صفحات سورية

في غياب القانون المحلي والعربي نجاح المحكمة الدولية: مصلحة تاريخية لسورية وللأمة

null
محيي الدي قصار
في آخر زيارة لشارون لنيويورك دعاه وزير الخارجية البريطاني لزيارة لندن فأجابه ضاحكا بأنه يعرف انه – شارون- لا يستطيع أن يطأ أرض انكلترا دون أن يتعرض للإعتقال من قبل القضاء الإنكليزي بسبب ما اقترف في لبنان. قبلها طارد القضاء الأوربي الجنرال بينوشه دكتاتور تشيلي السابق من بلد إلى بلد حتى انتهى المطاف به إلى العودة صاغرا إلى بلاده ومثوله أمام القضاء ليواجه عواقب ما كسبت يداه. ويقف أمام العدالة الدولية اليوم الكثير من المجرمين – كما في أوغندا أو صربيا وغيرهما – الذين ظنوا أنهم مانعاهتم مناصبهم ، وأن ما يدعى بـ”الحصانة الديبلوماسية” أو “سيادة الدولة” ستحميهم من تبعات أعمالهم. فالقانون الدولي وقوانين الدول التي تحترم الإنسان دخلت منذ فترة في مرحلة تطور جديدة تجاوزت مسؤولياتها فيها حدود بلادها القطرية، وباتت الجريمة جريمة لا علاقة لها بمكان التنفيذ أو بسلطة المنفذ، يتحمل المجرم نتائج عمله أينما كان. هذا التطور يجعلنا ننظر بعين الأمل نحو عدالة أو بعض العدالة في نطاق القانون الدولي بعدما رأيناه من قصور القانون العربي.
مصلحة لسورية وللأمة نجاح المحكمة الدولية:
قد تبدو رغبتنا بنجاح المحكمة الدولية يحمل تعارضا لمن يخلط بين “سورية شعبا” و”النظام السوري” المتهم الأول في حوادث القتل والإغتيال التي اجتاحت لبنان الشقيق وطالت آخرين حتى في سورية نفسها. فالنظام السوري هو الذي في قفص الإتهام اليوم وليس الشعب السوري، فنحن نتمنى لو كانت المحكمة لبنانية بامتياز، أو لو أنها كانت سوريةـ أو عربية قبل أن تكن دولية، وحاجتنا للمحكمة الدولية يعتبر بحد ذاته تعبيرا عن قصر ذراع القضاء في بلادنا سواء كان قضاءا محليا أوقضاءا عربيا. فقد وصلت الدكتاتورية في بلادنا إلى مستوى لم يعرفه العالم العربي من قبل، بل أن قصور القانون المحلي وتغييب العقوبة أصبح مرضا مزمنا، حتى درج مسؤولونا على الإعتقاد بأن ذواتهم منزهة عن المحاسبة، وأن نتائج أعمالهم يستطيعون أن يدفنونها بخطبهم العصماء، بل حتى نتائج سياساتهم المريضة التي تقفز بالوطن من أزمة إلى أزمة يرمون بها الغريب والقريب دون أن يقف منهم من يتحمل أيا من نتائج عمله. وقد وصل التساهل في تحميل المسؤولين نتائج أعمالهم وجرائم المجرمين من أزلامهم درجات من المرض المزمن لم يعد أحد من أصحاب القرار السياسي والأمني العربي يشعر أنه يقع تحت طائلة المسؤولية والعقاب. فإذا غاب القانون المحلي والعربي فلا يبق لنا ملجأ سوى القانون الدولي.
ونحن لا نصدر حكما مسبقا على المتهمين باغتيالات في لبنان، فبشار الأسد نفسه و في كل أحاديثه الصحفية لا يعترض على مبدأ مسؤولية “أفراد سوريين” من جهازه الأمني بل اعتراضه على المحكمة الدولية يهدف لأن يضمن لنفسه وقيادة نظامه عصمة من تحمل عواقب أفعال جهاز أمنه ومخابراته. ولكننا نعلم أنه في هرم النظام السوري تتدرج الجرائم من الأعلى إلى الأسفل، وإن كان بريئا فلم المعاندة والمحاولات الإحباط. ولكنه أكثر ما يخشاه أن تكون المحاكمة الدولية فاتحة محاكمات لاحقة ومواقف حساب وعقاب لأفعال النظام وجرائمه الأخرى.
فمنذ اليوم الأول لحكم الأسد في دمشق درج هذا الحكم على ارتكاب الجرائم تلو الجرائم فلم يحاسبه أحد على ما جرى على يديه بما يسمى حوادث الدستور، ولم يسأله أحد عن عشرات الآلاف من الشباب الذين قضوا زهوة عمرهم في زنازينه، ولم يدفع ثمن الجرائم التي ارتكبها في حماة أو حلب أو جسر الشغور او تدمر، بل حتى عندما يطلق سراح الأبرياء بعد أن أعاشهم عذاب السجن السياسي عشرات السنين يعتبرها مفخرة وفضلا انه أطلق سراح الأبرياء. وعلى الصعيد العربي هل يتحمل النظام مسؤولياته عم جرى في لبنان منذ تل الزعتر حتى اليوم، وهل هناك من طائفة أو فئة في لبنان الشقيق لم تفقد بعضا من ابنائها على يد النظام السوري أو أحد أزلامه.
عندما مات حافظ الأسد وحل محله بشار كان هناك فرصة تاريخية ومضت كالبرق واختفت، كانت فرصة أن يفتح بشار الأسد صفحة جديدة ينهي فيها الحسابات القديمة ويقيم عملية مصالحة وطنية داخليا وقومية عربيا. ولكن سرعان ما تبخرت هذه الفرصة بإصراره على المسير بخطى أبيه، فاستمرت مناوراته في لبنان واستمر تآمره على العالم العربي وجيرانه، وتابع وأد الحريات وقمع الأحرار في سورية. فهو لم يخرج عن المألوف السلطوي الذي درج عليه أبيه. فكأن جرائمه الداخلية والخارجية المتكررة بدأت ولا تكاد تنتهي.
لابد من عودة لمفهوم الثواب والعقاب
واليوم يتابع النظام ممارسة القمع ضد مثقفي سورية وكل من له رأي وثقافة فيها وهو يعتقد بأنه في أمان من يد العدالة، وهو يعتقد واهما أن مسرحيات المحاكم الصورية عسكرية كانت أو غير عسكرية ستجعله في منعة من المسؤولية القضائية، فالعالم اليوم تغير عم كان عليه والفضاء القانوني الدولي اتسعت جوانبه وبات الإهتمام بحقوق الإنسان قضية عابرة للحدود يحميها القانون الحديث ويدافع عنها، وباتت حقوق الإنسان تستمد قوة بذاتها في ظل التطور القانوني.
فنحن لم يعد بمقدورنا أن نسكت على حملات القمع االمتكررة، فلا بد للنظام وأزلامه من أن يدفعوا ثمن سنين القهر الذي يمضيها خيرة مثقفينا من أمثال عارف دليلة ورياض سيف وفداء حوراني، ولا بد للمجرمين الذين يقفون بشكل مباشر أو غير مباشر وراء الوفيات الغامضة التي طالت سجناء الرأي من أمثال محمد علي درباك و عبد المعز سالم بن محمد بشير ومحمد مصطفى سنون ومحمد شاهر حيصة و عثمان سليمان بن حجي وهذا غيض من فيض يضاف عليه ما لقيه أشقاؤنا من لبنانيين وفلسطيين وأردنيين وسعوديين على يدي النظام وأزلامه.
وإن كانت هناك ومضات تعكس الشعور بالمسؤولية لدى بعض المنخرطين بجهاز النظام، نراها أحيانا عندما يرسل القاضي المعتقل إلى المشفى ليداوي آثار التعذيب ونتائجه، أو عندما يتدخل وزير الداخلية على استحياء ليطلب بعض الفراش للمساجين، ولكننا لا يمكننا إن نعتبرها كافية ولاتخلي المسؤولية الفردية، وعلينا أن نشعر ببعض الراحة أن قواتنا المسلحة والجيش بشكل خاص قد نأت بنفسها عن عملية الإضطهاد والقمع الحاصل لمناهضي النظام. ولكننا نشعر بإمتعاض شديد أن نرى بعض الأفراد من الشرطة العسكرية تساهم في ممارسة العنف ضد معتقلي الرأي حديثا ولو كان خلال عملية نقلهم. ونحن نحملها أفرادا وقيادات مسؤولية مثل هذه الممارسات. فقواتنا المسلحة نأت بنفسها عن الصراح بين الديكتاتور والأمة لما يزيد عن عقد من الزمن، وهي اليوم في موضع شك وإتهام من قبل النظام، فأغلب الشرفاء في قواتنا المسلحة ترى واجبها في الدفاع عن الأمة لا عن النظام. ونحن على ثقة بأن هذا الموقف هو عين الوطنية الشريفة. ونحن على ثقة أنه في الوقت المناسب ستقف قواتنا المسلحة الموقف الصحيح إلى جانب أمتها لتحمها من سطوة الدكتاتور وجهازه الأمني.
أما ركائز النظام الأمنية فلا بد لها من مواجهة نتائج أعمالها، والمحاكمة الدولية لإقامة العدالة ومعرفة قتلة الشهداء رفيق الحريري ورفاقه بوابة ضرورية ننطلق منها لكي يعود وطننا إلى ظلال القانون، ويدرك الجميع أن السلطة مسؤولية وأن أعمال أفرادها تضعهم مثل غيرهم تحت طائلة المسؤولية وأنه لن يكون هناك جريمة مهما صغرت دون عقاب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى