صفحات ثقافيةنزيه أبو عفش

محمود درويش في متاهة اللّوز

null
نزيه أبو عفش
قال لي صاحبي: ليس لديّ وقتٌ أضيّعه.
قلتُ لصاحبي: وأما أنا فليس لديّ ما أضيّعه غير الوقت.
شاعرٌ مهنته الكمال.
يقيناً، ليس مدّعي تواضع ليقول: «ذلك كلّ ما استطعت». لكنه، يقيناً أيضاً، ليس متورّطاً في عبادةِ نفسه وعقيدته الجمالية… بحيث يستكين إلى منجزه القديم ويقول: أكملتُ رسالتي.
يخترع «النقصان» كيلا يوقعه رضى الكمالِ في محنة الصمت. وينقض ما سبق أن عمَّر ليسوّغ لنفسه مغامرة القبض على المستحيل:
شاعرٌ يروّض المستحيل. ذلك هو محمود درويش.
.. .. .. ..
منذ عشرين سنة وأكثر، وأنا مستسلمٌ لهذا الإدمان الجمالي: دائماً، على طاولةِ قهوة الصباح، ثمة كتاب أو أكثر لـِ«سانت إكزوبري»، واثنان أو أكثر لمحمود درويش. برفقتهما تعوّدتُ تناولَ قهوتي الأولى. وعلى مائدتهما الصباحية المباركة أتلقّى أول وأثمن لقمة من زوّادة الجمال. معهما أشعر أن الجمال خالدٌ، كريمٌ و وفيّ؛ وأن الإنسان – بصحبة هذا الجمال الرحمانيّ – قادرٌ على مواصلة «وجع الحياة».
منذ عشرين ثلاثين سنة، وأنا أتلقّى هذه النعمة.. وأشكر.
حين قرأت جدارية محمود درويش كان أول انطباع لديّ عن هذا العمل العملاق – وذلك ما أفصحتُ عنه في أكثر من موضع ومقام – أنه أكملُ عمل شعري كُتب منذ المتنبي وحتى الآن. وبالتالي فإن أول ما خطر لي (ولأعترفْ أنني كنتُ مذعوراً من جسامة السؤال): ما الذي يمكن لمحمود أن يكتبه بعد ملحمة الختام تلك؟!.. وتحت سطوةِ هذه القصيدة الملحمية كتبتُ، في تحيتها وتحية صاحبها، قصيدتي المتلعثمة «قيامة محمود درويش/قراءة في الجدارية..». قلت:«المتلعثمة»، ذلك لأنني – بعد عودةٍ متأخرة لقراءتها – أحسستُ أنها لم تكن أكثر من مجاملةِ تعزية رومانتيكية أشبه بما يقال في رثاءِ راحل: «أنت حيّ على الدوام…».
بلى، ذلك كان انطباعي عن الجدارية: العمل الأكثر كمالاً. بالأحرى، لم يكن مجرد انطباع. كان خلاصةَ قراءةٍ متأنيّة لصناعة الجمال والتدقيق في أسراره، قراءةٍ نابعة من مفاهيمي الشخصية في قراءة الجمال، بل – و أكثر – معزّزةٍ بقيمِ ومفاهيم الجمال ذاته: الجمال محلوماً من وجهة نظر الكمال.
لكنْ (سألت نفسي مرة أخرى، و بإلحاحٍ أشبه ما يكون برغبةٍ غامضة في نفْيِ ما أسعى إلى تأكيده): كم مرة توصلتُ إلى مثل هذه القناعة إزاء شغل محمود درويش؟.. أوَليس هذا الرأي هو نفسه الذي كنت أجاهر به بعد قراءتي لأعمال سابقة على الجدارية، بدءاً من «سرحان يشرب القهوة..» وليس انتهاءً بـ «لماذا تركت الحصان وحيداً» ؟!.. وفي مثل هذه الحال، وإزاء هذه المفارقة المضنية، كنتُ أعيد طرح السؤال مجددّاً: كيف يمكن لما هو كامل أن يكون «سواه» بدون أن ينقض نفسه، أي بدون أن يتحوّل إلى «نقصان»؟!..
حسناً. في ما يخصّ شاعراً على قلقٍ جماليّ أبديّ كمحمود درويش، أعتقد أن العثور على جواب لهذه المفارقة أمرٌ ممكن، بل لعله الأمر الأكثر إلحاحاً وجوهريةً: إن صناعة الكمال هي، بمعنى ما، ولعله المعنى الأكثر صوابية، مواصلةٌ واسترسالٌ في صناعة النقصان. بهذا يحمي الجمالُ نفسه من الشيخوخة والزوال. وأيضاً بهذا يحمي صانعَه من الوقوع في الصمت (كدتُ أقول: الوقوع في الموت..).
في شعر محمود درويش – في جديده كله – ما مِن نصٍّ ليس كاملاً. لكنْ، في يقين محمود درويش نفسه: ما مِن كمالٍ، من وجهة نظر صانعه، إلا وهو نقصانٌ يحلم كمال نفسه. كل كمالٍ يدّخر، في جانبٍ ما منه، حصته الحيوية من النقصان، بمعنى أدقّ: حصته من الأحلام التي هي دافعه الأوليّ لمواصلة البحث، مواصلة القلق، مواصلة تعميرِ صرح الكمال، مواصلة التأمل في إمكانية جعلِ الكمال أكثر كمالاً، مواصلة السعي إلى إنجاز الكمال الناقص، أو بمعنى أصحّ: «كمالِ النقصان».
أعود إلى الجدارية:
إذا كانت هذه القصيدة هي «الأكمل» فما الذي يمكننا قوله عن «ورد أقل، وهي أغنية هي أغنية، وأحد عشر كوكباً، ولماذا تركت الحصان وحيداً»؟..
نحن، في هذه الأعمال الرساليّة، وفي سواها، أمام شاعر متفرغ على الدوام للتسابق مع نفسه، وتحطيمِ – على الدوام أيضاً – الأرقام القياسية لنفسه.
ما من شيء أوجع وأكثر دراماتيكيةً من هذا: رجلٌ يطارد الكمال فلا يسبق إلا نفسه. وفي نهاية كل سباق، بعد كل امتحان أو محنة، وفي ختام كل معركة أو صراعٍ مع الجمال: محمود درويش «مهزوماً» أمام محمود درويش آخر «منتصرٍ إلى حين» لا يلبث أن يتحول إلى مهزوم آخر يتنحّى خارج حلبة السباق، مسلّماً رايةَ الأمل – راية الخيبة بالأصحّ – لمنافسٍ آخر اسمه، كالعادة، محمود درويش.
Imageشاعرٌ متفرغ لهزيمةِ نفسه. شاعرٌ لا يهزم إلا نفسه.. ولا تهزمه سوى نفسه: ذلك هو.
إذا كان هذا دأبه على الدوام (ينقض ما بناه ليشرع في بنائه مرة أخرى، محاولاً قدر مستطاعه، بل وفوق مستطاع الأحلام، إعادة اختراع الحجارة والأدوات ومطامح الجمال).. فما الذي يمكن أن يقوله «هو» حيال هذه التراجيديا الضارية؟: «إنني أعيد صياغة هفواتي»!..
وبالتنصُّت المنصف والمحب إلى العديد من اعترافات محمود إزاء أعماله السابقة «أنا نادمٌ على الكثير مما صنعت» نستطيع فهم هذه الشهوة المؤبدة لترميم ما سبق أن أنجز.. ترميم ما سبق من «هفوات صناعة الجمال»، بالأحرى: إعادة ترميم الكمال نفسه. في هذا يلتقي معماريٌّ صارم كمحمود درويش مع معماريّ آخر لا يقلّ عنه صرامةً كـ«نيتشه» حين يتحدث عن الإنسان، ولعله يقصد الشاعر تحديداً: «..وما هي حقائق الإنسان في النهاية؟.. إنها أخطاؤه المتعذّر دحضُها».
حين يشير رجلٌ شديد التطلُّب – إزاء الحياة وإزاء شهوات العقل – إلى ما سمّاه «الأخطاء المتعذّر دحضها» فهو إنما يشير، يقيناً لا افتراضاً، إلى ما هو كاملٌ في صناعة الإنسان والعقل: يشير إلى محنة الكمال. وبهذا المعنى تغدو جميع مآثر الشاعر – من وجهة نظر الشاعر تحديداً – مجرد أخطاء، مهما صعُبَ دحضُها يتوجب التنكُّر لها على أملِ إعادة صياغتها على نحو أكمل… على نحوٍ «أقلّ نقصاناً». وهكذا يكتشف الشاعر (والشاعر هنا: محمود درويش حصراً) بعد أن يرفع الراية ويجتاز خط النهاية الافتراضيّ أو المحلوم، أن ثمة خطوةً ناقصة ما، علامةَ نهايةٍ مفقودةً ما، زمناً ضائعاً ما… إلخ. فإذاً لابدّ من العودة ثانيةً إلى بداية المضمار.
قلتُ: إن شاعراً كمحمود درويش، صنْعتُه الكمال ومحنته، يخترع «النقصان» ليتسلّى بحياكةِ كمالٍ آخر. يتعمّد على الدوام جعْل الكمال ناقصاً (على وهم النقصان يتغذى الشعراء..). يتركه ناقصاً.. كأنما لكي يُبقي على فسحة شاغرة لخطوته التالية. يقسّط الكمال – مادةَ الموت – كما لو أنه يتعمّد تقسيط ما يستهلكه، أو ما تستهلكه القصيدةُ، من مادة الحياة.
أمام شاعر منكَّدٍ باشتراطاته الفنية كمحمود درويش: كلّ كمال ناقص. أمامه: كل كمالٍ بحاجة إلى إعادة صياغة أو إعادة ترميم. أمامه: على القارئ أن يتحلى بأقصى ما يستطيع من فضيلةِ «الشك».. أو من لعنةِ «الاصطبار».
شعر محمود درويش، إذا أخذنا في الاعتبار شهوتَه العالية إلى كمال النص، هو مخاطرة دائمة (يخاطر في البحث ويخاطر في نقض الإنجاز، ليكتشف – حسب نيتشه – أنه لا ينتج في النهاية غير أخطائه). تعمُّدٌ دائم لاختلاق النقصان. وفي النهاية: خيبة دائمة في مواجهة اشتراطات الحلم.
بلى: شاعر «نكدٌ» كما يقول في وصف نفسه. ولعل الشعراء وحدهم – الشعراء الذين يعرفون الآلام الحقيقية للشعر – يعرفون أنه ما من محنة تفوق محنة مواجهة الجمال.. الجمال خالصاً وكاملاً.
لكن، إذا كان ذلك هو شأن الشاعر (استحالة البلوغ، والإلحاح على إعادة إنتاج النقصان) فعلامَ إذاً يتعذب الشعراء؟!…
شعرُ محمود درويش يقول: مِن هذه الخيبات والنقصانات وإخفاقات الحلم المشغولة بعرق القلب والعقل معاً، من هذه وبهذه تنهض عمارة الجمال الأكمل. من هذه وبها يصير للموت (الموت الذي هو ثمرة الكمال وخلاصته) مغزاه الأعمق والأخلَدَ في حسابات الأبدية. ولطالما تردَّد محمود – وهو المأخوذ الأبديّ بسحر المتاهة – في حسم إجابته عمّا هو أجمل: البيتُ أم الطريق إلى البيت؟.. وفي يقيني (وقوة هذا اليقين كامنةٌ في مجمل ما كتبه محمود، وأيضاً في مجمل ما يتنصل منه بذريعة نقصانه) أن أياً من هذين – البيت والطريق – ليس ما يطمح إلى بلوغه أو الاهتداء إليه. يحلم ولا يقصد، يقصد ولا يبلغ: ذلك هو. إنه، بعناد الشاعر الذي كرّس حياته كلها للمتاهة، مصرٌّ على مواصلة المشي، بمعنى آخر: مواصلة «التوهان»، لأنه – بغير هذا التوهان المتعمّد والمشتهى في آن – سيخسر ثروته الأكبر والأكثر جوهرية: ثروة الحلم.. حلم البيت والطريق الموصلة إلى البيت. الشاعر – الشاعر الذي: هو – لا يبحث عن طرقٍ، بل عن مفترقات. ولعله هو وحده الشاعر الأحقّ بالقول: لا النبعُ.. ولا الدرب الموصلةُ إلى النبع! ما يسعدني أن أحلم ماءً.
بيتٌ، ونبعٌ، وطريق؟!.. أبداً، بل المتاهةُ وحلم الوصول: على هذا تقتاتُ أرواح الشعراء. على هذا تنهض قصائدهم.
«كزهر اللوز.. أو أبعد»!.. بهذه الإيماءة السحرية، العاصفة والرشيقة، يلخص الشاعر الحالم مطمحه في القبض على المستحيل. ولنكن منصفين: المستحيل، في العقيدة الشعرية لمحمود درويش، ليس ما لا يمكن القبض عليه، بل هو – حصراً – أول ما يجب أن يُطلب../أن ينجح المؤلف في كتابة مقطعٍ في وصف زهر اللوز. في وصفه فقط؟..بل في كتابته – كتابة الزهر: ذلك هو الحلم الأبديّ للشاعر. ذلك ما يحلمه شاعرٌ ابتُليَ بأن يكون اسمه «محمود درويش».
كزهر اللوز.. أو «أبعد»!
ترى ما الذي عناه محمود باقتراحه لهذا العنوان الملتبس (كدتُ أقول: الانتحاري)؟!.. الجمالَ أم الهشاشةَ أم الرقّة أم الكمال؟.. أم لعله كان يقصد الحياة ذاتها بفتنتها وكمالها الزائلين؟!.. «كزهر اللوز» يقول. «كزهر اللوز».. مرهفاً، سحرياًَ، بسيطاً.. كليّ البساطة، ضعيفاً ومهدّداً، بالغ الرقة وعميقاً، ومستحيل الإدراك قبل كل شيء. إن استدراكه في النصف التالي من العبارة «..أو أبعد» يشي بهذه الاستحالة أو يؤكد عليها:.. ولوصف زهر اللوز (هكذا تُفتتح القصيدة بواو العطف. ترى أيةُ آلامٍ عقلية وروحية سبقت هذه الواوَ المتخمةَ بالحسراتِ والأحلام؟) ولوصفِ زهر اللوز لا موسوعةُ الأزهار تسعفني، ولا القاموس يسعفني. سيخطفني الكلام إلى «أحابيل البلاغة» والبلاغةُ تجرح المعنى وتمدح جرحه. ثم: فما هو في تعاليه على الأشياء والأسماء؟ لو نجح المؤلف في كتابة مقطع في «وصف» زهر اللوز، لا نحسرَ الضبابُ عن التلال، وقال شعبٌ كامل: هذا هو/هذا كلام نشيدنا الوطني.
قال «الوصف». وعنى «مابالك بما هو فوق الوصف: الخلق»؟..
بلى. فبقدر ما هو محيّر – الزهر والنص – بقدر ما هو هيّن و بسيط وعصيّ على البلوغ والتأويل. من يجرؤ على القول: سأكتب زهرة لوز؟ من تراه يجرؤ على الحلم: لو أن حياتي تكون جميلة، هيّنة، عميقة، بسيطة، ثرية ومدهشة كزهرة لوز؟ بل و أكثر ، من يجرؤ على القول: سأكتب المستحيل!..
محمود درويش، هنا، لا يحلم بكتابة مقطع عن زهر اللوز، بل بكتابة زهر اللوز ذاته: مرة أخرى يحلم المستحيل، يحلم الشعر كاملاً.
«لو نجح المؤلف!». هذه الـ «لو» القاصمةُ، السحرية، الإعجازية، المباركة، هي خلاصة المشروع الشعري لمحمود درويش. في هذه الـ«لو» يكمن طموح الشعر بأكمله.
«زهر اللوز» هو القصيدة ـ القصيدة الحياة – في أحلام صاحبها. هو الشهوة السرمدية إلى الكمال، والحسرة على استحالة إدراكه. إذا خرجتَ في صلاة استسقاء ـ يوصي تشيخوف الشعراء والحالمين – فلا تنس أن تحمل معك مظلتك ومعطفك الشتوي. المطر سينزل من سماء لا غيم فيها/يؤمن الشاعر. الإيمان بقهر المستحيل: ذلك هو شرط الكمال الأول.
في تفسير معجزة الكمال يكتفي دستويفسكي العظيم بالدعوة إلى تأمّل ورقة عشب. وهنا، في هذه القصيدة المتحسّرة، يقف محمود المتمرّس في امتحانات الكمال وكَسْرِ تحدّياته، مأخوذاًَ أمام معجزةِ «زهرة لوز». قلْ: يا ألله!!…
السهولة، معجزةُ السهولة لا خداعُها، الورع أمام الجمال، ما هو هيّن إلى الدرجة القصوى وعسيرٌ إلى الدرجة القصوى في آن: ذلك ما يشتغل عليه محمود درويش، بل لعل ذلك ما قصد إليه حين استعار عبارة التوحيدي «أحسنُ الكلام ما قامت صورته بين نظمٍ كأنه نثر، ونثر كأنه نظم». والأكيد أنه لم يستعر العبارة ليتقنّع بها ويتكئ على دلالتها، بل أعاد كتابتها – اكتشافها – بلسانه الخاص، وروحه الخاصة، ومسعاه الخاص، وقلقه الفنيّ الأزليّ.. الخاص.
في هذا العمل الكريستالي (النباتيّ إن شئت) يبلغ الاختزال والتقشف حدّاً يوحي بأنه صيغ من مادة أثيريّة مقطّرة، كما لو أن صانعه – بهذا الزهد اللّبق والشجاع – يحلم بتحويل الزبد نفسه إلى أكسير: تلك هي «النثرية» التي، بكثافتها ودقة مراميها الجمالية و التعبيرية، ترقى إلى ما فوق طاقة الشعر وأحلام الشعراء.
الكمالُ إذاً، من وجهة نظر صانعه (حسب تعبير أحدهم) إنما يُدرك عند انتفاء ما يمكن أن يُحذف، لا انتفاءِ ما يمكن أن يضاف. نبذُ كل ما يفيض عن حاجة الجمال، التخفُّف من الكلام «الشاعري»، واللغة الشاعرية، والأسلوب الشاعري، ومزاعمِ الوصول إلى أسرار الشيفرة الشاعرية، وحتى… الشعرية الشاعرية: ذلك ما يطمح إليه محمود درويش، ذلك ما يحلمه. أن يعمرّ القصيدة بأكثر المواد زهداً وأقلّها فخامة ولمعاناً. ينحّي كل ما ينتسب إلى العناصر النبيلة (أحابيلِ البلاغة) ويلتجئ إلى مادة الكلام الأولية، المادة الأصل، المادة الأكثر شيوعاً.. وبالطبع الأكثر ازدراءً من قبل الصنّاع الصغار والمتطفلين: يلتجئ إلى تراب الكلام، ويجعل تاج عمارته الحجرَ الذي رذله البنّاؤون.
لكن، ماذا بعد «زهر اللوز»؟!.. أعتقد أن محمود درويش موشكٌ على الوصول إلى البياض. لو أمكنه لكتبَ بياضاً.
في انتفاء ما يُحذف إذاً يتحقق الكمال، الكمال الزاهد، المتواضع، الضعيف «كزهر اللوز» والمخلص مثل كلمة حب صغيرة أو عبارةِ مؤاساة تُهمَس على استحياء. الإيمان الخالص، وشهوة الجمال الخالصة، والزهد الخالص قبل كل شيء: ذلك ما يجعل حلم الكمال ممكناً، وإلا فإن كل حرف إضافي.. كل نأمة إضافية.. كل ضربة إزميل جائرة وإضافية، ستحوّل الجمال إلى خدعة، ومغزى القصيدة – بنتِ الجمال – إلى لعبة استعراض فقيرة وبائتة.
هكذا، باعتبارها مفتاحاً، تغدو قراءة زهرة اللوز ممكنة. لا زهرةُ خرافةٍ هي ولا عشبة خلود. بل هي مجرد زهرةِ لوزٍ عادية تتلألأ بكامل هشاشتها على غصنِ شجرةٍ عاديّ وضعيف.
ثمة، في كامل نصوص هذه المجموعة – مزاميرها – تعمُّدٌ صريح للتخلي عن الأفكار العظيمة، والترميزات العظيمة، والإحالات، والمآثر اللغوية والتعبيرية الباهظة والعظيمة..: زهرة لوز هنا، شارع هناك، رجلٌ لا ينتظر أحداً، شخص غريب لا يعرفه الماشي في جنازته، خريف وربيع عاديان، مقهى وجريدة، نهار ثلاثاء عاديّ…، تلك هي المواد «الروحية» التي ينسج الشاعر منها كونه الشعري الأبسط والأرفع والأعمق. هكذا، بهذا التواضع الوجداني (التواضع الذي هو جوهر الثراء وعلامته) يغدو كل تفصيل مهمَل، كل عابرِ سبيل مجهول، كل مفردةِ حياة، كل شأنٍ ضئيل مرذول ومطروح خارج قائمة «المعجزات الجمالية»..، يغدو مادة أساسية في تشييد عمارة الجمال، وعمارة الحب قبل كل شيء.
قلت: «الحب»!.. وأستدرك: في العرف الشعري لمحمود درويش لا مبالغةَ في الحب أو التحبّب، لا مبالغة في إسباغ الصفات، لا مبالغة في امتداح ما هو – بحكم كماله الذاتي وقوةِ حضوره في الحياة ومشهد الحياة – ليس بحاجة إلى امتداحٍ إضافي. فبالبساطة التي تقال بها كلمة الحب، يكتب محمود حبه لأشياء الحياة وناسها ومخلوقاتها الضعيفة أو المستضعفة. كلمة واحدة، إشارة دمثة واحدة، ونقطةُ حب واحدة، ثم: لا أكثر، إذْ لا ضرورة إلى ما هو أكثر.. حتى لا يُفسد البذخُ كمالَ النعمة.
متقشفٌ، زاهد، ومحب للحياة قبل كل شيء (لكن: بعد ماذا… وقد أوشكت الحياة على الأفول؟!) يتعمّد، هوالجائع الحقيقي إلى حياة تتسرّب وتهرب، ألاّ يسرف في التهام وليمة الحياة – طبعاً ولا وليمة الحب – كي لا تتحول الحياة والجمال إلى جثة. يترك دائماً في طبق الجمال ما يجعله قادراً، في موعده التالي، على استعادة ومواصلة حلم الجمال.. أقصد حلم الحياة تحديداً.
«فكِّر بغيرك» يقول محمود درويش.
«إفرح بأقصى ما استطعت من الهدوء لأن موتاً طائشاً ضلّ الطريق إليك من فرط الزحام وأجّلك./قل للحياة: سيري ببطء يا حياة لكي أراك بكامل النقصان حولي/قل للغياب نقصتني، وأنا حضرتُ لأكملك./في الستين لن تجد الغد الباقي لتحمله على كتف النشيد ويحملك./إن رجعتَ إلى البيت حياً.. قل لنفسك: شكراً…».
«قل لنفسك: شكراً» يقول الحي الساكنُ داخلَ الموت. في موضعٍ ما يقول سانت إكزوبري: «كم كنت فخوراً بهذا القلب!».. كم كان فخوراً بقلبه الذي نجّاه وأعاده ثانية إلى بيت حياته! في كتاب لوزه الحكيم، يبدو محمود درويش معلقاً بقلبه – قلبه الضعيف الشجاع؛ معلقاً ومتعلقاً به. لهذا يغدو الكتاب بأكمله خطبةَ وداعٍ تتلكأ في تثبيت نقطة ختامها – ختامِ القول. كتاب خوف، كتاب اشتغالٍٍ كابوسيّ على محنة الزمن (قال لها: ليتني كنت أصغر!.. لكنْ بعد ماذا وقد انتهت – أو أوشكت على نهايتها – ولايةُ الشاعر على الزمن والحياة معاً؟..) كتابُ سيرةٍ لرجل يعاشر الموت (أعرف آخر المشوار منذ الخطوة الأولى(، ينهض مع الموت، يمشي في الشارع بصحبة الموت، يدخل البيت مع الموت.. وينام مع الموت، ينام على أملِ (ما أقسى وأخبث هذه الكلمة حين يتعلق الأمر بمشروع الحياة!..) أملِ أن يصحوَ ثانية فلا يجد رفيقه الموتَ وقد غافله وانتصر عليه في لحظةٍ طائشة من لحظات الحياة المنذورة لحياكة قميص الموت، بدلَ أن تكون منذورة لحياكة نفسها.
لكأن قصائد زهر اللوز كلها كُتبت في ثواني «العد العكسي» الأخيرة التي تسبق تنفيذ حكم الإعدام، ملطَّفةً بحق الميت في طلب حياةٍ أخير: في ثوانٍ صغيرة يُستعاد مشهد الحياة كاملاً.. تُستعاد الحياة ميتةً.
الفارق الجوهري ما بين «الجدارية» و «زهر اللوز» هو الفارق القاتل ما بين انتصار شهوة الحياة في الأولى، وقوة حضور الموت في الثاني. فالجدارية، كيفما حاولنا تأويلها والتقاط رسائلها، عملٌ منجز من داخل الموت، ولكنها أيضاً وقبل كل شيء عملٌ مكرّس للحياة. أما زهر اللوز – وآمل أن أكون مخطئاً في صوابية قراءتي – عملٌ مشغول من داخل الحياة، متخم بشهوات الحياة وامتداح تفاصيلها، والافتتان الخالص بهباتها وجمالاتها. لكنه، في الوقت نفسه، عملٌ مكرّس لامتداح فردوس مفقود، مكرس للغياب، للأفول، لخوف النهايات أو ما يسبقها. عمل مليء بالموت. عملُ موت (أعرف آخر المشوار منذ الخطوة الأولى/يقول الواقع في كمين الحياة).
في «زهر اللوز» أقرأ شعر محمود درويش كما لو أنني أتجسس على «شخص الموت» الحاضر في الكلمات، وظلالِ المعاني، وقطراتِ الجمال الأنيقة المسفوحةِ على أملٍ أو على خوف. موتٌ حاضر و أراه، وأقول: ليتني مخطئ في تخمين الدالّة والمغزى. ليتني لا أعثر على ما أنا متورّط في البحث عنه: الشاعر ميتاً.
الموت هنا ليس مجرد فكرة أو احتمال. إنه حضور فيزيائي صريحٌ ملموسٌ ومؤكد (حسناً، سأكتفي بالقول: شبه مؤكد). أما عناصر الحياة، في قصيدة زهر اللوز وسواها، فليست أكثر من أدواتِ خداعٍ يتوسّلها الموت لتأكيد حضوره داخل الحياة. لكن، مع ذلك، يبدو كلُّ تُويجِ زهرة صغير مشغولاً بكامل الأناة والرشاقة والحب، كما لو أن الإكليل كله ذاهبٌ إلى عرس.. لا إلى مأتم. حتى شخص الموت نفسه – في هذا العمل المرّ – يبدو أنيقاً، دمثاً، ومعتنىً بتفاصيله وملامحه ووفرةِ حضوره في الحياة وفي الزمن، كأنما هو نفسه شخص الموت المجسّد في – أو ربما أعمق مما في – لوحة رامبرانت الهائلة والمهولة : درس التشريح.
كتابُ أمل، وآخر للفقدان: ذلك هو الفارق الجوهري ما بين الرسالتين. فارقٌ صغير ما بين حياةٍ وموت.
في آخر لقاء لنا – وكنت أتحدث معه عمّا رأيته جديداً في زهر اللوز – خطر لي، لكنني لم أجرؤ، أن أسأل محمود: هل أنت خائف من الموت؟.. الإجابة كامنةٌ في زهر اللوز. وهكذا ابتلعت السؤال لأنني كنت أفترض أن أي إجابة على سؤال متوحش كهذا ستكون نافلة أو ربما زائغة. لكنني، بعد أن تلصّصتُ على ما جاء في حوار متأخر معه، قلت لنفسي (وقطعاً ليس من باب الاعتزاز بمصداقية قراءتي، بل الخوف من فداحة ما تكشّفت عنه هذه القراءة): حسناً، عرفتُ ما كنت أعرفه من قبل. وبالتأكيد، لم أكن بحاجة إلى إشارات إضافية كتلك التي يتحدث فيها محمود عن فزعه من «يرجى عدم الإزعاج» التي يتحاشى – كما أفعل أحياناً حين أكون وحيداً – تعليقها على باب غرفته في الفندق، أو المفتاح (يا لهول فكرة المفتاح!) الذي يصر على عدم إبقائه في الثقب الداخلي لباب البيت…؛ أقول: لم أكن بحاجة إلى مثل هذه الإشارات الإضافية التي يجب الاسترشاد بها حتى تكتمل قراءة «فردوس اللوز المفقود»، وبالتالي التي ستضعنا نحن في موقع الاعتراف: إننا نحن – قراء محمود درويش – من يتوجب عليهم الآن أن يخافوا.
بلى: كتابُ الزهر ذاك ليس مجرد كتاب شعر.. ولا أيّ كتاب شعر. إنه، إضافة إلى كونه «رسالةً» في صناعة الجمال، وصيةُ حياةٍ مشهوقةٌ على باب متاهتها الأخير. فعلى الرغم من وفرة العناصر الدالّة على الحياة، أو ربما بسبب وفرة هذه العناصر، نستطيع الانتباه إلى أن الموت – حقيقةً لا مجازاً – حاضرٌ في كل نقطة وفاصلة من هذا الكتاب الذي يبدو وكأنه امتحانٌ لقدرة الكلام على، أو في، مواجهة الموت. بالأحرى: هو امتحانُ موت. كأنما الشاعر بحاجة إلى امتحان موتٍ ثالثٍ (هو الذي جرّب الموت مرتين) ليصدِّق ما سبق أن اكتشفه من قبل: على هذه الأرض ما يستحق الحياة.
كتابُ موت؟.. نعم. «سأخرج من شجر اللوز قطناً على زبد البحر…»: تلك كانت الرسالة في «أحد عشر كوكباً».
كتابُ موت أو خوف من الموت. لهذا، ما علينا إلا أن نواصل خديعة الأمل. ما علينا، نحن قراءه وشهوده، إلاّ أن ننتظر ـ مثل بينلوب ـ كتاب الحياة التالي.. كتاب الانتصار على الموت.

قلتُ و أواصل القول: أمام كل عمل جديد لمحمود درويش أشعر أنني واقفٌ، منذهلاً ومذعوراً، في مواجهة الكمال. لكن، ما الذي يجعلني الآن ألحّ على اعتبار هذا الكتاب – تحديداً – خلاصة الكمال؟..
في توضيح ذلك، ألتجئ إلى الموسيقى: ما من أحد، عبر تاريخ الموسيقى كلها، يجرؤ على القول إن الملاحم الموسيقية الخالدة (السيمفونيات، والأوراتوريات، والكونشيرتات، والأوبرات، إلخ…) التي أبدعتها أذهانُ وأرواح العباقرة الكبار (هايدن، باخ، بيتهوفن، موزارت، ماهلر، وتشايكوفسكي، وسواهم…) ليست أعمالاً كاملة، بل شديدةَ الكمال. لكننا، حين نصغي إلى سويتات باخ المكتوبة لآلة الفيولونسيل (مقروءةً بقوس يو يو ما أو بيليسما على سبيل المثال) هذه القصائد السمعية المتقشفة، السحرية، البالغة التواضع والعمق والحنان، والسطوةِ قبل كل شيء، لا نستطيع – إذْ نقارنها بأعمال العمالقة الآخرين، بل وحتى بأعمال باخ العظيم نفسه – إلا أن نقف منذهلين أمام سطوة بساطتها ورهافتها وضعفها وقوة روحها، تماماً كما نقف هنا أمام زهرة لوز محمود درويش، أقصد «زهر اللوز» كله.
ما تمثله «سويتات فيولونسيل» باخ الجوهرية بالنسبة إلى الموسيقى، شبيه إلى حد كبير بما تمثله قصائد درويش «المتواضعة» (لا أعرف الشخص الغريب، زهر اللوز، ضباب على الجسر، وأما الربيع، ليتني كنت أصغر، إلخ…) بالنسبة إلى شعر محمود كله. ذلك يعني: بالنسبة إلى شعرنا العربي كله. موسيقى جوهرٍ.. وشعرُ جوهر.
محمود درويش، في ورشته الجديدة، منصرفٌ إلى إنتاج ما تسميه الصلاةُ الربّانية «الخبز الجوهري». يحوّل
القصيدة إلى زادٍ روحي، زاد أخلاقي، زاد إنسانيّ، زادٍ جماليّ: زادِ حياة (أقول: الحياة، فأشفق على الحياة. يا للكلمة الحزينة: الحياة! يا للزاد الحزين الذي ليس بوسعه أن يسند جسد صانعه، ويعجزُ عن حماية شهوته الظامئة إلى الحياة! يا لزاد الموت!).
حقاً الشاعرُ نسّاجُ موت. نسّاج موته.
.. .. .. ..
قلتُ «الخبز الجوهري» وأعني ذلك تماماً. ففي سويتات باخ، كما في «زهر اللوز.. أو أبعد»، نعثر على الكمال الكامل، الكمال الخالص ، الكمال الجوهري: نعثر على خبز الجمال الجوهري.
مأثرة باخ في قصائده النورانيّةِ تلك هي أنه استطاع، بلباقةٍ مطلقة في صناعة الجمال وتلقّيه، أن يحوّل

الجمال نفسه إلى دموع. ذلك بعض ما فعله محمود درويش: الدموع التي هي صوت الكمال..صوت الجوهر.
أقرأ، على سبيل المثال، قصيدة «لا أعرف الشخص الغريب». أقرأها.. فأفزع.
قصيدةٌ خالصة عن الموت – الموتِ واقعاً حتى قبل وقوعه:
«رأيتُ جنازة فمشيت خلف النعش.
«لم أجد سبباً لأسأل: من هو الشخص الغريب؟ وكيف مات (فإن أسباب الوفاة كثيرة من بينها وجع الحياة…).
«لكنه هو وحده الشخص الذي لم يبك في هذا الصباح، ولم يرَ الموت المحلّق فوقنا كالصقر، فالأحياء هم أبناء عمّ الموت..
«… قد تكون جنازة الشخص الغريب جنازتي، لكنّ أمراً ما إلهيّاً يوجّلها لأسباب عديدةْ/من بينها خطأ كبيرٌ في القصيدة».
ذلك هو إذاً تأويل محمود لتأجيل موعد الموت: خطأ القصيدة.
سبق أن أشرت، في أكثر من موضع ووقت، إلى الكمال الذي بلغه محمود درويش في الكثير من شعره. لكنني، اعتماداً على جديدِ قوله وجديد كتابته، أؤكد أكثر على شهوته المحمومة في دحض هذا الكمال وتقويضه بعد كل خطوة وإنجاز. كأنما هو يتعمد ذلك: ينقض كماله ليعيد بناءه ثانية. بل هو يخترع نقصان الكمال (يخترع الخطأ الكبير في القصيدة) كأنه، بهذا الخطأ المزعوم، وبرغبته في تداركه لاحقاً، يرشو صاحبه وخفيرَ حياته – الموت، ويقنعه بالانتظار إلى وقت آخر.. ريثما يتمّ تنظيف القصيدة من أخطاء نقصانها: أخطاء الكمال. وهكذا، مثلما يتذرع محمود بالنقصان لمواصلة إنجاز مشروعه الكامل، يُسبغ الذريعة نفسها على الموت، فيجعله يعفو عنه إلى حين متذرّعاً هو الآخر بالنقصان نفسه – نقصان الضحية المتمثل في أخطاء صاحبها الشعرية – ريثما تنضج ضحيته وتغدو أكثر ملاءمةً للقطاف.
شخصياً، أتمنى لأخطاء الشاعر أن تتفاقم: هكذا يمكن للحياة أن تنجو، وللقصيدة أن تواصل مسعاها «السيزيفيّ» في البحث عن كمالها المحلوم.
ثمة، في قصيدة «هو… لا غيره»، مثال آخر على ذريعة «النقصان» هذه (ولننتبه إلى أن هذه الـ «هو» ما هي إلا «الأنا» الثانية للشاعر):
«هو، لا غيره، من ترجَّل عن نجمةٍ لم تصبه بأيّ أذى – نتذكّر نجمة الجدارية –
«قال: لكنني لا أجيد الكتابة يا صاحبي!
«فسألتُ: كذبتَ علينا إذاً؟
«فأجاب: على الحلم أن يرشد الحالمين…
«ثم تنهّد: خذ بيدي أيها المستحيل!…»
أيها الحلم دُلّ الشاعر إلى كماله! أيها المستحيل خذ بيده، إلى حين، ريثما يعثر على نقصانٍ أقلّ يسعفه في مواجهة محنة الكمال الأكمل/محنة البياض.
.. .. .. ..
فإذاً: ماذا بعدَ «الخطأ الكبيرِ في القصيدة»؟.. ما الذي يمكنه قوله وكتابته بعد «زهر اللوز…»؟
أفترض أن الإجابة كامنة في مُفتتح الكتاب (في شعر كأنه النثر، أو نثر كأنه الشعر) وكامنة بصورة أوضح في نصف العبارة المفتوح «…أو أبعد».
«أو أبعد؟»!.. في هذا النصف اليتيم من العبارة تكمن الدلالة كلها. في هذا تكمن الخريطة السرّية التي ستكون علامة الاستهداء التالية لبلوغ المزار، بالأحرى: لمواصلة السعي إلى بلوغ المزار، المزارِ الذي – كي تبقى الصلاةُ ممكنة وضرورية – سيظل محمود درويش يزعم، أمام نفسه وأمام قارئه، أنه لن يبلغه أبداً… لأنه «لا يجيد الكتابة يا صاحبي»، أو ربما – حسب زعمه أيضاً – لأن المزار لا وجود له أصلاً، إذْ (وذلك ما أفترض أنه الهاجس الأبديّ للشاعر/أقصد محمود درويش): ما أوحش حياة الشاعر وما أفقرها وما أقساها، حين يعثر – يتوهم أنه عثر – على طريقه وبيته ولغةِ صلاته ومزاره الجمالي!..
محمود درويش، انطلاقاً من هذا الهاجس المركّب: العناد والاستحالة، يرتقي بنفسه، كشاعر، إلى مرتبة الحاجّ الجمالي. حاجُّ جمالٍ تراجيدي لا يصل ولا يريد أن يصل. خليطٌ من أثينيٍّ حالم وأسبارطيّ تائه في شعاب التراجيديا. كلما أوشك على بلوغ مزاره يكتشف، أو يوهم نفسه، أن مزاره الشخصيّ لا يزال بعيداً… بعيداً. بل لعله يتعمد أن يجعل ذلك المزار السرابيّ بعيداً..و أبعد. بعيداً، صعباً، أو ربما مستحيلاً، كزهر اللوز… أو أبعد.
إن استحالة بلوغ المزار هي وحدها ما يجعل للصلاة غايةً ومعنى. هي وحدها ما يشحذ قلب الشاعر ويؤجج شهوته الحزينة إلى الحياة. وحدها ما يسعفه في مواجهة الغياب، ووحدها ما يؤكد «الأمل» في أن الحياة لا تزال قادرة على مواصلة حياتها، وأن الموت لا يزال «مجرد فكرة».. فكرة صغيرة يلعب عليها الشعراء كيلا يسقطوا في النقصان الكامل.
•«.. شبيهٌ بالمتنبي، و ربما أعظم»! أعتذر لأنني، قبل عشرين سنة وأكثر، كنت من أوائل من تفاخروا بهذه المقارنة الساذجة. مقارنتُه بالمتنبي إهانةٌ له، لأنها تنطوي على إلغاء تعسفيّ لميراثٍ هائل من الدأب الجمالي، والجهد الإبداعي المبذول – بعرق القلب والعقل – لإغناء عقيدة الكتابة والنهوض بشهوات وأحلام معتنقيها، بل وتنطوي على رغبةٍ في تجريد الجمال من قدرته على تجديد نفسه وثوبِ جماله. لعلّ هذه المقارنة تغدو منصفة أكثر حين نضيف إلى الحساب مئات السنوات من رصيد الزمن (هي المسافة الفاصلة بين ما وصل إليه المتنبي وبين ما وصل، ويطمح في الوصول إليه، محمود درويش) وما لا يحصى من رصيد الشقاء الروحي، والإخلاص «الرسوليّ» في التنصّت إلى أسرار رسالة الجمال واللّحاق بجريانه السريع إلى الكمال، أو إلى.. الاستحالة.
المحزن أكثر أنّ من يمالئون درويش إذ يقارنونه بالمتنبي، هم أنفسهم، في غالب الأحيان، الذين يتهمونه – في مسعاه الجمالي – بالتنصل من اشتراطات قضيته «الوطنية».. بل وحتى خيانتها.
يثير اشمئزازي أولئك الذين يعتقدون أن محمود درويش يمكن أن «يخدم» القضية الوطنية إذا «طوّر نفسه» باتجاه الشعر الرديء. لكأن عقيدتهم الأخلاقية والفنية – تقول: الجمالُ مناهض للوطن.. وخيانة له.
ببساطة أقول: إن الوطن الذي هو بحاجة إلى الشعر الرديء لكي ينهض، جديرٌ بأن يظلّ في الحضيض.. وطناً للرداءة والقبح ومبغضي الجمال. إن هؤلاء «الوطنيين» المشغوفين بالإنشاء المسطّح والأوطان المسطّحة، إذْ يبحثون عن مسوّغات «الواجب الشعري»، إنما يبحثون في الحقيقة عن مسوّغ لكراهية الشاعر (كدت أقول: إعدامه). وإذ لا يجدون في شعره ما يبرر هذه الكراهية يتذرعون بما يضمره الشعر أو بما يستنكف عن قوله. كأنهم، في مواجهتهم لخطيئة الجمال، لا يطرحون سؤالاً ولا ينتظرون إجابة. إنهم، فقط، يوجهون اتهاماً ويقترحون عقوبة إعدام: إنهم يحاكمون التفوق.
مرةً، كرهوا محمود درويش بتهمة محبتّه للنبيذ الفرنسي (ربما كان من الأجدر، أثناء إقامته في باريس، أن يفصح عن ولعه بالنبيذ الغزّاوي!). وكرهوه أكثر لأن شعره، إذْ يصرّ على إغناء نفسه وتطوير أدواته، لم يعد يَسْهل حفظه من قبل الجماهير (هل يقصدون البشر أم الببغاوات؟!..). إن الطعن في موقفه الوطني والإنساني هو ذريعة غير أخلاقية – حتى ولا وطنية – للطعن في قيمة ومشروعية ما أحرزه في ميدان صناعة الجمال.. ميدانِه وصناعته. إنهم يتمنّون ـ نكايةً بالجمال الذي يبغضونه بسببه – لو أنه يتفرغ لإنشاء السلوغونات الرثة المتخصصة في تهييج شهوة الصراخ لدى مواطني الشوارع: بلى، إنهم يحاكمون التفوّق.
لهؤلاء أقول: إن كراهية الوردة، بصفتها وردةً، تجعلنا عاجزين عن محبة اليدِ التي تحرث ما سوف يصير حقلَ قمحٍ ولقمةَ حياة.
ولهم أقول أيضاً: لو أن شعر محمود درويش بقي على سوية مقترحاته الفنية الأولى – الستينيات والسبعينيات – لما صار الشعر العربي ما هو عليه الآن. إن تجربته الشعرية، بانقضاضها الدائم على منجزها، وبنقضها الصارم له، تحوّلت إلى واحدة (حسناً، سأتنازل عن قول: وحيدة) من الروافع العظيمة للشعرية العربية كلها.
مع ذلك يصر «الشاعر المنكّد» على القول: لم أصل إلى ما هو أكثر من الرغبة في تنقيح قصيدتي من أخطاء السعي. أبداً، لا هو داء التواضع ولا داء الغرور، بل هو داء الجمال نفسه، داء الحاجة إلى توهّم نفسه صغيراً على الدوام، كي تتاح له، على الدوام أيضاً، فرصة الحلم بأن يكبر.
•غالباً ما كنتُ أقول، في ما يشبه الرثاء: «واحزناه! الشعراء ما عادوا يشبهون الشعراء!». لكأنني، غالباً، كنت أنسى وجود شاعر اسمه: محمود درويش.
نعم، أحبه: الشاعر والرجل. وقطعاً، تلك ليست فضيلتي، بل هي مأثرة الشاعر الذي، إلى جواره، تستطيع القول: بلغتُ مزاراً ونبعاً. مأثرته.. هو الذي، بعد مغادرته، يُسعدك القول: كنتُ بصحبة محمود درويش.

قلت لصاحبي: ليس لديّ وقتٌ أضيعه.
قال لي صاحبي: وما الذي تفعله بهذا الفائض العظيم من الوقت؟!.
قلت: أتدرّب على قراءة محمود درويش.
قال لي صاحبي.. صاحبي الذي «أنا»:
لعلك ستكون بحاجة إلى حياة أخرى.
نزيه أبو عفش
ملاحظة
هذا النص وضعه شاعرنا الكبير نزيه أبو عفش عن صديقه الكبير محمود درويش في كانون أول/ ديسمبر 2005، أي قبل سنتين من رحيل صاحب الملحمة الجدارية. نزيه أبو عفش يرفض الكتابة عن محمود بصفة الغائب. فمن تكون مهنته ترويض المستحيل، كما يقول نزيه، لا يصعب عليه إلحاق الهزيمة بمستحيل الموت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى