صفحات مختارةطيب تيزيني

العقلانية في الفكر العربي المعاصر

طيب تيزيني
تلبية لدعوة تلقيناها من الجمعية الفلسفية في عمّان، قدمّنا محاضرة هناك يوم الثامن والعشرين من الشهر المنصرم حول العقلانية في الفكر العربي المعاصر، مع إضافة جعلته مخصصاً باتجاه اثنين من الباحثين العرب المعاصرين، في الحقل الفكري العربي، فقد حافظتْ الجلسة على مستوى لائق من العمق الفكري، وظهر ذلك بكيفية خاصة عبر الحوارات والمداخلات والتساؤلات والتدقيقات النقدية.
أما الأفكار المركزية التي حاولنا وضع يدنا على بنيتها الأساسية في نطاق الأستاذين حنفي والجابري، فلقد وجدنا أنها ظلت -في حركتها العامة- أسيرة نمط معين من العقل اللاعقلي، لكن بمنحييْن اثنين، واحد ديني وآخر كوني جوهراني (ثابت).
ولم يكن ممكناً في ما عملنا على إثارته ضمن عرض المحاضرة، أن نبحث، على نحو تاريخي موسع، في الأسس التاريخية والمعرفية التأسيسية-الأبستيمولوجية للمعطيات والعوامل، التي كمنت وراء هذه الأسس.
لكن ملاحظات أولية حول ذلك، لابد من الإتيان بها، أما أولى هذه الملاحظات فتكمن في أحد أهم الاشتراطات الذهنية، التي أرسى دعائمها الإسلام منذ بواكير ظهوره، وهو التشديد على دور “العقل” في المنظومة الذهنية الإسلامية، جنباً إلى جنب مع التشديد الأكثر حسماً على “أركانه” التي يبرز منها الإيمان بالله، وبالقضاء والقدر، وبأنه يفعل ما يريد في السابق والراهن واللاحق، وبأن كل ما في الوجود حادث مخلوف له، بما في ذلك العقل (وهذا كله لا شك فيه بمقتضى الإيمان الصحيح). وبذلك، يتضح أن العقل هنا يجد حدوده في الإرادة الإلهية، لكنه فيما هو أدنى من ذلك، مفتوح وقادر على مواجهة الأمور، بمنطق الشك والمساءلة. ومن هنا، جاء الاحتمال بالقول: بـ”عقل ديني”، هو هذا الذي أتينا عليه، وبـ”عقل عقلي” لا يجد حدوداً له إلا ما يضعه هو نفسه.
وقد لاحظنا في تاريخ الفكر العربي أن مجموعات من ممثليه، ومنهم -على سبيل المثال- أصحاب الحركة الاعتزالية، ساروا مزيداً ومزيداً إلى أمام، بحيث إنهم رأوا أنه إذا نشأ تعارض بين الشريعة (الدين) والحكمة (العقل)، فالحسم في النهاية لصالح هذا الأخير. من هنا، بدأت عملية تطور العقل لدى أولئك تأخذ، استقلاليتها، مما سمح لهم أن يوسعوا دراساتهم الفلسفية العقلية انطلاقاً من العقل الديني، لكن ليتابعوا ذلك، بعد أن خرج هذا الأخير من الحدود التي وضعه الإسلام فيها.
ضمن ذلك السياق، برزت احتمالات لظهور ثلاثة أنماط من العقل في الفكر العربي حتى المعاصر، هي العقل الديني، الذي يأخذ به حسن حنفي وتأثر فيه بالإمام محمد عبده. والعقل الجوهراني، ويأخذ به محمد عابد الجابري، ويتحدد في كونه ذا بنية ثابتة، دون أن تكون له بالضرورة علاقة بالعقل الديني. ولكن مثل هذه العلاقة تقوم بينه وبين عقائد هرمية أسطورية مثلاً. وأخيراً العقل العقلي، الذي حاول أن يخرج عن كل العقلين السابقين، وأن يؤسس لفكر فلسفي كوني.
الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى