صفحات ثقافية

أمجد ناصر: اقتفيت رحلة عوليس لأنها رحلة التيه التي يعيشها المثقف العربي

null
«حيث لا تسقط الأمطار» روايته الأولى وكل ما كتبه في حياته ليس إلا رواية كبيرة
عناية جابر
«حيث لا تسقط الأمطار» رواية هي الأولى للشاعر الأردني أمجد ناصر صدرت حديثاً عن «دار الآداب»، ولقيت فور صدورها، مقاربات نقدية قيّمة. ناصر في خوضه الروائي، يرغب في توسيع حدود تعبيره الخاص، الأمر الذي يُقصّر عنه ربما، الشعر بما له من طبيعة اختزالية وإشارية. مزيج من حضور شبحي لسيرة شخصية مع توظيف مُتقن لشخصيات مختلقة استدعاها الخيال، الى أحداث في خدمة العمل رغب ناصر من خلالها مجتمعة، إضافة جديد إلى عالم الرواية العربية. عن جديد ناصر كان لنا معه هذا الحديث:
هل على كل شاعر أن يكتب رواية، هل هذا أمر لا بد منه؟
^ هناك من يقول إن النثر غواية الشعراء وربما حدث العكس أيضاً، لكني لم آت، في كل حال، إلى الرواية من القصيدة مباشرة، فقد وضعت، كما تعرفين، نحو أربعة كتب في أدب الأمكنة (أو ما يسمى «أدب الرحلة») وهذه كتابة لا تختلف كثيراً، من حيث بعض الإجراءات السردية والعوالم، عن الرواية بوصفها عملاً تخييلياً. يمكنك أن تقولي إنني تدربت طويلا في النثر والسرد المباشرين، إلى جانب وجود السرد في أعمالي الشعرية، حتى أن أحد أعمالي يتخذ من السرد عنواناً ومادة له هو «حياة كسرد متقطع»، إضافة الى عملي الشعري السردي الأخير «فرصة ثانية». ليس هناك شاعر، على ما أظن، لم يجرب شكلا من أشكال السرد أو الذهاب المباشر الى النثر، كما أن هناك كثيراً من الروائيين، في الغرب على الأقل، بدأوا شعراء أو لهم كتاب أو أكثر في الشعر، هذا عدا عن مرونة الحدود اليوم بين الأجناس الأدبية.
توسيع الحدود

ما الذي يمكن أن تقوله الرواية ولا يقوله الشعر؟
^ أعتقد أن كتابتي للرواية تتعلق برغبة في توسيع حدود التعبير الخاص بي. كتابة عالم ربما لا يستطيع الشعر، بما له من طبيعة اختزالية واشارية، الاحاطة به على هذا النحو العريض. هناك سرد في الشعر، هناك يوميٌّ وتفصيليٌّ وهناك موقف من العالم وهناك موضوعات لكن حدود القصيدة، على هذا الصعيد تحديداً، مختلفة عن الرواية بما هي إطار فضفاض. وعندما أتحدث عن توسيع حدود التعبير وبسطه على نحو عريض فأنا أفترض شيئا من توسيع حدود التلقي. هذا مجرد ظن ولست متأكداً تماماً من وجاهته.
هذا عملك الروائي الأول، هل كتبتهُ لرغبتك في بناء روائي مُحكم، أم تركت للسرد أن يأخذك ويتشكل كيفما يشتهي؟
^ لا، لم أترك للسرد أن يأخذني حيث يريد. فأنا لا أكتب على هذا النحو. كانت لدي رغبة في كتابة عمل روائي ذي بنية خاصة. واشتغلت على هذا الأساس لكن ذلك لا يعني انني اشتغلت بالمسطرة والفرجار، لقد تدفق السرد في أكثر من اتجاه في حدود الإطار العام للعمل. كانت لدي فكرة عامة عن الرواية عندما بدأت العمل عليها ثم راحت تتضح حدودها ومقاصدها مع تقدم العمل أكثر فأكثر.
إلى أي حد استخدمت سيرتك الذاتية في روايتك؟
^ سيرتي الشخصية حاضرة على نحو شبحي في الرواية. هناك خيط واحد، ربما، من سيرتي الشخصية استثمرته في كتابة الرواية، لكن من له إطلالة على سيرتي الشخصية يعرف أن معظم شخصيات الرواية وأحداثها ليست لها علاقة بشخصي ولا بسيرتي، معظمها متخيل أو مختلق. لكن الكاتب، في هذا النوع من الكتابة، لا يمكن أن يفر، نهائياً، مما عرف وخبر. فنحن، في نهاية المطاف، نكتب معرفتنا وخبراتنا، وهذه واحدة من مميزات الرواية، فهي تتسع لشوارد عديدة. هناك كتاب روائيون عظام لم يفعلوا شيئا سوى كتابة حياتهم وخبراتهم المباشرة. ماذا تسمين «البحث عن الزمن المفقود» لبروست؟ كيف يمكن أن نفصل الشخصي عن العام في روايات غالب هلسا؟ هذان مجرد مثالين على اختلاط الخاص بالعام والشخصي بالموضوعي. ما أرغب في قوله، هنا، والتأكيد عليه، أنني لم أكتب سيرتي الشخصية، لو أردت كتابة سيرة ذاتية لفعلت ذلك بطريقة مختلفة كلياً.
نزع الألفة
أول ما يخطر في بال من يقرأ روايتك استخدامك ضمير المخاطب، لماذا لجأت الى هذا الضمير النادر في السرد الروائي تقريبا؟ هل للأمر علاقة بالشعرية التي تريدها للرواية؟
^ لقد اخترت ضمير المخاطب لنزع الألفة عن فعل السرد على حد تعبير دارس للسرديات يدعى بريان ريتشاردسون. واستمراراً أقول إن الأمر يتعلق، ربما، بفتح آفاق جديدة للوعي وإضفاء طابع درامي على الشخصيات والأحداث. كتبت قسما معتبرا من هذه الرواية، في البداية، بضمير الغائب فلم أجد الوقع الذي أبحث عنه. لقد استخدمت هذا الضمير في كتابي «فرصة ثانية»، الذي هو بمثابة سرد شعري، وأعطاني نتائج أرضتني. وعلي أن أشير إلى انني كتبت الرواية و«فرصة ثانية» في فترة متقاربة فظل إيقاع ضمير المخاطب ملازما لي، وقد لاحظت خالدة سعيد تداخل الشعري بالحكائي في نص «فرصة ثانية» من دون أن تعلم أنني كنت أكتب رواية. قد يكون هذا أحد الأسباب، لكن ليس للأمر علاقة بمنسوب الشعرية ولا بفائضها. ليس في الرواية شعر، بالمعنى الدارج للكلمة، بقدر ما فيها، على حد تعبير الياس خوري، شعرية قادمة من انضباط لغوي وسردي يقتصد حينا ويسترسل حينا آخر، لكن الاقتضاب له الغلبة على ما أظن، فأنا لا أطيق الثرثرة اللغوية والصور الطائشة والمجازات المرسلة على عواهنها، وهذا ليس ضد ما هو روائي، فليست الكتابة الروائية، كما أفهمها وأفضلها، ثرثرة لغوية وركاكة في التعبير بحجة قولها لليومي والمعيش والعاديّ، ألا يمكن أن ينكتب اليوميّ والعاديّ بلغة منضبطة ودقيقة؟
ليست حدوتة
لكن هناك من يرى ان الرواية اكثر انبساطا في علاقتها باللغة والعالم على أساس صلتها بالواقع وهي بذلك تختلف عن القصيدة؟
^ الانبساط لا يعني الثرثرة والركاكة. نحن بذلك نحدد لغة حاكمة للعمل الروائي من الدرجة الثانية، من يكتب رواية بركاكة لغوية وتعبيرية يفعل ذلك لأن لغته ركيكة ومهلهلة، ليس لأنه يرغب في الاقتراب من الكلام اليومي والامور العادية، الرواية عمل فني، عمل يسعى لإنشاء عالم ولا يمكن انشاء عالم او فهم عالم بلغة ركيكة. هذا لا يعني أن تكون الرواية ذات لغة معجمية أو متقعرة، هذا استعراض أو ادعاء مزعج في أي نوع أدبي. الرواية ليست بالضرورة نثرا يوميا مترهلا مرسلا بلا ضوابط حتى عندما تستثمر إمكانات العامية والكلام اليومي وتخوض في النافل والمهمل، كما أنها ليست وصفا خارجيا للعالم ولا هي حدوتة تروى، لقد تجاوز تاريخ الرواية كل ذلك على ما أظن.
هناك ملاحظة أخرى تتعلق بتجهيلك لأسماء الأمكنة أو إطلاق أسماء أخرى عليها ليست متداولة مثل الحامية، المدينة المطلة على البحر، المدينة الرمادية والحمراء إلخ.. ما هو تفسيرك لذلك؟
^ لعل جوابي موجود في الرواية نفسها حيث يتحدث بطلها، أو شخصيتها الرئيسية، عن رغبته في التحرر من الأسماء، بوصفها نقاط ارتكاز اكتشف كم هي هشة وغير مجدية. لم أخطط، في الواقع، لهذا التدبير، جاء بمحض الصدفة واعتمدته في كل الرواية تقريبا. لعله نوع من المباعدة عن الواقع الفعلي وربما محاولة لتكثيف هذا الواقع أو التعرف إليه، لكن ليس من خلال شاخصات جاهزة، أو لعله محاولة لإعادة تسمية بعض الأشياء بطريقة مختلفة. كما أنني لست كاتبا واقعيا رغم انخراطي التام في شؤون الواقع من خلال عملي في السياسة سابقا، ومواصلة اهتمامي بالشأن العام عبر مقالاتي او عملي الصحافي. ليست هناك وصفة واحدة لكتابة الواقع، هذا عدا عن كون الواقع أكثر مراوغة ومكراً مما نتصور ومما يمكن للكتابة أن تلقي القبض عليه، للواقع وجوهه المتغيرة والمتعددة تعددا يصل الى حد الاستحالة. أن نكتب الواقع لا يعني بالضرورة أن نفهمه أو أن نقدم خدمة فكرية وابداعية في فهمه.
هناك ملامح اقتفاءٍ لرحلة عوليس في الرواية: الرحلة المتشعبة، الزمن نفسه، محاولات العودة الفاشلة، الندبة، رولى وبنلوبي، هل هذا مقصود؟
^ كان عنوان الرواية حتى قبل شهرين من طباعتها هو «ندبة عوليس». هذا يعني أن هناك اقتفاء أو استثماراً للهيكل العام للرحلة، فليس صدفة فعلاً أن يكون زمن الرحلة عشرين عاماً، وأن تكون علامة الشخصية الرئيسية هي الندبة، التي لها شكل صليب على بطنه، وأن يكون ثمة شبه بين «رولى» الشخصية النسائية الرئيسية وبنلوبي خصوصاً من حيث الانتظار. الرحلة العوليسية دخلت في عدد لا حصر له من الأعمال الأدبية بوصفها نموجا للرحلة الكلية، رحلة التيه ومحاولات العودة المضنية إلى الوطن. المثقف العربي، في عصر الأنظمة الطاردة لمن يفكر فيها، عاش رحلة تيه تشبه رحلة عوليس، حيث الرحلة تمتد وتمتد، والتيه يتسع ولا تلوح إيثاكا عبر الأمواج المتلاطمة. لقد غيرت العنوان بناء على نصيحة من دار النشر وبعض الأصدقاء الذين اطلعوا على مخطوطة الرواية ورأوا فيها مباشرة وإحالة على عمل شائع.
هل تتفق مع القول بوجود تشابه بين روايات المثقفين العرب المنفيين أو المقيمين خارج أوطانهم؟ وهل يمكن الحديث الآن عن رواية منفى؟
^ كتابة المنفى ستظل موجودة، بصرف النظر عن تغير الظروف السياسية، فالمنفى، بالمعنى الفلسفي والوجودي، أعمق وأكثر مرارة من المنفى الذي يفرضه ظرف سياسي عابر. قد لا تكون الظروف السياسية الراهنة في العالم العربي وميل معظم الانظمة الى الانضواء الكاذب في عقيدة حقوق الانسان مماثلة لما كانت عليه في عقود الستينيات والسبعينيات حيث زج مئات الكتاب والمثقفين في السجون أو اجبروا على مغادرة بلادهم، لكن هذا لا يعني سيادة أدب عكس المنفى إذا جاز التعبير، فالشعور بالاغتراب بالمعنى الفلسفي بل والحياتي سائد في الكتابة العربية سواء كانت في داخل الأوطان أم خارجها، بل لعله سائد في كل كتابة أصيلة. من يريد معرفة خصائص كتابة المنفى عليه العودة الى تأملات ادوارد سعيد على هذا الصعيد. مع ذلك هناك من يرى أن الكتابة هي، بحد ذاتها، تعبير عن منفى أو ممارسة للمنفى. لا أتذكر الآن من هو الكاتب أو المفكر الذي تحدث عن الإبداع بوصفه ممارسة الأقلية أو إنتاج الأقلية، وهذا يفتح على منفى داخل اللغة نفسها. من الطبيعي أن تكون كتابة المثقفين العرب المقيمين في الخارج، سواء في أوروبا أم في أميركا، متشابهة نظرا إلى تشابه ظروف خروجهم من أوطانهم وعيشهم في مجتمعات جديدة لم يتمكنوا من الانخراط فيها تماما.
تداخل الكتابة الإبداعية عندك موجود في الأساس في أكثر من نتاج لك، في الشعر كما في الكتابة الذاتية وفي تلك التي تدوّن فيها أسفارك وعلاقتك بالأمكنة. هل تريد من روايتك «حيث لا تسقط الأمطار» تسجيل نقطة حاسمة لصالح اكتمال، إذا صحّ التعبير، كتابتك على تمام الأصناف الإبداعية؟
^ لست هاوي جمع طوابع ولا باحثا عن أرقام قياسية. منذ وقت طويل اقتنعت بتجاور الأجناس الأدبية وتداخلها رغم السمات الخاصة لكل جنس أدبي. هذه القناعة جعلت فعل الكتابة عندي هو الأساس. ومع ذلك فالأمر يتعلق كما قلت من قبل برغبة في توسيع حدود التعبير. هناك موضوعات وقضايا يمكن أن تنكتب في القصيدة وهناك ما يمكن أن ينكتب في أدب المكان أو الرحلة، وهناك ما هو مطرحه اليوميات أو المقالات أو حتى الشذرات. عملي في الصحافة جعلني على تماس مع طيف واسع من أشكال الكتابة، لم أختر كتابة المقالات ولكن كان لا بد لي أن أكتب مقالات، لأنها تضمن التعليق على الشأن العام بالمعنى المباشر، ولكن حتى في كتابتي للمقالات وجدتني أسحب معي مفردتي وأحيانا أسلوبي في كتابة القصيدة. كتابتي لهذه الأشكال الكتابية التي تبدو مختلفة، تنطلق عندي من منطقة واحدة تقريبا، غير أن هذا لا يعني أنني نجحت في كل ما كتبته وجرّبته. تنتابني، أحياناً، رغبة في اللعب، لكن ينتابني أحيانا أخرى شعور بالندم على تسرعي في النشر، لأنني أكتشف، مثل بطل روايتي، أن لهذه الكتابات التي تسرعت في نشرها متفرقة لحمة سرية واحدة لا تتبين لي إلا بعد حين، مثل أحجار الجكسو المتفرقة التي تضمر خطتها، أو شكلها السري الذي لا يتضح إلا عندما تضعه يد ماهرة، أو بصيرة، في موقعها الصحيح. كل ما كتبته، وربما ما سأكتبه، عبارة عن أجزاء متفرقة ومبعثرة، أحياناً، لرواية كبيرة، أو لكتابة هي أمّ كل الكتابات عندي، الكتابة النهائية لخبرتي وتجربتي وزمني وشهادتي عليه. لكن هذا لا يتضح لي في حينه ولست نبيهاَ، على ما يبدو، كفاية لأرى هذا الجسد وهو يحاول استجماع أطرافه المشتتة.
عناية جابر
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى