ثورة مصر

الانتفاضة والصراع على الشرعية

شريف يونس
محاولة تأطير الانتفاضة فى نقاش يدور حول إصلاحات سطحية فى إطار الدستور الاستبدادى يخفى الكثير. سبق أن تعرضت لما يغفله هذا التأطير من نتائج سياسية للانتفاضة، ومن مناقشة طبيعة هذا الدستور نفسه. هنا أتعرض لمسألة أعتبرها أكثر عمقا، هى أزمة الشرعية التى تنتاب النظام المصرى منذ نشأته فى يوليو 1952. ولكن سأركز أساسا على النتائج الوخيمة التى ترتبت على تطعيم هذه الشرعية بالانفتاح الاقتصادى، بما وصل بنا إلى تشكل مجموعات داخل النظام تضع الخطط للنيل من استقرار البلاد وإشاعة الفوضى والرعب والتخريب فيها للحفاظ على السلطة، على نحو ما رأينا، وكأننا أمام سلطة استعمارية غاشمة وعنصرية. من أين أتى ذلك؟
ولد نظام يوليو بعاهة مزمنة فى الشرعية منذ البداية. فباسم الشعب تمت مصادرة أى نشاط فى المجال العام. وقد اعتُبر هذا الوضع الغريب انتقاليا، وأسماه الضباط الأحرار أنفسهم فراغا سياسيا. ولكن طريقة معالجتهم لهذا الفراغ تلخصت فى تكوين مجالس منتخبة كثيرة، محلية ونيابية وتنظيمات شعبية ومجالس نقابات تتلخص صلاحياتها فى تنظيم عملية لجمع العرائض والشكاوى ليقوم النظام بتلبية ما يستطيع تلبيته منها، وهو ما أسميه سياسة مبادلة المكاسب “الشعبية” بالتأييد. وبذلك تم انتقال من نظام طوارئ اعتُبر مؤقتا إلى نظام حكم طوارئ دائم. وكان المنطق الكامن وراء هذا الوضع بمجمله أن الشعب فاسد، كما قيل صراحة فى البداية، وأنه فى حاجة إلى وصاية وتوجيه حتى يصبح راشدا قادرا على حكم نفسه بنفسه بغير أن يخدعه أحد.
لم يفعل عمر سليمان سوى تكرار هذه الفكرة فى حواره القصير الأخير مع تليفزيون إيه بى سى الأمريكى: الديمقراطية جيدة ولكن حين تتوافر ظروفها التى هى الثقافة الديمقراطية عند الشعب.
ولكن أزمة الشرعية تفاقمت بدرجة كبيرة وأصبحت مستحكمة فى العقود الأخيرة بسبب وجود وضع طارئ جديد، هو فشل المشروع الناصرى والانتقال إلى اقتصاد السوق. لا تكمن الأزمة فحسب فى بقاء عوار الشرعية القديم، بل تضاعف وتناقض ودخل فى تناقضات متزايدة بسبب عدم استبدالها بما يناسب هذا التحول، لتنكشف النتائج المروعة لهذا التهجين فى نهاية حكم مبارك.
ومن الناحية البنيوية، كان نظام يوليو منذ بدايته عبارة عن “إقطاعيات” مختلفة: الجيش، الأمن، البيروقراطية، القطاع العام، الاتحاد الاشتراكى، مجلس الأمة،  يتولى الرئيس بنفسه تنظيم الصراع وحفظ التوازنات بينها. كان ما احتفظ لها بالتماسك حول قلب أمنى هو تماسك المجموعة المؤسِّسة من الضباط الأحرار من الصفين الأول والثانى وبعض معاونيهم المدنيين. ولكن شهد عهد السادات من 1974 وحتى الآن إعادة ترتيب للتحالفات وإضافة مكونات، تتناسب مع سياسات التحول البطئ إلى اقتصاد السوق وكفالة الأمان من التأميمات الجماعية للطبقة المالكة، وتحول التحالفات الدولية للحصول على قبول البلدان الرأسمالية الكبرى واجتذاب المعونات والاستثمارات. وترافق مع ذلك استكمال حرب التحريك فى 1973 لبناء سلام مع إسرائيل. وكان مسمى هذا التحول هو ما سُمى “الشرعية القانونية” بدلا من “الشرعية الثورية”، بالإضافة إلى فكرة “السلام”. ولكن هذه “الشرعية الجديدة” استبقت فى الواقع نظام حكم الطوارئ واقتصر فى الواقع على تدعيم موقع مجلس الشعب داخل النظام وتطهير الاتحاد الاشتراكى من الاتجاهات الإيديولوجية المعادية للانفتاح بإعلان تعدد الأحزاب وتشكيل الحزب الوطنى الديمقراطى، ثم، بالتدريج البطئ تحرير الإعلام والثقافة جزئيا مع استبقاء اليد العليا للنظام فيهما.
هذا التحول نحو اقتصاد السوق يعتبر أبطأ تحول من نوعه بالنسبة للنظم السلطوية فى العالم، وبرغم ذلك كان يجرى وسط مقاومة قوية، بسبب إجرائه من داخل النظام السلطوى بتطهيرات محدودة، جرى أكبرها فى مايو 1971. وحين انفجر الشارع (المدجن أصلا) الذى استُبعد من حسابات التحولات فى يناير 1977 اضطر النظام لمزيد من الإبطاء والاعتماد بشكل متزايد على المساعدة الخارجية.
ترتب على ذلك الإبطاء وإحداث التحول من داخل النظام أن التحول جرى فى إطار السلطوية عن طريق انتقاء مجموعات وأفراد من رجال الأعمال أو الطامحين لأن يكونوا كذلك وتشجيعهم ومنحهم امتيازات وأراضى وغير ذلك ليصبحوا طبقة محظوظة ومالكة، اسما، ولكنها تحت رحمة النظام فردا فردا. هرب بعضهم خارج البلاد، خوفا من تقلب الأحوال، إلى أن استقرت المجموعة المحظوظة التى تشكلت منذ أواخر التسعينيات قرب مواقع السلطة حتى الانتفاضة المصرية العظيمة الحالية. وتم الإبقاء على درجات من الدعم والعمالة الزائدة فى الحكومة والقطاع العام لكبت إمكانيات التمرد، خاصة بعد درس انتفاضة يناير 1977.
ولكن مع تفاقم الأزمة الاقتصادية فى الثمانينيات أصبح من الضرورى دفع هذا التحول إلى اقتصاد السوق، على يد أوليجاركية محظوظة، بسرعة متزايدة. وقامت الخطة على توسيع مجال حرية التعبير والتظاهر المحكوم والاحتجاج، بهدف تقليل الاحتقان المترتب على التحول وتعويض القطاعات الأكثر نشاطا جزئيا. وترتب على التحولات الاجتماعية والاقتصادية تزايد الصراع بين أطراف النظام المختلفة، الأمر الذى تطلب مواجهة تفكك مجموعاته المتناحرة بسياسات قمعية جديدة، تجسدت بشكل ملموس فى السيطرة على ترشيحات الحزب الوطنى فى الانتخابات المزورة الأخيرة. لم يعد التحول يحتمل فكرة حزب النظام الواحد الجامع، الذى يمكن أن يترشح فيه أى عضو من أعضائه على طريقة الاتحاد الاشتراكى، ولكن بالمقابل لم يختر النظام تفكيك تحالفاته فى أحزاب مختلفة تتنافس على السلطة، لأن ذلك يستدعى إجراء جراحات دستورية وبنيوية فى النظام السلطوى، بإفلات جانب من تقسيم الكعكة من أيدى النظام السلطوى وتزايد سطوة قواه المتناحرة المختلفة.
أدى ذلك فى النهاية إلى قيام صيغة تقوم على حكم الأقلية الموالية لأجندة إصلاحات رجال الأعمال الكبار المحظوظين مدعومة بالشرطة وبعصابات عامة (تجندها الشرطة) وخاصة من المجرمين والبلطجية والشرائح الرثة التى تدخل الميدان اللا-سياسى، إن جاز التعبير لإرهاب قطاعات معينة من الجمهور، فضلا عن تشديد القبضة الإرهابية العامة على المجتمع بتفاقم إرهاب الشرطة. وصل هذا التوجه إلى ذروته بإعداد خطط تخريب عامة فى حالة تفاقم الاحتجاجات أو تململ أية  قطاعات من تلك المحتمية بالنظام (مثل الكنيسة فى حادث العمرانية على الأقل)، وهو ما تكشف الآن بشكل فاجر فى ميدان التحرير وفى إطلاق سراح المجرمين وخطة وزارة الداخلية المعدة سلفا لبث الرعب فى المجتمع. أصبح النظام إذن يعتمد فى المقام الأول على وضع المجتمع بأكمله فى حالة حصار، بالأمن من القلب واللا-أمن من الأطراف، وإعداد جهاز سرى داخل الأجهزة السرية تتولى ذلك، وهو أمر فظيع لم يرتكبه الاحتلال البريطانى لمصر.
هذا التحول إلى نظام مافيوى لا يكشف عن انحطاط النظام فحسب، بل أيضا عن قضية جوهرية: فشل النظام فى توليد شرعية جديدة، أو تطوير شرعيته العوراء القديمة. التحول الليبرالى فى الاقتصاد بهذا الشكل السلطوى قطع الطريق على أية إمكانية لحشد قطاعات اجتماعية مؤيدة للتحول. بدلا من ذلك تم إنشاء شبكة واسعة من المنتفعين أخذت هى نفسها تختلف مع بعضها البعض لتفاوت حظوظها، ولأن الأعلى حظا لا يوجد أى مبرر لصعوده. باختصار، كان المسار قبل الانتفاضة هو إعمال التمزيق فى المجتمع بالبوليسية والفساد، وشراء الولاءات بطرق غير مشروعة، وصولا إلى ارتكاب أعمال إرهابية على يد النظام نفسه.
طال ذلك عقيدة الأمن القومى المصرى نفسها، بتناحر أطراف النظام، وتشكيل مجموعات فرعية سرية داخل أجهزته نفسها، وهيمنة المنطق البوليسى بشكل فاجر على كافة شئون البلاد. وظل أنصار الأمن القومى على عقيدة أن أمن النظام السلطوى هو أمن البلاد، بينما كان النظام يعتمد فى الواقع على إرهاب يومى منظم ضد الشعب، فلم يكن استعمال البلطجية وأعمال الاغتيال وغير ذلك أمرا جديدا يحدث لأول مرة فى عهد الانتفاضة.
كانت الانتفاضة، للمرة العاشرة لحظة الحقيقة، فقد كشفت عن المخططات وقطعت عليها الطريق، لتنقذ البلاد من القطاع الأكثر انحطاطا من الطغمة الحاكمة الأسوأ فى تاريخها، وتمنع وصول عملية تمزيق المجتمع إلى نهايتها. أوقفت الانتفاضة عملية حصار المجتمع بين عنف النظام وعنف حثالته المأجورة بالتضامن العالى والأخلاقيات الراقية التى كشف عنها المشاركين فيها، وحتى فى التضامنات المحدودة على مستوى كل شارع للحفاظ على الأمن. الثقة المتبادلة حلت ولو إلى حد، ولو عند المنتفضين بشكل أكثر من غيرهم، محل التوجس المتبادل. كما تدخل الجيش، بعقيدته الموروثة القديمة عن الأمن القومى على خط الانتفاضة لكى يمنع وصول هذه العملية إلى ذروتها، أى حكم الإرهاب المباشر، خاصة مع تبين فشله. بذلك أصبح الجيش موضوعيا حلقة الوصل والفصل القائمة بين النظام والانتفاضة، أى بين شرعية النظام القائم المهتزة وشرعية الانتفاضة الوليدة التى وُلدت مفتقرة إلى قيادة وأجندة، سوى إنقاذ المجتمع والدولة من براثن النظام التخريبى.
تراجع إذن خيار التفكيك الإجرامى للبلاد وإزاحة أبرز رجاله، وأصبح الخيار المطروح هو استيعاب الانتفاضة؛ الأمر الذى يعنى من الناحية الواقعية أن يقرر النظام أو القطاعات الصاعدة فيه إجراء تعديلات أساسية على عقيدته فى شأن الأمن القومى.
يمكن القول بصفة مبدئية أن الاحتمالات المطروحة كالآتى: تصفية الانتفاضة تدريجيا بعزلها، وهو ما ينقذ الجيش من موقفه الصعب بين جموع ساخطة وحاكم عنيد، ويجعل حجم التعديلات المطلوبة من النظام محدودة. ولكن هذا الاحتمال حتى بفرض تحققه ليس سوى تأجيل للحظة الحقيقة: الحاجة إلى إعادة بناء شرعية الدولة المصرية ككل.
الاحتمالين الثانى والثالث أن يهاجم الجيش الانتفاضة. الثانى هو أن يؤدى ذلك إلى هزيمة الانتفاضة وإنشاء حكم إرهاب مباشر، وهو ما يعد استكمالا لخطة مبارك والعادلى. وتتمثل العواقب فى شرعنة العنف فى المجتمع ككل، لتدخل البلاد فى سنوات من العنف المشروع ضد نظام ليست له أية صفة سوى حيازته للسلاح، ونصبح فى وضع شبيه بإيران ما قبل الثورة. والثالث هو أن يؤدى تدخل الجيش، وهو فى النهاية جيش وطنى من المجندين، إلى انشقاقه، وبالتالى الدخول فى مرحلة فوضى ثورية لن تستقر إلا بعد فترة طويلة بفعل ظهور كافة القوى على السطح وصراعها بكامل طاقتها على نطاق البلاد، أى ما يشبه حالة الثورة الإيرانية نفسها، بطبيعة الحال مع اختلافات مهمة. ويبدو أن عملية التسويف فى طرد مبارك (بطريقة كريمة أو غير كريمة) والسماح له بقيادة تحول محدود يؤدى (عمدا أو بغير عمد) إلى الضغط على الجيش للتدخل.
الاحتمال الرابع الذى قد تراهن عليه الأطراف المدركة التى تسعى للحفاظ على الدولة (لا النظام)، أن تنجح الانتفاضة فجأة فى إحداث صدع قوى داخل النظام، بما يدفع جناحا فيه إلى تبنى الانتفاضة بشكل أقوى لتنفيذ عملية أوسع بكثير من التطهيرات المحدودة التى أُجريت حتى الآن. هذه العملية تعنى أن ينفذ النظام القابض على السلطة من خلال بعض أطرافه عملية تغيير شرعيته خطابا وبنية بتبنى الانتفاضة بوصفها ثورة تبرر إعادة تشكيل شرعية النظام السياسى وإيقاف العمل بالدستور القائم وإدخال تمثيل ما لروح الانتفاضة، إن جاز التعبير، فى الجهاز الحاكم لإجراء التطهيرات الضرورية وإعادة بناء الدولة.
ولكن تواجه هذا السيناريو بضعة حقائق، أولها أن المجموعة الصغيرة المُسنة القابضة على السلطة الآن تبدى قدرا كبيرا من العناد والبعد عن إدراك طبيعة اللحظة، خاصة أن الموقف الذى تواجهه جديد من نوعه فى تاريخ النظام وتاريخ الانتفاضات عموما إذا استثنينا الانتفاضة التونسية. وقد عبَّر عمر سليمان صراحة عن العقيدة العميقة للنظام منذ انقلاب يوليو: احتقار الشعب وتأكيد أن الديمقراطية لا تصلح له. وهناك تصور بأن وجود أغلبية صامتة سوف يكفل إبقاء النظام السلطوى على ما هو عليه، احتقارا للنشاط السياسى عموما واعتباره نوعا من مؤامرة. لذلك نجد هذه الوعود بفتح فرص عمل فى القطاع العام وزيادة المعاشات والأجور، كبديل عن الإصلاح السياسى. هذا يعنى أن يقتطع النظام من لحم البلاد الحى لشراء استمرار استبداده، بعد أزمة لها نتائج اقتصادية سلبية كثيرة، بما يدل، مجددا، على درجة عالية من انعدام الشعور بالمسئولية. ولم لا وقد دبر من قبل سيناريو الفوضى والقتل والترويع؟ ويعتقد النظام أنه ذكى باعترافه بشرعية ما يسميه “مطالب الشباب”، وما أصبح يُطلق عليه الآن “ثورة 25 يناير”، متصورا أن هذا المديح فى حد ذاته يستطيع أن يضحك به على عقول الشباب، خاصة مع توفير فرص عمل، بلا عمل.
ولكن هذه الأحلام التى تدور فى العقول البالية تتجاهل أن الواقع ليس بهذا اليسر والبساطة، وأن صيغة “المكاسب مقابل التأييد” القديمة لم تعد تصلح. فمن جهة أدت إعادة الحياة إلى طبيعتها والتخلى، ولو مؤقتا، عن سيناريو التهديد بالفوضى، إلى عودة التحركات الاجتماعية التى ميزت المشهد العام طيلة الأعوام السابقة. كما تدفق المتظاهرون على ميدان التحرير مجددا ليمنحوا الانتفاضة شرعية حقيقية متجددة، تطالب بالحرية والكرامة، بينما يتضاءل التعاطف مع النظام بعد فشل السيطرة بالإرهاب المعمم. هذه التطورات تهدد بتجذر الانتفاضة، وبطرح مطالب تفوق طاقته، برغم استعداده للإطاحة بميزانية البلاد لإنقاذ الموقف. وبنفس التصور السلبى الذى يحتقر الجمهور، تصور النظام أن بث صور اجتماعات برئاسة مبارك يمكن أن يعيد الإحساس بالنظام القديم لدى الجمهور ليخلد للسكون وينتظر الجزرة التى سيمنحها النظام.
فوق ذلك، لن تفلح خطة العودة إلى نمط الشرعية الأصلى للنظام، وفقا لنظرية ما يسمى “القلب الصلب”. فالتحول إلى اقتصاد السوق أصبح إجباريا بشكل أو بآخر، لمجرد الحفاظ على النمو الاقتصادى المحدود. والحال أن هذا التحول يمنع العودة إلى صيغة الشرعية المؤقتة القديمة. وقد ثبت عمليا أن شرعية الطورائ التى قام عليها النظام لا تستطيع أن تتكيف مع اقتصاد السوق إلا بطريقة الإرهاب المعمم وتدمير المجتمع. وعلى صعيد أدنى، وهو صعيد توازنات القوة داخل النظام، ثمة نتائج ضرورية تترتب على تنحية القوى الأكثر فسادا وانحطاطا من قلب ممارسة السلطة، وعلو كعب الجيش باعتباره العامود الأساسى للنظام. فهذا التغير فى حد ذاته يعنى ضرورة فتح مجال عام سياسى يسمح للجيش بالانسحاب كمنتصر بفعل تأييد الشعب له، وبغير التعرض للتوتر بين الانتفاضة ورجال النظام ومؤامراتهم، ويوجد نظاما مدنيا للحكم يدير البلاد ويكون شريكا للجيش وأساسا لشرعيته، وبما يتفق مع الاعتراف الشكلى بشرعية الانتفاضة الذى لم يعد من الممكن التراجع عنه.
بعبارة أخرى، حكم الجيش بشكل غير مباشر عن طريق السلطة وأجهزة القمع على الطريقة الناصرية أصبح خيارا صعبا الآن، ويهدد بانفجارات متزايدة فى حالة محاولة إعادة إقراره. كما أن تجاهل المجال الإيديولوجى باعتباره مجالا هامشيا (أى عدم الاهتمام بالرأى العام لمجرد أنه قوة غير مسلحة ومجال لتنفيس الضعفاء) لم يعد ممكنا. والانتفاضة من أجل الكرامة والمواطنية (وفقا لياسين الحاج صالح) لا يمكن إلهاؤها بالوعد بزيادة المعاشات وتخفيض الأسعار وما إلى ذلك. فثمة عنصر من افتقاد الثقة كامن عند مجمل الناس فى النظام، وخاصة بعد استعراض حكم الإرهاب الفاجر مؤخرا.
قد تكون ثمة خيارات أخرى أفلتت من التحليل. فدهاليز النظام السرى الحاكم ليست مكشوفة لى، وما زلنا فى انتظار الحقائق التى ستسفر عنها لحظة الحقيقة التى نعيش فيها منذ 25 يناير. ولكنها فيما يبدو لى لن تخرج عن إطار خيار من هذه الخيارات أو تركيب من بعضها. والخيار الرابع نفسه خيار توفيقى. والحال أن مصر فى تاريخها الحديث اتسمت بالحلول الوسط التوفيقية، التى جعلتها تعيش بشكل دائم منذ أوائل القرن العشرين فى ظل مشكلة شرعية منقوصة أو معيبة أو توفيقية أو حتى متناقضة.
ولكن هذا المقال يرمى فقط إلى لفت انتباه قوى الانتفاضة إلى أبعاد أزمة الشرعية الحادة التى تمر بها البلاد من البداية، والتى لم تزد الانتفاضة عن أن كشفت عن العفن الكامن تحتها. أما حل أزمة الشرعية فهو بطبيعة الحال فى يد الانتفاضة وقواها. فالتاريخ يُصنع الآن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى