صفحات سورية

الاحتكار والإفلاس…في السياسة

null


موفق نيربية

سوف يأتي يوم، يسبق شيخوخة أبنائنا، وربّما نراه بأعيننا التي يكاد الدود يأكلها ونحن أحياء، يصبح فيه لزاماً على الحكّام الالتزام بشرعة لمكافحة الاحتكار السياسي والإنساني والاجتماعي.

تنطبق قوانين مكافحة الاحتكار الحديثة على جميع الصناعات والأعمال، بما في ذلك عمليات التصنيع والنقل والتوزيع والتسويق، وهي تمنع كلّ ما من شأنه الحدّ من حريّة التبادل التجاري. وعلى الرغم من القلق الذي يساورنا من أيّ «اتّهام» بالليبرالية، فإن هنالك ما يغري جدّياً باشتقاق مفهوم الاحتكار في حقول عامة أخرى.

عانت شركة مايكروسوفت العملاقة وقبلها شركة «إي.تي.تي» قضايا كبرى وأحكاماً قاسية طبقاً للقوانين النافذة هذه، ولا يوجد ما يجعلنا نيأس من تعميم المفهوم واكتسابه شرعية دولية مع الزمن، حتى لو كان الأمر حلماً لن يراه إلاّ أولادنا، ما لم تضرب هذا العالم كارثة بيئية أو عوز هائل أو فوضى عارمة، لا سمح الله.

سلطاتنا تحتكر السياسة عموماً، من حيث حق اتّخاذ القرارات المتعلّقة بالبلاد، والمجتمع والمواطنين، فلا تسمح برأي غير رأيها، ولا بالتعبير عن اتّجاه يخالف اتّجاهها، وتعتبر أيّ شيء من هذا القبيل اغتصاباً لحقها المنفرد، وخيانة للوطن الذي هو هي.

وهذا بالطبع خرق فاضح لما تعلنه هذه السلطات نفسها من أنظمة وقوانين عامة، ولمجموعة الضوابط الصادرة عن المرجعيات الدولية، التي غالباً ما تكون الدول المعنية قد شاركت في إعدادها والتوقيع عليها. لكن إصدار دستور وقوانين والموافقة على شرائع دولية شيء، والمطالبة بتنفيذها في البلد المعنيّ شيء آخر. هذا البلد ملكية عقارية واجتماعية، وبيت ذاتي لا يحقّ لأحد المطالبة بتعديل سلوك ما هو داخل جدرانه. وكلّ من يتكلّم عمّا يدور فيه، يثبت أنه يخترق «حرمته»، سواء كان من «الداخل» أو «الخارج»، بل إن الداخل الذي يمارس ذلك يثبت بفعلته أنه من «الخوارج»، والويل له!

المعارضة ممنوعة، والمناقشة والاختلاف والدعوة إلى الحوار، جميعها تفترض الثنائية أو التعدّدية، وهذا يخدش الشرعية المؤسسة على الأنظمة الطبيعية المتوارثة منذ قرون وألفيات من السنين، أو التي يحلمون بتصنيع مثلها في هذا العصر. هذا احتكار للسياسة لابدّ أن يناله «القانون» أو الناس.

في العقد الاجتماعي الذي تقوم عليه الدولة المدنية الحديثة، هنالك احتكار مشروع، فالمواطنون يسلّمون للدولة بحقّ وحيد الجانب لممارسة العنف، تحت سلطة القانون، بحق كلّ من يُخالف القانون. والدول الهجينة التي تمتطيها السلطة تأخذ هذا الحق بشكل مطلق، وتخرق بنود العقد من خلال إعطاء نفسها وحدها حصّتها منه، من دون أن تقوم بواجبها المقابل، أو من خلال استخدام حقّها خارج حدوده.

العنف هنا ليس عنفاً مباشراً فحسب، بل كبت وقمع ومنع واعتقال كيفي وأحكام همايونية وتهديد وتخوين… إلى آخر القائمة المعروفة. هذه الممارسة لا ينالها نظام منع الاحتكار الافتراضي وحده، بل مجموعة من القوانين والشرائع المحلية والدولية، مع الأعراف والأخلاق والتاريخ، معاً وكلاً على انفراد. ولا يذهب المعروف في البحر، ولا المنكر أيضاً.

تحتكر السلطة–الدولة توزيع الثروة، وهنا يقترب الأمر كثيراً من قوانين مكافحة الاحتكار التي يجري اشتقاقها. يقترب من ارتكاب الأفعال التي ينال منها القانون، أيّ قانون.

فمن خلال كون السلطة مالكة القرار تتوزّع الأرباح والعمولات على الأعوان والمتعاونين، وتُحرم الشرائح صاحبة الثروة الوطنية من حصصها الشرعية. وحديثاً، ازداد تركيز الرساميل، ودخلت في طور الاحتكار المباشر، مستخدمة آليات الاقتصاد وتقنياته الحديثة. وحتى تكون ممسكة بقرون «النعجة» (ولها قرون!)، تعمد السلطة إلى أبواب الاقتصاد الرئيسة وتحتكرها، من مثل الكهرباء والنفط والاتصالات، ثم تمسك بقبضة باب رأس المال المالي، اختصاراً. فلا ينال أحد «خيراً» إلاّ عن طريقها، لتستطيع بذلك أن تتحكّم به وبالذين خلّفوه أو خلّفهم.

تحتكر السلطة-الدولة الرأي أيضاً، والتعبير والاجتماع والتنظيم بعد ذلك. وهذا ليس مقبولاً منذ القدم، فكيف في زماننا الآن؟!

تحتكر الوطنية أيضاً، وتخلط ما بين ذاتها والوطن، فكلّ من لا يُوافقها على ما تقوله في مسائل السياسة الخارجية منتقص الوطنية، وهذه ليست مبالغة، بل ممارسة عادية تكاد تُطرح كأنّها الحقّ والعلم والبديهة، وتصبح المسألة أكثر غرابة حين يُعتبر من لا يلتزم ويؤيّد ويهتف ويصيح ممالأةً أو تملّقاً أو تقيّةً خائناً. تصبح الوطنية هي هي تأييد الحكومة والحكام، ويصبح الوطن هو هو الحكومة والحكام، ولو كان هؤلاء منتخبين بحرية من شعبهم لقلنا «لا» لهم حين نرى غير ما يرون، فكيف حين لا يكونون كذلك، بالمرّة؟!

سوف يأتي يوم، يسبق شيخوخة أبنائنا، وربّما نراه بأعيننا التي يكاد الدود يأكلها ونحن أحياء، يصبح فيه لزاماً على الحكّام الالتزام بشرعة لمكافحة الاحتكار السياسي والإنساني والاجتماعي… ولن نكون نحن من يندم على الوقت الضائع عندئذٍ.

كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى