صفحات سورية

التحولات الاجتماعية في سياق الميول الليبرالية

null
معتز حيسو
بداية نرى من الضروري التوقف عند مفهوم الليبرالية ، لكونه أحد المفاهيم الإشكالية ، ليس من جهة عدم وضوحه الدلالي والمعرفي ، بل لكونه يشكل في اللحظة الراهنة إشكالية سياسية ونظرية لما يعتريه من خلط ومماهاة مع مفهوم الديمقراطية ، و نتيجةً لتداخل انعكاساته على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية .
شكلت الليبرالية كأحد الأشكال الفلسفية في لحظات التطور الرأسمالي نقلة نوعية في مستوى الوعي النظري بمواجهة المنظومات المعرفية المغلقة التي تمثلت في أشكال الوعي العقائدي الديني والقومي …. ، ووقفت ضد أشكال الاضطهاد الاجتماعي أياً كان مصدره في سياق ترسيخ الحريات الفردية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في مواجهة القيود المعيقة للتطور الفردي بما يتناسب مع التوجهات الاقتصادية الداعية إلى الاقتصاد الحر والمفتوح في إطار حرية السوق ، مؤكدة على ضرورة تجاوز الحدود القومية . على قاعدة ( دعوه يعمل دعوه يمر ) .
لكن وفي سياق التطور الموضوعي لليبرالية توضح جلياً تنامي الحريات الاقتصادية التي أدت موضوعياً إلى زيادة تمركز الرساميل و تفاقم حدة التباينات الاجتماعية ،وتحكّم النخب الاقتصادية بزمام السلطة السياسية ، وكان هذا له الدور الأساس في توضّح شكلية الحريات السياسية الفردية التي تشكلت في سياق تغييب القوى السياسية وتحديداً اليسارية عن المساهمة في تحديد السياسات الاقتصادية ، ولهذه النقاط وغيرها رفض المنظرين الشيوعيين الليبرالية ووقفوا في صف المعاداة لها .
إن الرد على تجليات الليبرالية المأزومة قام به أحد أبرز المفكرين الرأسماليين وهو جون ماينرد كينز من خلال كتابه الشهير / النظرية العامة في الفائدة والنقود والتوظيف / الذي أكد فيه على ضرورة دور الدولة في تجاوز الأزمات الاقتصادية التي يعاني منها الاقتصاد الرأسمالي وتحديداً خلال أزمة الكساد الكبير في عام / 1929 / ( التضخم الركودي الناتج عن ترافق التضخم مع الكساد والبطالة) . ليبقي دور الدولة أساسياً في إدارة الاقتصاد حتى الفورة النفطية الثانية ( 1979 ـ 1980 ) ليلمع في تلك اللحظة نجم المنظّر النيو ليبرالي ميلتون فريدمان ناقضاً لنظرية / كنز / و معلناً بداية نهاية دور الدولة التدخلي في السياسات الاقتصادية ، وقد تبنى الرئيس الأمريكي رونالد ريغان ، ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر توجهات ميلتون النظرية ، وبنظر الليبراليين المتطرفين لم تعد النظرية الكنزية قادرة على تجاوز أزمات الرأسمالية ، وبنفس الوقت كانوا يعتبرون إن النظام الرأسمالي قادر بفعل قوانينه الذاتية على تحقيق الاستقرار والتطور الارتقائي ، وإن الأزمات الحاصلة هي نتيجة تدخل الدولة ، وكانت هذه التحولات تشكل بداية موضوعية لولادة النيولييبرالية
وبخلاف نشوء وتطور الفلسفة الليبرالية في مواطنها الطبيعية كانت الليبرالية في بلداننا تعبيراً عن خيبة أمل في أوساط الرأي العام بأنظمة الحكم التي فرضت سيطرتها باسم الدين تارة و القومية والاشتراكية تارة أخرى وأحياناً من خلال جمع ما سبق ذكره في أشكال سياسية تقوم على تقديس الحاكم المتماهي والمتطابق مع الدولة .
إن تقديس الليبرالية ومطابقتها مع الديمقراطية يحوّل الليبرالية لحجر عثرة أمام المشروع الديمقراطي الاجتماعي الذي لا يستقيم دون دور الدولة المعبّرة عن مصالح مواطنيها وإرادتهم العامة في سياق مشاركتهم السياسية . لكن غياب دور الدولة الفاعل وتهميش المواطنين وإبعادهم عن ممارسة حياتهم السياسية أدى إلى تكريس الفردية الشكلية والابتعاد عن القضايا الوطنية .
يشكل الخيار الليبرالي في نظر البعض المخرج الوحيد من الإشكالات والأزمات السياسية و الاجتماعية من دون حساب نتائجه السلبية على الفئات الاجتماعية في الدول التي تفتقد لأبسط مقومات الإنتاج الرأسمالي ( انعدام التراكم الرأسمالي وتخلف صناعتها وتردي علاقاتها الإنتاجية وغياب التقاليد والقوانين الناظمة للعلاقات الرأسمالية )والتي يمكن أن تؤدي إلى توسيع وتعميق المضاربة والاقتصاد الريعي و النهب والقمع والفساد و تزايد تخلع القطاعات الإنتاجية في علاقاتها البينية الداخلية ، ازدياد حدة التبعية للخارج ، ازدياد معدلات البطالة الفقر و الاستقطاب الاجتماعي ….وتحديداً في مرحلة تتزايد فيها الليبرالية توحشاً من خلال نزوعها إلى القضاء على كل ما يعيق تطورها جراء إطلاق الحرية لأصحاب الرساميل الخاصة في مواجهة التوجهات الديمقراطية الساعية لضبط قوانين السوق لتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية. إن ما نود الإشارة له هو عدم تحويل مفهوم الليبرالية وسياسة السوق إلى عقيدة مقدسة والابتعاد عن التفكير الدوغمائي لأن لكل مرحلة وكل حالة سياسة ما يناسبها ، على أن يكون شرطها الأساس إطلاق المبادرات الفردية والحريات السياسية التي تحطمت نتيجة سيادة البيروقراطية ( ومن الممكن أن تكون الليبرالية أحد المخارج من أزمة الركود الاقتصادي الراهنة من خلال زيادة فرص الاستثمار ونقل الخبرات ، ضبط الأسواق ، تأمين فرص العمل إعادة تأهيل القوى العاملة والوسائل الإنتاجية وتطوير القدرات الخاصة والاعتماد على الصناعات ذات الميزات المقارنة القادرة على المنافسة )
أما فما يخص التطور التاريخي للاقتصاد السوري فإننا نلاحظ بأن سياسة التأميم التي ترافقت مع تطبيق قانون الإصلاح الزراعي ، تدلل على شكل الاقتصاد الذي كان سائداً قبل الثورة ، والذي يمكن تحديده على مستويين : أولاً : شكل زراعي تحكّم في سيرورته وتجلياته شكل إقطاعي متخلف ، يعود بجذوره التاريخية إلى أشكال الاستبداد الشرقي ( الأسيوي ) ذو السمة الاستبدادية المتخلفة ، والذي يعتمد في كثير من الأحيان أشكال الحيازة الفردية . وقد ساهم هذا الشكل من الإقطاع في تأسيس وتدعيم نظم سياسية استبدادية ، في سياق من العلاقات الاجتماعية القائمة على العبودية والتبعية المدعومة بسلطة دينية بطريركية كرّست المفاهيم الدينية على مجمل تفاصيل المستويات الاجتماعية .
ثانياً : الإنتاج الصناعي الذي كان يمثل أشكالاً أولية لبداية تشكّل علاقات إنتاج برجوازية تجلت من خلال سيطرة أعيان المدن وملاك الأراضي وأصحاب الاقطاعات المدعّمين بالوجاهة العائلية ، العشائرية …. مكرسين التعايش بين شكلين أساسيين من العلاقات الاقتصادية ( الإقطاعية المشرقية ، البرجوازية الناشئة) بمعنى أن التطور البرجوازي لم يقم على أرضية القطع المعرفي والسياسي والاقتصادي مع العلاقات الاجتماعية والاقتصادية الموروثة .
إن سياسة التأميم مثلت في مستواها الاقتصادي الظاهري تعبيراً سياسياً للتحول الاشتراكي . لكنها موضوعياّ قضت على الأشكال الجنينية للتطور الاقتصادي البرجوازي الليبرالي بمستويات نسبية في سياق تحولها لإقامة وتكريس سلطة رأسمالية الدولة على المستويين الاقتصادي والسياسي في لحظة افتقد فيها الاقتصاد لأدنى مقومات العلاقات الاقتصادية الرأسمالية الصناعية التي تُعتبر المدخل لإقامة العلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الاشتراكية ، بكونها النظام البديل الذي ينشأ على أنقاض النظام الرأسمالي ، نتيجة جملة من التناقضات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية العالمية والمحلية ، ويأتي في مقدمتها تفاقم التناقض بين شكل الإنتاج الاجتماعي،وشكل الملكية الفردية / الخاصة / .
لقد مثّل سياق التطور الاقتصادي القائم على (القطع ) الإرادوي مع العلاقات الاقتصادية البرجوازية الجنينية تجلياً لانعكاس آثار التجربة السوفيتية ، وكان هذا بمثابة قسر للسياق الموضوعي للتطور الاقتصادي والاجتماعي ، وشكل هذا نمطاً من التفكير الإرادوي لفئات سياسية حملت مشروعاً سياسياً ذو أبعاد اجتماعية استلمت السلطة في لحظة تاريخية مفصلية محققة بعض المكاسب الإيجابية التي شكلت على أساسها حاضنةً ورافعةً اجتماعية أمّنت من خلالها استمرار تجدد سيطرتها الطبقية جراء سيطرتها الاقتصادية على القطاعات الأساسية والمفصلية ( القطاعات الصناعية ، الصناعات الاستخراجية ، القطاعات الخدمية ….) ساهمت من خلالها بتحويل النقابات المطلبيه المنفصلة عن سلطة الدولة إلى نقابات سياسية . وكان هذا التحول في آليات العمل النقابي تعبيراً عن التزام سلطة الدولة بمصالح العمال والفلاحين الذين شاركوا في تنظيم و إدارة وتسيير شؤونها الاتحاد العام لنقابات العمال واتحاد الفلاحين .
وقد استمرت السلطة السياسية في التعبير الفعلي عن المصالح الاجتماعية حتى بدايات تشكل الأزمة الاقتصادية التي ترافقت مع حصار اقتصادي أواسط الثمانينيات من القرن العشرين ، لتبدأ بعض ملامح آليات العمل الاقتصادي الميكروي والماكروي تتغير وتتبدل من خلال توسيع مشاركة القطاع الخاص ، والانسحاب التدريجي لمؤسسات الدولة من دورها الاجتماعي ، و كان إصدار القانون الاستثماري رقم ( 10 ) في أوائل التسعينيات من القرن الماضي بداية هذا التحول. ومع بداية الألفية الثالثة تعززت الميول الليبرالية على المستوى الاقتصادي في أشكال ومستويات تحكمها المصالح الفردية والخاصة المتناقضة في تجلياتها مع مصالح أوسع الفئات الاجتماعية .
وكان من تجليات الميول الاقتصادية الجديدة : التحول الاقتصادي إلى سياسة السوق الحرة ــ تحرير الأسعار ــ التحرير النقدي ــ إطلاق حرية المشاركة في النمو الاقتصادي للقطاع الخاص ــ تراجع دور الدولة الخدمي والتنموي ــ تنامي وتعمق ظواهر التضخم ــ إطلاق حرية تأسيس المصارف الخاصة ــ ارتفاع معدلات الفقر والبطالة ــ تنامي ظواهر الفساد ــ غياب وتغييب النقابات عن أداء دورها في التعبير عن المصالح الفعلية للفئات الاجتماعية التي تعاني من تناقضات التحول الاقتصادي ، وارتبط تهميش دور العمل النقابي مع غياب فاعلية الأحزاب الجبهويه و استمرار الضغط والتضييق على القوى السياسية المعارضة والجمعيات والمنظمات الحقوقية والمدنية ــ غياب الدور الرقابي لمؤسسات الدولة المختصة على حركة السوق وتجلياته اليومية ــ تحول الاقتصاد إلى أشكال خدمية وتجارية وصناعة سلعية بسيطة ــ انفتاح السوق المحلي على الأسواق العالمية ــ تزايد توظيف الأموال في التجارة العقارية ــ توظيف الأموال في القطاعات ذات دوران النقدي السريع والتي تحقق معدلات ربح مرتفعة ــ تنامي ظواهر الاستهلاك الترفي والمظهري ــ فساد وإفساد القطاع العام لإنهاء دوره الاجتماعي والتنموي والذي كان يمكن أن يمثل دوراً ريادياً في التنمية الاجتماعية والاقتصادية في ظل اقتصاد رأسمالية الدولة ــ تلاشي الطبقة الوسطى و دورها التنموي و تزايد حدة التفاوت الاجتماعي.
ويجب التنويه في هذا السياق بأننا لا نرفض مشاركة القطاع الخاص في توسيع وتفعيل آليات الاستثمار ، لكن ما نود الإشارة إليه هو ضرورة التأكيد على دور مؤسسات الدولة في ضبط آليات النمو الداخلية وفق خطط تنموية ممنهجة ، والمحافظة على هذا الدور في القطاعات الخدمية ، لأنه وكما هو ملاحظ من التجارب الدولية بأن التنمية لايمكن أن يقوم بها القطاع الخاص الذي من الممكن في أفضل الحالات أن يساهم في رفع معدلات النمو فقط ، وتأتي خطورة انسحاب مؤسسات الدولة المعنية من دورها التنموي والخدمي في لحظة تسعى فيها الدول الصناعية إلى رفع الحماية عن الصناعة والتبادلات التجارية وحركة الرساميل بعد أن حققت صناعاتها قدرة تنافسية عالمية وترافق هذا مع ترسيخ التكتلات الاقتصادية الدولية وازدياد الاندماج بين الشركات العملاقة مشكّلة اتحادات صناعية فائقة التقنية و تنافسية للكثير من الدول .. ومن هنا تأتي خطورة التوجهات الليبرالية وانعكاساتها السلبية على كيان الدولة و المجتمع ، وتحديداً إذا ترافق هذا الميل مع استتباع النقابات لأجهزة الدولة ، ونرى هنا ضرورة التأكيد على تزامن إطلاق الحريات السياسية والمدنية والنقابية مع القيام بالتحولات الليبرالية لمواجهة الأزمات التي سيواجهها المجتمع جراء تحكم القطاع الخاص والمستثمرين بالسياسات الاقتصادية.
إن مصدر الخوف والقلق من السياسات الليبرالية الراهنة يكمن في عدم قدرة الصناعة الوطنية على المنافسة في الأسواق الدولية نتيجة أسباب متعددة يقتضي تجاوزها إعادة هيكلة الوسائل الإنتاجية بكونها سبباً في تردي الإنتاجية و ارتفاع تكاليف الإنتاج المترافقة مع التضخم العددي للعمال في المنشآت الصناعية ، تخلف قوى العمل الحية.وبالتالي فإن التوجهات الليبرالية غير المدروسة و الانفتاح على الأسواق الدولية من دون حماية الصناعات والأسواق المحلية يساهم في تدمير ما تبقى من الصناعة الوطنية.
الواقع الاقتصادي الراهن :
بات من الواضح بأن الاقتصاد السوري يشهد تحولات واضحة وعميقة تتجلى في التحول إلى اقتصاد السوق الحر المتناقض بشكل فعلي مع مصالح فئات وشرائح اجتماعية واسعة . والتحول الجديد يتكرس على أنقاض الاقتصاد الموجه المحدَّد برأسمالية الدولة التي كانت تَََََََعِدُ بمشاريع تنموية عامة وشاملة .
لكن فشل وانهيار أشكال رأسمالية الدولة في إنجاز مشروعها التنموي و ارتكاسها إلى تعميق العمل بنظام اقتصاد السوق الحر ، يوضح كما يبدو بأن السياق الموضوعي للتطور الاقتصادي العالمي لا يمكن القفز عنه أو حرق مراحله إرادوياً .
ويبدو أيضا بأن المجتمعات الطرفية تعيد إنتاج تخلفها وتبعيتها وهامشيتها في ظل نخب سياسية واقتصادية مسيطرة تعمل على تكريس وزياد حدة التبعية للبلدان الرأسمالية المركزية في سياق من النمط الرأسمالي المتفاوت التطور والمشوّه.
إن ما يمكن أن يميز التحولات أو التغيرات الاقتصادية الطارئة على مدار أكثر من عقدين من الزمن ، والتي تتكشف تجلياتها في المرحلة الراهنة عبر تنوع وتعدد الأزمات الاقتصادية المرشحة للتفاقم ، هو اعتماد الميل الاقتصادي الليبرالي الذي يفتقد إلى مستواه السياسي ، والمُعَبّر عنه من خلال إحكام السيطرة على البنى الاجتماعية ومنعها من إيجاد أشكال مدنية وسياسية مستقلة تعبّر فيها ومن خلالها عن ذاتها وعن مصالحها.
إن الليبرالية بأشكالها وميولها ومستوياتها الراهنة تعبّر عن مصالح فئات سياسية واقتصادية محدَّدة تتناقض مع مصالح أوسع الفئات الاجتماعية ، وليس هذا وحسب ، بل تتناقض مصالح هذه الفئات مع استمرار دور الدولة في ضبط التطور الاقتصادي ، و بات واضحاً بأن هذه الفئات وتلبية لمصالحها ، تريد الإبقاء على دور سلطة الدولة محصوراً في تأمين مصالحها ، وحماية استمرارها ((تحويل سلطة الدولة إلى شرطي لحمايتها )) .
إن أصحاب الرساميل والمستثمرين الذين يمثلون ويعبِّّرون عن الميول الليبرالية الراهنة ، يتحاشون توظيف أموالهم في استثمارات تنموية صناعية أو زراعية طويلة الأجل ،وهذا يحمل دلالة واضحة بأن الجهات المعنية عن التوظيف الاستثماري في الدولة ما زالت تحمل مسؤولية تطوير وبناء البنية التحتية و المشاريع التنموي ، بينما يميل المستثمرين إلى : المضاربة في أسواق المال ، توظيف أموالهم في التبادل التجاري و الاستثمارات ذات الربح السريع ، مع بقاء إمكانية تهريب أموالهم للخارج ، استنزاف البنك المركزي بقروض صناعية اسمية ، استغلال أموال الدولة العامة في مشاريعهم الخاصة ، الاستثمار في الصناعات الخفيفة والصناعات التجميعية والتحويلية وصناعات اللمسة الأخيرة ذات الدوران السريع لرأس المال والتي تحقق معدلات ربح مرتفعة برأس مال ثابت منخفض وقوى عمل حية محدودة . أي أن المستثمرين لا يساهمون في التنمية الاقتصادية والاجتماعية بقدر ما يساهمون في زيادة حدة التناقضات الاجتماعية .
إن تزايد حدة الميول الليبرالية و التخلي عن الدور الاجتماعي للقطاع العام ، يستوجب التأكيد على أهمية دور الدولة الاجتماعي والتنموي في تحديد سياق التطور الاقتصادي وآليات مشاركة القطاع الخاص من خلال تحديد مجالات توظيف الرساميل ومدة الاستثمار ونسبة مشاركة الدولة والجدوى الاقتصادية والاجتماعية من هذه المشاريع …… وكما نعلم بأن الدول الرأسمالية الكبرى مازالت تسيطر على المشاريع الاقتصادية الأساسية ، ولم تتخلى عن دورها الاجتماعي بذريعة اقتصاد السوق ، أي أنها ما زالت تحافظ على ضبط آليات التطور الاقتصادي العام . ولم تتخلى عن دعم بعض القطاعات الأساسية (الزراعة والصناعية والتعليم والصحة ، محافظة بذلك على ضمان الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي نسبياً ).
إن ما أوردناه بالنسبة للدول الرأسمالية المركزية يتناقض مع الواقع الاقتصادي المحلي الراهن. ويتجلى هذا التناقض بكون الفئات المتحكمة بسياق النمو الاقتصادي تميل إلى مضاعفة رساميلها من خلال النهب المباشر وغير المباشر ، أكثر من عملها على تحقيق الربح من خلال توسيع وتعميق العملية الإنتاجية .
ويمكن أن يتجلى هذا من خلال استنزاف موارد الدولة العامة وتوظيفها في المضاربة والتجارة وبعض الصناعات القذرة و المشبوهة … ، و ينعكس هذا موضوعياً في آليات اشتغال المستثمرين التي تتصف بالتهرب الضريبي الذي تجاوز الـ 200 مليار ليرة سورية وفق التقديرات الرسمية ، مما يستدعي من الجهات المختصة العمل على إعداد نظام ضريبي يحقق استقرار الاستثمارات الوطنية والأجنبية ، وبنفس الوقت لا يحرم ميزانية الدولة من العوائد الضريبية التي يجب أن يتحمل الجزء الأكبر منها القطاع الخاص بكونه ووفقاً للتقديرات الرسمية يشارك في العملية الاقتصادية بنسبة : 65 % في الصناعة عدا الصناعة الاستخراجية، و 75% في النشاط التجاري ، و70% من الناتج الإجمالي . أي أن معدلات التحصيل الضريبي يجب أن تكون معبِّّرة عن حجم المشاركة الإنتاجية ، بينما نرى بأن معدل الضريبة الاسمية على الاستثمارات الخاصة يتراوح بين 20 % ــ 28% . في وقت تعتمد فيه ميزانية الدولة بشكل أساسي بنسبة تقارب الـ : 52 % من كتلتها النقدية على الضرائب المباشرة التي يتم تحصيلها من أصحاب الدخل المحدود .
ويجب التأكيد بأن ما يشهده الاقتصاد السوري من تراجع ، يعود إلى انفتاحه على الخارج بشكل أساسي ، وإلى تخلف وتخلع قطاعاته الإنتاجية التابعة للخارج ، وإلى انعدام تراكم رأس المال في القطاع الإنتاجي ، وعدم اكتمال دورة العملية الإنتاجية التي تقوم على أساس التبادل والتكامل بين القطاعات الإنتاجية ، مما يؤدي إلى غياب تحول الإنتاج الأولي ( السلعي ) إلى إنتاج صناعي موسع ، مما ساهم في فشل المشاريع التنموية ، وتعمق التخلف الاقتصادي ، وتمركز الثروات الوطنية بأيدي فئات محددة ، ليصل من هم دون خط الفقر إلى 30% ومعدل الاستقطاب الاجتماعي إلى أكثر من 80% .
إضافة إلى ذلك فإن الاقتصاد السوري يعاني من زيادة معدلات التضخم التي يقدرها بعض الخبراء الاقتصاديين بأنها تتراوح بين : 12,8% و 15% متجليةً في ارتفاع الأسعار المتواصل، و انخفاض القدرة الشرائية للعملة الوطنية ، بينما تؤكد الجهات الرسمية بأن معدل التضخم تراجع إلى 6,8% .
بالمقابل وبالمقارنة مع معدل النمو السكاني الذي يتراوح بين : 2,8 % و 3% . فإن معدلات النمو الشكلانية والتي تتراوح بين 6,2% و 7% يجب أن تتجاوز ثلاثة أضعاف النمو السكاني ليتم مكافحة ظاهرة البطالة ، في وقت يتجاوز فيه عدد الداخلين إلى سوق العمل سنوياً ( 250,000 ) بينما فرص العمل المحققة سنوياً لا تتجاوز (56000 ألف فرصة عمل )، وكما هو واضح من خلال سيرورة النمو الاقتصادي ، فإن الآليات الاقتصادية التي يقودها المستثمرين ، والمترافقة مع تراجع الدولة عن دورها التاريخي في قيادة المشروع التنموي ستؤدي إلى تفاقم الأزمة الراهنة.
وتتكشف هذه الميول بشكل واضح أيضاً من خلال خصخصة بعض القطاعات وازدياد معدلات الاستثمارات الخاصة في الكثير من القطاعات الخدمية التعليمية والصحية والسياحية والغذائية والمصرفية وقد رخصت الحكومة بموجب القانون 28 / لعام 2001 لسبعة مصارف خاصة وتسلمت / 50 / طلباً لترخيص شركات ومكاتب الصيرفة ، وتعمل الحكومة على رفع سقف رأسمال المصرف من / 30 / مليون دولار إلى /100 / مليون دولار ، وقد سمحت الحكومة برفع نسبة المساهمة الأجنبية من 49% ـ إلى 60 % ، هذا وقد وصل سقف الإيداعات المصرفية في نهاية عام / 2006 إلى / 3مليار دولار / وقد أقرت الحكومة تحرير أسعار الفوائد المصرفية (1)، وقد أشار تقرير صندوق النقد الدولي إلى إمكانية خسارة الموازنة السورية بحلول عام 2015 حوالي / 4 / مليار دولار عندما ستتحول إلى دولة مستوردة للنفط (2). و نذكر هنا بتصريح الدكتور عبد الله الدردري بأن : ليس هناك عودة عن السياسات الاقتصادية الليبرالية الراهنة ( سياسة السوق الحر ) ( مقابلة في جريدة الاقتصادية 25/ 6/ 2008 ) .
إن ما يجري من توسيع وتعميق للسياسات الليبرالية على سبيل المثال لا الحصر في المؤسسة التعليمية يزيد الأعباء على كاهل الموطنين ويساهم في حصر التعليم على شرائح اجتماعية محدودة نتيجة للسياسات التعليمية الحالية ورفع معدلات القبول في الجامعات والمعاهد والتراجع عن الالتزام بالخريجين و زيادة التكلفة المادية التي لم يعد المواطن قادراً على تحملها ، ويترافق هذا مع تردي مستوى ونوعية التعليم .
وهذا يستوجب منا التأكيد على أهمية تحديد إستراتيجيات تُخرج البلد مما يعاني من تخلف وتردي الأوضاع المادية وتحديداً إذا علمنا إن معدلات الفقر تجاوزت الـ 60% ، ومعدلات البطالة تقارب الـ 30 % أكثر من الـ 70 % من هذه النسبة تتمركز في أوساط الشباب و الخريجين ، وهذا يفترض توظيف كافة الجهود لتحقيق المشروع التنموي الذي يحتاج إلى القدرات والموارد المادية بقدر ما يحتاج إلى الإنسان الحر الذي يتمتع بكامل حقوق المواطنة ليكون فاعلاً في بناء مشروعه الديمقراطي الوطني .
أثر التحولات الاقتصادية على البنى الاجتماعية :
ينعكس أثر التحولات الاقتصادية على البنى الاجتماعية بكافة تفاصيلها ومستوياتها ، بحيث يتأثر بها كافة الفئات الاجتماعية.
ويمكن تحديد هذه الآثار على البنية الاجتماعية العامة بكونها قسمت المجتمع السوري إلى طبقتين رئيسيتين ، وفي هذا السياق تزداد حدة التفاوتات والتناقضات الاجتماعية والطبقية بشكل واضح ، بحيث يتم في ظل الانتقال إلى نظام السوق الحر غير المنضبط بقوانين اقتصادية محددة وواضحة تلاشي الطبقة الوسطى وتمركز الثروة ضمن فئة محدّدة ، وتحويل أوسع الفئات الاجتماعية إلى فئات فقيرة لا تملك الحد الأدنى لإعادة إنتاج طاقاتها الإنتاجية في سياق تعمق التناقض بين شكل الملكية وأشكال توزيع الثروة الوطنية وأشكال الإنتاج .
إن تراجع الدولة عن دورها الاجتماعي في سياق الانتقال إلى أشكال من الليبرالية الاقتصادية الجزئية والمشوهة سهل عملية تراكم ثروات المستثمرين عبر النهب واستغلال العمال و التهرب من التزاماتهم القانونية أمام الجهات السياسية والقضائية والنقابية ( التهرب الضريبي ، عدم الالتزام بتوفير شروط العمل المناسبة ، التهرب من دفع الأجور عن أيام الأعياد والعطل الرسمية ، تشغيل العمال أكثر من ثمان ساعات ، عدم الالتزام بتأمين الضمان الصحي للعمال ، إرغام العمال على توقيع عقود الذل والإذعان … ) .
ومن الواضح بأن انعكاس الآثار السلبية لهذه التحولات لا ينحصر على العاملين في قطاعات الدولة التي تبقى أوضاعهم المادية أفضل نسبياً من العاملين الخاضعين إلى تزايد حدة الاستغلال في القطاعات الخاصة،بل يطال العاملين في القطاع الزراعي ومربّي المواشي الذين يعانون من ارتفاع أسعار المواد الزراعية و العلفية والمحرقات والنقل واليد العاملة نتيجةً تراجع دعم الدولة ، إضافة إلى سوء المناخ الطبيعي وقلة الأمطار وتزايد حدة التناقض بين تكاليف الإنتاج و أسعار السلع الزراعية ووقت العمل ، وجميع هذه النقاط تساهم في توسع وتعمق دائرة الفقر والبطالة وانخفاض الريع الإنتاجي للمزارعين وتناقص عدد المواشي .
إن هذا التحول يؤدي إلى تزايد إمكانية هجر المزارعين والشباب بالدرجة الأولى لأراضيهم وانتقالهم إلى المدينة ، مما يضاعف من تراجع الإنتاج الزراعي و ازدياد عدد العاطلين عن العمل وتفاقم حدة الأزمات الاجتماعية في المدن الرئيسية ( تزايد الكثافة السكانية ، وتزايد أزمة السكن والنقل ، وتزايد الضغط على القطاعات الخدمية … ) ،والأهم في هذه المتغيرات هو تحول سوريا إلى دولة مستوردة للمواد الغذائية لتزداد حدة التبعية للخارج ، مما يزيد من احتمالات حدوث أزمة غذائية.
ومن الواضح بأن إنعكاس الأزمة الاقتصادية بتجلياتها الراهنة يتوضح أيضاً من خلال ارتكاس الفرد الذي فقد حماية مؤسسات المجتمع المدني المرتبطة بسلطة الدولة إلى إعادة إحياء دور مؤسسات المجتمع الأهلي ( الجمعيات العائلية ، التكتلات الطائفية و الإثنية ، والعشائرية … ) .
ونتيجةً لتداخل آثار التحولات الاقتصادية الجديدة مع تزايد المؤثرات والضغوط الخارجية ، بات من الواضح بأن البنى الاجتماعية عموماً تميل إلى التحلل والتفكك ، ويتوضح هذا من خلال تنامي التحلل الأخلاقي والقيمي الذي يُعبِّّر بأشكال ومستويات متفاوتة عن تجليات الأشكال الاقتصادية الراهنة التي تميل إلى تذرير وتفكيك عرى التماسك الاجتماعي المتزامن مع تزايد التأثير الإعلامي الفضائي الذي يميل إلى تكريس وتعميق الوعي الاستهلاكي السطحي المبتذل القائم على تكريس ثقافة الانحلال والعنف والجنس ،إضافة إلى تعميق ثقافة تسليع الإنسان ، ويأتي هذا التحول في سياق تغييب الثقافة العلمية و المنهجية النقدية ، ويتعزز هذا الميل من خلال تقاطعه مع السياسة الإعلامية التي تقوم على التعمية والتعتيم وفرض هيمنتها على وسائل الإعلام والاتصالات بكافة أشكالها. ومن الملاحظ تراجع دور الثقافة العلمانية و المؤسسات المدنية عن القيام بوظائفها الأساسية بشكل متساوق مع تنامي ظواهر الثقافة الأصولية بأشكالها المذهبية السلفية المتعصبة التي يُخشى من تحولها مع تنامي التناقضات الاجتماعية إلى حركات عنفية تنذر بمزيد من الكوارث الاجتماعية والإنسانية و الانقسامات الاجتماعية الما قبل وطنية .
ومن الضروري التنويه إلى خطورة تراجع دور المؤسسات العلمية والبحثية والمؤسسات التعليمية عن القيام بالدور المنوط بها في التنمية الاجتماعية والثقافية والإنسانية ، والتي تتجلى من خلال انخفاض ما تخصصه الجهات المختصة لرفع وتطوير وتحسين أداء مراكز البحوث والدراسات ، وإلى غياب المنهجية العلمية والموضوعية ، ويترافق هذا مع تراجع مستوى التحصيل العلمي و المستوى الدراسي بشكل عام ، مترافقاً أيضاً مع تدّعيم التعليم الخاص بأشكاله ومستوياته المتنوعة ، مما ينبئ ببداية تحلل التعليم الرسمي الذي يتراجع فيه دور المدرس ومستوى التعليم .
انعكاس التحولات الاقتصادية على الممارسة السياسية :
تُعتَبر الممارسة السياسية بمختلف تجلياتها ومستوياتها تكثيفاً للاقتصاد ، وتتجلى في الحقل الاجتماعي بكونها تعبيراً عن مواقف وآليات ممارسة تُعَبّر عن مواقع ومصالح طبقية محددة . يكون حاملها والمعبِّّر عن ميولها الموضوعية فئات وشرائح وطبقات اجتماعية . وفي هذا السياق فإن أية ميول أو ممارسة سياسية تنفصل في تعبيراتها وتجلياتها في حقل الممارسة النظرية والسياسية المباشرة عن السياق الموضوعي للتطور الاقتصادي ، فإنها تنفصل فعلياً عن جذرها الاجتماعي الموضوعي . وكما نعلم بأن التمثيل السياسي للواقع الاجتماعي يتحدّد على قاعدة الجذر الطبقي عموماًً. وفي السياق نفسه يمكننا تحديد أشكال تجليات الممارسة السياسية بمختلف تنويعاتها وتموضعاتها السياسية / الطبقية ، من خلال المنهجية النظرية المُعَبّرة عن الممارسة السياسية و المصالح الاقتصادية .
ومن هذه الزاوية يمكننا تحديد التباينات والتناقضات السياسية في التجليات النظرية والممارسة السياسية لمعظم الحركات و التشكيلات السياسية بناءً على مرتكزاتها ومواقعها الطبقية في البنى الاجتماعية .
ومن الواضح بأن بعض تعبيرات الممارسة السياسية لبعض التمثيلات السياسية في اللحظة الراهنة تتناقض مع المصالح الطبقية لأوسع الشرائح الاجتماعية ،ولهذه التوجهات أو الميول أسباب متعددة يمكن تحديدها بشكل أولي على قاعدة المحددات النظرية التي تشكّل وتكوّن هذه الميول المُعَبّرة من خلال فكرها السياسي عن الميول الاقتصادية العامة ، وهذا ما يمكننا ملاحظته بدقة بالميول الليبرالية لبعض التمثيلات السياسية التي ما زلت تدّعي تمثل الفكر اليساري عموماً والماركسي خصوصاً ، ومن المرجّح بأن هذه التشكيلات أقامت القطع المعرفي مع الفكر الماركسي فعلياً ، لكنها في الممارسة الظاهرية الشكلانية تدّعي التحليل النظري والممارسة السياسية على أساس الفكر الماركسي ، ويتجلى هذا التناقض في أشكال ومضامين ممارساتها السياسية مع مصالح الفئات الطبقية والاجتماعية المضَطهدة التي ما زالت تدعي تمثيلها ، إضافة إلى تناقضها مع واقعها الطبقي الذي يجب أن يكون المحدِّّد لأشكال ممارستها السياسية ، وتترافق هذه الميول مع تضخم الشكلانية السياسية ، التي من الممكن أن يكون أحد أسباب تجلياتها أشكال الممارسة السياسية للفئة السياسية المسيطرة .
إن البحث في آثار وتجليات إنعكاس المتغيرات والميول الاقتصادية على سيرورة وآليات الممارسة السياسية ، يفترض التأكيد على الترابط والتشابك الاقتصادي والسياسي العام الذي يتجلى عبر أشكال ومستويات متباينة تتحدّد التبعية الاقتصادية والارتهان السياسي بكونهما أحد أشكاله ومستوياته .
لكن ما نلحظه في سياق المتغيرات الاقتصادية ، هو الانتقال من الاقتصاد الموجه إلى اقتصاد السوق الحر . وبالمقارنة مع تجليات الرأسمالية في البلدان الصناعية فإن التمظهرات الليبرالية المحلية المأزومة والمشوهة من أسوء التجليات الرأسمالية وأكثرها تدميراً . وبهذا فإن هذه التحولات تُعَبّر بوضوح عن الشكل المتخلف للاقتصاد الرأسمالي التبعي الخاضع لأشكال سياسية إرادوية تعتمد في تجديد بنيتها واستمرار سيطرتها على تحجيم وتغييب فاعلية المتضررين من تناقضات التحولات الاقتصادية بأشكالها الراهنة .
إن الميول الليبرالية المتساوقة مع المتغيرات العالمية والإقليمية المنعكسة بآثارها على الأوضاع المحلية ،ترتكز في أفقها السياسي على مفهوم ديمقراطي إشكالي متناقض ينعكس على منهجية وآليات الممارسة السياسية .
إن العلاقة بين اقتصاد السوق الحر محلياً وهيمنة الرأسمالية عالمياً تتحدد عبر تباين سياسي شكلي بين المشروع الديمقراطي الرأسمالي والآليات السياسية للنظم الشمولية ، مما يؤدي إلى التباس في بعض أشكال الممارسة السياسة للتيارات السياسية المعارضة ، وتحديداً مع تراجع تأثير التشكيلات السياسية اليسارية وتنامي المد الإسلامي وانحسار الفاعلية المجتمعية. مما قاد إلى إشكالية في المنهجية النظرية للتيارات السياسية و التباس هويتها السياسية / الطبقية واضطراب آليات الممارسة السياسية وبالتالي غياب الحاضن الاجتماعي .
إن الخارطة السياسية للتشكيلات السياسية المحلية تُعَبّر بشكل واضح عن مجمل التناقضات السياسية والاقتصادية السائدة . وعلى أساس هذا التناقض يمكننا ملاحظة الاختلاف والتباين في الأداء السياسي المعارض الذي يتوضح أحياناً من خلال تضخيم مستوى التناقض السياسي وتغييب التناقضات الاجتماعية الأساسية معتمدين قاعدة التغيير السياسي المستند إلى مفهوم الاستبدال السياسي مدخلاً أساسياً لتجاوز كافة التناقضات الاجتماعية الراهنة ، وهذا الشكل من الخطاب السياسي يفتقد إلى قاعدته الاجتماعية ، إضافة لكونه وجرّاء ابتعاده عن القضايا الأساسية واعتماده المنهجية الليبرالية المفتقدة لجذرها الفلسفي والتاريخي والمغيّبة لأشكال تعيّن الليبرالية الموضوعي ، يتناقض مع المصالح الاقتصادية والاجتماعية لأوسع الفئات الاجتماعية ، إضافةً إلى تمثّلهم السياسية الليبرالية القائمة على تكريس المكونات الاجتماعية الأولية تحت غطاء تحقيق الديمقراطية السياسية الشكلية والإشكالية ، ويتعزز تناقض وخلل هذه الأشكال من الليبرالية المشوهة بكونها لم تتشكل في سياق تطورها الطبيعي بل تتناقض مع الميول الموضوعية لتطور اللحظة الراهنة التي يجب أن تكون منسجمة ومعبرة عن مصالح القاع الاجتماعي في سياق إدراك وتكريس الميول التنموية الديمقراطية المعبّرة عن المفاعيل الداخلية والقوى الاجتماعية التي تتناقض مصالحها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية مع المشروع الليبرالي بأشكاله الراهنة .
وتكمن إشكالية التمثيلات السياسية اليسارية في ميولها الليبرالية بكونها تتشكل في سياق تهديم المنهجية الماركسية على قاعدة تأسيس أشكال سياسية توافقية هلامية غير قادرة موضوعياً وواقعياً على تجاوز التناقض السياسي بين الأطراف التي تدّعي التغيير الوطني الديمقراطي ، ويتعمق هذا التناقض بين هذه التمثيلات ومصالح أوسع الفئات الاجتماعية تضرراً من تناقضات المرحلة الراهنة لكون الميول المحددة لهذه التمثيلات لا تتعدى التفكير الأحادي المتناقض مع آليات العمل السياسي المعبّر موضوعياً عن تناقضات الواقع الطبقي والسياسي ، إضافة إلى إهمال العمل على المصالح الحيوية والإستراتيجية للقاع الاجتماعي التي لا يمكن اختصارها في الحريات السياسية رغم أنها من الممكن أن تكون مدخلاً للتغيير . وبالتالي فإن غياب المنهجية السياسية والاقتصادية المتكاملة عن آليات الممارسة السياسية بأشكالها الراهنة ، يعبّر عن مدى تراجع الأداء السياسي وافتقاده لحوامله الطبقية الفعلية ،ويأتي هذا في سياق تفاقم الإشكالات الذاتية للتشكيلات السياسية الراهنة التي تُعتبر في بعض مستوياتها انعكاساً موضوعياً لأشكال الممارسة السياسية المسيطرة ،والمعبّرة بذات الوقت عن إرهاصات الميول العامة لسياسيات الرأسمالية المعولمة التي حوّلت منطقة الشرق الأوسط إلى موضوع اشتغال يخدم مصالحها الحيوية والإستراتيجية .
إن إشكالية إنعكاس آثار الميول الاقتصادية على آليات وأشكال الممارسة السياسية لا تنحصر في تجليات الميول الليبرالية في ميلها الأحادي لبعض التيارات اليسارية والإسلامية والعشائرية والإثنية … بل يطال تأثيرها الممارسة السياسية لبعض التشكيلات السياسية التي ما زلت تدعي التمسك بالماركسية ( قلباً وقالباً )على قاعدة إنجاز المشروع الديمقراطي العربي ، وإشكالية هذه الأطراف تكمن في كونها تتعامل مع المنهجية الماركسية / اللينينية /.. بكونها نصوصاً عقائدية ، وتنعكس هذه الآليات من الممارسة النظرية في سياقها السياسي على تغييب التطورات العالمية المحدِّدة . إن عدم إدراك المتغيرات الراهنة في سياق تطورها الموضوعي ، يضع الأطراف المحكومة بالطبقوية العقائدية في مواجهة رجعية للتطور المادي للتاريخ ، ويتجلى هذا من خلال أشكال قراءتها السكونية والجامدة لميول التطور الموضوعي … وما يزيد من إشكالية هذه الأطراف افتقادها لحواملها الطبقية والقفز عن المهام الوطنية إلى القضايا القومية والعربية التي من المفترض أن يتم تجاوزها في سياق التطور الموضوعي لإنجاز المهام الوطنية. إن ما تعانيه هذه التشكيلات من تناقضات وأزمات وإشكاليات على المستويين الذاتي والموضوعي يضعها في اللحظة الراهنة في موقع العطالة .
أما فيما يخص التشكيلات الشيوعية الرسمية فإن تحالفها الجبهوي يحد من فاعليتها فيما لو أرادت اعتماد منهج التحليل الماركسي المادي للتاريخ ، الذي يفترض تحولها إلى صفوف المعارضة للتعبير المباشر عن مصالح الطبقات المضطهدة التي تعاني من تزايد العسف والظلم جراء التحولات الاقتصادية الأخيرة ، لكن تفضيل قيادات هذه الأحزاب لبعض المكاسب المادية والمناصب السياسية يحددان موقعها السياسي و الطبقي كأحد التشكيلات السياسية الملحقة . ومن الضروري في هذا السياق التنبيه إلى أن خطورة التحولات الاقتصادية وآثارها السلبية تتجلى داخل هذه التشكيلات على شكل تناقضات بين قواعد هذه الأحزاب بكونها المتضررة بشكل مباشر من السياسات الاقتصادية الجديدة وبين قياداتها السياسية المتمسكةً بمواقعها السياسية ومكاسبها المادية بآليات سياسية براغماتية وانتهازية.
سلطة الدولة وتجليات الاقتصاد الرأسمالي المعولم:
بداية يجب التأكيد على أهمية دور سلطة الدولة في ضبط التطور الاقتصادي المحدِّدة لأشكال التحولات الاقتصادية المتوافقة مع الميول العامة في سياق تحقيق الاستقرار الاجتماعي في إطار ضبط تناقضات النظام الرأسمالي. ومن الواضح بأن السياسات الاقتصادية الأخيرة تنبئ بتخلي سلطة الدولة تدريجياً عن دورها في ضبط و قيادة التطور التنموي الضامن لانعكاس عائد النمو الاقتصادي على المستوى الاجتماعي ، ويتجلى هذا من خلال مجموعة من القرارات التي تسهل وتحفّز مشاركة القطاع الخاص في أشكال تؤدي إلى تنامي حدة الاستقطاب الاجتماعي و معدلات الفقر وشدة الاستغلال .
ومن الضروري التنبيه إلى خطورة تنامي ظاهرة توظيف المال السياسي في عمليات المحاصصة والهيمنة على بعض القطاعات والمرافق العامة والخاصة و السيطرة على بعض الاستثمارات والتبادلات التجارية في سياق عمليات غير مشروعة تتم عبر تطويع القوانين وتوظيفها خدمةً لمصالح شخصية تتعزز بتكريس الفساد الاجتماعي والإداري .. إن تنامي هذه الظاهر التي تعتمد في اتساعها على البطانة السياسية والعائلية و امتلاك وسائل القوة المادية السياسية والاقتصادية ، تضع الجهات الرسمية بشكل مباشر أمام مسؤولياتها في تحقيق الاستقرار والسلم الاجتماعي. وهذا يفترض التأكيد على دور سلطة الدولة ومؤسساتها المدنية في قيادة النمو الاقتصادي وتفعيله والإشراف عليه وضبط آليات المنافسة في سياق مشاركة القطاع الخاص الداعم للتنمية الاجتماعية تحت سلطة القانون المعبِِّّر عن السلطة الشرعية للدولة التي تتكرس من خلال توسيع دائرة المشاركة السياسية والمدنية في سياق إنجاز المشروع الديمقراطي .
وفي ظل هيمنة نمط الاقتصاد الرأسمالي العالمي بأشكال مختلفة ومتباينة ، يجب الإقرار بالترابط والتشابك والتوسط العالمي ، مما يعني ترابط الاقتصاد الوطني الخاص بالاقتصاديات العالمية في سياق جدلي يتحدد فيها شكل الاقتصاد الوطني ودرجة تبعيته بناءً على مستوى تطوره الخاص.
إن ما يؤكد صحة ما أوردناه هو تحوّل اقتصاديات موجهة ( رأسمالية الدولة التي تنوب موضوعياً عن سلطة رأس المال الخاص ) إلى الاقتصاد الرأسمالي المعولم بأشكال وسويات متباينة التطور، تعود في أسبابها الموضوعية لجملة من الأسباب الخارجية والداخلية .
وحالة الاقتصاد السوري ، وما يطرأ عليه من تحولات لا تشذ عن هذه القاعدة. لكن من اللافت هو التناقض الإشكالي للخطاب السياسي الرسمي بين التبني الشكلي لأشكال اقتصادية اجتماعية وبين تكريس فعلي لاقتصاد السوق الحر ( يسمى إشكالياً اقتصاد سوق اجتماعي) .
وإذا سلمنا بداهة بتأثير المناخ الاقتصادي العالمي على التحولات الأخيرة ، فإن من الضروري التأكيد على أن تجليات هذه التحولات لا تعبِِّّر بالمطلق عن أشكال النظام الرأسمالي السائدة في البلدان الرأسمالية المركزية لأسباب تتعلق بـ : ( الشكل السياسي السائد ، المستوى الاقتصادي ، الامتداد الجغرافي ، مستوى تطور البنى الاجتماعية ، حجم الثروات الوطنية … ).
من الواضح أنه وبعد مرحلة من سيطرة سلطة الدولة المركزية على مجمل تفاصيل المستويات الاجتماعية ، بدأت تتعمق التحولات الاقتصادية الليبرالية المشوهة والمجزوءة نتيجة خلل بنيوي في البنية السياسية والاقتصادية ترافق مع تراجع المنظومة الاشتراكية وهيمنة النظام الرأسمالي .
إن تملّّك فئات محدودة للثروة والجاه والمكانة العائلية والمناصب السياسية ، يؤدي موضوعياً في سياق المحافظة على ثرواتها وزيادة معدلات تراكمها إلى اشتغال هذه الفئات لفرض سيطرتها على التحولات الاقتصادية والسياسية وفق أشكال تعيق من فاعلية توسيع وتعميق الاستثمار الإنتاجي بحكم سيادة و تحكم العقلية البيروقراطية والأمنية ، مما يساهم في امتناع المستثمرين وتحديداً الصناعيين عن توظيف أموالهم ، و بقاء الأموال ذات المنشأ الوطني في البنوك الخارجية ، إضافة إلى هروب الأموال والرساميل . لنرى في هذا السياق استقرار إشكالي وملتبس لسياسات استثمارية يحكمها منطق الفساد والمحاصصة ، بعيداً عن منطق القوانين الضابطة و المحدِّدة لحركة رأس المال وآليات السوق .
وإذا أقرّينا بإمكانية تحديد العام للخاص وفق أشكال ومستويات وآليات متباينة ومختلفة، فإن من الموضوعية بمكان الاعتراف بأن من يحدّد أشكال الممارسة السياسية والاقتصادية، يتحملون مسؤولية نتائج التحولات الاقتصادية وما يتم من تجاوزات للمعايير والمبادئ والقوانين الناظمة والمحددة لسياسة السوق التنافسية. وبهذا نرى بأن أثر العام المحدّد موضوعياً للخاص يتجلى في التحولات الاقتصادية الأخيرة على المستوى الشكلي لسياسية السوق ، بينما يتحكم في سياق تحقيق هذه التحولات بشكل فعلي بنية سياسية تقوم على تحقيق المصالح الخاصة لفئات محددة وفق أشكال وآليات إرادوية ،في سياق يحاول من يقود هذه الميول ويتحكم بها ، حجب الحقائق الموضوعية والملموسة لنتائج التحولات السياسية والاقتصادية التي تهدد التماسك الاجتماعي والسلم الأهلي ، مما يضعف إمكانيات مواجهة المشاريع الخارجية التي تحتاج إلى تدعيم الوحدة الوطنية .
ولا يسعنا في ختام هذا البحث إلا التأكيد على أهمية وضرورة العمل على ضبط وقوننة التحولات الاقتصادية بما يتلاءم ويعبر عن المصالح الاجتماعية العامة التي من الممكن تحقيقها من خلال ربط المستويين السياسي والاقتصادي في سياق انجاز المشروع التنموي الوطني الديمقراطي القائم على تكريس حقوق المواطنة ديمقراطياً ، وإطلاق الحريات السياسية لكافة الفعاليات المدنية والثقافية والسياسية .
المراجع :
1ـ جريدة الحياة /10 / 1 / 2006 .
2ــ جريدة الحياة / 28 / 12 / 2006.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى