صفحات مختارةياسين الحاج صالح

في شأن مسألة الحاكمية

null
مساهمة في ملف جريدة “الأحداث المغربية” في شأن مسألة الحاكمية
ملف من إعداد: لحسن  وريغ-  أشرف  عبد  القادر
بعد    ملف  قدر  العلمانية  في  الوطن  العربي،  تعود  جريدة  الأحداث  المغربية  من  جديد  إلى  طرح  ملف  آخر لا  يقل  أهمية  عن  سابقه، واختارت  الجريدة  أن  تفتح  صفحاتها  أمام  نخبة  من  المثقفين  والمفكرين  المغاربة  والعرب  لمناقشة  قضية  “الحاكمية  الإلهية”.   وقد  حددنا  محاور  النقاش  في  الأسئلة  التالية:       1- الحاكمية  الإلهية  تعني  إقامة  الدولة  الدينية  التي  تطبق  الشريعة  بدلاً  من  القوانين  الوضعية  في  الحاكمية  المشرّع  هو العقل  الإلهي،  وفي  الدولة المدنية  المشرّع  هو  العقل  البشري  يقول  أيمن  الظواهري فهؤلاء  الحكام  [الذين  يسعون  للسلام  مع  إسرائيل] خارجون  عن  الشريعة  الإسلامية  لاحتكامهم  إلى  قوانين  ودساتير  وضعية  مخالفة  للشريعة  الإسلامية، وهؤلاء  لا  يعتبرون  حكومات إسلامية  بل  حكومات علمانية لا  تحتكم  إلى  الشريعة  وقد  نص  على  كفر  أمثالهم  كثير  من  الأئمة  المسلمين. فكيف  تنظرون  إلى هذه  الحاكمية  الإلهية  التي  يتمسك  بها  الطيف  الإسلامي  السياسي  من  بن  لادن  إلى  مهدي  عاكف وعبد  السلام  ياسين وعلي  بلحاج وراشد الغنوشي  ويوسف  القرضاوي؟
يبدو لي، بداية، انه يمكن تناول المشكلات الدينية السياسية في العالم العربي من موقعين مختلفين. موقع المرجعية الإسلامية مقروءة بهذه الصور أو تلك، وموقع افتراضي لمرجعية مستقلة لا تلتمس شرعيتها من المرجعية الإسلامية، وتستند إلى القيم الإنسانية العامة كالمساواة والحرية والجدارة الإنسانية المتكافئة والاحترام المتبادل… وقد نسمي هذه مرجعية “حداثية”. الصدور الحصري عن المرجعية الإسلامية يعني أننا ملتزمون إيمانيا بالإسلام وليس فقط معنيون به كمكون موضوعي لهويتنا الفردية والجمعية. ولعله يعني أيضا حصر الشرعية بتلك المرجعية واعتبارها معطى مطلقا ونهائيا، لا يسعنا إلا التسليم به، أو ربما محاولة اقتراح صيغ “معتدلة” منه. أما من لا يصدر عن هذه المرجعية فهو “كافر” أو على الأقل مغترب، منكر لأمته. إلا أن هذا الافتراض يضمر إرادة عزلنا عن العالم ووضع أكثر من قرنين من تفاعلنا معه بين قوسين، أو تجريم هذا التفاعل واعتباره انتهاكا لحمى “الأمة” وهويتها وعقيدتها.

ليس الإسلام موضوعا فقط لمن يصدر عن المرجعية الإسلامية بل هو المكون الأساسي لذاته. هل يسعه “موضعة” الإسلام في مثل هذا الشرط؟ هذا سؤال ضروري لكننا لن ننشغل به في مثل هذا المقام. يمكن للمرء، بالمقابل، أن يصدر عن غير المرجعية الإسلامية ويبقى معنيا بنهوض المسلمين وبتشكل الإسلام ذاته في صورة حليفة للحرية والمساواة في العالم. هذا حال كاتب هذه السطور. الإسلام موضوع له، وليس ذاتا إلا بمعنى موضوعي، بمعنى انه مشكل حتما لتفكيره كمسلم اجتماعي وثقافي.

لكن هل أسس تفاعلنا مع العالم مرجعية مستقلة عن الإسلام، دون أن تكون برانية ومقحمة عليه تعسفيا؟ وما هي العلاقة بين المرجعية المفترضة والمرجعية الإسلامية؟ ليست مشاركتنا في الحداثة معطى بديهيا لا إشكال فيه. وهي بالقطع ليست من صنف علاقة الأوربي أو الأميركي بها. وهي ليست كونية فورا ومن تلقاء ذاتها إلا كمنتج استهلاكي. ولا نستطيع التفاعل معها كأننا بلا تاريخ ومن لا مكان، أو افتراض أن المعاصرة وحدها تضمن العصرية. المشاركة الفاعلة في الحداثة مسالة قدرة وتدخل وليست مسألة وجود سلبي في العصر أو في العالم نفسه. صحيح أن ثمة من ينكرون وحدة العالم اليوم فقط لينكروا انصرام الزمن، لكن هل يكفي الإقرار بالتاريخية والانصرام الحتمي للزمان كي تكون المشاركة العالمية أمرا معطى أو ناجزا؟

إننا مندرجون في الحداثة ولسنا متملكون لها. ليس لحداثتنا ديناميات إنتاج ذاتية، وهي لم تتشكل في تقليد عام، أي ثقافة وطنية أو قومية. نحن في الحداثة والحداثة فينا، لكن حداثتنا ليست سيدة، لا توجد في صيغة سيادية. والقضية التي أدافع عنها هي أن حداثتنا لن توجد في صورة سيادية دون “صراع مع الإسلام”، أي دون اشتباك فكري ونفسي وأخلاقي وروحي مع الظاهرة الإسلامية الكبرى بمختلف أبعادها، الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية والتاريخية. كان الإسلام هو ميثاقنا مع العالم والتاريخ. اليوم الميثاق الإسلامي في أزمة، أو لنقل إنه يفصلنا عن العالم بدل أن يربطنا به. “الحداثة” بالمقابل تربطنا بالعالم لكن في صورة غير مستقلة. وقد يكون من شأن الصراع مع الإسلام، ولا أقول الصراع ضد الإسلام، أن يؤهل لميثاق جديد يضاهي الميثاق الإسلامي لكنه مختلف عنه. وأفترض أن تحولا كهذا هو ما يضمن الاستمرارية للإسلام ذاته، وإن في شكل غير سيادي. وهو ربما ما يمكننا من الانفلات من عدميتين: عدمية الحاكمية التي تريد التخلص من العالم، وقد تجسدت بالخصوص في “القاعدة”، وضرب من عدمية مستندة إلى الحداثة وتريد أن تتخلص من الإسلام كيفما كان وبأية طريقة.

هذه هي الرؤية العامة التي تصدر عنها التعليقات اللاحقة. إنها تستند إلى مرجعية مفترضة، انحيازا لأسسها القيمية المومأ إليها فوق، ولأنها تتيح اتخاذ مسافة من المرجعية الإسلامية، لكن دون تكتم على كونها مرجعية غير ناجزة، مشروع للتحقق، تفصلنا عن استوائه صراعات محتومة وأزمنة قد تطول.

ج1- أفترض أن الحاكمية الإلهية تعني أن الله هو المشرع وهو السيد وهو الحاكم الفعلي. لكن لما كان الله لا يحكم مباشرة وان من يحتمل أن يطبقوا الشريعة هم بشر مثلنا، فما الضمانة أن لا يتوسل هؤلاء الشريعة لحيازة سلطة مطلقة ونفاذ امتيازي إلى الموارد الوطنية؟ الإنسان ليس روبوتا مبرمجا إلهيا على “الشريعة” أو غيرها. إن فيه فائضا على أي برنامج، وانفلاتا من أي قيد، وهذا ما يجعله إنسانا أصلا. بلى، يمكن أن تبرمج الإنسان على الشريعة، لكن ليس دون أن تستأصل إنسانيته، وبالخصوص حريته. أي أيضا ضميره وعقله. فهل يبقى بعد دين أو شريعة؟

هل تردع الشريعة ذاتها من قد يحكمون باسمها عن الطغيان؟ الدليل التاريخي لا يؤيد ذلك. فقد تصارع أصحاب النبي، من يفترض أنهم اقرب على النبع الصافي للشريعة، على السلطة والثروة بعد وفاة صاحب الدعوة بأقل من ثلاثة عقود. وليس ثمة ما يضمن بأن إسلاميي اليوم أكثر ترفعا من صحابة الرسول، بل إن إيديولوجية الإسلاميين بالذات تقوم على أن الصحابة أسمى من أي جيل من الأجيال اللاحقة. ومعلوم أن الأجيال اللاحقة من المسلمين عاشت في ظل ملك عضوض، كان استبداديا دوما، وسفيها في أكثر الأحيان. معلوم أن الشريعة الإسلامية ذاتها “صنعت” في ظل “ملك” من هذا الصنف، إن لم يكن بطلب منه، ففي ظل أجهزته وعوائده ومألوفاته كأطر اجتماعية للتفكير. ومعلوم اليوم أن الأطر هذه ليست سلبية، وأنها متدخلة في محتوى التفكير ووجهته ومحددة لممكناته ومصدر لتمثيلاته ومادته الواقعية. إن تفضيل الظلم على الفتنة مثلا يعكس خبرة مألوفة في الدولة السلطانية العربية. وإن الجلد والعقوبات الجسدية من مألوفات الحياة في تلك الأيام. وإن الفقيه لا يمكن إلا أن يستبطن بعض محرمات دولة استبدادية راسخة على نحو ما نفعل نحن اليوم، أو على الأقل تحدد ممكنات هذه الدولة ممكنات تفكيره.

ما قد يحصل في دولة حاكمية هو أن فريقا من الزعامات سيحوز حرية مطلقة، وسيصادر أي اعتراض عليه باسم الشريعة والدين، منشئا حكما شموليا دينيا، ومستعبدا أكثرية السكان باسم الإسلام. وبعد جيل أو نحوه من اتسام هذه الحكم بـ”الفضيلة” أو التقوى الإسلامية، يبدأ الفساد بالتسرب إليه، ولن يتأخر عنه التمييز الفاضح بين المحكومين والعنف لحماية النظام. فتتطور الشمولية الدينية إلى طغيان أهوج. وإن لم يقع العالم كله في انحطاط لا يرتفع، فإن الدولة الحاكمية ستنهار بعد ثلاثة أجيال مثل الدولة الخلدونية.

ولا يحول دون تطور كهذا غير وجود سلطات أخرى مستقلة يمكن أن تقف في وجه السلطة السياسية الدينية وتحد من تعديها. وهذا شيء لا تقرره “الشريعة” التي يبدو أن ما يعني الناطقين باسمها هو كيفية فرضها فقط.

لكن مشروع الحاكمية الإلهية لا يولد دولة مستبدة عنيفة فقط، بل إنه لا يتحقق بغير العنف. ذلك أن المشروع هذا منفصل عن أية وقائع أو ديناميات تاريخية فاعلة أو ممكنات في مجتمعاتنا، ما يجعله برنامجا لفرض تصور مبسط ومجرد على الحياة البشرية المعقدة. والنتيجة المؤكدة في مثل هذه الحالة هي التعسف والعنف والإكراه.

ويبدو لي أنه إن كان من صفة “أصيلة” للإسلام السياسي المعاصر، والحاكمي منه بالخصوص، فهي اصطناعيته المفرطة وتعارضه التام مع “الفطرة”، كيفما فهمناها.

أضيف أن الحاكميين يعبدون الإسلام (مقلصا إلى الشريعة) وليس الله. فهم “مشركون” بالمنطق الإسلامي. إنهم يختزلون الإسلام إلى الشريعة ويحذفون منه الإيمان والروحي، ويردون الشريعة ذاتها إلى الحدود، والحدود إلى العقوبات البدنية. ويجعلون من هذه برنامجا بالمعنى التكنولوجي للكلمة، أي مدونة لقواعد ملزمة لا اختيار فيها ولا تأويل لها ولا روح فيها. قوانين وضعية بالمعنى الفيزيائي لكلمة قانون والمعنى الفلسفي لكلمة وضعية، أي دون ظلال ميتافيزيقية ومعان فائضة عن الألفاظ. لكنها مطلقة فوق ذلك. والجمع بين الوضعية والإطلاق هو ما يكون المزيج المخيف للدعوة الحاكمية على نحو ما تجلت في حكومة طالبان الأفغانية وفي منظمة القاعدة وفي تنويعات لهما هنا وهناك. وإذ يحل الحاكميون أنفسهم محل الله حيال الناس، يمنحون أنفسهم سلطانا مطلقا على الحياة والموت.

وعبادة الشريعة آلت بالقروضاوي إلى أن يضع الدين على مستوى النسل والمال والنفس والعقل ..واحدا من خمسة مقاصد أو ستة للشريعة يتعين حفظها. وهو يبني على ذلك أن الإسلام ليس دينا فحسب، أو أن الدين جانب من الإسلام فقط. ويكمل هذا التقليص للدين إلى مقصد فحسب من مقاصد “الشريعة” تقرير تحكمي بأن الإسلام هو الإسلام، لا يشبه غيره ولا يقارن بغيره، فريد، متفوق، صالح لكل زمان ومكان. وهذا تأسيس للتعسف والاعتباط وتقويض للمنطق والمفهومية.

والخلاصة: في الإسلام دين، لكن الإسلام ليس دينا. ما هو الدين الذي في الإسلام؟ لا نعرف. وما هو الإسلام الذي ليس دينا؟ الإسلام هو الإسلام! شيء تخفق المفهومية إزاءه كما تخفق أمام الله الذي “ليس كمثله شيء”. الشرك هنا أيضا.

والتعسف في الفكر هو قرين الطغيان في السياسة. ومشروع الحاكمية هو مشروع تحكمي مفض لأشد ضروب الطغيان جنونا.

وفي عالم كهذا لا يبقى لمفردات النهضة والحرية والتقدم والإنسانية أي معنى. الشيء الوحيد الذي له معنى هو تكرارا للأشياء نفسها إلى الأبد واستبعاد أي تغيير مهما يكن صغيرا. لكن أليس هذا هو الموت؟ وهل يعدو مشروع الحاكمية أن يكون احتفاء بالموت وتمجيدا له؟ إنه مشروع ينبثق من الموت ويتوسل الموت للوصول إلى الموت!

2– هل التخلي عن الحاكمية، أي عن تطبيق الشريعة بما فيها من عقوبات بدنية كجلد شارب الخمر، وقطع يد السارق، ورجم الزاني والزانية حتى الموت، وقطع رأس المرتد كفر بواح كما يقول الإسلاميون، أم هو ضرورة من ضرورات العصر، والضرورات تبيح المحظورات كما تقول القاعدة الفقهية؟

ج 2- ” ضرورات العصر”؟ ربما. وإن كان “العصر” يبدو لي نوعا من ألوهة برانية لا وجود لنا في ظلها إلا كوكلاء. ولعل “ضرورات” العصر هي ملائكة الألوهة هذه. لكن أعتقد أن التخلي عن العقوبات الجسدية يمكن أن يحوز قدرا من شرعية إسلامية. تحدث مثقفون عرب ومسلمون عن تأويل مقاصدي للشريعة، وهذا مبحث مزدهر في المغرب. وركز آخرون على مبدأي الضرورة والمصلحة، ويمكن تأسيس تاريخية أحكام الشريعة عليهما. وتحدث آخرون (محمد الشرفي، محمد شحرور) عن أن “الحدود” حدود قصوى، يستطيع المشرع الحديث والجهاز القضائي أن ينصرفا عنها إلى ما دونها من عقوبات. وأفضل من جهتي القول إن حد الحدود هو الشريعة ومقاصدها، وحد الشريعة ذاتها هو العقيدة التي يفترض أنها “رحمة للعالمين”، أي الإيمان بالله وعمارة الأرض، وحد الجميع هو الله كمعنى غير قابل للحصر وكطاقة حياة لا يقيدها دين أو شريعة. فإذا عملنا على إعادة هيكلة الإسلام في وجهة ترجح الإيمان (الحر والطوعي وإلا لا معنى له) على الشريعة، وعمران العالم على “النظام الإسلامي”، انخفضت مرتبة المقاصد ذاتها إلى موقع ثانوي، والحدود إلى موقع ثالثي. وانفتح الباب لحرية الاعتقاد ونزع السيادة (أي شمول الولاية أو عموميتها من جهة، واحتكار العنف من جهة ثانية، وأول هذا الحكم بالموت، لكن أيضا العقوبات الجسدية) من الدين لمصلحة تنظيمات وأفكار بشرية. وهذا ما قد يتيح انفصالا تاريخيا لمجتمعاتنا عن الإسلام، بمعنى السيادة الإسلامية، ما قد تتأسس عليه نهضة جديدة.

والانفصال هذا وتأسيس مرجعية مختلفة هو ما من شأنه أن يطوي العقوبات البدنية وعالمها، والباراديغم الفقهي القروسطي كله. ولي في هذا الشأن رأي خاص. إن محاولة نزع شرعية العقوبات الجسدية على أرضية إسلامية هي جهد محمود ولا غنى عنه. إلا أنه هو ذاته يقتضي موازين قوى ثقافية وفكرية اجتماعية، لكن أيضا سياسية ومادية، تضعف الإسلاميين وتقوى التيارات الإصلاحية في أوساطهم وتصنع ممكنات جديدة. يلزم أولا وأساسا صوغ قضية التحرر والمساواة وبناء قواها. كما نحتاج إلى عمل كبير على مستوى الثقافة والحساسية. لكن حتى هذا لا يكفي، نحتاج أيضا إلى قوة تسنده إلى حين تتشذب غريزة الإسلاميين العنفية وينبذون القوة من قائمة الوسائل الممكنة في الصراع السياسي والثقافي.

والتحولات الفكرية والسياسية التي نعول عليها لضبط الإسلامية السياسية التي تغريها الحاكمية دوما، هي ذاتها ما نعول عليها للتحرر من تحكم استبداد لا ديني ولا مبدأ له بحياتنا، أعني استبداد السلطات الحاكمة في بلداننا التي تستفيد من تنازع السيادة والمرجعيات كي تخلد في الحكم.

3 – يكفر الإسلام السياسي القوانين الوضعية بدعوى أن الأمة الإسلامية غير مؤهلة لتحكم نفسها بقوانين من صنعها لأن القوانين الشرعية الإلهية صالحة لكل زمان ومكان فكيف تنظرون إلى هذا التكفير؟

ج 3- المتغير وحده هو ما يصلح لكل زمان ومكان. هذا إن لم يكن التعسف والاعتباط هما ما يمليان علينا ما نقول. وتبدو لي تقريرات الإسلاميين تعسفية وبدائية إلى درجة أنه لو لم نكن نعيش في أوضاع شديدة الانحطاط والسخف لما أمكن صدور أقوال كهذه أو تداولها. ولعل التكفير استراتيجية مناسبة لفرض ضرب من التحريم على الأذهان يمنعها من نقد هذه الأقوال والأحكام التعسفية. وهو في ذلك لا يختلف عن التخوين الذي تلجأ إليه نظم استبدادية حيال معارضيها، على نحو ما هو الحال في سورية. إنه وسيلة لإخماد التفكير النقدي وحماية احتكار السلطة.

يبدو أيضا أن التكفير يقوم به الإسلاميون والتخوين تبادر إليه السلطات المستبدة مقترنان بتنازع السيادة في مجتمعاتنا بين أهل الدين والدولة. فحين يكفر إسلاميون خصومهم، ما يعني أنهم يبيحون دمهم، فإنهم يعلنون أن السيادة لهم أو أقله أنهم شركاء في السيادة، لأن السلطة السيادية وحدها من تحتكر العنف، وبالخصوص العقوبة المطلقة، الموت.

والصلة بين الحاكمية والتكفير ليست عارضة بل إن التكفير هو ضرب التخوين المناسب لتحديد المواطنة الصحيحة في دولة الحاكمية. أي أننا لا يمكن أن نجد تنظيما حاكميا ودعوة حاكمية وبالطبع دولة حاكمية دون تكفير. التخلص من التكفير يقتضي حتما إذن رفض دعوة الحاكمية وتحويل السيادة من الدين إلى الدولة. وهو ما يعيدنا إلى وجوب اعتبار الحداثة مشروعا غير ناجز ولا مناص من إنجازه. ومعلوم أن كلاما كهذا يقال في الغرب (هابرماز) ضد تيارات ما بعد حداثية تتعجل دفن الحداثة وتتمرد على عقلها السلطوي. لكن له معنى مختلفا عندنا، مستمد من حقيقة أن ما يهدد الحداثة لدينا هو أولا الإسلامية ما قبل الحداثية، وهو ثانيا افتراض شراكة ناجزة لنا في الحداثة الغربية، وهو ثالثا مقاربات ما بعد حداثية تفترض دونما أساس الشراكة ذاتها والتراكم الحداثي المحقق في الغرب ذاته، لكنها تؤول في المحصلة العملية إلى تدعيم ما قبل الحداثي في هياكلنا الاجتماعية والثقافية.

4- يكفر الإسلام السياسي القوانين الوضعية وحقوق الإنسان لثلاثة أسباب

1أنها من صنع البشر

2 أن مرجعيتها غربية عن المرجعية الإسلامية

3 أنها تحلل ما حرمت الشريعة ويضربون على ذلك مثلاً بمادة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تعترف للإنسان بحقه في حرية التدين وحرية الاعتقاد قائلين بأن ذلك يعني حرية المسلم في الردة، أي تغيير دينه أو التخلي عنه جملة فما ردكم على هذه الاعتراضات؟

ج 4 – “القوانين الوضعية” لا تحرم ما حلل الله، لأنها لا تحرم ولا تحلل أصلا. هي تمنع أو تحظر أو تلزم.. وتحفزها اعتبارات تنموية أو حقوقية تتعلق بالمساواة بين المواطنين. منع تعدد الزوجات ليست تحريما لتعدد الزوجات، وإتاحة وتقنين بيع الخمور وشربها لمن يرغب ليس تحليلا لما حرم الله، بل هو تقرير لممارسات وأفعال دون إضفاء القداسة عليها. الدولة ليس دينا جديدا يحل محل دين قديم، فيحلل ويحرم.

تنبع أفعال الدولة الحديثة عموما من مبدأ أن الإنسان حر في غير الأمور السيادية. لا يحد حريته هذه إلا حرية آخرين مساوين له، سواء كانوا من جنس آخر (النساء) أو من دين آخر (غير المسلمين) أو من غير المؤمنين بأي دين. ولأنه حر فإنه لا يمكن ولا يجوز فرض الإسلام أو أي دين عليه. هذا ينبع من مفهوم سيادة الدولة التي لا “تحرم”، وإن شئت لا تكفر أو لا تخون، إلا الانتهاكات السيادية (الاعتداء على الدستور والتعامل مع عدو). لكنه في رأيي يتوافق مع الإسلام ذاته. فأولا لا يمكن تأسيس الإيمان على الإكراه. لم أعد مؤمنا، فهل تجبرني على أن أكون مؤمنا أو تقطع راسي؟ أين الإنسانية والأخلاقية في ذلك؟ ثم إن الحكم بقتل المرتد لا أساس قرآنيا له (القرآن يتطرق للموضوع في غير موقع، لكنه لا يذكر أي عقاب له، بل إنه في غير موقع يقرر حرية الاعتقاد)، والحديث الوحيد الذي يشير إلى قتل المرتد منسوب لابن عباس الذي كان طفلا عند وفاة النبي، والذي يعتقد أن الرواة نسبوا له أحاديث كثيرة من باب تملق العباسيين. ومعلوم أن “أحاديث الآحاد” تعتبر ضعيفة في منطق الفقه الإسلامي ذاته، فكيف إن كان الأمر يخص قضية على هذه الدرجة من الخطورة، وكيف إن كانت العقوبة هي المطلقة أو الموت!

ورأيي هنا أيضا أن سيادة الدولة (الأموية والعباسية…) هي التي صنعت العقوبة، ونسبتها إلى الشرعية المقررة كما لا يمكن إلا أن تفعل. أي أن “من بدل بدينه فاقتلوه” هو تعريف للسيادة وللشرعية في الدولة الإسلامية الباكرة. ولا شيء آخر. ولعلها وجدت في “حروب الردة” سندا تاريخيا يعززها. ومعلوم أن أبا بكر لم يسوغ الحروب تلك بحديث ابن عباس أو بنص قرآني من أي نوع، بل باجتهاده: سيلزم “المرتدين” بان يؤدوا له ما كانوا يؤدونه للرسول.

.. ويخيل لي أحيانا أن المآل الأقصى دعوة الحاكمية من وجهة نظر تاريخية هو بناء “كنيسة” إسلامية، أو سلطة إسلامية مستقلة. فالتطلع إلى منتظم إسلامي يمارس المسلمون فيه ما يرونها مبادئ دينهم مشروع من وجهة نظر القيم الإنسانية العامة (المساواة، الحرية، العدالة، الاحترام المتبادل..) ما دام لم يفرض بالقوة. والمنتظم الإسلامي الطوعي هو ضرب من كنيسة إسلامية، أرى أنها مرغوبة لأنها تحد من تناثر السلطات الدينية الإسلامية والفوضى الفكرية والسلوكية والسياسية التي تقترن بها، ولأنه من جهة أخرى ربما يؤسس للعلمانية. هذا لأنني أعتقد أن لدينا مشكلتان لا مشكلة واحدة على الصعيد الديني السياسي. أولاهما التناثر المفرط للسلطة الدينية منذ جيل أو أكثر، والثانية هي تنازع السيادة بين السلطات الدينية والسلطة السياسية. أعتقد أيضا أن توحيد السلطات الدينية قد يسهل استقلال السلطة الدينية عن الدولة واستقرار ولايتها في “المجتمع المدني”، دون عنف ودون عمومية.

أما محاولة فرض المنتظم الإسلامي الذي يحكمه الله وحده وتطبق فيه الشريعة وحدها بالعنف والإكراه فهو مشروع حرب مفتوحة. ومن سيعجز عن مقاومة العنف بالعنف، والرد على الحرب بالحرب؟ على أية حال لا يكاد الإسلاميون الحاكميون، والتيار السلفي الجهادي بخاصة، يخفون نيتهم لفتح العالم وفرض معتقدهم بالقوة. وهم لا يبالون بأفكار مثل الحرية والمساواة والسلام وما إليها. لكنهم بهذا يشرعون أيضا سبيل مواجهتهم الوحيد.

أما حرية الاعتقاد، ومنها حرية عدم الاعتقاد وحرية تغيير الاعتقاد وحرية التفكير في شؤون الاعتقاد، فهي مبدأ لا تفاوض عليه في مجتمعاتنا ذاتها. ربما يستطيع الإسلاميون سحقنا، لكنهم لا يستطيعون سحق هذا المبدأ لأنهم ينبع من مفهوم الإنسان ذاته. بل ومن مفهوم الدين ذاته أيضا. لا أريد أن أزايد على الإسلاميين لكن الإسلام ذاته لن يكسب إلا إن جعل من حرية الاعتقاد حليفا له. وهو الآن يخسر لأنه متحالف مع الإكراه والتفكير. وبقدر ما إن “من بدل دينه فاقتلوه” تعريف للسيادة في دول جنحت نحو الملك العضوض والسلطانية، فإن “لا إكراه في الدين” تعريف للدين ذاته، لا يستقيم من غيره.

لكني هنا أيضا أعود إلى القول إن ما ينصر تصورا تحرريا للإسلام هو موازين قوى مناسبة، تمنح الأرجحية للأحرار. فالمسألة ليست تفضيلا يستند إلى العقل المجرد أو إلى أخلاقية متعالية، بل هي مسألة هيمنة. أي تفوق فكري ومادي معا.

أما القول إن القوانين الوضعية من صنع البشر فهو قول صحيح، وليس لأمثالنا، من قد نعرف أنفسنا بالحرية أو العقلانية أو الحداثة، أن يتكتموا عليه. نحن نصدر عن مرجعية مختلفة عن تلك التي ينتظم على أساسها الإسلاميون والتفكير الإسلامي المعاصر. هذه المرجعية بشرية وتتطلع إلى السيادة، لكنها تدرك أنها مشروع وأمامها وقت طويل حتى تثبت ذاتها.

لكن هنا أيضا، أعني في افتراض الحاكميين أنهم يصدرون عن قوانين إلهية، احتكار سياسي لله يبطنه افتراض أن الناس روبوتات. إلا أن إخواننا الحاكميين أنفسهم بشر وليسوا روبوتات، لا تأمر “نفوسها” إلا بما برمجت عليه من “إسلام” أو “شريعة”؛ وهم سيطبقون الشريعة تطبيقا بشريا تلابسه كل نوازع السوء الذي تأمر بها نفس الإنسان.

هذا فوق أن “الشريعة” ذاتها على نحو ما يحيل إليها الإسلاميون بناء بشري أنتج في شروط محددة، متأخرة أكثر من قرن عن الدعوة الإسلامية.

والقول إن مرجعية القوانين الوضعية غربية صحيح بالمعنى الوصفي للكلمة، أي بمعنى أن الغرب هو أول محلة في العالم طورت قوانين بشرية تضمن درجة من المساواة ومن الحرية بين البشر أعلى مما كانت تضمنه قوانين سابقة لها. لكن القول هذا غير صحيح إن أخذ كاتهام. فالتحول نحو الوضعية في القوانين (وفي التفكير..) مقترن بتحول السيادة لمصلحة تنظيمات ومواضعات بشرية، وهو ما حصل في الغرب قبل غيره. والبديل عن تحول كهذا هو التجمد في تنظيمات ومواضعات دينية لا يمكن أن تعطي أكثر مما أعطت حتى اليوم، أو لنقل إنها لا يمكن أن تعطي شيئا جديدا إلا ضمن نظام جديد للسياسة والمعنى لا تحوز فيه السيادة.

5– هل تتنافي الحاكمية، أي تطبيق الشريعة مع الدولة المدنية التي هي دولة لكل مواطنيها؟ وهل الحاكمية عودة في القرن الحادي والعشرين إلى الطائفية التي لا تطبق قانوناً موحداً على جميع مواطنيها المختلفين دينياً؟

ج 5- لا أظن أنه يشغل بال الحاكميين أن تفكيرهم يتعارض مع الدولة المدنية ويتجاوب مع الطائفية. هم قبل أن يرفضوا هذه المفاهيم يرفضون أوسع جوانب التراث والفكر الإسلامي ذاته. فمشروعهم عدمي تاريخيا وثقافيا إلى أقصى حد. وكمشروع تطبيقي (مثل تطبيق الاشتراكية..)، فإن تطبيق الشريعة هو في أحسن حال نوع من التكنولوجيا السياسية التي ترد الناس والمجتمعات البشرية إلى كائنات مطواعة، هيولى لا صورة لها، لكنها قابلة بصورة لا نهائية للتشكل وفق للصورة الجاهزة التي اسمها الشريعة (أو الاشتراكية…). المبدأ الإيجابي أو “الصورة” هنا هو “الشريعة”.. أما الإنسان فمادة سلبية منفعلة. هنا لا يبقى لمفهوم الحرية والإنسانية أي معنى. ومفهوم الدولة المدنية الذي يفترضهما معا يغدو بدوره بلا معنى.

والحاكمية مشروع هجومي وعالمي، فلا يمكن أن يتقبل وجود غير مسلمين في داره. وطموحه النهائي هو فتح العالم وأسلمته. القول تاليا إنه عودة إلى الطائفية قد لا يكون صحيحا. إنها بالأحرى حل جذري للطائفية، لكن ثمنه طغيان مجنون لا حدود له.

6– هل تشاطرون من يطالبون بتعديل الدساتير والقوانين في البلدان العربية لتطهيرها من رواسب الحاكمية مثل اللامساواة بين الرجل والمرأة، والمسلم وغير المسلم، والتنصيص على دين الدولة ودين رئيسها وحرمان المسلمة من الزواج من غير المسلم؟

6- ليست المقاربة القانونية هي الأجدى في مثل هذه الشؤون. نحتاج إلى تضافر جهود تربوية وتعليمية وتنموية، وإلى ترقي هيمنة مجتمعاتنا على شروط حياتها ومصيرها، وإلى وقت كاف قد يطول جيلا أو جيلين، من أجل تغير البيئة السياسية والنفسية والثقافية لقوانيننا الراهنة. يمكننا أن ننقل أحدث القوانين من الغرب أو غيره لكن هذا لا يعني بحال انتقال الحقوق. ومن أجل أن نحوز حقوق الحرية والمساواة لا مناص من صراع مديد مع أعراف وهياكل سلطة وعادات ذهنية وإيديولوجيات دينية وسياسية.

وبينما لا ريب في فائدة أي مكسب قانوني يتحقق في هذا البلد أو ذاك باتجاه المساواة بين الجنسين أو بين المسلمين وغير المسلمين..، فإن ما يكسب على مستوى القانون ينبغي إعادة كسبه على مستوى الثقافة كي يمسي نهائيا وغير عكوس، أو تقليدا قارا.

وفيما يخصنا كمثقفين فقد يكون “الصراع مع الإسلام” هو مدخلنا إلى إثبات فائدتنا.

ياسين الحاج صالح

خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى