صفحات مختارة

في نقد أسطورة الجماهير العربية

null


ماجد كيالي

شكّل مصطلح الجمهور، أو الجماهير العربية، نوعا من أسطورة متخيّلة، تم اصطناعها تاريخيا بوسائل السيطرة الأيديولوجية، وبحكم هيمنة النزعة العاطفية والإرادوية والرمزية في التفكير العربي.

واضح أن هذه «الأسطورة» تحظى بمكانة كبيرة في الخطاب التثويري العربي على اختلاف تياراته، الوطنية والقومية والماركسية والدينية، من دون تفحّص لواقعها المتعين، حيث ليس ثمة معنى محدد أو ملموس للجمهور؛ إذا ما استثنينا نزول أعداد كبيرة من الناس للشارع، في لحظة استثنائية ومتقطعة، ومن دون أي صلة بتقرير أي نوع من السياسات في مختلف المجالات.

فمصطلح الجمهور هنا يستهدف مخاطبة الروح العاطفية والنزعات الغرائزية البسيطة لمجاميع بشرية عشوائية، متضاربة الانتماءات والاتجاهات، لاستنفار عصبيتها وتوظيف هيجانها في لحظة ما، عوض مخاطبة عقلها ومصالحها، وبدلا من الارتقاء بشكل الاجتماع لديها، وتعزيز مشاركتها في الحياة السياسية.

المفارقة أن هذه «الأسطورة» أثيرة على الخطاب «التثويري» التحريضي برغم عدم تجاوبها تاريخيا مع حاجات هذا الخطاب، وضعف تمثّلها لأغراضه، لأسباب موضوعية تنبع من القيود التي تكبلها، بواقع النظم السياسية وعلاقات السلطة والهيمنة السائدة، على المستويين السياسي والاجتماعي، ولأسباب ذاتية تتعلق بمستوى الوعي لدى هذه الجماهير، وإشكاليات الهوية، ومستوى تطور الحياة السياسية والحزبية، ومدى التمكّن من حرية الرأي والتعبير في المنطقة العربية.

وقد بيّنت التجارب المعاشة، من حرب 1967 إلى غزو لبنان وحصار بيروت (1982)، مرورا بالانتفاضة (1987ـ1993) واجتياح مناطق السلطة وحصار عرفات (2001ـ 2004)، وصولا لحصار العراق واحتلاله (1991ـ 2003)، والحرب الإسرائيلية على لبنان (2006) واستهداف غزة (2007 – 2008)، عقم المراهنة على الجمهور، وكشفت محدودية حركة الشارع العربي، وعدم قدرته على توليد الأجوبة على التحديات الكبيرة والكثيرة التي يواجهها الواقع العربي.

في الواقع فإن الشارع، أو الجمهور، الذي يجري استدعاؤه واستنفاره، لم يستشر بأي خيار سياسي، برغم انه يدفع الثمن من كيسه، ولم يؤخذ رأيه بانتهاج أي طريق، ولم يأخذ أحد على عاتقه (لا من الأنظمة ولا من الأحزاب الثوروية السائدة) تفعيل دور الجماهير، أو تربية وتنمية قدرة الجمهور على المشاركة، في وضع شمولي يخضع فيه عامة الناس لسلطة الوصاية، سواء وصاية الأنظمة أو الأحزاب السائدة، بأيدلوجياتها وعصبياتها وتحيّزاتها.

الآن إذا كانت التجارب المعاشة أكدت على الدوام تدني مستوى قدرة الجمهور على الفعل، وأن ثمة قيود تحدّ من حركته، وثمة وصاية عليه ومصادرة لدوره في المشاركة، من السلطات والأحزاب، لاسيما التي تتمتع بمراكز سلطوية (عسكرية ومالية)، فإن استدعاء الشارع، أو الجمهور العربي (والإسلامي أيضا) لمواجهة العدوان الإسرائيلي على لبنان أو على الشعب الفلسطيني (وثمة من طالب الأنظمة بالتحرك أو إعطاء مدافعها لحماس على الأقل!)، ليس لها أي مغزى في التفاعلات السياسية، خصوصا أن المطالبين بذلك يدركون أنهم يخوضون حربا ضد إسرائيل، وأن هذه الحرب، كما أي حرب، تنتج القتل والخراب والتدمير، وأنه ينبغي عليهم اخذ ذلك لدى صوغ استراتيجيتهم الخاصة، التي ليس ثمة إجماع عليها أصلا.

يستنتج من ذلك أن استدعاء الشارع أو الجمهور في اللحظات السياسية الساخنة هو بمثابة نوع الديماغوجيا، وبمثابة هروب إلى الأمام، بسبب عدم الموازنة بين الإمكانيات والشعارات، ومحاولة للتورية على الإخفاق في السياسات والنظريات والرؤى السائدة، وإحالة هذا الإخفاق إلى الأنظمة السائدة والجماهير (المغلوبة على أمرها) في آن معا.

على أية حال فقد بات الشارع العربي هذه الأيام، على الأغلب، حكرا على الحركة التي تسيرها النظم السياسية، لدى سعيها للبوس سياسات شعبوية، وتوظيفها لحسابها داخليا أو خارجيا. كما باتت في بعض الأماكن (حيث ثمة خلخلة في الهيمنة الدولتية كمثال الحالة الفلسطينية والعراقية واللبنانية)، حكرا على الأحزاب، لا سيما التي لها طابع مسلح (ميليشياوي)، وتستند إلى شبكة من المنظمات الشعبوية، المسنودة بنوع من الإعالة المادية (مثلا حالة فتح وحماس في فلسطين إلى حزب الله في لبنان وصولا إلى حزب الدعوة والمجلس الأعلى والتيار الصدري والأحزاب الكردية في العراق).

الآن، إذا كانت الجماهير لم تخرج للشارع أصلا من أجل حاجاتها، أي من اجل حريتها وكرامتها ولقمة عيشها، فكيف يمكن المراهنة على خروجها لمواجهة العدوان الإسرائيلي، مثلا؟ ثم إذا خرجت هذه الجماهير للشارع فهل يتجاوز ذلك مجرد التنفيس عن غضبها المكظوم، لساعات أو أيام في أحسن الأحوال؟

ثم إذا كانت هذه الجماهير لا تستطيع التحرك نحو التغيير لأسبابها الذاتية المتعلقة بمصالحها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا تملك وسائل تغيير واقعها البائس، فإنها لن تستطيع ذلك في أي موضوع آخر حتى لو كان بمستوى القضية الفلسطينية. وبديهي أن الجماهير التي لم تتعلم وعي ذاتها، ولم تترب على الدفاع عن مصالحها وحاجاتها وحقوقها، لن تكون على دراية بالاستراتيجيات المتعلقة بالصراع في القضايا الكبرى، المعقدة والمتداخلة والممتدة.

على أية حال فإن المطلوب نقد مفهوم الجمهور، أو الجماهير، وتجاوزه إلى مفهوم الشعب، الذي يعبر عن مستوى أرقى، من ناحية مدنية وحداثية، وعن مستوى أعمق من حيث الاندماج الاجتماعي والانتماء الوطني والمصلحي، لكن هذا الأمر يحتاج إلى مزيد من التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ومأسسة وقوننة النظم السياسية السائدة، وإرساء التحول إلى دولة المواطنين.

* كاتب فلسطيني

الحياة – 23/03/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى