صفحات أخرى

«العمامة والأفندي»: فالح عبد الجبار .. الظاهرة الدينية ديناميكية ومتحركة

احمد زين الدين
إذا كان التمرّس السياسي، والخبرة الميدانية، ومراعاة أصول البحث الأكاديمي، أوجب على فالح عبد الجبار، أن يحصر موضوع كتابه الضخم الأخير «العمامة والأفندي» «منشورات الجمل» بالحياة الدينية، وتجلياتها عند الشيعة العراقيين، وسياسة التجاذب بينهم وبين الحكام في العراق الحديث، فإنّ أغراضه ومراميه النظرية أعمّ من الحالة العراقية، فالنتائج المرتجاة من هذه العيّنة الملموسة، والمعطيات المحلّلة والمرصودة بدقة وتفصيل، تعبّد الطريق نحو معرفة أفضل لفهم عمل آليات الخطاب الديني ومساراته وتعبيراته وتمظهراته الاحتجاجية، من دون أن يصطدم هذا التعميم بإغراءات التبسيطية الاختزالية والتجريدية. بل إن عبد الجبار يقارب الظاهرة الشيعية العراقية باعتبارها ظاهرة تاريخية مركبة ومعقدة. متتبعاً أصولها وأبعادها الاقتصادية، وطبيعتها النفسية والوجدانية.
وفي مسح عام لأهم الأبحاث التي ظهرت في العقود الأخيرة حول الظاهرة الطائفية، ينتقد المقاربات السوسيولوجية التي تجعل من الطوائف كيانات متجانسة، ومغلقة على ذاتها وتاريخها. في حين يرى أنّ الظاهرة الدينية والطائفية ظاهرة ديناميكية متعرّجة الخطوط، ومرتبطة بجذورها الاجتماعية والتاريخية التي انتجتها. وهي إلى ذلك متفاوتة ومتعارضة ومتعددة العناصر والميول. وفي ضوء هذا الفهم يثني على أعمال حنا بطاطو الذي يكشف عن السيرورة المعقدة للظاهرة الطائفية، وينأى في مسألة العداء الشيعي – السني عن أي إفراط أو شطط.
وأبرز ما يمكن أن نتلمّسه عند فالح عبد الجبار، نظرته الديناميكية الجدلية التي يتواشج فيها الإيقاع التاريخي الوطني للعراق وتحولاته السياسية والاجتماعية المحلية، بالايقاع التاريخي للمحيط العربي والاقليمي وتطوراته، لا سيما المحيط الإيراني ما بعد الثورة الإسلامية. وفي ضوء سردية تاريخية معمّقة للحياة السياسية في العراق عموماً، وأحوال الشيعة خصوصاً، نلمس أثر الظروف الخارجية والداخلية على تبلور بعض النظريات والمفاهيم او ضمورها. وكيفية استغلال الطقوس الشعبية الدينية، وعلى رأسها طقوس عاشوراء، وزيارات العتبات المقدسة، في عملية تأجيج العواطف والضغائن المكبوتة والمعادية للحكومات العراقية القائمة، حيث يتداخل آنئذ، العنصر التاريخي لظلامة كربلاء بالظلامة السياسية والاجتماعية الراهنة.
بيد أن الذي يسترعي الانتباه، ان عبد الجبار، وهو يخوض في العلاقة الملتبسة والمتوترة بين شيعة العراق، والحكم العراقي الذي تبنى الشعارات العربية، يستعيد الأطروحة الشائعة التي تقرن القومية العربية بالطائفة السنية، والتي يرددها ولي نصر في كتابه الأخير»صحوة الشيعة» بلغة ايديولوجية سافرة وعنصرية، متهماً الداعين الى القومية، بأنهم يستخدمونها ضد الشيعة لهضم حقوقهم، ودرء الأنظمة العربية التقليدية عن اي تهديد ينال من هيبة حكمها. كما يفعل كنعان مكية في «جمهورية الخوف» حين يتحرى عن اصول النزعة القومية في صلب المذهب السني العربي. وكان جديراً بعبد الجبار الكاتب الموضوعي والمتبحّر ان يحترس من هذا التعميم، وان يتوسّع في جلاء هذه الفكرة عبر سياقها وشروطها التاريخية، الفكرة التي تعاطف معها ونافح عنها غالبية الشرائح الشيعية في فترات عصيبة من التاريخ الحديث. وألاّ يكتفي بالتماس مقولة عنصرية موازية، هي مقولة الشعوبية التي شهرها النظام الصدّامي في وجه المؤيدين للثورة الإيرانية الإسلامية.
رمزان متناقضان
في كتاب «العمامة والأفندي» يظهر رمزان متناقضان: رجل الدين المعمّم الذي يمثّل القوة التقليدية المحافظة، والمعرفة المقدسة والمؤدلجة، والنظام الأخلاقي الصلب. أما الرمز النقيض فهو، كما جاء في كتاب عبد الجبار «في الأحوال والأهوال» المهندس والضابط والإداري والمحاسب، والعلماني الجديد في الدولة المركزية الحديثة. وهذان النموذجان يتواجهان فكرياً واجتماعياً وسياسياً. وإذا كان لهما أن يتعايشا معاً، فإنّه تعايش اضطراري، سرعان ما يتحول إلى صراع خفي حيناً، وظاهر أحياناً، بفعل شروط انتقال المجتمع من وضع، إلى وضع آخر يتداخل فيه السياسي بالاقتصادي والثقافي والاجتماعي. وقد اشتد أوار هذا الصراع حينما انتقلت البلاد من مرحلة ما قبل الدولة الوطنية، إلى مرحلة الدولة الوطنية المركزية. وقد أفضى هذا التحول إلى انحسار نفوذ رجال الدين وسلطتهم، والى تحطّم «الأشكال الاجتماعية الأقدم التي تعلي من قيم النسب النبيل أو المعرفة الدينية أو القداسة أو البسالة القتالية» حسب عبارة حنا بطاطو.
السردية الكبرى لكتاب «العمامة والأفندي» تغطي التطورات والظروف التاريخية والتحولات الاجتماعية والسياسية في العراق، وفي داخل صفوف الطائفة الشيعية. وتكشف هذه السردية لتاريخ العراق الحديث، الأرضية والشروط التي اكتملت فيها عناصر الصراعات والتجاذبات المتكتلة حيناً، والمبعثرة احياناً. الظاهرة تارة، والمختفية طوراً. وإذا كان المؤلف قد حدد بداية التنافس السري ثم العلني، بين الدولة العراقية والطائفة الشيعية، بانبثاق «حزب الدعوة» أول حزب شيعي عراقي، فإنّ هذه الفترة التي اعقبت ثورة تموز 58 عرفت بوادر انكفاء الأيديولوجيات العلمانية وتآكلها، وازدياد جاذبية الأيديولوجيات المقدسة، واشتداد عود الهويات الإثنية والطائفية. وعبّر النهوض الطائفي، عن ضعف سيرورة التكامل، والاندماج الوطني بين اطياف الشعب العراقي، الذي يتوزع ولاؤه على أكثر من موقع طبقي وطائفي وقبلي وعرقي. ودفع التوجس من حكم عبد الرحمن وعبد السلام عارف المنحازين سنياً، إلى سلوك الشيعة طريق العمل السياسي السري، عبر تشكيل التنظيمات الحزبية ذات الأيديولوجية الدينية.
لذلك يضع فالح عبد الجبار، في تحليله الظاهرة الدينية الشيعية، الحوزات في كربلاء والنجف في بؤرة الضوء، بوصفها مركز تأثير وجذب وتحريض. وقد سبق للمؤلف أن حلّل في كتاب سابق، وبالأرقام، الموارد المالية للحوزات، وطرائق جبايتها وصرفها، وصراع المرجعيات فيما بينها على استقطاب الأموال الشرعية، من زكاة وخُمس وأوقاف، الأموال التي تساعدها على بسط شبكات نفوذها، وخلق جماعات من الأتباع والمريدين. وقد حاولت هذه الجماعات بقيادة علماء الطائفة أن تتغلغل إلى مجالات غير خاضعة لسيطرة الدولة، مثل ميادين التعليم، والمساعدات الاجتماعية، والأعمال الخيرية، والعناية الطبية، وإصدار المطبوعات التي ترمي إلى بناء نظرية اجتماعية وسياسية منافحة عن الإسلام، لتشكل ما يشبه المجتمع المدني الشيعي. وفي مواجهة تهديد الأيديولوجية العلمانية، لعبت مجلة «أضواء» دوراً توجيهياً وتثقيفياً بارزاً في إعداد الجماعة، وفي منافسة الفكر الماركسي.
وإذ يعكف عبد الجبار، على تحليل مطبوعات حزب الدعوة وبياناته المتضاربة والمتناقضة أحياناً، وأسماء دعاته ورعاته ومموليه، لا سيما في بداية تأسيس خلاياه الأولى، فإنه يُرجع نشأة الحزب إلى عزم القيمين الأوائل عليه، وخصوصاً محمد باقر الصدر وصاحب الدخيل، على إنشاء اطار تنظيمي يضاهي الحزب الشيوعي الذي كان قد استقطب العديد من الطلاب والشرائح العمالية والشعبية. وقد جمع العداء المشترك للشيوعيين آنذاك، حزب الدعوة إلى حزب البعث.
وفي قراءته لمنحى حزب الدعوة الفكري واستراتيجيته السياسية، عدّ عبد الجبار خطاب الدعوة وإطاره التنظيمي خطاباً وإطاراً يحاكيان الأحزاب العلمانية الحديثة بمضامينها وأساليبها واستراتيجياتها ومفاهيمها، ولكن بتغطية وباستيحاءات إسلامية. بل إنّ حزب الدعوة في رأي الكاتب، استلهم أساليب التنظيم اللينيني الذي أرسته الأممية الشيوعية الثالثة، في عشرينيات القرن الماضي، وتبنّاه شيوعيون عرب وقوميون راديكاليون، وأخوان مسلمون.
المعرفة والسلطة
ينكبّ عبد الجبارعلى تحليل طبيعة المعرفة الدينية، وتكوين ركائز السلطة عند علماء الدين الشيعة، بالاستناد إلى فحوى أطروحة ميشال فوكوعن علاقة المعرفة بالسلطة. إذ نُسجت هذه العلاقة تاريخياً وبصورة تدريجية. وقامت اولاً على فكرة ضرورة أخذ الشيعي بنصائح الفقيه طوعاً واستحساناً، ومع تنامي الدور المنوط بالفقيه الشيعي، غدا تقليده واجباً أخلاقياً ودينياً مفروضاً على كافة أبناء الملة. وحوّل هذا التقليد المفروض الشيعي إلى تابع، لا سيما بعد التشيّع الإيراني الذي اندغم في صلب الدولة الصفوية. وكان من التزام الناس تنفيذ آراء العلماء ووصاياهم، ان زاحمت السلطة الدينية التي تمتّع بها المجتهدون العلماء، السلطة المدنية التي يمثلّها الحكام، وحلّت محلها في كثير من الأوقات. وساعدت أحياناً على امتثال الشيعي لرأي الفقيه، لا في الأمور الدينية فحسب، بل في شتى الشؤون الدنيوية والدينية.
وقد ارتكزت هذه الطاعة، على تفسير كلمة أولي الأمر، في الآية 59 من سورة «النساء» التي تدل عند الشيعة على الإمام المعصوم، أو من يحل مكانه. أما ولي الأمر عند القطب الإصلاحي السنّي الشيخ محمد عبده الذي يستشهد به عبد الجبار، فإنه غير محصور بإمام أو حاكم . ولو رجع المؤلف مباشرة إلى «تفسير المنار» الذي كرّس صفحات طويلة لهذه المسألة، لعثر على إضاءة جيدة ومفيدة لبحثه، حيث تتبدّل دلالات أولي الأمر مع الزمن، الى درجة جعلت محمد عبده المتصالح مع واقعه، يُخرج الناس من مدار الطاعة لعلماء هذا العصر، ليستبدلهم بممثلي الأمة المنتخبين من الشعب بلا إكراه او ضغط، أي أهل الحل والعقد والقيادة، في الدولة الوطنية أو القومية الحديثة.
وعبد الجبار ينسج صيغة تكاملية بين أيديولوجية دينية نخبوية، يقودها رجال الدين، وتقوم على اسلام تجريدي وفقهي، وأيديولوجية شعبوية محلية مرتبطة بممارسة التقاليد والطقوس الدينية، لا سيما الطقوس العاشورائية. وإذا كان بعض علماء الإناسة الدينية، جعل هذين المستويين من الممارسة أو الفهم الديني في حالة تجاذب وتنازع بينهما. فإنهما عند فالح عبد الجبار، فضاءان متكاملان ومتّحدان يرعاهما ويهيمن عليهما سوية، علماء الدين الشيعة الذين يغتنمون المناسبات العاشورائية، لتوظيفها أدوات لتعبئة الجماهير وتحريضها، لا سيما إبان الأحداث، والملمّات والتحولات العنيفة . ولا بدّ مع ذلك، من استدراك أن الجسم العلمائي الشيعي ليس متجانساً أو متصالحاً، أو موحّداً، بل تخللته، عبر الزمن، نزاعات ومشاحنات ومماحكات بين الإخباريين والأصوليين. أما العوامل المسببة لديمومة هذه النزاعات الداخلية، فمردّها التنافس على الموارد المالية، التي يسميها عبد الجبار «المال المقدس»، والتزاحم على النفوذ والسيطرة.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى