صفحات مختارة

سقوط القرضاوي في مستنقع التعصب

ميشال شماس
للمرة الألف أقولها، إنني لستُ ضد أي دور لرجل الدين في المجتمع، ولكن أي دور؟ إنه بالتأكيد الدور الحقيقي الذي يجب أن يؤديه رجل الدين داخل الكنيسة أو الجامع أوفي أي مكان أخر، من خلال التوجيه للمجتمع بالالتزام بالمنظومة الأخلاقية والوقوف بوجه الانحراف والفساد بكافة أشكاله سواء كان في السلطة أم في المجتمع و المشاركة في مقاومة الاحتلال وتحرير المجتمع من سطوة الجهل والظلم،
وليس بالتأكيد أن يقوم رجل الدين بالإفتاء لتبرير سلوكيات السلطة واختلاق كل ما يبرر انحرافها وطغيانها أو بالدعوة إلى تكفير الأخر وقتله واعتبار أعياد غير المسلمين باطلة وتخالف الشريعة، بالإضافة إلى أنها غير جائزة ؛ لأنها تنم عن عقيدة فاسدة وغير منضبطة موضحاً أن التهنئة فيها تعتبر نوعا من الإقرار لما هم عليه من الكفر. كما أفتى بذلك الدكتور رمضان القطان – أستاذ الفقه بكلية الشريعة جامعة الأزهر مؤخراً والذي ذهب إلى أبعد من ذلك عندما قال : ” أن تهنئة المسلم لغير المسلم في أعيادهم غير جائز شرعاً ، مشيرا إلى أن من يفعل ذلك فهو آثم ، سواء فَعَلَه مُجاملة أو تَودّداً أو حياءً أو لغير ذلك من الأسباب ؛ لأنه من المُداهنة في دين الله ، ومن أسباب تقوية نفوس الكفار وفخرهم بِدينهم”عن موقع الفقه الإسلامي 10/12/2009 .
وما أفتى به قبل ذلك الشيخ يوسف القرضاوي أحد كبار “علماء ” الإسلام المعتدلين وأكثرهم تأثيراُ في الشارع العربي والإسلامي والذي أيقظ بفتواه الأخيرة فتنة الفتاوى والآراء الدينية وصحّاها من نومها حين حرّم الاحتفال بعيد الميلاد وأعياد رأس السنة، وحث المسلمين على عدم مشاركة المسيحيين احتفالاتهم بأعياد الميلاد مستنكراً وغاضباً من وجود زينة الاحتفالات من أشجار وخلافه في محلات المسلمين، وغاضباً من وجود إقبال إسلامي على شراؤها،. ولم يكتف بذلك بل دعا المسلمين المقيمين في دول أوروبا وأمريكا إلى تجنب احتفالات شعوب تلك الدول وعدم المشاركة فيها.
وقد علق أحد الأخوة المسلمين على كلام القرضاوي قائلاً : ” كأن القرضاوي يتكلم عن ضرورة مقاطعة هذه الاحتفالات على غير عادته وكأنه يتحدث عن كفار قريش لا عن إخوة لنا تفصل بين غرف نومنا ونومهم حوائط، أو ننام بجوارهم على أسرة واحدة في المدن الجامعية والجيش وبيوت الغربة وكأنها رجس من عمل الشيطان”
وعلق أخر بالقول ” أنا أحترم القرضاوى كثيراً فله من الآراء والحكمة في التعامل مع المواقف، ما تجعل الكبير في هذه البلاد مجرد تلميذ في حضرة مدرسته، ولكنه للأسف سقط في فخ التعصب هذه المرة وجانبته الحكمة، فالأمر يا شيخنا أبسط من كل أنواع التعصب، فلا الذين اشتروا شجرة الكريسماس سيصلون في الكنائس أو يقدسون الصليب، أو يأكلون من لحم الخنزير ويبلعون بكأس خمر، الأمر يقتصر يا شيخنا على نوع من المشاركة يفرضه الوضع الاجتماعي بشكل طيب، نوع من المشاركة يمكن تكييفه فقهيا إذا أدخلناه تحت بند العادات وليس العقائد، والأصل في العادات يا شيخنا كما تعلمنا وقرأنا هو الجواز ما لم نخالف أصلا من الأصول المجمع عليها، أو نحل حراما أو نحرم حلالاً، وشراؤنا شجرة الكريسماس أو تهنئة الإخوة المسيحيين أو حتى ذهابنا للاحتفال معهم في الكنيسة بغرض التهنئة والمشاركة يندرج تحت هذا البند ولا يدخل في نطاق الحرام، بقدر ما يعتبر تعبيراً شديداً وفاعلاً عن سماحة الإسلام واحترامه للآخر”
نعم لقد سقط حضرة الشيخ يوسف القرضاوي في فخ التعصب عندما أيقظ بفتواه الأخيرة الفتنة النائمة التي لا نريد لها أن تصحو أبداً، وحق لنا أن نعتب على الشيخ القرضاوي الذي ختم فتواه بتوجيه إنذار إلى قومه معتبراً أن مشاركة المسلمين للمسيحيين أعيادهم ” حرام وعيب ولا يليق ويدل على غباء في معاملة الآخرين” فلماذا يا حضرة الشيخ المحترم تشاركون إذا في مؤتمرات حوار الأديان ، وما هي الجدوى من تلك الحوارات إذا كنتم تحرّمون على المسلمين المشاركة في أعياد المسيحيين؟
وأين هي سماحة الإسلام ورحمته في التعامل مع الأخر المختلف ديناً التي نص عليها القرآن وأكدتها الأحاديث النبوية، والتي عرفها وعايشها المسيحيون العرب منذ مئات السنين، تلك التعاليم التي أبقتهم إلى جانب أخوتهم العرب من المسلمين، والتي لم يعد يعكسها المسلمون اليوم لا في تصرفاتهم ولا في تعاملاتهم مع المختلف عنهم دينياً… فما ظهر من تصرفات وفتاوى في الفترة الأخيرة لا تمت إلى تعاليم الإسلام بصلة ستسيء بالتأكيد إلى صورة الإسلام والمسلمين وتجعلهم فريسة للتعصب والقوى المتطرفة، وستدفع ما تبقى من المسحيين العرب إلى ترك أوطانهم الأصلية والهجرة نهائياً إلى بلدان أخرى. وهذا ما سبق أن حذر من وقوعه الكاتب العربي الكبير محمد حسنين هيكل الذي سبق أن قال في كتابه “عام من الأزمات- كلام في السياسة” 🙁 أشعر، ولابد أن غيري يشعرون، أن المشهد العربي كله سوف يختلف حضارياً وإنسانياً وسوف يصبح على وجه التأكيد أكثر فقراً واقل ثراءً لو أن ما يجرى الآن من هجرة مسيحيي المشرق ترك أمره للتجاهل أو التغافل أو للمخاوف. أي خسارة لو أحس مسيحيو المشرق أنه لا مستقبل لهم أو لأولادهم فيه، ثم بقي الإسلام وحيداً في المشرق لا يؤنسه وحدته غير وجود اليهودية الصهيونية – بالتحديد أمامه في إسرائيل).
كلمة أخيرة نقولها، ما من أحد مؤهّل للحكم على الآخر أو إصدار أية تعاليم وفتاوى، فكل فرد منا مسؤول عن نفسه وسلوكه. ولو شاء رب العالمين لجعل الناس كلهم مسلمين أو مسيحيين أو يهود ، ولكنه شاء أن يخلقهم شعوباً وقبائل مختلفة ليتعارفوا وقرب إليه الأتقياء منهم فقط، وشاء أيضاً أن يكون الإنسان حراًً في اختياره حتى مع الله القادر على كل شيء، الذي لم يشأ أن يكون الإنسان عابداً له بالإكراه، بل شاء أن يمنحه حرية الاختيار في أن يكون عابداً له أم لا كما جاء في القرآن الكريم : “وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”(الكهف29) وجاء أيضاً ” ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين” ( يونس 99). فليس بعد تلك الأقوال لأحد منا سواء كان مؤمناً أو غير مؤمناً، وسواء كان حاكماً أو محكوماً، أن يحجب مضمون تلك الآيات عن الناس. لا بل يجب أن تبقى مهمتنا الأولى التي يجب أن نتصدى لها نحن البشر وبلا إبطاء في أن نمنع الكفر من أن يتحول إلى ظلم اجتماعي ومعرفي أو اقتصادي أو سياسي..الخ.
لذلك أعتقد يا حضرة الشيخ يوسف القرضاوي أن الترجمة الحقيقية والصحيحة لما جاءت به الرسالات السماوية وأيضاً ما جاءت به المواثيق والعهود الدولية عن حرية الإنسان وحرية الاعتقاد والدفاع عن حقوق الإنسان بصفته إنساناً، هو في أن نعيد بناء أوطاننا من جديد “كدولة حديثة” أوطاناً تكون لجميع أبنائها، وأن نعمل معاً على إضفاء الطابع المدني الديمقراطي على أوطاننا وتنشئتها وتنميتها على هذا الأساس، أوطاناً ترتكز أولاً وأخيراً على مبدأ المواطنة الكاملة، والمبنية على الحقوق المتساوية لكافة المواطنين وتمتعهم على وجه الخصوص بحرية الفكر والعقيدة وسائر الحريات العامة والخاصة بصرف النظر عن الدين أو الجنس أو العرق.
كلنا شركاء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى