صفحات ثقافية

صورة الغياب أم غياب الصورة؟ صناعة صورة الذات، تهافت الرمز – الصورة

null
علي زراقط
امتلاك الغياب.     فضح صورة الآخر الاسرائيلي.
سؤال يطرح نفسه: لماذا تخبئ أميركا صور قتلاها، والدمار الذي لحق بها في 11 أيلول، فيما نحتفي نحن بقتلانا، وبالدمار الذي حل بنا خلال حرب تموز 2006؟
الموتى والبكاء على كل الشاشات، الدمار على صفحات الجرائد، مشاعٌ من الواقع يمتد على مدى المشهد البصري الذي رافق حرب تموز. الأب المفجوع يرفع الطفلة الميتة اختناقاً، كي يراها العالم وتصورها الكاميرات. التلفزيونات تنقل مباشرةً على الهواء، القصف الليلي على الضاحية الجنوبية. من البعيد، وفي النهار تدخل الكاميرات لترى الدمار الحاصل وتصوّر حجم الكارثة… تكثر الصور التي تسكن الذاكرة الجماعية عن حرب تموز. في المقابل لا شيء سوى صورة الطائرتين ترتطمان بالبرجين في نيويورك، وبعض من رجال الإطفاء يعملون كالأبطال في أفلام الأكشن على انتشال الجثث: هي الصورة التي أُريدَ لها أن تسكن الذاكرة عن 11 أيلول.
في المفارقة الواضحة، ما بين الحرب وصورتها، هناك طباقٌ بصري بين صورة “الحربين”، أو إن شئنا صورة الفاجعتين. بين صورة أميركا مرتع الحضارة الحالية ومصدرها، وصورة لبنان الصغير كواحدٍ من بلدان “العالم الثالث” (إن صحَّ التعبير)، يكمن الطباق.
في صورة الحادي عشر من أيلول
أتذكر جان بودريار يقول في كتابه “التماثل والمحاكاة”، الصادر في أواخر الثمانينات من القرن الماضي: “لم تعد المسألة محاكاة، أو تعدداً، أو حتى تماثلاً. بل أصبحت استبدالاً للواقع برموز الواقع، هي عملية تقويض الواقع إلى تماثله العملي”. من هنا فإن مهاجمة رمز “الرأسمال العالمي” في “مركز التجارة العالمي”، كانت هجوماً على الرأسمال في حد ذاته. إن هذه النزعة إلى “الواقعية المضاعفة” تضع الثقافة الأميركية أمام اختبار الصورة. الثقافة التي “اختارت أن تكون مرآةً”، على قول جان لوك غودار، تصبح “انتاجاً لمجتمع يحاول أن يجعل من الحاضر متحفاً للمستقبل”، كما تعبّر مالوزين هارليه. هذا الاحتمال الذي فرضته اختبارات “ما بعد الحداثة” على الثقافة الغربية، استبدالاً لما يسمّيه جيمس ماكفرلاين “الانتماء إلى الزمن الحاضر” في أفكار “الحداثة”، يجعلها اليوم تواجه عدواً من خارجها، قادراً على اسقاط الصورة الغربية – الرأسمالية من غير خوف الوقوع في تناقض محاربة الذات في محاربة الآخر، الذي وقعت فيه الشيوعية. هذا إذا ما اعتبرنا أن الشيوعية والرأسمالية نزعتان لوجه واحد من الحضارة يبحث عن الصفة “العالمية” بوصفها “أممية” أو بوصفها “عولمة”. هذه المقاربة تفترض أن “الارهاب” المنتمي إلى التيارات السلفية، “محاولة لتقويض المستقبل وجعله صورةً أو متحفاً للماضي”، هو “العدو” الحقيقي للحضارة الغربية، لأن ثمة تناقضاً وفق هذه المقاربة بين الانتماء الفكري السلفي الى الماضي وانتماء الحضارة الغربية الى المستقبل وذلك عبر الصدمة الحضارية للزمن الحاضر، وهي صدمة المرآة كما يعبّر عنها فرويد. هي صدمة الحضارة الغربية المبنية على “صورة الواقع”، في أن ترى نفسها في المرآة، في محاولة لإعادة صوغ الوعي الجمعي لتشكل الأنا كنحن، كما يعرّف عنها فرويد. والأنا هنا هي الأمة الأميركية، والنحن هي العالم. تصبح النحن مختصرة في الأنا. هي صدمة كي تعيد إلى الوعي الأميركي أن الثقافة الأميركية ليست نموذجاً مثالياً (متحفاً) لمستقبل الثقافة كما عليها أن تكون، بل هي امتداد لثقافة حاضرة في العالم، تسعى هي الى السيطرة عليها عبر نشر وهم التفوق. يأتي السؤال هنا: ممّ يأتي وهم التفوق هذا؟
يعتبر الكثيرون من المحللين الاعلاميين العسكريين الأميركيين، أن أكبر سقطات الاعلام الأميركي على مر التاريخ كانت خلال حرب فيتنام، من حيث نقل الكثير من صور الجثث، والمصابين الأميركيين إلى الجمهور الأميركي والعالمي. ويرى العسكريون في ذلك سقطة لسياسة “رادع التفوق”، أو “وهم التفوق” الذي يفترضه كلٌّ من الإدارة الأميركية، والشعب الأميركي، في كون أميركا هي الأمة الأكثر تطوراً والأكثر انحيازاً إلى الديموقراطية وحقوق الانسان، إضافة الى كونها الأمة الأقوى. وفي هذا الانكسار الذي أصاب الثقافة الأميركية من خلال تقويض صورة البطل الأميركي الذي كان قد “حرر” أوروبا في الحرب العالمية الثانية، في تبيانه مهزوماً ومقتولاً، تأتت الصدمة التي أوصلت الأميركيين إلى المكان الذي أصبحت فيه عبارة “صفر موتى” هي الشرط الأهم والأكثر الحاحاً في حرب الخليج الأولى عام 1991، وهي الحرب التي افترض بودريار انها “لم تقع” لأننا لم نرَ معارك بل رأينا جنوداً، ولم نرَ دماً بل رأينا أرقاماً وإحصاءات. هذا الغياب للصورة، لصورة الموت، هو القانون الذي حكم الاعلام الأميركي خلال حوادث الحادي عشر من أيلول 2001، تكراراً. يأتي السؤال هنا على شاكلة: هل كانت الظاهرة عبارةً عن “غياب الصورة” أم أنها كانت “صورة الغياب”؟
الفارق بين المفهومين يتعدى الفارق اللفظي، إلى السياسة الاعلامية الأميركية التي تفترض غياب الصورة أسلوباً للقوة، والمفهوم الارهابي الذي يفترض الرمز أصلاً كما أكدت ثقافة “الواقع المضاعف” على مر عقدين من الزمن. من هنا كان الهجوم على رمز القوة الأميركية (البنتاغون)، ورمز الاقتصاد الأميركي (مركز التجارة العالمي)، هجوماً على أصل البنية الفعلية للامبراطورية الأميركية. انهيار هذا الرمز، وغيابه في ما يلي، قد شكّلا ما يمكن أن نصفه بصدمة المرآة، بأن يتجلى الوهم أمام الحقيقة، في تجلي الرمز أمام الأصل. لذا فإن السياسة الاعلامية الأميركية سقطت مرة أخرى في فخ الرمز، الذي حاكته بنفسها لنفسها. من هنا أتت قوة صورة سقوط البرجين على أنها “صورة غيابهما”، أي صورة غياب الرمز، وفي ذلك تحقق تهافته. فهل يتهافت الأصل في تهافت الرمز – الصورة؟ يبقى هذا السؤال الذي يشكل محور المناقشة في الثقافة الغربية: هل تصدق مقولة بودريار، في “الواقعية المضاعفة” لتهافت الأصل في تهافت الصورة، أم تتهافت المقولة في أن يصنع الأصل رمزاً جديداً؟ هنا تبحث الأمة الأقوى في حربها الآتية (أفغانستان والعراق) عن صناعة هذا الرمز.
في صورة حرب تموز 2006
في كتابه نفسه، يتابع بودريار شرح الفارق بين مصطلحين، “صورة إنكار التماثل” (dissimulation) الذي هو في “أن تدّعي أنك لا تمتلك ما يمتلكه الآخرون” و”تماثل الصورة” (simulation) الذي هو في “أن تدّعي امتلاك ما يمتلكه الآخرون”. إلا أن افتراض أن الحضارة ومرجعها يعودان إلى “الأمة الأقوى”، فكلمة “الآخرون” هنا، وفي معرض كوننا نتحدث عن لبنان (أمة ضعيفة)، تعود إلى هذه الأمة (الأمة الأميركية).
عندما رفع الوالد، الرجل، الطفلة المختنقة على كفيه، كان يدّعي أنه يمتلك ما يمتلكه الآخرون. هو يمتلك بين يديه صورة طفلة ميتة. إنه يدّعي أنه يمتلك نوعاً من “صورة الغياب”، غياب هذه الطفلة عن الحياة. هو في ذلك يحاول أن يوصل رسالة إلى العالم بأننا، نحن الآخرين، بشر أيضاً ولدينا آلامنا ومآسينا. هو يحاول من موقع افتراضه للضعف، واعترافه بأن هناك من هو أقوى منه، أن يثبت بأنه ضعيف، وبأن الآخر هو أقوى منه. وبهذا يظن الرجل، ومن بعده صانع الصورة، أنه يستدرج تعاطفاً ما، عبر صناعة صورة للغياب، عبر صناعة فضيحة أخلاقية لإدعاء الحرب لأجل الحضارة.
من ناحية أخرى نرى صورةً ثانية يصنعها “حزب الله”، الطرف العسكري المناهض للأمة الأقوى. تفترض تكتيكات “حزب الله” صناعة صورته على معادلة “فضح صورة الآخر”، بمعنى أنه يحاول أن يبرهن كذب صورة العدو التي تدّعي القوة. يحاول “حزب الله” أن يوجّه خطاباً مدروساً لإنكار قوة “الأقوى”، من خلال تبيان عدم قدرة الأقوى على تأكيد قوته هذه. الجيش الاسرائيلي الذي طالما تغنّى بأنه الجيش الذي لا يقهر، يصنع صورته على أنه الجيش الذي دخل في خمس حروب مع كل الدول المحيطة به وخرج منها منتصراً، أو خرج غير مهزوم. يتدخل الحزب هنا لكسر هذه الصورة في أن يصنع نصراً، وفي أن الجيش الاسرائيلي “القوي” لم يستطع أن ينتصر على الحزب “الضعيف”. هنا ينتهج الحزب سياسة الفضيحة، فضيحة أن “الآخر” ليس قوياً كما يدّعي، وهي الصفة التي لطالما حرص عليها العدو. يصنع “حزب الله” من نفسه رمزاً لتهافت “إدعاء القوة” أو “وهم التفوق”، ليحاول أن يقول إنه في مقام التماثل مع صورة الآخر في الضعف عينه. وفي هذا اعتراف ضمني بالضعف، إلا أن ما يميز هذا الاعتراف، أنه يحاول جر الآخر إلى تماثل في الصورة، في صورة الضعف عينه.
يمكن هنا أن أتفق مع المفكر الفرنسي بيار بورديو: “إن الصفة الأساسية لكل علاقة قوة، هي أن “تنكر” كونها علاقة قوة: وهي من خلال ذلك تحتفظ بكل قدرتها على فرض هذه العلاقة من خلال صناعة “صورة الإنكار” هذه”. يورد بورديو هذه المقولة في معرض مراجعته لعلاقة الرأسمال بالمجتمع، بحيث أن الرأسمال ينكر تحكّمه بالمجتمع عبر إلباس تحكّمه لبوساً أخلاقياً، كأن يكون لأجل خير البشر، أو لأجل الرفاهية، أو لأجل الديموقراطية والحضارة. ومن خلال هذا الادعاء يصل الرأسمال الى أن يستمر في فرض علاقة القوة هذه على المجتمع، والفرد.
في مكان آخر، وإذا نظرنا إلى الحرب في كونها “علاقة قوة” تلبس لبوس الحضارة لتنكر تسلط الأقوى على الأضعف كي تستمر في فرض هذا التسلط، فإننا نرى في تكتيك الحزب، كما في تأكيد “صورة الغياب” التي يعتمدها الوالد (كمثال على صورة القتلى)، وسيلة واحدة تنتهجها الأمة الأضعف في تأكيد ضعفها لفضح علاقة القوة التي تفرضها الحرب، والتي تنكرها الأمة الأقوى.
إلا أن هذه المعادلة تحتوي تناقضاً، بحيث أنها تعترف بضعفها كي تثبت “تماثلها” مع الآخر في ضعفه. وهي تعتمد في الآن نفسه على افتراض “قوة الآخر” لتبيان قوتها. فهل هي في ذلك تعكس صورة متماثلة مع الحقيقة، أم أنها تعتمد على صناعة “الرمز-المضاد” لرمز القوة الأميركي؟ قد يكون هذا هو السؤال الأوفى، الذي يستحق البحث في مورد هذه الصورة.
يتلخص الصراع بين “غياب الصورة” على المذهب الأميركي كون الولايات المتحدة هي الأمة الأقوى، وبين “صورة الغياب” كمعادلة تعتمد على الضعف مبتدأ، والتي تتبناها الأمة الأضعف. الأمة الأقوى تسعى الى تغذية صورة قوتها عبر حرب تغيب عنها صورة الدم كي تكون أكثر “تحضراً”، والأمة الأضعف تغذي صورتها “المعاندة” على أنها تثبت ضعف الآخر بتأكيد ضعفها. في هذا الافتراض ما يجعل الضعيف والقوي في حاجة إلى هذه الحرب لصناعة صورتهما ¶
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى