صفحات ثقافية

محمود درويش: فكّر بغيرك

null
بول كوسكي
كان محمود درويش صوت فلسطين، لكنّه كان، على وجه الخصوص، صوت ضمير كوني. الشاعر الذي رفض أن يُسجن في دور المناضل السياسي، كان يفضّل الاحتفال بجماليات الكون في مقاومتها لشرور الحرب. كلّ المسار، من النص الشعار ‘سجّل أنا عربي’ إلى ‘فكّر بغيرك’، يجلي ذلك: شاعر الهوية الفلسطينية، غير أنّه أيضا شاعر الغيرية والكونية .
‘ تخلّيت عن كتابة الشعر السياسي المباشر المحدود الدلالات، دون أن أتخلّى عن مفهوم المقاومة الجمالية بالمعنى الواسع للكلمة ‘ كان يقول. وشبيها بريلكه الذي كان معجبا به، وضع الاستطيقا في مقابل الفظاعة الحربية، حتى وإن جُعل منه رمز المقاومة الفلسطينية. لا شيء كان يزعجه سوى أن يُختصر ويُسجن في مناداته بالشاعر الرسمي لشعبه أو شاعر المقاومة.
وجد محمود درويش نفسه وقد التصقت به تسمية شاعر القضية الفلسطينية بسبب أو بفضل نصّه الملتزم ‘سجّل أنا عربي’ (1964)، هذه القصيدة التي أضحت شهيرة في العالم العربي وأنشدت كأنّها ترتيلة نضال الفلسطينيين. كان درويش يقاوم جمهوره الذي كان يحضّه على إنشادها في أمسياته الشعرية. هذه القصيدة لم يكن ينكرها أو يتبرّأ منها. كيف له أن ينسى نضالاته السابقة، وخصوصا طفولته الموسومة بالنفي على أرضه مسقط رأسه؟ (هو المولود بفلسطين، قريته تمّ محوها تماما من الوجود، وعائلته اضطرت الى الهرب إلى لبنان، عند عودتها اكتشفت أنّ قريتها حلّت محلّها مستوطنة يهودية)، هو الذي سيُسجن عدّة مرّات وسيًُفرض عليه النفي سنة 1971. كلّ هذا هو كذلك ثمن نضاله، لا يقدر على نسيانه.
‘ سجّلْ / أنا عربي / سلبت كروم أجدادي / وأرضا كنت أفلحها / أنا وجميع أولادي / ولم تترك لنا .. ولكلّ احفادي / سوى هذي الصّخور .. / فهل ستأخذها / حكومتكم … كما قيلا ! / إذن ! / سجّلْ .. برأس الصفحة الأولى / أنا لا أكره الناس / ولا أسطو على أحد / ولكنّي … إذا ما جعت / آكل لحم مغتصبي / حذار .. حذار … من جوعي / ومن غضبي!! ‘ (بطاقة هوية، المجلد الأول من أعماله الشعرية، ص 71، دار العودة، 1994).
لا، بالتأكيد، لا ينبغي له أن ينسى شيئا من كلّ هذا. غير أنّه، مبكّرا، استشعر المناورة مع دور الأيقونة السياسية المراد أن يتلبّسها، فاتّخذ تجاهها موقف تحفظ. كان يرغب أن يجعل من رسالته في النضال السياسي رسالة ذات نزعة كونية. كان درويش يقول مرارا إنّ البعد السياسي في القصيدة يستوجب أن يكون ‘سريّا، مضمرا وغير معلن’. كان يعيد التأكيد ‘أنّ الشاعر ليس له أن يزوّد قارئه ببرنامج سياسي’. وقد استطاعت النائبة الفلسطينية حنان عشراوي أن تلخّص هذا الوضع بشكل جيّد حين أعلنت وهي تودّعه: ‘بدأ شاعر مقاومة، ثمّ أصبح شاعر الضمير. جسّد خير وأفضل الفلسطينيين ( … ) وحتى بعد أن أصبح أيقونة، لم يفقد أبدا حسّه الإنساني. لقد فقدنا قطعة من كياننا’.
يتمثل بحث محمود درويش في محاولته قهر الثنائية للوصول إلى وحدة الزمن والهوية. هويته المزدوجة يجب تجاوزها (نشأ درويش عربيا في إسرائيل وتعلّم لغتين). ‘لي إسمان يلتقيان ويفترقان / ولي لغتان، نسيت بأيّهما / كنتُ أحلم’ (كزهر اللوز أو أبعد ص 182 ) .. ‘ والهوية؟ قلت / فقال: دفاع عن الذات… / إنّ الهوية بنت الولادة، لكنّها / في النّهاية إبداع صاحبها، لا / وراثة ماض’. (نفس الديوان ،ص 183). معركته كانت أن يعيد تحديد وتعريف هويته الخاصة به بتقديم إبداعه لفلسطين حديثة، مستقبلية ودنيوية، بالعودة أيضا إلى بوتقة حضاراتنا (سوفوكل، امرئ القيس)، تربة ثقافة غنائية إنسانية عربية سابقة بكثير على ميلاد الإسلام.
لم يكن محمود درويش شاعر الحداثة في قطيعتها مع التقليد، كان، بالأحرى، العابر بينهما، الضامن للاستمرارية التي تواصلت منذ العصور الماضية. لم يجعل من الحداثة عقيدة ‘لا تثق بالحصان ولا بالحداثة’ ص 180. ‘قد يكون التقدم جسرالرجوع / إلى البربرية … ‘ ص 181 ( الديوان السابق ). ولا امتياز أيضا للشكل الشعري ‘إن ّ قصيدة النثر التي يكتبها الموهوبون هي من أهم منجزات الشعر العربي الحديث وإنّها حققت شرعيتها الجمالية من انفتاحها على العالم وعلى مختلف الأجناس الأدبية، لكنها ليست الخيار الشعري الوحيد وليست الحلّ النهائي للمسألة الشعرية التي لا حلّ نهائيا لها’.
إنّه، في النهاية، عمله الشعري على الغيرية، على غرابة الآخر، هذا الجهد المطبوع بتجربته المعاشة كمنفي ومضطهد، هو الذي وسّع أفق تفكيره وإحساسه بالآخرين وجعله يؤلّف قصيدة جميلة ‘ فكّر بغيرك ‘ كدليل على هذا الانشغال المستمر بالغيرية .
‘وأنت تعدّ فطورك، فكّر بغيرك / [ لا تنس قوت الحمامْ ] / وأنت تخوض حروبك، فكّر بغيرك / [لا تنس من يطلبون السّلامْ ] / وأنت تسدّد فاتورة الماء، فكّر بغيرك / [ من يرضعون الغمامْ ] / وأنت تعود إلى البيت، بيتك، فكّر بغيرك / [ لا تنس شعب الخيامْ ] / وأنت تنام وتحصي الكواكب، فكّر بغيرك / [ ثمّة من لم يجد حيّزا للمنامْ ] / وأنت تحرّر نفسك بالاستعارات، فكّر بغيرك / [ من فقدوا حقهم في الكلامْ ] / وأنت تفكّر في الآخرين البعيدين، فكّر بنفسك / [ قلْ: ليتني شمعة في الظلامْ ] ( كزهر اللوز أو أبعد، ص 15، منشورات رياض الريس، 2005 ) .
جعل درويش من ذاته واحدة من بين ذوات عديدة اخرى: ‘لست من الذين ينظرون إلى المرآة برضا. المرآة هنا هي انكشاف الذات في صورة صارت ملكية عامة … أي صار من حق غيرها أن يبحث عن ملامح ذاته فيها ‘ .
صحيح أنّ محمود درويش حرّر وثيقة إعلان الاستقلال سنة 1988، بيد أنّ إبداعه أكثر عمقا وأكثر رحابة من أن يُختزل في هذا الالتزام. كان محمود درويش صوت فلسطين، لكن ليس فقط صوتها. كان صوت كلّ الذين يناضلون في سبيل هويتهم وبقائهم. لم ينطفئ صوته : هو الآن كوني .
ـ فيما يتصل بأقوال محمود درويش المستشهد بها في هذا النص، فهي مأخوذة من حفل التوقيع على كتاب ‘كزهر اللوز أو أبعد’ في رام الله. مجلة ‘الكرمل’، العدد 85، 2005 .
ترجمة: إسماعيل أزيات
المرجع: مجلة الكلمة الإلكترونية، العدد 21، ايلول/سبتمبر 2008 .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى