صفحات ثقافية

ليـس مـزايـدة علـى أحـد

null

نديم جرجورة

(إلى يوسف بزّي)

لم يفرّ الكتّاب والمثقفون جميعهم من شارع الحمراء إلى ساحة ساسين، وليس جميع هؤلاء صانعي صورة بيروت. قد لا يكون الوقت ملائماً لنقاش نقدي يتناول تعريف المثقف ومكانته ودوره، غير أن المثقف ليس فقط من يكتب ويُبدع ويناضل بالكلمة في صحيفة أو محطّة تلفزيونية أو وسيلة تعبير «ديمقراطي» أو إبداعي. ثم إن البقاء في الشارع لا يعني تبعية لطرف ظنّ أنه انتصر في واحدة من معاركه المختلفة، بل لأن الباقين لم يجدوا طريقاً أخرى إلى الوطن إلاّ عبر الانتفاض على أطراف النزاع جميعهم، وعبر التمسّك بهذا الشارع الذي يُفترض به أن يمتدّ من قلب المدينة إلى روح البلد.

ذلك أن بعض الذين بقوا في شارع الحمراء ومنطقتها لم يعثر في أي طرف من أطراف النزاع امتداداً لهواجسه وأحلامه، في حين أن الذين اعتبروا ذات يوم أن ثورة أرز في ساحة حرية قادرة على تأسيس مشروع وطني جديد، منفتح على الجميع ومرتكز على منطق أخلاقي وإنساني وثقافي عصريّ وسوي ومدني حقيقي، لم يغادروا شارعاً خضع للعنف، ولم يتخلّوا عن سجالهم النقدي مشروعاً انتموا إليه بشفافية وسعوا إلى تبيان خلله ووهنه وساجلوا ارتهان قادته السياسيين إلى تبعية أو تحالفات مؤذية، تماماً كما فعلوا في قراءاتهم النقدية الحادّة (في أحيان عدّة) للخطاب الآخر وأجندات أصحابه أيضاً.

ليست مزايدة أو ترفّعاً أو اتّهاماً. من فرّ من شارع الحمراء لم يتخلّ عن قلمه في الدفاع عن مشروعه، ومن بقي فيه تمسّك أكثر فأكثر بقلمه ليُكمل انتماءه إلى قناعاته، على الرغم من سطوة مناخ العصبيّة القاتلة. لا بأس في تبديل الحيّز الجغرافيّ، شرط المحافظة على المكانة الثقافية والإبداعية القادرة، وحدها، على تحصين المرء من الانزلاق في متاهة الفساد اللغوي في الخطاب السياسي اللبناني. لكن، ليس الباقون حالياً في شارع الحمراء منتمين جميعهم إلى المعسكر الآخر: فهم هنا لأنهم أرادوا البقاء، أو ربما لأن لا مكان آخر يقيهم شرّ

الجنون، وإن بدت حدّة المواجهة بينهم وبين سادة المرحلة الجديدة أخفّ من تلك

القائمة بين هؤلاء وبين من وجد نفسه منفياً في بلده. خفّة حدّة المواجهة تلك، إن وُجِدَت، لا تعني إلغاء لمشروعية نضالهم ضد من لا يُمكن أن ينتموا إلى مشروعه لتناقضه ورؤيتهم ومشاعرهم وأفكارهم وطقوس عيشهم وسلوكهم. خفّة حدّة المواجهة تلك لا تؤثّر إطلاقاً في مقارعة خطّة تفتيت البلد والناس والمجتمع، أياً كان الطرف الذي تبنّى هذه الخطّة، ولا تمنع رفع الصوت عالياً لمزيد من الدعوة الصريحة إلى الخروج من القبائل المذهبيّة وعصبياتها المتوترة والقاتلة، بهدف الذهاب إلى الوطن.

أتفهّم تماماً قسوة أن يُنفى المرء في بلده، لأنه انتمى بالكلمة (مهما علت نبرتها وقسى مضمونها، وهذا محتاج أصلاً إلى نقاش نقدي جدّي) إلى قناعة ذاتية أو إلى منطق ثقافي يؤمّن غطاء ما لمشروع سياسي واقتصادي وإعلامي أثار انشقاقاً لدى اللبنانيين جميعهم، كالانشقاق الحاصل إزاء المشروع الآخر المنبثق من الرغبة الدائمة في الجهاد والقتال. أتفهّم الأمر جيّداً، وأتمنّى من كل قلبي أن ينتهي هذا الكابوس المرضي، فيتحرّر هواء المدينة والكلمة من التلوّث الخانق الذي أفرزه احتدام النبرة بين الأطراف المتنازعة وعصبيّة الاصطدام المذهبيّ، لبلوغ مرتبة سوية من النقاش الجدّي الهادئ والمفيد.

ليس مزايدة على أحد في هذه اللحظة العصيبة التي أنزلت جنونها وهذيانها على الجميع، بل استكمالٌ، من موقع آخر، لمعركة تأسيس عقد وطني ومدني وعلماني وديمقراطي حقيقي لهذا البلد. فالمعركة واحدة، سواء هُجّر البعض من شارع إلى ساحة لا تشبه، في أي حال من الأحوال، تلك الساحة التي شهدت ولادة حلم ثم موته، أم بقـــي في شــارع لا يزال هناك أمل في أن ينتفض مجدّداً لحريته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى