صفحات مختارة

مستقبل العلمانية في العالم

سليمان تقي الدين
العلمانية (من العلم) والعالمانية (من العالم) تلتقيان عند معنى واحد، وهو تنحية الدين والمؤسسة الدينية عن القرار لمصلحة العقل التجريبي والاستجابة للقوانين الموضوعية والوضعية التي تحكم علاقة الإنسان بالطبيعة وعلاقة الانسان بالإنسان.
كانت العلمانية مواكبة فكرية للثورة الصناعية ورد فعل قويا على سلطة الكنيسة ومؤازرتها للإقطاع وعلى الحروب الدينية التي استنزفت أوروبا على مدى مئة عام.
لكن العلمانية ليست بالــضرورة مطابقة للإلحاد. فهناك علمانية ايجابية بمعـنى أنها تفصل بين الدين ومختلف الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهناك علمانية سلبية قامت أصلا على نفي فكرة وجــود الله. بل ان بعض مدارسها أعلن صراحة «موت الله» كما عند نيتشه. من أجمل ما قرأت الأطروحة التي أعدها الراهب اليسـوعي جان إيف كالفــيز عن فــكر كارل مـاركس وأقــام مصــالحة بين ماركس والفكر الديني في مكــان ما، ثم كتاب الأب كوستي بندلي اللبناني الذي جعل عنوانه «إله الإلحاد المعاصر» وقد عالج بصورة أساسية الفلسفتين الماركسية والوجودية. لكن النهضة الأوروبية التي كانت العلمانية احدى ثمراتها أفــادت من الفكر العربي والاسلامي الذي بدوره أفاد من الفكر اليوناني. لقد كان للفلسفة والتـصوف اذا جاز فصلهما في الفكر الاسلامي الأثر الأكبر في اشكالات النهضة الأوروبية واسئلتها. ان ما يمكن وصفه حركة تأليه الانسان او أنسنة الله هي حركة يشترك فيها الفكر الغربي والشرقي باشكال مختلفة.
في واقع الأمر ان العلمانية بما هــي حركة انسانية أرادت أن تحرر الانسان من سلطة الدين والمؤسسة الدينــية ليــست هي التي أدت إلى أزمة الانسان المعاصر. الانسان المعاصــر في الغرب والشرق هو في أزمة لأنه ابتعد كثيرا عن فكرة الله وفكرة الإنسان معاً. لكن ما يحكم الحضارة الغربية بصورة أساسية الآن هو ما يسميه روجيه غارودي الدين الجديد، أي عبادة التكنولوجيا وعبادة المال أو سلطة المال والغاية الأساسية المحركة للنشاط الانساني أي الربح. في الغرب الآن انظمة مناقضة للروح الانسانية التي أطلقتها النهضة. الرأسمالية بصورة أساسية وآلياتها هي التي تؤدي إلى مفهوم الاستلاب الانساني (الماركسي) او إلى ظاهرة الانسان ذي البعد الواحد (هربرت ماركوز). ما هو غائب في الحضارة الرأسمالية الغربية هو الاخلاق او الغائيات التي كان للدين الفضل الأول في انتاجها. اخلاقيات الرأسمالية التي سيطرت على الإنسان المعاصر هي النقيض الحقيقي لما نسميه الله او الخالق او الحق المطلق والعدالة والحرية.
نجد الآن في العالم كله غرباً وشرقاً رد فعل قويا إلى التدين. التدين هو رد فعل على الحضارة المعاصرة التي عولمت الإنسان وتركــته وحيـداً يعاني الفــراغ الروحي. او أنها (ألينته) = (استلبته). لقد جعلت الإنسان مركز الكون الجديد وأطلـقت لقــدراته كل الامكانات وجعلته الى حد بعيد سيداً على الطبيعة، لكنها في مكان ما تركته وحيداً في صحراء، لان الانسان الفرد ضعيف امام الحاجات الاجتماعية التي لا يستطيع ان يلبيها عملياً في ما هي ممكنة نظريا، ولأنها لم تستطع ان تواجه السؤال الأزلي المجسد في سلطان الموت وشؤون ما بعد الحياة. على هذا المستوى من التحديات لا يزال الله ضرورة والدين حاجة لمساندة الانسان الضعيف. فاذا كان ماركس هو من قال ان الدين هو استلاب لإرادة الانسان فهو نفسه من قال ان الدين عزاء البؤساء.
بهذا المعنى يمكن ان نقول ان الله دائماً موجود، اما لأنه خلقنا وإما لأنه حاجة إنســانية مطلقة. فهو في الحالين موجود، ولذلك يمكن القول ان الالحاد هو شكل من اشكال التدين او الطاعة او الاقرار بالله، لأنه اعتراض واضح على غياب المعاني التي يضعها الدين في الله. بل ان الالحاد هو استدعاء صارخ لوجود الله ولفعله في اتجاه الأقانيم التي يصــفه بها الانسان المتدين، الحق، الجمال، العدل، الحرية، القدرة الخ… الالحاد هو احتجاج على نقص الألوهة اذا جازت العبارة وليس انكاراً لها. كل الفلسفات التي سعت الى جعل الانسان مركز الثقل في تقرير مصيره انما سعت الى استدعاء السماء الى الأرض او استدعاء المؤجل الذي تعد به الأديان. انها تلتقي مع الدين في معناه العميق أي في نقطة الرجاء بعالم أفضل.
ان فكرة التوحيد في الاسلام او التأليه في المسيحية هي أحد المعاني الكبرى التي سبقت كل الفلسفات الانسانية.
مشكلة الأديان أنها لم تتــابع هذا الفيض المعرفي الذي احتــوته وهي انما وقــفت عــند حدود الحرف او الظاهر او عــند الممارسات الطقسية. لكننا نجد ان حركات فــكرية او مذاهب او طرقا قد نشأت لتستخرج «في مــا يتعدى الحرف» وفي ما يتعدى الظاهر وفي ما يتعدى الطقوس كما هو معروف مثلا في كل الاتجاهات الباطنية في الاسلام او في التــصوف الاسـلامي سواء أكان سلوكا أي طريقة، او كان فلسفة استشراقية.
لا يزال لدى الأديان ما تقــدمه للإنســان المعاصر، لكن ليس السلـطة القامــعة بل المرجعية الأخلاقية. شرط ذلك ان يتجاوز الدين صفته الحصرية ويستعيد توجهه إلى الإنسانية جمعاء.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى