كان الفكر الإسلامي المعاصر قد اتخذها بمثابة اليقينات التي بتناقلها البعض عن سابقيه أو عن معاصريه. ولكن الاعتراضات لم تدفع أركون أبدا إلى التراجع عما يدعو إليه وظل يعيد على الناس عناصر اقتراحاته في دروسه بالجامعة، ومن خلال مشاركته في عدد كبير من المناظرات الفكرية، وكذلك في المحاضرات التي كان يلقيها في جهات مختلفة من العالم العربي والإسلامي وخارجه وبطبيعة الحال في مؤلفاته العديدة التي ترجمت إلى لغات مختلفة منها اللغة العربية.
بم كان يتعلق الدرس الأركوني؟ كان بتعلق بالفكر الإسلامي في العصر الوسيط وقد دعا أركون إلى تجديد النظر المنهجي فيه. ولكننا لمستا أن اهتمام أركون بفكر الماضي الحضاري الإسلامي لم يكن يثنيه عن الاهتمام بالفكر الإسلامي المعاصر. ونستطيع القول إن الغاية البعيدة كانت هي الفكر الإسلامي المعاصر. فالتجديد المنهجي متجه إلى المستقبل الذي أساسه الفكر المعاصر لأن كيفية تمثل هذا الفكر لماضيه لها أثر بليغ في صيرورته ومستقبله. وقد حضرنا بجامعة السربون بعض دروس أركون التي كانت تتعلق بالفكر الإسلامي المعاصر، ومنها دروس تناول فيها بالدرس كتاب علال الفاسي حول النقد الذاتي.(1980).
كان أركون يهدف من خلال إنتاجه في مجموعه إلى نقد العقل الإسلامي المنتج للخطاب اليوم مع تتبع جذور تكوين هذا العقل في الماضي. ولذلك فقد بحث في كل العلوم الإسلامية الشرعية والعقلية ليصل إلى ذلك التكوين.
كان المشروع كبيرا، وقد لاحظنا بحضور أركون نفسه أن حظ الدعوة إلى المنهج وإبراز عناصر هذا المنهج فاق حظ التطبيق. لاننكر وجود هذا التطبيق الذي من علاماته الأساسية فيما سمي بالإسلاميات التطبيقية في الكتاب الذي تناول فيه أركون شروط نشأة النزعة الإنسانية في الثقافية الإسلامية المعاصرة. ولكن، هذا حال كل مؤسس حيث لايكون بسعة الفرد إقتراح مشروع فكري والقيام بكل الإنجازات التطبيقية له. فتلك مسألة متروكة للأجيال اللاحقة.
كلما فكرنا في فكر توقفه الوفاة عن الاستمرار تساءلنا دائما عن مصير ما دعا إليه وعن سبل الاستمرار فيه. وفي اللقاء الأخير الذي جمعنا بأركون أثناء الندة التكريمية له، رأيناه مغتبطا بما رآه عند جملة من الباحثين من غير جيله بجوانب من المشروع الكبير الذي خصص له كل حياته الفكرية، وسمعناه وهو يشبد بهؤلاء الباحثين يدعوهم في الوقت ذاته إلى العمل من خلال دروسهم وكتاباتهم ‘لى السير في الطريق الجديدالذي اقترحه، وإلى تطويره بمقترحات أخرى.

توفي أركون، ولكن الطريق الذي سنه مستمر مع غيره.

موقع الآوان

محمد اركون …المثقف النقدي التنويري المتبحر في محيطات المعرفة الاسلامية
شاكر فريد حسن
مرة اخرى تفقد الساحة الثقافية والفكرية العربية المعاصرة قطباً آخر من اقطابها ،هو المفكر والأكاديمي والباحث الجزائري ،وريث ابن رشد ،البروفيسور محمد اركون،بعد حياة حافلة بالمنجزات والأعمال البحثية والفكرية في مجال الفلسفة والدراسات الاسلامية .
يعتبر محمد أركون من أعلام الفكر الفلسفي العربي الحديث ومراجع ثقافتنا العربية المعاصرة . اقام في فرنسا وأشغل رئيس قسم الدراسات العربية والاسلامية في جامعة السوربون الجديدة. وهو من أكبر وأعمق المثقفين التنويريين الجدد المتبحرين في محيطات المعرفة الاسلامية ،الذين راهنوا على قراءة الاسلام العربي بمنهجية علمية تحليلية وتفكيكية نقدية ، ومن المقاتلين والمدافعين عن قيم العلم والتنوير والتقدم، والداعين الى تأسيس وارساء نهضة اصلاحية مؤهلة لتجديد الفكر الاسلامي وتحديثه في العمق،وأحياء صوت العقل والأعتدال في الفكر الاسلامي ، وتأصيل الحداثة اسلامياً عبر تجديد الفكر الديني وتنويره بالعقل ليصبح مفتاحاً لفهم روح العصر والتفاعل معه، بدل أن يبقى ارثاً متحجراً يرزح تحت نير الرؤى السلفية الظلامية التي تعوق تطلعات الشعوب نحو الحرية والانعتاق.
بدأ محمد أركون مشروعه الفكري النقدي العلمي ، الاستمولوجي كرد على المعرفة الاتباعية، ونتيجة ذلك واجه التهم التكفيرية لكنه واصل جهوده العلمية ونشاطه المعرفي والفكري الواسع، منجزاً الكثير من الأعمال والمؤلفات والبحوث التاريخية ، وهي: ” الأخلاق والسياسة، بحث في علم الأخلاق، ، قراءات في القراّن ،الاسلام ـ الدين والمجتمع، الفكر العربي الاسلامي، نقد واجتهاد الاسلام ـ أمس والغد، بحث في الفكر الاسلامي، الانسانية العربية في القرن الرابع عشر، اين هو الفكر الاسلامي المعاصر، الاسلام ـ أوروبا والغرب، رهانات المعنى وارادات الهيمنة، نافذة على الاسلام ، العلمنة والدين، الاسلام ـ المسيحية، الغرب، من الاجتهاد الى نقد العقل الاسلامي ، الفكر العربي، الاستشراق بين دعاته ومعارضيه، كيف نفهم الاسلام اليوم، قضايا في نقد العقل الديني ، من فيصل التفرقة الى فصل المقال.. أين هو الفكر الاسلامي المعاصر” وغير ذلك.
أن شواغل أركون كمثقف معاصر تطال موضوعات وجوانب كثيرة في سياق مشروعه الاسلامي ، وأبحاثه واسهاماته الفكرية والفلسفية تنصب على تحليل ما هو مفكر فيه وما هو محظور، وما يغفل التفكير فيه في الفكر الاسلامي ، أنها تكشف لنا عن عقل منهجي راجح واسع المعرفة وعميق الاطلاع، وعن توجه جديد داخل حقل الفكر الاسلامي يتجاوز المألوف ويبدأ من لحظة العقل المعاصر. وقد سعى أركون الى نقد العقل الاسلامي بتوسل ما أنتجته العلوم الاجتماعية والانسانية الحديثة والمعاصرة من أدوات ومفاهيم، ونجح بأن يجعل الاسلام، علماً وفلسفة، ساطعاً ومضيئاً على العالم بأكمله وذلك انطلاقاً من توجهه العقلي المنفتح.. وعن ذلك يقول: ” عندما أدعو الى نقد العقل الأسلامي ، كما يبادراّخرون الى نقد العقل السياسي أو العقل الشرعي أو العقل الجدلي أو العقل اللاهوتي أو العقل الأخلاق، فأنما أهدف الى استكشاف كل ما يتحكم بنشاط العقل ونتائجه من عوامل متفاعلة وقوى متصارعة ، وأهواء متضادة وتوترات داخل الذات أو خارجة عنها”.
وأبحاث وكتابات محمد أركون تمثل حالة معرفية وتنويرية وأخلاقية ، وذلك بتأكيده على ضرورة الخروج من دوائر العقائدية المتعلقة على ذاتها والأنطلاق نحو رحابة العلم والبحث الأستمولوجي وتشغيل المنهجيات التفكيكية.
وفي كتابه ” من فيصل التفرقة الى فصل المقال.. أين هو الفكر الاسلامي المعاصر ” يثير أركون قضية معرفية وهي القطيعة الفكرية التي حدثت في التاريخ الاسلامي .
صفوة القول ، محمد أركون فيلسوف التفكك الاسلامي ،ومدشن النزعة الانسانية في التراث العربي الاسلامي ، ساهم مساهمة عظيمة ورائدة في ضبط اليات التفكير العربي الاسلامي، وتقديم صورة مشرقة ومضيئة للاسلام الحقيقي والعريق، وهو واحد من المفكرين العقلانيين والتنويريين الذين استوعبوا حقائق عصرنا الراهن ، استيعاباً عقلياً نقدياً ومعرفياً، وجعلوا من المناهج التعليمية والتربوية مراكز لتجديد المعارف وجسارة الابداع والابتكار، لا قاعات للمتملقين أو ساحات لوعاظ السلاطين وبلهاء العصر.وبرحيله تنتهي حياة مفكر عميق وأصيل عرف بسيرته العلمية المتنورة، ونادى بضرورة مواجهة تردي الفكر العربي وتنوير العقل العربي ،وغيابه يشكل خسارة جسيمة بكل المقاييس للثقافة العقلانية والنقدية وللفكر الحر المتنور،من الصعوبة تعويضها
.
القامة ستبقى شامخة
سعد محيو
محمد أركون، القامة الفكرية الشامخة التي غادرتنا قبل أيام، كان وسيبقى المنارة التي تضيء طريق أي باحث مُنصف عن حقيقة الإسلام في العصور القديمة والحديثة .
وهذا لسبب مُقنع، فهذا العلاّمة الكبير كان يسبح بسهولة بين ضفتي نهر الروبيكون الفاصل بين الحضارتين الغربية والإسلامية، فينتقد مركزية الذات لدى الأولى في إطلالتها على الإسلام ديناً وحضارة، ويساعد الثانية على التعرّف إلى ثروتها التحديثية في تراثها التاريخي . الفكرة المفتاح التي سمحت لأركون أن يقوم بهذا الدور الفكري والثقافي المهم، هي فرضيته الصحيحة بأنه لكي نفهم أحد الأديان السماوية الثلاثة الإسلام والمسيحية واليهودية، يجب أن نُطل عليه في علاقته مع الدينين الآخرين . لماذا؟ لأن المصدر التاريخي واللاهوتي واحد، باعتراف معظم الباحثين، الأمر الذي يُشجّع على خوض الجدل الثقافي والحضاري انطلاقاً من أرضية ماهو مشترك لا ما هو مختلف .
ومن هذه القناعة، كان أركون ينطلق ليدعو إلى حوار الأديان الثلاثة، راسماً بذلك خطاً فاصلاً كبيراً مع صدام الحضارات الذي دعا إليه صموئيل هنتنغتون وأستاذه برنارد لويس وبقية سرب المحافظين الجدد المعادين للوفاق والاتفاق في العالم
الإرث الذي تركه أركون هو مكتبة كاملة في حد ذاته: 15 كتاباً بالعربية و17 بالفرنسية و5 بالإنجليزية و3 بالهولندية و2 بالإندونيسية، هذا بالطبع علاوة على مئات الدراسات والندوات والمحاضرات التي نُشرت في أوروبا والمنطقة العربية .
في كل هذه الأعمال، كان أركون ينكبّ على الفكر الديني، قارئاً وكاتباً، مقتفياً آثار المفكرين والفلاسفة الإسلاميين التنويريين الكبار، وهذا ما جعله يحقق نجاحاً باهراً في الإثبات بأن الإسلام والحداثة توأمان لا ينفصلان .
بنى مفكرنا شهرته الأكاديمية على دراساته لتاريخ وفلسفة ابن مسكويه، منطلقاً من طرح السؤال: كيف يمكن للمرء أن يعيد التفكير بالإسلام في العصور الحديثة؟ هذا إضافة إلى إبداء القناعة بأن الحدث التاريخي الذي مثّله “الكلام القرآني الذي تجسّد نصاً”، لم ينل ما يستحق من اهتمام .
عصارة هذا السؤال وتلك القناعة، برزت في كتابه الأخير “إعادة التفكير بالإسلام: أسئلة عامة وإجابات غير عامة” . ففي هذا المؤَلَّف، يخاطب أركون كلاً من المفكرين الإسلاميين من وجهة نظر فكرية تعددية أوروبية، والمفكرين الأوروبيين غير المسلمين من وجهة نظر ليبرالية إسلامية . وهو يفعل ذلك عبر طرح أسئلة من نوع: “هل يمكن لنا أن نتحدث عن فهم علمي للإسلام في الغرب، أم يجب أن نتحدث عن طريقة غربية في تخيّل الإسلام؟” . وأيضاً: “ما وضعية المرأة وفقاً للقرآن والتقاليد الأوسع كما يُفسرها العديد من المدارس التقليدية؟” .
للإجابة عن هذين السؤالين، خاض أركون عباب بحر واسع من التقاليد والتاريخ الإسلاميين، كما في الافتراضات الثقافية والدينية المُسبقة في الحضارة الغربية . لكنه كان مُنصفاً وحيادياً (بالمعنى العلمي) في مقاربة التقاليد الإسلامية والافتراضات الغربية، فانتقد كلاً من مركزية الذات الأوروبية التي درست الإسلام “من خارج” (كما فعل أيضاً إدوارد سعيد في “الاستشراق”) والإيمان العقيدي التبريري الإسلامي الذي يحمله العديد من المسلمين .
والحصيلة هي دعوة قوية إلى فهم تاريخي للتقليد الإسلامي، يكون عادلاً في تعرّفه إلى تنوّعه، وفي عدم انفصاله عن الدين التوحيدي الغربي ككل .
محمد أركون: القامة الشامخة ستبقى شامخة .
الخليج

أركون: التشخيص والأَولويات
د. رضوان السيد
توفّي قبل أيام المفكّر البارز محمد أركون، وهو جزائري المولد، فرنسي النشأة والتربية. ويُعتبر منذ زُهاء العقدين واحداً من سبعة أو ثمانية هم الأوسع تأثيراً بين المفكرين العرب المُعاصرين: العروي والجابري وأركون وجعيط وحنفي ونصر حامد أبو زيد وجابر عصفور ومحمد جابر الأنصاري. وأنا أودُّ أن أُلحقَ بهم قِلّةً من الآخرين؛ من مثل عبد الوهاب المسيري وفهمي جدعان وطه عبد الرحمن وعبد الله الغذّامي وسعيد بنسعيد العلوي. والواقع أنّ هؤلاء جميعاً تضمُّهُم رؤيةٌ واحدةٌ للعالَم، هي رؤية الحضارة الغربية باعتبارها حضارة العالَم الحديث والمعاصر. وربما أمكن القول إنه بالإضافة لذلك تجمعهم أيضاً إشكاليةٌ أُخرى هي إشكالية كيفيات التعامُل مع الموروث وشروط الدخول في الحداثة. وباستثناء طه عبد الرحمن (ومآلات المسيري)؛ فهم متفقون على أنّ الموروث الديني والثقافي يُعتبر مشكلةً كبرى حائلة دون الدخول في حضارة العالم والعصر. وإنما اختلفت مناهجهم أو طرائقهم في تحرير الموروث أو التحرر من تأثيراته. وقد كانت للراحل أركون منذ البداية طريقته الخاصّة في إنجاز الأمرين: التحرر من الموروث، والدخول في الحداثة الثقافية والفكرية.
أدرك أركون ماسينيون ولاووست وكوربان وكاهن وأرنالديز وبيرك ورودنسون. لكنه عرف الحداثة الفرنسية جيداً أيضاً، من مثل ميشل فوكو وستراوس ولاكان ومدرسة الحوليات (Annales) وباشلار وبروست وغوشيه وكلاستر وآخرين كثيرين ما بين ستينيات وتسعينيات القرن الماضي. وقد دخل في الحداثة الاستشراقية الفرنسية (حقبة ما بعد ماسينيون) عندما اختار للدكتوراه في الدراسات العربية والإسلامية موضوعاً عن الأنسنة في الفكر الإسلامي القديم، متخذاً من نصوص مسكويه في التاريخ والأخلاق، نموذجاً لذاك التيار الإنسانوي في القرنين الرابع والخامس للهجرة. لكنه ما تلبّث هناك أكثر من عشر سنوات. إذ تحت تأثير ثورة الطلاب في عام 1968، مضى أركون قُدُماً في مطالعة الإبستمولوجيات ومنجزات ثورة العلوم الاجتماعية والإنسانيات والألسُنية. وفي أواسط السبعينيات بدأ يتحدث عن “الإسلاميات التطبيقية” رافضاً تاريخانيات المستشرقين وفيلولوجياتهم. وتطبيقيات أركون هي في الحقيقة تطبيقيات بنيوية تدور حول النصوص وإعادة القراءة والمُراجعة بأدوات الإبستمولوجيات الجديدة في “حفريات” فوكو، وإنسانويات مدرسة libre وكسر أختام “سحر العالم” منذ فيبر إلى غوشيه. والواقع أنه في هذه المرحلة من تطوره الفكري، أقبل على تجريب بعض التطبيقات على منهجه فقرأ بعض السُوَر القرآنية “قراءة ثانية”، وكتب برامجَ للخروج من أَسْر الموروث عبر القراءات الثواني، وعبر “الحفريات” في اللامفكَّر فيه بحسب تعبيره. وقد أراد الرجل التمييز بين التأويل كما عرفته تياراتٌ فكريةٌ في أزمنة الإسلام الكلاسيكية، وبين القراءات الثواني؛ بأنّ التأويل إنما يتناول ما يُعرف بباطن النصّ أو غير المتبادر منه لأول وهلةٍ بحسب اللغة ومباحث الألفاظ؛ بينما تهدف القراءات الثواني إلى اقتحام اللامفكَّر فيه بسبب استيلاء المسلَّمات والدوغمائيات على نصوص الإسلام الكلاسيكي وعقائده.
ومنذ أواخر الثمانينيات، سيطرت على أركون فكرة مواجهة الدوغمائيات والانسدادات في الموروث الإسلامي الكلاسيكي، منذ البعثة النبوية وإلى القرنين الخامس والسادس للهجرة عندما سيطرت الأرثوذكسيات التي ينبغي أن ينصرف الجهدُ النظري والعملي لتحطيمها لكي يتحرر العقل الإسلامي، وينفتح على الدخول في الحداثة والمعاصرة. وقد استند أركون فيما توصَّل إليه من تشخيصٍ إلى هذه النتيجة أو المقولة، لما كان يستمعُ إليه ويقرؤه من خطابات الإسلاميين المتشدّدين المُعاصرين، والذين يعودون إلى نصوصٍ قرآنيةٍ، ونصوص أُخرى مختارة من مؤلفي الكلاسيكيات الإسلامية في الفقه والعقائد والتاريخ، وحتّى الفلسفة. وهكذا تحول الرجل من ناقدٍ لمناهج المستشرقين والمسلمين في قراءة التراث وفهمه، إلى مُناضلٍ من أجل “تحرير” العقل الإسلامي المعاصر من التُراثيات التي جمَّدَتْهُ وعطّلتْهُ، وحالت بينه وبين اكتشاف معارف الحداثة ومُنجزاتها وتقبُّلها. وهكذا دأب، وطوال أكثر من عشرين عاماً، على تكرار البرامج قولاً وكتابةً، والتي ينبغي تطبيقُها ضد الأرثوذكسية السُنّية على الخصوص، وتكرار المقالات في مساوئ الدوغمائيات الحائلة دون الحداثة، وتكرار الخوض في محاسن العلمانية وكيف دخلت أوروبا فيها فنجت وأنْجَت العالَم. ولأنه طيّبٌ وبريءٌ ومستقيم؛ فإنه ما استطاع تجاهُل المتغيِّرات الغربية وما اتّصل منها بصعود اليمينيات والخصوصيات ضد الإسلام والمسلمين؛ فانصرف أحياناً لنقد “العنصريات العلمانية” أو التي تدّعي العملَ باسمها، واستنهض تفكيراً مسيحياً يتلاقى مع ليبراليةٍ إسلاميةٍ بازغةٍ ضمن مقولة الديانات الإبراهيمية. بيد أنه وهو يفعلُ ذلك؛ فإنّ نضاليته ضد الأصوليات القديمة والحديثة لم تفارقْهُ، فرأى أنّ المسلمين ليسوا مهيئين للحوار مع المسيحية المعاصرة والعالم، تارةً لأنهم لم يتنسموا رائحة الحداثة، وطوراً لأنهم ما دخلوا في غمار” الإصلاح الديني العظيم” الذي دخل فيه المسيحيون منذ القرن السادس عشر.
قاد النزوع النضاليُّ إذن أركون إلى اعتبار أنّ المشكلة تكمن في الموروث وفي أُصول الإسلام. وأنّ الأمر -شأن ما فعله الأوروبيون- ينبغي أن يبدأ من هناك، لتحرير المسلمين المعاصرين من أُصولياتهم المؤسَّسة على النصوص. وعندما تعرف وتصادق مع الشاعر أدونيس الذي هاجر إلى باريس في الثمانينيات، استجدَّ لديه همٌّ جديد. فأدونيس -باعتباره شاعراً يملك حاسّةً تخييليةً ورمزيةً عالية- شديد الإعجاب بنظْم القرآن وشعريته، لذلك فقد أَقنع أركون أنّ العملية ذات طرفين أو طريقين: فالقرآن أَسر العربَ الأوائل، لكنّ “الديموغرافية الإسلامية الشاسعة” إنما تأْسِرُ أو ترتهنُ القرآن ذاتَه، وتحولُ دون قراءته مجدداً من جانب النُخَب المثقفة. فالمطلوب إذن ليس تحرير المسلمين من الأرثوذكسيات وحسْب؛ بل وتحرير النصّ القرآني نفسه من إرغامات الكثرة الإسلامية الخانقة!
وقد ناقشت ُالأستاذ أركون ثلاث مراتٍ على الأقلّ، نقاشاً كان يطول لساعاتٍ، وأهمُّ موضوعاته أمران: الهُجاس لديه ولدى كبار المثقفين العرب المُعاصرين بالموروث الديني، ووقوعه مثل الأُصوليين في إسار التأصيل، أي اعتباره أنّ علاج المشكلات الإسلامية المُعاصرة إنما يتمُّ بالتعامل التحطيمي مع ذاك الموروث؛ في حين يرى الأصوليون أنّ المشكلة الإسلامية الحديثة والمعاصرة إنما تنحلُّ بالعودة إلى ذاك الموروث واتخاذه مرجعيةً في سائر الشؤون. والذي أراه وقلتْه له -بإيجاز هنا- أنّ الموروث الثقافي في الأصل ليس ميزةً ولا مشكلة، وإنما هو تاريخٌ للفكر ينبغي معالجته بالمناهج المُعاصرة. أمّا الإسلاميون فلا علاقة لأُطروحاتهم بالموروث بالفعل؛ بل هو وعي وردود أفعال على مشكلات الحاضر، يقوّون حجيتهم فيها بتوظيف النصوص المقدَّسة في أُطروحاتهم. واقتنع أركون بخطل التأصيل لديه ولدى الأًصوليين، وكتب في ذلك مقالةً طويلةً صارت فيما بعد كتاباً. لكنه ما اقتنع بالتخلّي عن مصارعة الأرثوذكسيات لأنه لا علاقة لها بمشكلاتنا الاقتصادية والسياسية والفكرية وحتى الدينية المُعاصرة! فقد قال لي قبل شهور: حتى لو كان رأيك صحيحاً في أنّ الأرثوذكسيات والدوغمائيات الكلاسيكية، ليست مسؤولةً عن مشكلاتنا الثقافية والدينية والسياسية المُعاصرة؛ فإنّ الإصلاح الديني ضروري لتحرير عقولنا ودنيانا منها!
هدأ أركون بعضَ الشيء في العقد الأخير من السنين. وقد استند هدوؤه -مثل ثورانه- إلى أدبياتٍ أوروبيةٍ وغربيةٍ جديدة في اعتبار النصّ الديني وقراءات الموروث. وخفّت الجدالياتُ بينه وبين الجابري، فعاد لاعتبار الشاطبي وابن رشد وابن خلدون. وظلَّ على وتيرةٍ عاليةٍ في الاطّلاع على الجديد وعرضه ونقده. وظلَّ قبل ذلك وبعده على براءته التي لا تداخلُها الأحقادُ ولا حبُّ الزعامة والريادة.
الاتحاد

محمد أركون: يمشي وحده ويموت وحده .. ويحيا بفكره في غيره
هاني فحص
من دون حماس للنقاب، ومع احترامي الشديد لحرية المتنقبات، أسفت لحشر الفرنسيين (السلطة) لمحمد أركون أو حشره نفسه في الهيئة التي حكمت بمنع دخول الطالبات المحجبات أو المنقبات إلى المدارس الفرنسية.. علماً بأن هذا الإصرار من المنقبات أو المحجبات، بمعنى ما من معاني الحجاب، أي الذي لا يبلغ درجة الفصل الكامل بين المرأة وبين الرجال من غير محارمها، هذا الإصرار يعني أن الموضوع أو الأمر الذي تصر عليه بعض النساء في فرنسا إنما هو (للستر) لا الحجب… وإن كانت مساحة المستور، أي ما يجب ستره من جسد المرأة موضع خلاف فقهي بين المذاهب وداخل كل مذهب… إلى هذا الحد تمسي قضية الحجاب أو النقاب معقدة… فكيف يدخل أركون نفسه في سياق هذا التبسيط السلطوي أو العلماني الذي يتجاوز العلمانية التي تقيم حالها على الرحابة والحرية والديموقراطية كفرضية أو أطروحة، لتتحول في فرنسا إلى عقائدية مغلقة أو إلى دين بديل للدين ومن دون دين، أي من دون الحقيقة الروحية وهنا تناقضاتها.
وقد لفتني وقتها أن المدارس الكاثوليكية في فرنسا، على الرغم من التنافس أو التضاد أو التباين أو التناقض بين الدينيين في منظور كثير من أهلهما والذين يزيدون عدداً لا نوعاً على الذين يشتغلون على تحرير المساحات المشتركة بين المسيحيين والمسلمين وتضييق وضبط مساحات الاختلاف…
لقد ظهرت الكثلكة متحررة من ذاكرة القرون الوسطى ومحاكم التفتيش وذاهبة إلى مزيد من الأنسنة… بينما ظهرت السلطة أو الدولة العلمانية إلى ذاكرة القرون الوسطى وسلكت مسلك محاكم التفتيش أو أثبتت أنها لم تقطع مع ذاكرة الاستعمار.
لقد أضعف أركون بذلك حجتنا في الحرص على قراءته وترغيب طالبي المعرفة من الملتزمين إسلامياً والمحافظين على قلق معرفي تزيده قراءتهم لمحمد أركون حيوية وسعياً لمعرفة الحقيقة ونسبية في التعامل مع الحقائق.. كأن الفرنسيين العلمانيين إلى حد العقائدية قد اختاروا أركون على أنه معاد للإسلام فأثلجوا صدور الإسلاميين السلفيين والتقليديين والإرهابيين معاً، لأنهم أكدوا إن الرجل معاد للإسلام بدليل هذا التصرف الذي لا داعي له… والذي اتخذ دليلاً على أن تراث محمد أركون الضخم والحاشد بالأسئلة لا يتوخى تنشيط الذهن العربي والإسلامي على البحث والتدقيق وإعادة النظر في التاريخ والتراث والأفكار والأحداث.. أي نقد الماضي من أجل نقد المستقبل.
على أن هذه الإشكالية كانت عابرة.. لم يدم مفعولها كثيراً.. لأن جاذبية محمد أركون الفكرية كانت أقوى.. وقد زاد من قوتها رغبة عميقة ومتسارعة في اتساعها وانتشارها لدى طالبي العلم الإسلامي أو العلم بالإسلام، في طرح التساؤلات وتحريك السواكن ترسيخاً للإيمان وحماية له من الحشرات والهوام.
وهكذا انتشر محمد أركون أكثر في أوساط الإسلاميين الذين لا يضعون عصبة على عيونهم وعقولهم.. والذين يعتمدون الشك ولا يتعمدونه أو يفتعلونه طريقاً لليقين الذي تبقى في بنيانه شرفة أو نافذة مفتوحة على شك آخر من اجل يقين آخر.. ولعله من غير المعروف إلا في حدود أن أركون مقروء.. وبلذة في أوساط المعممين الشيعة خصوصاً.. وهو منتشر في حوزة قم بشكل لافت ومثير لدى الإسلاميين الحداثيين ومن دون اعتراض شديد لدى الكلاسيكيين، وأنه منذ سنوات قد شرع بعض الناضجين في ترجمته إلى الفارسية للتعميم وتسهيل قراءته. وقد حدثني مسؤول مؤسسة ثقافية كبيرة ومستقلة عن السلطة عن إمكانية قبوله دعوة للمحاضرة والحوار في قم.
وقد اكتشفت منذ سنوات قليلة أن الرجل يتسرب إلى حوزة النجف… هو وغيره وهو، أكثر من غيره، من محمد عابد الجابري وجورج طرابيشي إلى حسن حنفي، إلى نصر حامد أبي زيد الذي زاد (ظلمهم له) من الإقبال عليه والانتصار له… إلى آخرين.. يضيفهم المتنورون من علماء الشيعة، والشبان منهم خاصة، إلى القائمة مع شبستري وسروش وملكيان ومهريزي وكديور وخاتمي وشايغان وغيرهم.
الآن وقد رحل محمد أركون فقد نقصت هذه اللائحة التي قدمنا منها نماذج معدودة، نقصت واحداً عددياً، ولكن فريق ورشة عمل معنوياً… فكيف نعوّض؟
إذا اعتمدنا على المشهد نرى أن التطرف أي التخلف في فهم الإسلام والدين والحياة هو السائد.. أما اذا دققنا فإننا نلمس لمس اليد أن التطرف، وبإلحاحه على توسيع مساحة المقدس والواجب والحرام وتضييق مساحة الحلال (أي حق الإنسان)، قد أسهم في بناء ورشة متواصلة ومتكاملة من أهل الاعتدال والفكر النسبي والنقدي المؤمن، على العكس من عصابات التطرف المتصارعة ورشة تؤسس بهدوء وعمق للاعتدال والوسطية والنسبية عابرة لحدود الأديان والمذاهب والأقوام والأوطان من دون تنصّل ومن دون خلط عشوائي بين النقد والنقض… إلى ذلك فإن اهم ما يميزها هو أنها لا تعتقد بإلزامية المعرفة، لا تلزم أحداً بمعرفتها، لأنها لا تريد أن تعطل المعرفة.. ومن هنا فهي تمر بمحمد أركون. تسبح في نهره ولا تغرق، وتعتقد أنها تسبح لتعرف وعندما تخرج من النهر إلى الشمس والهواء تبدأ بتفنيد محمد أركون ولو لم تفنده، أي تستوعبه لتتجاوزه لما كانت عرفته أو ذهبت إلى حيث أشار.
رحيل محمد أركون بداية أخرى معه. وعلى سبيل المثال فأنا شخصياً قرأت أركون وأبي زيد مبكراً وبعد وفاة أبي زيد ألزمت نفسي بقراءته بشكل أكثر أناة وتدقيقاً.. قد يكون غياب الشخص إحياء للنص. من دون أن يؤثر ذلك في شعورنا بالنقص جراء الفقد الذي لولاه لتنامى النص كماً ونوعاً. انه جدل الحياة والمعرفةّّّ.
ومع الساعات الأولى عدت لمحمد أركون.. كتبه غير موجودة في المكتبة، لأن أولادي وأصدقائي وقرائي يقرأون كثيراً مما أقرأ فيقرأون أركون… إذن فكتبه التي أقتنيها في مكتباتهم.. ووجدت ما قد يكون آخر كتبه المترجمة إلى العربية أو من أواخرها “نحو نقد العقل الإسلامي” الذي أراده تجميعاً مكثفاً لكل ما اشتغله سابقاً. وعلى عادته في كتبه الأخرى فإن محمد أركون يتقن السؤال، وإذا ما حاول أن يجيب فهو يحرص ان لا يكون الجواب مغلقاً أي تمامياً، تبقى هناك مساحة أو فسحة في الجواب تبحث عن سؤالها. وهذه صفة المثقف الحقيقي الذي يخاف من الأجوبة التامة على أسئلته أو أسئلة الآخرين حتى لا يضطر الى نقض جوابه على طريق المعرفة الطويلة وحتى لا يضطر إلى الاعتذار.. خاصة وأنه غير السياسي الذي يتجنب افتضاحه أمام الجمهور إذا ما راجع أفكاره وصححها فلا ينقذ نفسه ولا ينقذ الآخرين من الضلال من تضليله!
فهل هذا يعني أن المثقف أو أن محمد أركون بلا جمهور؟ محمد الماغوط يخاطب بدر شاكر السياب يقول:
“تشبث بموتك أيها المغفل
دافع عنه بالحجارة والأسنان
قبرك الصغير كسلحفاة لن يبلغ الجنة أبداً
فالجنة للعدائين وراكبي الدراجات”
والمفكر الكبير… لا يضيره أن يمشي وحده “كما عبر عني المطران جورج خضر مرة” وعبر رسول الله عن أبي ذر بقوله “يحشر وحده”.. وقد مات وحده ودفن وحده.. ولطالما كانت الجمهرة مظنة للخيانة… اما المفكر فهو يلتزم بالجمهور ويخافه في نفس الوقت. يلتزم وينشغل بخلاص الجمهور من الاستبداد والجهل والخرافة والفقر.. ويخافه لأن سيره على طريق الحقيقة بطيء ومثقل بالسيطرات التي تعمي بصره وبصيرته.
وهناك كبار كبار وأئمة في تاريخنا لم يأكلوا من مال الناس قشرة من حبة شعير.. ولكنهم اتخذوا قرارهم بأن يفكروا للجمهور ويفكروا فيه.
ولكن محمد أركون في إحدى لحظاته محاضراً في البحرين- اعترف بأنه لم يكن حريصاً على توسيع قاعدة قرائه من العرب.. وأنه نادم على ذلك.. وشكا من عنصرية أوروبية تنغّص عليه انفتاحه ومشاركته الثقافية.
في كتابه الذي ذكرت.. ومن صفحاته الأولى تجتاحك الأسئلة مثل:
1 “كيف يمكن لأمم كبرى كفرنسا وألمانيا وإيطاليا وانكلترا ان تدمر بعضها بعضاً في حروب عالمية بعد أن كانت قد تحضرت وتعلمت واستنارت؟”.
كأنه يشك في أن يكون التنوير بداية لسلامنا الداخلي أبداً… هو يصر على التنوير ويبحث عن جواب لسؤاله الاستنكاري أشد تركيباً.
2 “من المعلوم أن النازية كما الشيوعية الستالينية قد علمتا وأشاعتا أشكالاً ومضامين من الحقيقة المطلقة المعصومة التي تحيلنا إلى طرح تساؤلات راديكالية حول طريقة اشتغال الروح البشرية بشكل عام”.
3- “أتساءل عن مصائر العقل ووظائفه في السياقات الإسلامية”.
4 “لكي نتفحص مسألة انعكاس مصير الثقافات والحضارات، أي كيف تنحط وتموت بعد أن كانت مزدهرة ومنتعشة ومنطلقة من المهم أن ندرسها لكي نعرف كيف تتقهقر مكانة العقل ومنتوجاته داخل مرحلة معينة”.
5 “في جميع.. فإن البحث عن الحقيقة يتطلب شيئاً أساسياً إلا وهو ان يتحمل العقل مسؤولية كل التساؤلات والمنهجيات وعمليات التصديق أو التثبيت الشرعي المرتبطة بانتاج المعنى”.
هل يصح أن نضع معادلة معرفية ونعممها على الشكل التالي:
أنا أسأل فأنا أفكر
أو أنا أسأل فأنا أعرف
أو أنا أفكر فأنا أسأل
أو أنا أعرف فأنا أسأل
وإذا كان الجواب ظاهراً في كل مقاصده، مفضوحاً أي من دون فضاء تأويلي فإنه ليس معرفة ولا يفتح على المعرفة.. أليس المجاز هو حقيقة أخرى؟ حقيقة أيضاً؟ أو هو الحقيقة الأجمل لأنها لا تقال إلا كناية أو استعارة أو تشبيهاً.
لسبب من عمق المعنى.. فيصبح المجاز معنى المعنى… أي أغنى!!!
هذا هو محمد أركون.. وهذه بعض شروعاته في الأجوبة التي تشبه الأحكام المبرمة ولكنها اعتراضات أو حماسات معرفية تتجنب حماقات الإطلاق والتعميم.
يقول أركون عن الدراسات الجامعية الأوروبية في المجال الإسلامي “سوف أركز فقط على العزل الانغلاقي الذي لا تزال تعاني منه الدراسات الجامعية والبحوث والمطبوعات الخاصة بالمجال المدعو بكلمة واحدة: الإسلام. وهي كلمة أصبحت كالكيس أو الوعاء الذي يحتوي كل شيء أو يرمون فيه كل شيء أو يحملونه كل المعاني ما هب ودب، من دون أي تمييز”.
هذا الذي يحلو للبعض على السمع ومن دون العقل، ان يعتبره عدواً بالإسلام، مهجوساً بالإسلام كأطروحة معرفية مركبة ومتحولة على ثوابتها ويأخذ علينا أننا نضع الله في التاريخ فننساه، ننسى الله وننسى تاريخية الإسلام! ولا يستقر في وعينا إلا الذاكرة العصبية.. وندافع عن الإسلام وكأنه هش معرض للانكسار الخ.
بينما يريد أركون ان نعرض الإسلام على أنفسنا في زماننا ونعرض أنفسنا عليه ليشتغل الجدل وتنمو المعرفة بتعدد العارفين. وها هو يقول: “بأن الفكر الإسلامي المعاصر يجهل معنى تاريخية الإيمان جهلاً كاملاً.. خصوصاً وأنه انقطع عن البحث التجديدي اللاهوتي الفلسفي منذ المنعطف الكبير للقرن الثالث عشر الرابع عشر. هكذا نجد أنفسنا امام معطى تاريخي يضيء لنا علاقة الأديان والبشر بالحقيقة خلال تفحص مسار الأديان التوحيدية وبعد حصول القطيعة الابستمولوجية والثورية الانقلابية الكبرى للحداثة. عن هذه النقطة الحاسمة غالباً ما يتم تجاهلها او تمريرها تحت ستار من الصمت في ملتقيات الحوار بين الأديان والثقافات التي عقدت بعد المجمع الفاتيكاني الثاني أي بعد عام 1965”.
ولا يجامل أركون الغرب بل ينقده في العمق يقول: “وعلى هذا النحو ينتصر ويسود خطاب المعايير المزدوجة في جهة الغرب، أقصد الخطاب الذي يدعو إلى احترام حقوق الإنسان والقيم الديموقراطية ثم يفسد في ذات الوقت بل وحتى يدمر ذلك العمل الضروري للفكر الحر الذي يحمي ويغني البحث النقدي عن الحقيقة بصفته شيئاً لا ينفصل عن المعنى والعدالة والمشروعية في كل مجتمع بشري”.
حروب المسلمين
يقول أركون: “كيف يمكن تفسير كل تلك الإدانات التكفيرية واللعنات اللاهوتية المتبادلة بين مختلف المذاهب الإسلامية منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا؟ كيف يمكن تفسير كل تلك الحروب والمذابح والانقسامات العديدة بين السنة والشيعة والخوارج والمعتزلة والصوفية.
حصرية الإسلام
“إن استخدام كلمة إسلام أصبح عاماً طاغياً سواء في الخطابات الإسلامية المعاصرة أم في خطابات وسائل الإعلام العالمية ام في كل ما يكتب ويعلّم عن الإسلام، وأصبحت هذه الكلمة تؤدي جميع الوظائف التي كانت تؤديها كلمة الله في الخطاب القرآني بصفتها فاعلاً إنسانياً أولاً.. إلى درجة أنها حلت محلها وأصبحت كلمة الله محصورة بالصلوات والابتهالات”.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى