صفحات مختارة

المقدس والمدنس

null
فالح عبد الجبار
السياسة في عالمنا مقدسة. والقداسة تأتيها من بين يديها ومن خلفها. وهي مقدسة في الايديولوجيات العلمانية والدينية، ومقدسة بفعل التراث والتقاليد. والويل لنا ان اختلطت هذه المنابع كلها لتوليد شرعية الحاكم.
في العراق كانت الايديولوجيا التوتاليتارية تمجد «الثورة»، مثلما كان آباؤها يمجدون «الدولة» او «الشعب» او «الطبقة». وبعد ان تهاوت هذه الايديولوجيا، انتقل البحث عن الشرعية الى التراث الديني: ابتكار نسب قرشي، او هاشمي، التماساً لدعم الفقه الكلاسيكي (اشتراط النسب القرشي، او النسب الهاشمي، او النسب العلوي- الحسيني). كما جرى التماس الشرعية من التراث التقليدي: الانتساب القبلي.
في اواخر سني البعث لم تعد «الثورة» او فكرة «الحزب القائد»، المستعارة من الستالينية، تحتفظ ببريقها السابق. وحل النسب المقدس، وايديولوجيا القرابة ضيفا ثقيلا (وما يزال) على قيم الثقافة السياسية والاجتماعية. وحين ازاح الغزو الاميركي للعراق الدولة البعثية لم يجد المجتمع ولا غزاته سوى النسب المقدس وسوى الانتساب القبلي. هذا ما وجده الاسلاميون العائدون. وهذا ايضا ما وجده الاسلاميون المقيمون. وهذا ما سعى اليه الاصوليون
الاغراب. وهذا ما استثمره الجميع، الراضون بالتعاطي والرافضون له، حرباً او سلماً. تحول السياسة الى المقدس وجد في خدمته الخواء الاجتماعي، تمزق بل ذوبان كل النسيج الاجتماعي المدني، الحديث، الماسك للامة، اللاصق لاجزائها وذراتها. كما وجد في خدمته بقاء النسيج التقليدي القرابي (بقايا التنظيم القبلي في المدن)، وشبكات الديني المؤسساتي (الجوامع، المدارس الدينية، الحسينيات)
بفعل هذا الواقع تحولت السياسة من الشوارع الى الجوامع، ومن الزعامات السياسية الى الزعامات الدينية.
بعد خمسة اعوام بدأت المؤسسات المدنية بالعودة رغم ضعفها، واخذت المؤسسات القانونية بالوقوف على قدميها، وانكشف الميدان السياسي على مصراعيه امام الانظار بوصفه حقلاً لتوزيع السلطة (المناصب) والموارد (ثروة النفط)، والمنافع (الخدمات والمقاولات). وقبل ان تترسخ القدسية في السياسة تكشف طابعها الظرفي، ميدانا للمصالح الدنيوية. عاد المدنس يطل برأسه بلا تزويق، مفصحاً عن ان عالمه هو من هذه الدنيا. وبدل الحديث عن الشريعة، يدور الحديث عن توزيع الحقائب الوزارية، وبدل الخوض في ثنايا الفقه واحكامه، يدور الحديث عن قوانين الانتخابات، وتوزيع السلطة، ونصاب التصويت، وقانون النفط، والميزانية، والمركزية واللامركزية.
وعوض لغة الحلال والحرام، والمباح والمبغوض، دارت وتدور الصراعات كلها بلغة الحصص في الادارة والجيش والشرطة، وبدل خطاب الطائفية والظلم الجمعي، حل خطاب توزيع الوظائف على المحازبين والاتباع المباشرين.
بسرعة خارقة تسربلت السياسة بالمقدس، وانتشر منها الى ميدان الحياة الاجتماعية: انشاء الحريم (الفصل بين الجنسين) وفرض الحجاب، تحريم الموسيقى، غلق محلات تصفيف الشعر للنساء (ثم للرجال)، غلق دور السينما، غلق الحانات، منع الخمور. جرى كل ذلك بسرعة خارقة حقاً. لكن هشاشة هذا التحول بادية للعيان. فما ان توقفت الميليشيات عن النشاطات حتى استعادت الجامعات (في الاقل) شيئا من مدنيتها، واستعادت المدن بعضاً من ملامحها السابقة: عودة الموسيقى، اختفاء جزئي للحجاب ونمو حريات فردية هنا وهناك.
هذا الوضع يشي بمقدمات انقلاب كبير، معاكس، يرفض التقديس القسري للسياسة كما للمجتمع. ويبدو السياسيون العراقيون، خصوصاً الاسلاميين منهم، في حال من التوجس والارتباك. اما النواب فالخوف من المجهول ينز من مساماتهم.
فزوال «سحر العالم» المقدس، وهو تدريجي وأولي ما يزال، لا يقدم لهم وعداً مضموناً بالمستقبل. ولما كانت الانتخابات المحلية قادمة (هذه السنة) والبرلمانية آتية (في العام القادم) فان كل الذين ركبوا امواج السياسة باعتماد المقدس في حال من التساؤل، والقلق، والتفتيش عن بدائل.
فالذين انسلوا الى البرلمان متخفين وراء الرموز المقدسة يواجهون اليوم انكشاف الحقيقة الدنيوية المدنسة للمصالح السياسية كما يواجهون موقف آية الله العظمى السيد علي السيستاني الذي يحرم استخدام صوره وصوته واسمه في حروب الانتخابات والصراع السياسي (وهو استخدام مخالف لقانون الانتخابات المعد رسميا). والذين ارتقوا مدارج السلطة بقوة السلاح ينظرون بلا حول ولا قوة الى انحسار نفوذ الجيوش الخاصة المستقلة عن الدولة والمناوئة لها، ويواجهون جمهوراً انتخابياً اكثر حرية او اقل خضوعاً للقسر المسلح (علماً ان قانون الانتخابات يحظّر على أي حزب الترشح اذا كان يعتمد ميليشيا مسلحة).
والذين ركبوا امواج السياسة باعتماد الهويات الدينية الكبرى (شيعية او سنية) يقفون اليوم حائرين امام انقسام هذه الهويات. فالهوية الشيعية المسيسة تشكلت بازاء نظام احتكار تملأه القسوة والتمييز، لكنه نظام لم يعد له وجود. كما ان الجماعة الدينية (شيعية او سنية) ليست حجراً صوّاناً لجهة الثقافة ، والثروة، والتعليم، والمصالح، ولا يمكن بالتالي حصرها في قميص حديدي.
والذين صعدوا بفضل احتكار تمثيل جماعات كاملة، او مناطق كاملة، ينظرون الآن بحسرة الى بروز قوى وزعامات محلية تريد ان تتولى بنفسها تمثيل مناطقها ومصالحها. فالنظام السياسي الاداري الحالي لم يعد مركزياً. ولم يعد بالوسع تمثيل المصالح دون تمايز.
نحن اذاً ازاء هذا الوضع الجديد، زوال سحر العالم، عودة المقدس الى ميدانه الارأس، ميدان الاخلاق، والطهارة، والورع، واحترام المصالح المتعددة للمجتمع.
ولعل هذا الوضع يفسر اشتداد الميول الواقعية في السياسة، الذي يجد التعبير الفقهي عنه في مبدأ «ولاية الأمة»، النقيض المباشر لمفهوم «ولاية الفقيه». كما ان هذا الوضع يغذي ميول اعتماد مبدأ «المصلحة» الذي ابتكره الفقهاء الكلاسيكيون. وبالتالي، فان بدء زوال السحر ينبع من مسارب عدة، سياسية ومجتمعية، ثقافية وفقهية. ولعل الانتخابات القادمة ستقدم لنا بعض الدلائل على درجة هذا التحول، المستمر حتى الآن.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى