صفحات مختارة

معنى اليسار في كتابين لحواتمه ومروه: ارتباك وإرباك

فارس اشتي
صدر خلال عام مضى كتابان لقائدين شيوعيين: الأول لنايف حواتمة، الأمين العام للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين منذ نشأتها في العام 1969 حتى اليوم، “اليسار العربي رؤيا النهوض الكبير (نقد وتوقعات)”(1)
والثاني لكريم مروة، أحد قادة الحزب الشيوعي اللبناني وعضو مكتبه السياسي منذ المؤتمر الثاني (1968) حتى مطلع التسعينات، “نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي”(2).
ويسجل لهذين القائدين إقدامهما على الكتابة، أولاً، وعلى الكتابة في موضوع اثير لديهما وكانا فاعلين في تنظيماته، ثانياً، وعلى الكتابة النقدية التي يستبطنها كل من العنوانين (نهضة ونهوض)، ثالثاً.
وليس غريباً على الاثنين ذلك، وكل منهما أقدم على نقد تجربة سابقة له، نقد حواتمة لتجربته في حركة القوميين العرب وتحوله نحو الماركسية ونقد مروة لتجربته في الحزب الشيوعي اللبناني ومشاركته في قيادة تحوّله في المؤتمر الثاني للحزب (1968).
وبرغم ايحاء العنوانين بالوجهة النقدية لليسار، فانهما اختلفا في حدود النقد ووجهته، إذ اكتفى حواتمة بالإشارة الخجولة الى أزمة اليسار وضرورة مراجعة تجربته وافاض بانتصارات اليسار المتعاظمة في العالم وبصحة سياسات اليسار الثوري الفلسطيني، وبأزمة الامبريالية، بحيث بدت وجهته الإيغال في التمسك بقديمه والسير على خطاه لمواكبة النهوض اليساري في العالم، في حين كان مروة اكثر جرأة في الاقرار بأزمة اليسار وبضرورة مراجعة تجربته، إن بالإقرار الصريح بذلك او بالدعوة الى عمل جمعي اوبالاشارة الى المستجدات في العالم او بالمهام التى طرحها على اليسار اليوم، وكانت وجهته في ذلك ربط اليسار بالديموقراطية ونقد تقديس النص والواقعية.
ويطرح الكتابان قضية ملتبسة فيهما هي اليسار، اذ لم يحدد اي منهما معنى اليسار وكأنه بديهية، لا بل يوحيان بأن اليسار هو الماركسية، رغم تفلت خجول خلاف ذلك، الأمر الذي يستدعي تحديد معنى اليسار لمناقشة الكتابين على ضوئه.
فاليسار مصطلح حديث، عُرف عشية الثورة الفرنسية الكبرى (1789) حين جلس ممثلو طبقة العامة إلى يسار رئيس الجمعية الوطنية وجلس ممثلو طبقة الأشراف إلى يمينه. فأشير إلى ما يمثلون من أفكار جديدة وسياسات تغييرية تبعاً لموقعهم الجغرافي في الجلسة مقارنة بما يمثله الأشراف وموقعهم إلى اليمين، فكان اليسار يساراً، قضية وموقعاً، تبعاً لليمين وكانا ضمن حقل معرفي وسياسي واحد.
وأدرج السياسيون في المجالس النيابية في أوروبا، لاحقاً، واقعة الجمعية الوطنية الفرنسية، لما تمثله ولرمزيتها في التاريخ الأوروبي الحديث، عرفاً حيث شاع جلوس المعارضين للحكومة الى يسار الرئيس وجلوس المؤيدين لها الى اليمين.
وليس هذا الأصل الجغرافي للمصطلح بعيداً عن الأصل اللغوي الذي عنى، في أحد معانيه، العضو الأضعف في ثنائية التكوين العضوي للجسم البشري واشتق منه معنى الضعة والضعف إلى درجة فُضل معها اليمين على اليسار، أعضاء في الجسم واتجاهاً في السير والحركة، في المأثور العربي الإسلامي، بالرغم من عدم ورود لفظ اليسار واليسرى في القرآن الكريم بالمعنى العضوي ووروده في المعنى الثاني ومقابلة اليمين بالشمال، أعضاءً واتجاهاً.
وشاع استخدام اليسار في كل مؤسسة أو جماعة للدلالة على القائلين بالتغيير أو العاملين له والرافضين للوضع القائم مقابل اليمين للدلالة على المتمسكين بالوضع القائم والرافضين للتغيير؛ ففي حقل الاجتماع السياسي يسار ويمين وفي حقل اليسار نفسه يسار ويمين وفي حقل اليمين نفسه يسار ويمين، فالحزب المعارض للحكومة حزب يساري والمعارضون داخل الحزب المعارض لقيادته يساريون وقيادته يمينية، وكذا في كل جمعية وجماعة ومؤسسة.
وبهذا المعنى اليسار، وكذا اليمين، موجود في كل بنية مجتمعية، تحدد طبيعته وقواه التناقضات فيها ومعياره رفض الأمر الواقع والعمل، قولاً أو فعلاً، لتغييره بافتراض التغيير المنشود هو الاقرب الى التقدم والأكثر عدالة وإنسانية، الأمر الذي يعني تعدد اليسار بتعدد البنى المجتمعية.
وهو، في حقل الاجتماع السياسي الأكمل (الدولة)، المعترضون أو المعارضون للسلطة القائمة في هذا الحقل، سواء أكانت حدود الاعتراض سياسية ام اقتصادية ام ثقافية ام كلها معاً، وقد يتكون من يسار كل بنية مجتمعية في هذا الحقل او من بعض هذه البنى الخارجة، كلياً أو جزئياً، من السلطة الحاكمة او عليها. ومعياره، بهذا التحديد، الموقف من السلطة الحاكمة المراوح بين برنامج تغييري وانتقادات عابرة وجزئية، وقواه متعددة المنابت المجتمعية والبرامج السياسية والرؤى الإيديولوجية، وطبيعته يحددها الوضع العياني للبلد وزمانه.
ويعني هذا، أولاً، أنّ اليسار “يسارات” تبعاً للبلد المعني ودولته ونظامه وللمرحلة الزمنية التي يمر بها وللقوى الفاعلة فيه.
ويعني هذا، ثانياً، أنّ اليسار مرتبط ببنية مجتمعية ارقاها حتى يوم الناس هذا هي الدولة، الأمر الذي يعني عدم الدقة في القول بيسار عربي لعدم وجود انتظام سياسي واحد (دولة) تحكم بلدان العرب، أولا، ولعدم وجود برنامج يُحكم على أساسه، ثانياً، والأصح القول اليسار في الدول العربية ؛ اذا ما بُني في كل منها يسار على أساس برنامج يحدد طبيعته.
ويعني هذا، ثالثاً، أنّ اليسار غير الماركسية وغير الشيوعية، بالرغم من الترابط بينها، إذ كانت الماركسية، كاتجاه، والشيوعية، كأحزاب وبرامج، الأكثر تغييرية بين الاتجاهات والأحزاب الأخرى، فكانت معياراً لليسار في حقل الاجتماع السياسي العام يحكم على يسارية الآخرين بمدى قربهم، فكرياً أو سياسياً، منها، وكذا في كل مؤسسة وجماعة، دون أن يعني ذلك انتفاء اليسار غير الشيوعي ودون أن يعني أيضاً انتفاء قيام يسار على يسار هذه الأحزاب، والذي عرف في أميركا وأوروبا منذ خمسينات القرن الماضي باسم اليسار الجديد المستلهم لأفكار ماركس وماو تسي تونغ وماركوز ثم كاسترو وغيفارا والناقد للأحزاب الشيوعية وأنظمة حكمها في بعض البلدان.
إلا أن هذا الالتباس بين اليسار، فكراً وممارسة، والماركسية، فكراً وممارسة، ومصادرة الثانية للأول لا يعني تطابقهما؛ فاليسار مصطلح يأخذ معناه من اليمين في لحظة معينة وتبعاً لقضية محددة وفي إطار معرفي وسياسي فهو مصطلح فضفاض يأخذ معناه من الوضع وبالقياس على آخر، واليساريون تبعاً لذلك، سمتهم التغيير تبعاً للحقل الموجودين فيه وللإطار العاملين فيه.
أما الماركسية فتأخذ معناها من حقل معرفي آخر، إذ تشكل اتجاهاً علمياً يرى المعرفة العلمية هي معرفة الفئة ذات الموقع الأساسي في الإنتاج والهامشي في العلاقات المجتمعية، وتدعي أن الطبقة العاملة (البروليتاريا) هي هذه الفئة، بخلاف آخرين من الاتجاه نفسه الذين يرون النساء أو الطلاب أو الهامشيين هي هذه الفئة. والماركسيون، تبعاً لهذا، هم العاملون، فكراً أو ممارسة من خلال هذا الاتجاه بأي منهج فكروا أو بأية مؤسسة عملوا.
والشيوعيون هم العاملون ضمن تنظيمات وعلى ضوء برامج تلحظ الواقع العياني لبلدانهم ومستمدة من الاتجاه الماركسي الذى يُفترض بالقائلين به والعاملين في ضوئه ان يمثلوا مصالح أكثر الفئات جذرية في المجتمع، وهم بهذا أكثر التنظيمات يسارية.
ويمكن القول، بعد هذا التوضيح، أن الكتابين ارتبكا وأربكا قراءهما بعدم تحديد معنى اليسار الذي يكتبون عنه، فاختلط اليسار، بعامة ، مع اليسار الماركسي، بخاصة، وتعامل ناقدوهما في ضوء ذلك، الأمر الذي أضعفهما كمشروعين للتغيير: رؤيا النهوض… ونحو نهضة جديدة لليسار. فلكل من اليسار واليسار الماركسي مقومات مغايرة للأخرى.
وقد يكون الاقرار بضرورة مراجعة التجربة السابقة في الكتابين نقطة انطلاق سليمة، إلا أنها عامة جدا واصبحت مستهلكة لكثرة تكرارها، وما ورد في كل منهما لم يرتقِ الى المستوى المتوقع من كاتبيهما وما يختزنان من تجربة غنية.
فقول حواتمة باهداف لليسار الديموقراطي وباشادة بانتصارات اليسار في اكثر من بلد في العالم، وبخاصة في أميركا اللاتينية، وبصمود اليسار الثوري الديموقراطي الفلسطيني، وبضرورة إعادة اليسار بناء حركته الاجتماعية والسياسية ودعوته لتحرير العقل ملامح لمراجعة. الا انها غير كافية لقائد بمستوى حواتمة ولم تصل الى خواتمها؛ فالاهداف هذه هل هي لليسار، بعامة، أم لليسار الماركسي ، بخاصة، وهل هي لليسار العربي (أين العروبة فيها؟) أم لليسار في كل بلد عربي (أين الدولة غير المسلم ببديهية وجودها)؟ وانتصارات اليسار في بلدان في العالم غير عربية، وفي مرحلة ما بعد انهيار المنظومة الشيوعية هل كانت هبة اوقدرا ام ان لها اسبابها فما هي؟ وما هي التغيرات التي أدت إليها ليصار للأخذ بها، عربيا؟ وصمود اليسار الثوري الفلسطيني هل هو انتصار ام تحصن، وفي الحالين لماذا؟ ليصار، أيضاً، إلى الاستفادة منه، عربياً. واعادة بناء اليسار لحركته الاجتماعية والسياسية… أين وكيف ومتى؟
وقول مروة بمرتكزات أساسية لمشروع التغيير باسم اليسار وتحديد قضايا ومهمات مباشرة في برنامج التغيير ولوج في المراجعة في أكثر من موقع:
اولها: القول الصريح بها.
ثانيها: عدم الادعاء بامكانه انجاز هذه التي تتطلب جهوداً جمعية، لافراد وتنظيمات ولاختصاصات متعددة ومتنوعة.
ثالثها: التواضع في القول بأن ما قدمه يحتمل الصواب والخطأ، وهي مساهمة في ضوء تجربته الشخصية في تنظيمات اليسار.
رابعها: طرحه مرتكزات وقضايا ومهمات مباشرة لبرنامج تغييري باسم اليسار يقوم على:
1-مرتكزات هي:
إعادة الاعتبار للسياسة، بمضمونها الثقافي والعلمي والاقتصادي والاجتماعي، وباستنادها إلى الأخلاق. وشرط ممارسة هذه السياسة سيادة ثقافة التنوع والتعدد وحق الافراد والجماعات في التعبير عن اختلافاتها.
الاحتكام لقوانين انتظام اجتماعي تصوغها الدولة وتضمن العدالة والمساوة بين المواطنين وشرطها الديموقراطية للجميع وشرط مؤسسات الدولة النزاهة والموضوعية التي لا تتوافر من تلقاء نفسها، بل تحتاج إلى النضال المتواصل.
الالتزام بالعمل السياسي السلمي واحترام المرحلية في النضال والتحرر من الشعبوية والفوضوية والعدمية.
الاخذ في الاعتبار تغير المفاهيم في الفكر السياسي والاجتماعي بتغير الازمنة وضرورة معرفتها بدقة من القائلين بالتغيير.
2- مهمات هي:
بناء الدولة الديموقراطية الحديثة، تجديد مؤسسات المجتمع المدني والارتقاء بصيغها، الاستقلال والسيادة الوطنيين، تحقيق شروط التقدم الاقتصادي، سياسة جديدة لاستثمار الموارد الطبيعية، تحقيق تنمية اجتماعية، توفير الضمانات الاجتماعية، الاهتمام بـ: الثقافة والمعرفة، البحث العلمي، الشباب، المرأة، البيئة، ثم النضال ضد التطرف وأنظمة الاستبداد، دعم القضية الفلسطينية، ايلاء مسألة الأقليات الاهتمام، توطيد علاقات التكامل العربي، الموقف الحاسم ضد السياسات الأميركية وضد الأصولية السلفية، التعاون بين قوى التغيير على مختلف مكوناتها.
ومع اهمية المرتكزات والمهمات التي طرحهما مروة، يمكن أن تثار حولها الملاحظات الآتية:
1 – هل هي، المنطلقات والمهام، لليسار، بعامة، أو لليسار الماركسي، بخاصة. فاذا كانت لليسار فقواه في كل بلد تحدد مهماته، بعد الدراسة الدقيقة لوضعها، وإذا كانت لليسار الماركسي فيفترض أن تسبقها مهمات أخرى.
2- إن تحديد منطلقات ومهمات لليسار الماركسي يفترض مراجعة لتجربة هذا اليسار ليبنى عليها برامج جديدة، ولا يكفي ما تستبطنه هذه المنطلقات والمهمات من مراجعة.
3- إن المنطلقات المطروحة هي بحكم البديهيات، وان لم تكن كذلك في التجربة العربية، وهي منطلقات تصلح ان تكون لكل القوى السياسية.
4- إن المهمات المطروحة لا تصلح أن تكون مهمات في برنامج لما يفترضه البرنامج من مهمات محددة يمكن للقوة أو القوى التي تطرحه أن تنجزه خلال فترة محددة، تبعاً لبلدها ولوضعها، وأن كانت تصلح كتوجهات عامة لبرامج.
5- انّ هذه المهمات يمكن ان تختصر بعنوان وحيد هو بناء الدولة المدنية التي هي، في وجه من وجوهها، مواجهة للقوى الرأسمالية العالمية التي تعمل لفرط مابُني من مؤسسات تحدّ من توسع سوقها وتعيد احياء العصبيات الأولية وبناء كيانات لها، وهي، في وجه آخر، الإطار الذي يضمن توافر الشروط للنضال من اجل تحقيق الديموقراطية وحقوق الاقليات والمرأة والشباب وغيرها من المهمات، وهي، في وجه ثالث، القاعدة الاساسية لبناء التكامل العربي ودعم قضية فلسطين.
انّ هذه القراءة النقدية للكتابين لاتلغي الاشادة بالجهد المبذول فيهما والتوجه النقدي لتجربة واضعيهما، على ما بينها من تفاوت، والأمل بيسار جديد ومتجدد، وبحذو قادة آخرين للكاتبين بنقد تجربتهم ، وكذا الاحزاب والقوى المدعية الانتماء الى اليسار.

(1) الأهالي-دمشق وبيسان – بيروت، ط1، 2009.
(2)  دار الساقي – بيروت، ط1، 2010.

( استاذ جامعي)
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى