صفحات مختارة

لاهوت إبليس الملاك الساقط

فراس السواح
بذور فكرة الشيطان في ديانة مصر القديمة
يسود الاعتقاد لدى الباحثين في ديانة مصر القديمة، بأن الإله سيت هو أقدم الآلهة المعروفة لدينا من الفترات التاريخية. فلقد كان هذا الإله هو المعبود الرئيسي للسكان الأصليين قبل عصر الأسرات الأولى عند أعتاب الألف الثالث ق.م، وهو العصر الذي ترافق مع حلول أقوام جديدة وفدت إلى مصر من آسيا الغربية، حاملة معها معتقدات جديدة، ووضعت الأسس لأول مملكة موحدة في تاريخ مصر القديمة. وقد ترافق بسط السلطة لهؤلاء مع نشر معتقداتهم الدينية، وراح إلههم الأعلى المدعو حوروس ينافس إله السكان الأصليين سيت في كل مكان. وبذلك تم التأسيس لثنئاية سيت- حوروس التي استمرت فاعلة في الديانة المصرية حتى نهايات التاريخ المصري القديم.لا نستطيع رسم معالم واضحة لشخصية الإله سيت قبل انتشار عبادة حوروس. ولكن نصوص الأهرام، وهي أقدم النصوص المصرية، تقدم لنا الصورة اللاحقة له بعد أن تم إنزاله إلى المرتبة الثانية. فقد صار مجسداً لكل القوى السالبة في الكون وفي حياة الطبيعة، في مقابل حوروس الذي صار مجسداً لكل القوى الموجبة.وتتجلى هذه الصورة البدئية للسلب والإيجاب في ثنائية النور والظلام، والنظام والفوضى، وما ينضوي تحتهما من ثنائيات. فالإله حوروس هو سيد السماء والشمس التي تهب الحياة وتعكس بحركتها المنتظمة التوازن الدقيق للكون؛ أما الإله سيت فهو العدو الأول للشمس وللضوء، وهو الذي يحرف مسار الشمس باتجاه الجنوب عقب الانقلاب الصيفي، ويسرق من نور القرص فتقصُر ساعات النهار لحساب ساعات الليل؛ وهو الذي يسرق من نور القمر عقب اكتماله بدراً فيتناقص ليلة بعد ليلة حتى ينطفئ في آخر الشهر، ولكن الإله تحوث يعمل على إشعاله مجدداً في أولى ليالي الشهر الجديد. وفي هيئة الوحش الخرافي آبيب ينقض سيت على قرص الشمس لدى شروقه لكي يطفئه، مستخدماً أسلحة الظلام والمطر والغيوم والضباب، ولكن حوروس (وفيما بعد رع) يتصدى له متسلحاً بالحر اللاهب وسهام الضوء النافذة؛ وبعد صراعٍ مرير يقع آبيب صريعاً وتتبعثر أشلاؤه، ولكنه يجمعها من جديد بقواه الذاتية استعداداً للصراع التالي.والإله سيت هو سيد العماء والشواش، الذي يعارض نظام الطبيعة ويعمل على نشر الفوضى؛ ومملكته تقع في الجهة الشمالية من السماء حيث يقيم في كوكبة الدب الأكبر. وكانت جهة الشمال عند المصريين هي إقليم الظلام والبرد والمطر والضباب والبروق والرعود، وجميع هذه الظواهر كانت تحت سيطرة الإله سيت، ولم تكن ذات صلة بالخصب نظراً لاعتماد الزارعة في وادي النيل على الفيضان السنوي للنهر، وكان سيت يستخدمها لتهديد استقرار الطبيعة. ولكن الإلهة ريتريت التي تمثلها الرسوم المصرية على هيئة خرتيت له ذراعي امراة، كانت موكلة بتقييد هذه القوى بالسلاسل ومنعها من السيادة على الأرض والسماء، كما كانت تفسح طريقاً في الأعالي لمسار الشمس، التي قرنتها النصوص المبكرة بالإله حوروس. وإلى جانب ريتريت هنالك أولاد حوروس الأربعة الموكلون أيضاً بكف أذى سيت ولجم قواه العدوانية، وهو يقتفون أثر سيت على الدوام، ويظهرون على شكل أربعة نجوم تبدو خلف نجم الزاوية في كوكبة الدب الأكبر، وهو النجم الذي يدعى بمركبة الإله سيت.وتساعدنا الإشارة الهيروغليفية التي تسبق اسم سيت في الكتابة المصرية على تبيُّن خصائص أخرى لهذا الإله، فهذه الإشارة هي نفسها التي تكتب بها كلمة الصخرة، وفي هذا دلالة على ارتباط سيت بالأراضي الصخرية الجرداء وبالصحارى. وبهذا الخصوص يخبرنا المؤلف المصري مانيتو من العصر الهيلينستي المتأخر، بأن أي حمولة حجرية كانت تدعى عظام الإله سيت؛ كما يخبرنا المؤرخ الإغريقي فلوطرخس، في سياق حديثه عن الميثولوجيا المصرية، بأن الأسماء التي يطلقها المصريون على هذا الإله تنطوي جميعها على معاني القوى السالبة والكابحة والمعطلة، والمخربة.فنحن والحالة هذه أمام قطبية كونية لا تحمل أي دلالة قِيَمِيَّة. لقد تأمل المصريون الكون وحياة الطبيعة ورأوا فيها قوتين ساريتين متعارضتين ومتعاونتين في الوقت نفسه، ورأوا في جميع الظواهر نتاجاً لتداخل هاتين القوتين وفعلهما المشترك. من هنا لا عجب إذا رأينا الأعمال الفنية في مطلع عصر الأسرات تمثل الإلهين في جسد واحد يحمل رأسين، رأسا لحمار هو رمز الإله سيت وآخر لصقر وهو رمز الإله حوروس؛ ولا عجب أيضاً إذا قرأنا في نصوص الأهرام أنهما يدعيان بالأخوين وبالتوأمين أيضاً، على الرغم منالعداء الأبدي بينهما، والصراع الدائم الذي لا يصل إلى نتيجة حاسمة، مثلما أن التناقض بين القوتين الكونيتين لا يصل إلى حد إلغاء واحدة وسيادة الأخرى، لأنه لا غنى عن صراعهما وعن تعاونهما من أجل صيرورة العمليات الجارية على مستوى الكون والحياة الطبيعانية.حتى الآن لا يبدو لنا أن ثنائية سيت- حوروس قد اتخذت مضموناً ثنوياً ينطوي على صراع بين الخير والشر على المستوى الكوني ومستوى النفس الإنسانية. فالإله سيت لايمثل مبدأ الشر الكوني، بل هو القوى الكونية السالبة مُعبراً عنها بلغة الرمز الأسطوري، والإله حوروس لا يمثل الخير الكوني، بل هو القوة الكونية الموجبة. فإذا جاز لنا التحدث عن “شر” أو “خير” متعلق بهما، فإنه الشر الطبيعاني المقابل للخير الطبيعاني، والمجردين من أي قيمة أخلاقية. ويتبع ذلك انعدام الصلة بين خير وشر الإلهين ومسألة الخير والشر على المستوى الاجتماعي، أو مسألة السلوك الأخلاقي الفردي. ذلك أن الأخلاق الاجتماعية عند هذه المرحلة من تطور الفكر الديني لدى المجتمعات القديمة، لم تكن شأناً دينياً، بل شأن اجتماعي ناجم عن جدلية الحياة الاجتماعية ومتطلبات العيش المشترك. وقد ترتب على غياب الصلة بين الدين والأخلاق فقدان الصلة بين خلود الروح والتصورات الأخروية المتعلقة بالثواب والعقاب في الحياة الثانية. فعند هذه المرحلة كان الخلود في جنة الآلهة وقفاً على الفرعون فقط الذي هو ابن الإله حوروس وممثله على الأرض، وعلى من يختار الفرعون بنفسه من حاشيته فيخصه بخلود مماثل لخلوده ويهبه تكاليف دفن لائق. ولكن خلود الفرعون، أو من يرافقه في مرحلته، لم يكن رهناً بالسلوك الأخلاقي بل بسلسلة معقدة من الطقوس والصلوات والتعاويذ السحرية، وبإعداد مقبرة باهظة التكاليف. أما بقية شرائح الشعب فإن حياة ما بعد الموت بالنسبة إليها لم تكن إلا استمراراً شبحياً للحياة الأرضية، يخفف من بؤسها مراعاة طقوس الدفن وعناية أهل الميت بروحه بعد الموت.خلال الألف الثالث قبل الميلاد، حقق الطور الأول من التاريخ المصري الذي ندعوه بالمملكة القديمة أهم منجزات الثقافة المصرية في التكنولوجيا والعمارة والفنون. وفيما يتعلق بالمعتقدات الدينية، فقد حل الإله رع تدريجياً محل الإله حوروس، وصار رئيساً للبانثيون المصري وأباً لجميع الآلهة. وكان يتجلى في العالم المادي على هيئة قرص الشمس. أما حوروس وسيت فقد تابعا صراعهما ولكن من خلال ميثولوجيا مختلفة. فقد أنجب رع إبنين هما شو- الهواء وتفنوت- الرطوبة، ومن زواج شو وتفنوت ولدت السماء نوت والأرض جيب، ومن زواج السماء والأرض ولد أربعة آلهة هم: أوزوريس وسيت وإيزيس ونفتيس؛ فتزوج أوزوريس من إيزيس، وسيت من نفتيس. وقد أنجبت إيزيس لأوزوريس ولداً هو حوروس أما سيت فكان عقيماً. وكان بعد فترة أنّ سيت قد قتل أخاه أوزوريس وقطع جسده إلى أربع عشرة قطعة وزعها في جميع أرجاء مصر، ولكن إيزيس عثرت عليها وجمعتها ونفخت فيها الحياة فقام الإله من بين الأموات. ولكن أوزوريس قرر مغادرة الأرض والصعود إلى السماء، وهناك رحب به رهط الآلهة وأعطوه سلطة مطلقة على عالم الموت، فصار قاضياً في العالم الأسفل يحاسب الموتى على ما قدمت أيديهم في الحياة الدنيا. أما أخاه سيت فقد حول نشاطه العدواني إلى حوروس الذي ورث عرش أبيه، وابتدأت جولات لا تنتهي من الصراع بين الطرفين.هذه التغيرات في المعتقدات الدينية ترافقت مع تدهور تدريجي لسلطة فراعنة المملكة القديمة نحو نهايات الألف الثالث قبل الميلاد، واستقلال الأقاليم البعيدة عن العاصمة. وكان من نتائج تراخي قبضة السلطة المركزية انهيار نظام الري وتراجع غلة المواسم الزراعية وانتشار المجاعة، وانعدام الأمن وغياب سلطة القانون. ومع نهاية حكم الأسرة السادسة انهارت المملكة القديمة ودخلت البلاد في الفترة التي يدعوها المؤرخون بالفترة الانتقالية الأولى. خلال هذه الفترة ترسخت اللامركزية السياسية، واستقل حكام الأقاليم الذين راحوا يبنون قصورهم الفارهة الخاصة وينمون ثرواتهم؛ ولم يعد الفرعون مصدر قوتهم وجاههم، كما أنه لم يعد شفيعهم من أجل الخلود في عالم الآلهة، فراحوا يشيدون صروح دفن لهم في مناطقهم، ويسعون لتحقيق الخلود دون شفاعة الفرعون ووساطته.ولم يمض وقت طويل حتى أخذت كل شرائح الشعب تتطلع إلى الخلود وإلى حياة سعيدة بصحبة الآلهة بعيداً عن ألم وشقاء الحياة الأرضية. وبذلك ولدت فكرة الجنة السماوية المعدة لجميع الصالحين بصرف النظر عن منشئهم الطبقي، وصار الإله الصاعد أوزوريس هو الشفيع الوحيد للموتى الذي يمسك بمفاتيح العبور إلى العالم الآخر لكل من عمل صالحاً في دنياه. وبهذه الطريقة تم ربط الأخلاق بالدين؛ فلقد كان أوزوريس إلهاً أخلاقياً يحض على فضائل الأعمال ويجزي بها، ويكره الرذائل ويعاقب عليها. ومع ارتباط الأخلاق بالدين تحولت الثنوية القطبية الكونية إلى ثنوية أخلاقية، وخضعت ميثولوجيا سيت- حوروس إلى تعديل جوهري من أجل ملاءمتها مع العقيدة الشعبية الجديدة.كانت العبادة الأوزيرية عبادة أخروية تركز على النهايات دون كبير عناية بالبدايات. فقد كان المصري حراً لينخرط في أية عبادة ويؤدي ما شاء من الطقوس لمن يشاء من الآلهة، ولكنه عند التفكير بالموت والتهيئة لرحلة العالم الآخر، كان يلتفت إلى أوزوريس ويؤدي ما يتوجب عليه أداؤه لكي يؤمن مزدلفاً آمناً إلى الحياة الثانية. لقد كانت سنوات حياته ووقت مماته معروفة سلفاً من قبل أوزوريس، الذي يحتفظ لديه بسجل تدوَّن فيه الآجال يدعى لوح القدر، وسجل آخر يدعى لوح المصائر تدون فيه أعمال جميع البشر من قبل كاتبين حافظين هما تحوت وسيشيا، يحصيان الأعمال الصالحة والطالحة لكل إنسان ويحفظانها إلى يوم الحساب، الذي يُرى فيه كل واحد أعماله عندما يقف أمام الميزان في قاعة العدالة.عندما يفلح الميت في عبور المفازات المرعبة التي تفصل عالم الأحياء عن عالم الأموات، يلقاه الإله أنوبيس الذي يحمل رأس ابن آوى، فيقوده من يده إلى قاعدة العدالة التي يتصدرها أوزوريس وأمامه ميزان كبير منصوب يقف إلى جانبه إله الحكمة تحوث في هيئة قرد؛ وعلى الجهة الأخرى من الميزان يقف الوحش عم- ميت آكل الموتى متحفزاً للانقضاض على الميت إذا ثبتت إدانته. على طول جدار القاعة يصطف آلهة الأقاليم المصرية وعددهم اثنان وأربعون، فيمر الميت من أمامهم معلناً براءته من اثنتين وأربعين خطيئة تختصر كل ذنوب البشر، قائلاً: لم أقم بعمل شرير يؤذي أحداً من الناس. لم أكن قاسياً مع الفقراء. لم أتسبب بمرض أحد أو حزن وبكاء أحد. لم أقتل ولم أعط أمراً بالقتل… وهكذا إلى آخر القائمة. بعد ذلك يؤخذ قلب الميت ويوضع في إحدى كفتي الميزان، وفي الكفة الثانية توضع ريشة طائر هي رمز لربة العدالة والحقيقة معات، فإذا تساوت كفتا الميزان تُعلن براءة الميت، وإلا فإن الوحش عم- ميت ينقض عليه ويمحو من الوجود أثره. وبعد اجتيازه لامتحان الميزان يؤخذ الميت إلى الجنة الأوزيرية، وهي عبارة عن أرض خصبة تتخللها شبكة من المياه العذبة تهبها خضرة دائمة، فيعيش فيها بصحبة الآلهة وأرواح بقية الصالحين.وبهذا تقدم لنا ديانة مصر القديمة نموذجاً عن كيفية الانتقال من مفهوم القطبية إلى شكل من أشكال مفهوم الثنوية، وعن الدور الذي تلعبه الأخلاق في هذا الانتقال، عندما تتحول من شأن دنيوي إلى شأن ديني، وما ينجم عن ذلك من ظهور فكرة الشيطان، وهي الفكرة الملازمة لمعتقد الآخرة والحياة الثانية سعيدة كانت أم شقية. ولكن المعتقد الأوزيري لم يصل بهذه الأفكار إلى أقصى غاياتها، لأن القطبية لم تتحول تماماً إلى ثنوية جذرية أو ثنوية أخلاقية. فعلى الرغم من علو شأن الأخلاق في العبادة الأوزيرية، إلا أنها لم تطغ تماماً على الطقوس، وبقيت التمائم والتعاويذ والتلاوات السحرية وكلمات القوة جزءاً لا يتجزأ من الممارسات الدينية. وعلى الرغم من تحول أوزوريس إلى إله أخلاقي، إلا أنه لم يتحول إلى مبدأ كوني للخير، مثلما لم يتحول خصمه سيت إلى مبدأ كوني للشر. لقد اتخذ سيت الكثير من ملامح الشيطان الكوني إلا أنه لم يتقمص فعلاً هذه الشخصية بكل أبعادها اللاحقة.إن من أهم نتائج تقصير ثنوية سيت- أوزوريس/ حوروس عن بلوغ الثنوية الأخلاقية، هي بقاء التصور المصري للتاريخ ضمن مفهوم التاريخ المفتوح، حيث الزمن الدنيوي هو سيالة متدفقة أبداً نحو اللانهاية، وغياب أهم عناصر الثنوية الأخلاقية الكاملة وهو معتقد نهاية العالم والبعث الأخير الشامل للموتى. فلقد بقيت التصورات الأخروية هنا في حدود القيامة الفردية والمصير الخاص بكل روح على حدة. الأمر الذي يترافق مع غياب مفهوم شامل عن الإنسانية والمجتمع الإنساني، ودور الإنسان كنوع متميز وخاص في دراما خلاص العالم. على أن الأوزيرية قد قدمت لمفهوم الثنوية الكونية والتاريخ الدينامي الذي يسعى نحو غاية محددة، عدداً من أهم عناصره، وهي:1- صلة الأخلاق بالدين، وصلة المصير الفردي بالأخلاق.2- القيامة الفردية، أو الصغرى.3- الثواب والعقاب الأخرويان.4- تصورات أساسية أولى عن جنة الآخرة.وجميع هذه العناصر سوف تدخل العديد من عقائد الديانات المشرقية اللاحقة. وكانت العقيدة الزرادشتية أول من التقط هذه الأفكار وسار بها إلى نتائجها المنطقية. وهذا ما سوف نتعرض له في مقالة لاحقة

الديانة الزرادشتية وميلاد الشيطان

لم تكتمل ملامح الشيطان الكوني في تاريخ الدين الإنساني إلا مع الديانة الزرادشتية التي أسسها النبي زرادشت في زمن غير مؤكد من النصف الأول للألف الأول قبل الميلاد. ولد زرادشت في إحدى المناطق الإيرانية النائية عن مركز الحضارة. وعلى ما تقوله النصوص المقدسة الزرادشتية، فإن مظاهر الطبيعة كلها احتلفت بولادته، وحدثت سلسلة من المعجزات التي رافقت هذا الحدث المهم في تاريخ الكون والإنسانية؛ أما الشيطان فقد هرب واختبأ، ثم ما لبث أن أرسل زبانيته لإهلاك الرضيع، فلما اقتربوا منه تكلم في المهد ونطق بصلاة لله طردت الشياطين. وعندما شب على الطوق جاء الشيطان ليجربه وعرض عليه أن يعطيه سلطاناً على الأرض كلها مقابل تخليه عن المهمة التي كان يعد نفسه لها، ولكن زرادشت نهره وأبعده عنه.انخرط زرادشت منذ يفاعته في سلك الكهنوت، وصار كاهناً على دين قومه. غير أن هذا الكاهن ما لبث أن انشق على المعتقدات التقليدية، وأحدث انقلاباً كان له أعمق الأثر في الحياة الروحية لإيران وللإنسانية على حد سواء، عندما جاءه وحي النبوة وهو في سن الثلاثين. فبينما كان الكاهن الشاب يشارك في إحدى المناسبات الطقسية، دعت الحاجة إلى بعض الماء، فتطوع زرادشت لجلبه ومضى إلى النهر القريب؛ وبينما هو يملأ قربته تجلى له على الضفة كائن نوراني، فخاف منه وحاول الفرار، ولكن الكائن طمأنه وكشف له عن هويته قائلاً بأنه ملاك من عند الله، وأنه واحد من الكائنات الروحانية الستة التي تحيط بالإله الواحد وتعكس مجده. ثم أخذ بيده وعرج به إلى المساء حيث مَثَلَ في حضرة أهورا مزدا، وهو الاسم الذي يطلقه زرادشت على الله، وتلقى منه الرسالة التي يتوجب عليه إبلاغها للناس.العقيدةيتميز المعتقد الزرادشتي بابتكاره لأكثر التفسيرات منطقية لوجود الشر في العالم. ففي البدء لم يكن سوى الله- أهورا مزدا؛ وجود كامل وتام، وألوهة قائمة بذاتها مكتفية بنفسها. ولكن هذه الألوهة اختارت أن تخرج من كمونها وتُظهر ماعداها إلى الوجود، فكان أول خلقها روحان توأمان ها سبينتا ماينيو وأنجرا ماينيو. ولكي يكون لهذين الروحين وجود حقيقي مستقل عن خالقهما، فقد منح لها خصيصة الحرية. وبداعٍ من هذه الحرية المطلقة فقد اختار سبينتا ماينيو الخير ودُعي بالروح القدس، واختار أنجرا ماينيو الشر ودُعي بالروح الخبيث. بعد هذا الخيار الأخلاقي للتوأمين، كان لا بد من تصادمهما ودخولهما في صراع مفتوح. على الرغم من أن الله كان قادراً منذ البداية على سحق أنجرا ماينيو ومحو الشر في مهده، إلا أنه آثر عدم التناقض مع نفسه بالقضاء على مبدأ الحرية الذي أقره، والسير بخطته التي تقوم على مقاومة الشر استناداً إلى ذات المبدأ الذي أنتج الشر. وهنا عمد بمعونة الروح القدس سبينتا ماينيو إلى خلق ستة كائنات روحانية قدسية شكلت بطانته الخاصة التي تحيط به على الدوام، ويُدعَون بالأميشا سبينتا أي الخالدون المقدسون. وقد أوجدهم الله من روحه كمن يشعل الشموع من مشعل متقد. ثم إن هؤلاء أظهروا إلى الوجود بالطريقة نفسها عدداً كبيراً من الكائنات القدسية الطيبة هم الآهوريون، فعهد إليهم الرب بمهمة مكافحة الشر كل في مجاله. وبالمقابل فإن أنجرا ماينيو أظهر إلى الوجود عدداً كبيراً من الكائنات الروحانية المتفوقة هم الديفا، فراحوا يساعدونه في تخريب كل عمل طيب يصدر عن الله. وبذلك تم تشكيل عالم الملائكة وعالم الشياطين قبل خلق العالم المادي.بعد أن تأسس الشر على المستوى الروحاني، عرف أهورا مزدا أن القضاء على الشيطان وأتباعه لن يتيسر قبل خلق العالم المادي، لأن عالم المادة سيكون بمثابة المسرح المناسب للصراع بين جند الحق وجند الباطل، ولسوف يعمد أنجرا ماينيو إلى مهاجمة خلق الله بكل ما أوتى من قوة، لأنه خلقٌ حسن وطيب وكامل، ولكن هذا الهجوم سوف يفُتُّ في عضد الشيطان تدريجياً حتى يفقد قوته وسلطانه في آخر الأمر، ويُحسم الصراع لصالح الخير عند نهاية التاريخ. ولقد خلق أهورا مزدا العالم على ست مراحل زمنية (تعادل الأيام الستة في المعتقدات المشرقية اللاحقة). في البداية خلق السماء من صخر كريستالي، ثم خلق الماء، فالأرض، فالحياة النباتية، فالحياة الحيوانية، وأخيراً خلق الإنسان الأول. بعد انتهاء أهورا من خلق الكون انقض عليه أنجرا ماينيو بكل قوته، فغطس في البحر ولوثه بالملح، وتوجه إلى الينابيع فجففها، وإلى الخضرة فأذبلها، ونشر الصحارى وبث فيها الأفاعي والعقارب وكل دابة مؤذية، وعمد إلى النار فلوثها بالدخان، ودخل في عقل آدم وحواء المدعوين هنا “ماشيا و “ماشو” وزرع فيه النقائص الأخلاقية. ولكن الأميشا سبينتا تصدوا له ولجنده، ودخلوا معهم في صراع لا هوادة فيه. هذا الصراع لن يكون له نتائج إيجابية إلا بعون الإنسان، الذي يتوجب عليه أن يعي مسؤولياته الخلقية ويدعم قوى الخير بفكره وقوله وعمله.وعلى هذا، فإن التاريخ يسعى بشكل دينامي إلى نهايته عبر ثلاث مراحل؛ فلقد خلق أهورا مزدا العالم في أكمل وأطيب صورة ممكنة، واستمر على هذه الحالة ردحا من الزمن كان الشيطان خلاله نائماً، وهذه هي المرحلة الأولى مرحلة الخلق الكامل التي يسود فيها الخير. في المرحلة الثانية يهاجم الشيطان خلق الله فيمتزج الخير بالشر. في المرحلة الثالثة تبدأ عملية الفصل بين الخير والشر، وتنتهي بدحر الشيطان وعودة العالم إلى ما كان عليه في البداية. ولقد ابتدأت مرحلة الفصل هذه بميلاد زرادشت، وسوف تنتهي بظهور مخلَّص العالم المدعو ساوشيانط، الذي سيقود المعركة الأخيرة الفاصلة بين قوى النور وقوى الظلام. سوف يولد المخلِّص من عذراء تحمل به عندما تنزل للاستحمام في بحيرة كانا سافا، حيث تتسرب إلى رحمها بذور زرادشت التي حفظها هناك الملائكة إلى هذا اليوم الموعود.يرتبط معتقد نهاية التاريخ ارتباطاً وثيقاً بمعتقد البعث والحساب والحياة الثانية. فبعد أن يودَع الميت في القبر، تمكث روحه عند رأسه ثلاثة أيام تتأمل في حسناتها وسيئاتها. وخلال ذلك يزورها ملائكة الرحمة ويواسونها إذا كانت من الأرواح الصالحة، أو ملائكة العذاب الذين يذيقونها عذاب القبر إذا كانت من الأرواح الشريرة. وفي اليوم الرابع تُساق الروح إلى جلسة الحساب، فتمثُل أمام ميترا قاضي العالم الآخر الذي يقف خلف ميزان الحساب، وعن يمينه وشماله مساعداه اللذان يقومان بوزن أعمال الميت، فيضعان حسناته في إحدى الكفتين وسيئاته في الكفة الأخرى، ليتوجه بعد ذلك إلى الفردوس أو إلى الجحيم عبر طريق يدعى بصراط المصير، وهو عبارة عن جسر يتسع أمام الروح الطيبة فتسير عليه الهوينى إلى الجهة الأخرى حيث بوابة الفردوس، ولكنه يضيق أمام الروح الشريرة فتتعثر وتسقط لتتلقفها نار الجحيم. يتألف الجحيم من عدة طبقات يقع أسفلها في مركز الأرض، وكل طبقة تستقبل أهلها حسب فداحة ذنوبهم وتقدم لهم من صنوف العذاب ما يوازيها. أما السماء فتتصاعد على ثلاثة درجات تنتهي بالسماء العليا المدعوة نمارو ديمانا، أي مسكن الغناء، وهناك تقيم الروح في بَرَكة وسلام إلى يوم القيامة.مع ظهور المخلص تحل الأيام الأخيرة وتقترب الساعة. يوم تلفظ الأرض ما اُتخمت به من عظام الموتى، ويُفرغ الجحيم والفردوس من سكانهما ليعودوا إلى الحشر العظيم، حيث يلتقي من مات منذ آلاف السنين بمن بقي حياً إلى يوم الدينونة. عند ذلك يسلط الملائكة ناراً على الأرض تذيب معادن الجبال وتشكل نهراً من السائل الناري يرده الجميع، فأما الأحياء فيعبرونه كمن يخوض في نهر حليب دافيء، وأما الأشرار فينجرفون في التيار الذي يفنيهم ويمحو عن الأرض أثرهم بعد عذاب أليم. وفي ذلك الوقت يكون جند الظلام قد اندحروا في المعركة الفاصلة مع جند النور واستؤصلت شأفتهم، فيغوص نهر النار إلى أعماق الجحيم حيث لجأ الشيطان أنجرا ماينيو ومن بقي معه، فيلتهمهم جميعاً ويتم التخلص من آخر بقايا الشر. كما أن الجحيم نفسه يتطهر مثلما تطهرت بقية أجزاء الكون، ويغدو إقليماً من أقاليم الأرض الزاهرة، التي تحولت إلى جنة يسكنها الصالحون خالدين فيها أبداً.العباداتكانت الديانة الأصلية التي أسس لها رزادشت ديانة بسيطة ولا تعتمد إلا القليل من الطقوس. فلقد دعا زرادشت أتباعه إلى خمس صلوات في اليوم، تقام عند الفجر والظهيرة والعصر والمغرب ومنتصف الليل. وتتخذ صلاتا الظهيرة ومنتصف الليل أهمية خاصة، لأن منتصف النهار هو الوقت الذي تكون فيه قوى النور في ذروة سيطرتها على العالم، أما منتصف الليل فهو الوقت الذي تكون فيه قوى الظلام في ذروة فعالياتها، فيقوم المؤمنون لإيقاد النار دعماً لقوى النور. ولترتيل الصلوات. وتسبق الصلاة عملية الوضوء التي تتضمن غسل الوجه واليدين والقدمين. بعد ذلك يقف المصلي منتصباً مسبل الذراعين في حضرة أهورا مزدا، ويتلو في صلاته مقاطع خاصة من أناشيد الغاثا القديمة المنسوبة إلى زرادشت.تتجلى بساطة الديانة الأصلية في غياب المعابد والهياكل والمذابح. وزرادشت نفسه لم يعنَ بتشييد أماكن خاصة للعبادة، لأن الله موجود في كل مكان ويمكن التوجه إليه في أي مكان طاهر. كما منع النبي صنع الصور والمنحوتات لأهورا مزدا وبقية الكائنات القدسية؛ لذا فقد خلت المراكز الحضرية للمملكة الأخمينية من المعابد الضخمة، وكانت الصلوات تقام في البيوت أو في أماكن مفرزة للعبادة في الهواء الطلق مزودة بموقد للنار المقدسة. ولكن الملك أردشير الثاني الذي حكم من عام 485- 425 ق.م، خرج على هذه التقاليد وكان أول من بنى المعابد الضخمة على الطريقة البابلية وزينها بصور للكائنات السماوية. ولكن فريقاً من الكهنة عارضوا هذا الإجراء وردوا عليه بإقامة معابد تتصدرها شعلة النار المقدسة بدلاً من تماثيل الآلهة، وبذلك ظهرت لأول مرة معابد النار في إيران، وأخذ أهل الديانات الأخرى يصفون الزرادشتيين بأنهم عبدة النار، في الوقت الذي لم تكن النار بالنسبة إليهم إلا رمزاً للألوهة المطلقة الخافية. ومع ظهور معابد النار نشأت طبقة جديدة من الكهان المتفرغين لطقوس النار عُرفت تاريخياً باسم ماجي، وباللغة اليونانية ماجوس التي استمدت منها التسمية العربية مجوس.الواجب الخلقيعلى الإنسان أن يُعنى بأخيه الإنسان وببقية مخلوقات الأرض، لأنهم جميعاً صنعة الله الواحد. وعليه أن يرعى جسده وروحه في آنٍ معاً؛ وتتحقق رعاية الجسد من اتباع الفرد لقواعد النظافة والصحة العامة، والاعتدال في المأكل والمشرب وتجنب الإفراط في كل شيء؛ أما رعاية الروح فتتحقق من اتباع النظام الأخلاقي السليم الذي يتلخص في ثلاثة عناصر هي: 1- الفكر الحسن، فلا يتداول الفرد في عقله إلا الأفكار الطيبة ويُبعد عنه الأفكار الخبيثة. 2- القول الحسن، فلا يصدر عنه سوى الكلام الطيب. 3- العمل الحسن الذي يفيد به نفسه وأسرته ومجتمعه، ولا يبادر إلى أذية أي مخلوق. من خلال هذه الأخلاق يستطيع الإنسان أن يكافح الشر ويساعد القوى الإلهية الخيرة على دحر الشيطان ورهطه.طقوس الموت:تقوم طقوس الموت في الزرادشتية على نظرة النبي إلى الموت باعتباره ناتجاً من نواتج فعاليات الشيطان في العالم. فأجساد الأحياء تنتمي إلى أهورا مزدا، بينما تنتمي جثث الموتى إلى الشيطان. إن لمس أي جثة هو مصدر للنجاسة، وعلى من احتك بها أن يطهر نفسه بالماء؛ كما أن أي جزء مقتطع من الجسم الحي مثل قصاصات الأظافر أو قصاصات الشعر هو جزء ميت ويجب عدم الاحتكاك به. وجميع الحيوانات التي تتغذى على الجثث من النمل والذباب والكلاب والضباع وما إليها، هي حيوانات نجسة يجب قتلها أينما وجدت. من هنا فقد خضعت عملية دفن الموتى إلى طقوس خاصة يقوم بها اختصاصيون يعرفون كيف يطهرون أنفسهم بعدها. فقد كانت جثة الميت تسجى على مصطبة حجرية في منطقة نائية أو في سفح جبل، ولا يسمح لها بالاحتكاك بتربة الأرض كيلا تلوثها، وهناك تترك مكشوفة حتى تتحلل بالعوامل الطبيعية أو انقضاض الجوارح عليها. وبعد فترة كافية لتحلل الجسد تدفن العظام تحت التراب انتظاراً لبعثها في يوم القيامة.قواعد الطهارة:لم تضاه الزرادشتية قبلها أو بعدها ملَّة في الحفاظ على طهارة الجسم والمأكل والمشرب. ويأتي حرص الزرادشتي المبالغ به على النظافة من اعتقاده بأن الفساد والتحلل والعفونة وكل أنواع القذارة هي من عمل الشيطان. من هنا فإن النظافة والبُعد عن الاحتكاك بكل ما هو قذر وملوث هو شأن يعادل الصلاة والعمل الطيب، لأن في التزام قواعد الطهارة محاربة لقوى الشيطان. وبذلك يستطيع الإنسان المساهمة في محاربة الشر الكوني من خلال أدائه لأصغر واجباته اليومية.التطور التاريخي:بقيت تعاليم زرادشت التي بثها في أناشيد الغاثا لفترة طويلة بمثابة الإنجيل الذي يحفظ جوهر الدين ويجمع المؤمنين حول العقيدة. ولكن لغة هذه الأناشيد صارت قديمة بمرور الزمن، ودعا أسلوبها البليغ المختصر الكهنة إلى التوسط من أجل تبسيط أفكارها وشرحها للناس. وقد تراكمت هذه الشروحات تدريجياً حتى شكلت مصدراً آخر من مصادر الديانة الزرادشتية، وجُمعت تحت اسم الأفيستا؛ ثم تطلبت هذه المجموعة من الشروحات بدورها الشرح والتفسير فنشأ على هامشها كتاب الزند أفيستا، أي شرح وتعليق على الأفيستا. وقد لعب المجوس دوراً مهماً في تحرير وتطوير الأفيستا، ولكنهم أدخلوا تعديلات مهمة على أفكار زرادشت الأصلية، فبنوا لاهوتاً متكاملاً عن مجمع الملائكة ومجمع الشياطين، فصارت الملائكة التي تعمل تحت إمرة سبينتا ماينيو تُعد بالآلاف، وكذلك الشياطين التي تعمل تحت إمرة أنجرا ماينيو. كما تحول الأميشا سبينتا من قوى مجردة وغير مشخصة إلى كائنات إلهية لكل منها وظيفة محددة في نظام الكون والطبيعة، وصارت فروض العبادة والتقديس تقدم إليها بما هي كذلك. كما أدخل المجوس على العقيدة الأصلية تعديلاً جذرياً انحرف بها عن فكر زرادشت، عندما جعلوا أنجرا ماينيو يقف على قدم المساواة مع أهورا مزدا، ونظروا إليهما كخصمين متصارعين منذ البدء؛ وبذلك تحول أهورا مزدا من إله يسمو فوق الروحين البدئيين المتنافسين إلى طرف مباشر في الثنوية الكونية.وفي عقيدة الزورفانية التي طورها فريق من المجوس، صار أهورا مزدا وأنجرا ماينيو (الذي يتخذ هنا اسم أهريمان) ابنين توأمين للإله الأعلى المدعو زورفان، أي الزمن. وقد عهد زورفان إلى أهورا مزدا بمهمة خلق العالم ليغدو مسرحاً للصراع المكشوف بين قوى الخير وقوى الشر، وحدد لصراعهما ردحاً معيناً من الزمن ينتهي بغلبة أهورا مزدا على خصمه أهريمان؛ وبقي بمثابة العلة الأولى والإطار الذي تجري ضمنه أحداث الكون. وقد تحولت هذه العقيدة من هرطقة تعيش على هامش زرادشتية الأفيستا إلى دين رسمي للدولة في عهد الأسرة الساسانية، حيث تحولت الزرادشتية في المراحل المتأخرة للتاريخ الإيراني القديم من ديانة عالمية تتوجه إلى جميع بني البشر إلى ديانة قومية خاصة بإيران. وهذا ما أضعف موقف الزرادشتية تجاه الديانات العالمية اللاحقة وهي المانوية والمسيحية والإسلام

لاهوت إبليس الملاك الساقط: الأفكار التأسيسية
تكاد شخصية الشيطان أن تكون غائبة عن كتاب التوراة العبرانية، فهو لا يظهر إلا مرات قليلة حيث يتخذ دور التابع ليهوه المنفذ لأوامره في معظم الأحيان. وربما كان واحداً من ملائكته موكلاً بإتيان بعض المهام الشريرة، على ما نفهم من مطلع سفر أيوب وهو الموضع الوحيد في التوراة الذي يلعب فيه الشيطان دوراً بارزاً. ولعل السبب في بقاء الشيطان في دائرة الظل، هو كون الخير والشر وجهان متكاملان للإله التوراتي الواحد، فهو صانع الخير وصانع الشر يوجههما بطريقة تخفى غاياتها عن أفهام عباده. نقرأ في سفر إشعيا 45، 76: “أنا الرب وليس آخر، مصِّور النور وخالق الظلمة، صانع السلام وخالق الشر، أنا صانع كل هذا”. ونقرأ في سفر يشوع بن سيراخ 11، 14-15: “الخير والشر، الحياة والموت، الفقر والغنى، من عند الرب”. ونراه في سفر التثنية 32، 39-42 يتباهى بأن سهامه تسكر بالدم ويأكل سيفه اللحم مغمساً بدم القتلى: “أنا أميت وأحيي، سحقت وإني أشفي… إذا سللت سيفي البارق وأمسكتْ بالقضاء يدي، أُسكر سهامي بدمٍ ويأكل سيفي لحماً بدم القتلى والسبايا ومن رؤوس قوات العدو”. وهو حين يغضب يخرج دخان من أنفه ونار من فمه. (المزمور 18، 7-8). وعندما يتحرك يسبقه الوباء ومن عند رجليه تخرج الحمى. (حبقوق 3، 4-6).لقد دونت آخر الأسفار التوراتية التي اعتبرت قانونية خلال الفترة الانتقالية من القرن الثاني إلى القرن الأول قبل الميلاد، وهي الأسفار الـ 39 التي أقرها مجمع يمنيا في فلسطين عام 90 للميلاد باعتبارها الأسفار الرسمية المكونة للكتاب المقدس العبري.إن خلو الإيديولوجيا التوارتية من مفهوم واضح عن الشيطان قد جعلها خلواً أيضاً من فكرة التاريخ الذي يقوده صراع الخير والشر إلى نهاية للزمن يعقبها تحويل كامل للوجود إلى مستوى ماجد وجليل، كما جعلها خلواً من فكرة الثواب والعقاب والجحيم والنعيم في العالم الآخر. إن التاريخ يتحرك بشكل خطي في الإيديولوجيا التوراتية ولكن لا نحو خلاص الإنسانية جمعاء من ربقة الشيطان في اليوم الأخير الذي ينتصر فيه الخير على الشر، بل نحو يوم ينتصر فيه بنو إسرائيل على كل أعدائهم ويجعلونهم عبيداً في خدمتهم؛ عند ذلك يحل ملكوت الرب على الأرض، وهو مملكة يوتوبية يحكمها الإله يهوه بشكل مباشر. وخلال هذه الأحداث يلعب المسيح اليهودي دوراً حاسماً، فهو الإنسان المتفوق الذي يُمسح ملكاً على إسرائيل ويجمع منفييها من جهات العالم الأربع، ويحارب أعداءها في كل مكان ممهداً لقيام ملكوت الرب.لقد دُوّنت أواخر الأسفار التوراتية التي اعتبرت قانونية، خلال الفترة الانتقالية من القرن الثاني إلى القرن الأول قبل الميلاد، وهي الأسفار التي أقرها مجمع يمنيا في فلسطين نحو عام 90 للميلاد باعتبارها الأسفار الرسمية التي يتألف منها الكتاب المقدس اليهودي وعددها 39 سفراً. ولكن الأسفار التي تم استبعادها من المجموعة الرسمية، وأسفار أخرى تم تدوينها لاحقاً وصولاً إلى نهاية القرن الثاني الميلادي، وجميعها اعتبرت منحولة، أي معزوة إلى أسماء شخصيات توراتية لم يكونوا مؤلفيها الحقيقيين، مارست تأثيراً على الفكر الديني اليهودي لا يقل عن تأثير الأسفار الرسمية، ومدت الفكر الرباني والتلمودي اللاحق بكثير من عناصره المؤسِسة. وبتأثير من الأفكار الزرادشتية التي شاعت في المنطقة المشرقية، فقد قدمت هذه الأسفار غير الرسمية أفكاراً جديدة على الإيديولوجيا الدينية التوراتية، أهمها فكرة الشيطان الكوني، وصراع الخير والشر الذي يقود حركة التاريخ، والقيامة العامة للموتى في اليوم الأخير. والثواب والعقاب، ومسيح آخر الزمن، والجنة والنار. وقد انفردت هذه الأسفار بالتأسيس للاهوت إبليس باعتباره ملاكاً عصى ربه فأُبعد عن مملكة السماء مع من أغواهم من الملائكة، وتحول إلى شيطان يعارض إرادة الرب ويعمل على زرع الشر في العالم، وعلى وجه الخصوص في نفوس البشر. وسوف نعمل فيما يلي على متابعة تطوير الأسفار غير القانونية لهذا اللاهوت الخاص، واستمراره في العقائد المشرقية التالية.يتألف الأدب التوراتي المنحول من ستة وخمسين وثيقة تستغرق في آخر وأهم طبعة حديثة لها[1]يبتديء لاهوت الملاك الساقط بالتوضح في الوثيقة المعروفة بسفر أخنوخ الأول[2]في هذا السفر لايتحدث الكاتب عن ملاك واحد ساقط باعتباره أصلاً للشر، بل عن مجموعة من الملائكة يبلغ عددهم مائتين. فعندما تكاثر البشر بعد وفاة آدم وحواء، وولد لهم بنات حسان وجميلات، حدث أن فريقاً من الملائكة أبناء السماء رأوهن فاشتهوهن، فقال بعضهم لبعض: هلم بنا نختار لأنفسنا زوجات من بين بني البشر وننجب منهن نسلاً. فقال لهم رئيسهم سيمياز: أخشى أن تتراجعوا عن فعل هذا الأمر بعد الشروع به وأدفع وحدي ثمن هذه الخطيئة العظيمة. فأجابوا جميعاً: دعونا نقسم قسماً، ولتحل اللعنة على كل من يتراجع عن فعل هذا الأمر. فأقسموا جميعاً وارتبطوا بقسم اللعنة هذا؛ ثم هبطوا من السماء على قمة جبل حرمون. وهذه أسماء رؤسائهم: سيمياز، راميئيل، تامئيل، دانئيل…إلخ. هؤلاء هم رؤساء العشرات، وكان الجميع تحت إمرتهم.ويتابع الكاتب فيقول بأن هؤلاء الساقطين الذين ينتمون إلى فئة ساهري السماء الموكلين بتفقد أحوال الأرض على الدوام، قد اتخذوا لأنفسهم زوجات من بين الناس، فولدت الزوجات لهم عمالقة طول الواحد منهم ثلاثة أذرع. ولكن شر العمالقة كثر على الأرض وأكلوا الأخضر واليابس، وعندما لم يبق ما يكفي لطعامهم راحوا يلتهمون البشر أيضاً، فصعد صراخ البشر إلى السماء. عند ذلك نظر الملائكة ميكائيل وسورافيل (= إسرافيل) وجبرائيل من الأعالي، ورأوا ما يجري على الأرض من شر وعنف، فمضوا إلى الرب وأطلعوه على الأمر. بعث الرب مع الملائكة إلى أخنوخ يأمره بأن يذهب إلى الساقطين وينقل لهم قضاء السماء بشأنهم؛ فهم سيشهدون ذبح أولادهم العمالقة، وبعد ذلك يقيدون في ثنايا الأرض لسبعين جيلاً حتى يوم الدينونة، عندها سيقادون إلى هوة النار وإلى العذاب الأبدي. سمع الساقطون حكم الرب عليهم فارتاعوا، وطلبوا من أخنوخ أن يشفع لهم عنده ويقبل استرحامهم؛ فمضى أخنوخ وجلس عند ضفة النهر حيث قرأ استرحام الساقطين، وكرر ذلك حتى وقع عليه سبات وعرضت له رؤيا، فرأى فيما يرى النائم أنه قد عُرج به السماء حيث مثل في حضرة الرب:”كنت ساجداً طيلة الوقت أرتعد. ثم كلمني الرب بصوته قائلاً: تقدم يا أخنوخ واسمع كلامي… اذهب إلى ساهري السماء الذين أرسلوك لتسترحم من أجلهم وقل لهم: لقد كان أحرى بكم أن تسترحموا من أجل الإنسان لا أن يسترحم الإنسان من أجلكم. لماذ توليتم عن السماء العليا المقدسة لتناموا مع النساء وتتدنسوا ببنات الناس، وتأخذوهن لكم زوجات مثل بني البشر وتنجبوا منهن نسل العمالقة؟ لقد كنتم قديسين وروحانيين، ولكنكم تدنستم بدم النساء وأنجبتم أولاداً من لحم ودم، ومثل الذين يموتون ويفنون صار لكم توق لجسد اللحم والدم. لقد أعطيت أولئك نساءً ليخصبونهن وينجبوا منهن أولاداً لكي لا يفنى جنسهم على الأرض، أما أنتم فكنتم روحانيين وخالدين فلم أعطكم زوجات لأن السماء مسكنكم. والآن فإن العمالقة أولادكم نسل الروح والجسد سيدعون أرواحاً شريرة، لأن أرواحاً خبيثة سوف تصدر عن أجسادهم المذبوحة ويكون في الأرض مسكنها. لن يأكلوا ويشربوا على الرغم من أنهم يجوعون ويعطشون. سوف يسببون الأذى والعنف والدمار على الأرض، ويدفعون الناس إلى الخطيئة وإلى المعصية، ويقومون ضد أبناء الناس وضد النساء لأنهم منهن أتوا. عندما يَهلَك العمالقة سوف تعيث الأرواح الخارجة منهم فساداً وترتع بلا رادع إلى يوم الحساب الأخير، يوم يهلك الساهرون الساقطون. فقل لهم لن يكون لكم سلام أبداً”.بعد ذلك يأخذ الملائكة أخنوخ في جولة تكشف له أسرار السماء، ويستغرق وصف هذه الجولة بقية الجزء الأول من السفر. وقد رأى، من جملة ما رأى، خزانات الرياح، وخزانات البروق والرعود وخزانات الغيوم والثلوج. ورأى منابع الأنهار كلها ومنابع البحر. ورأى الملائكة التي تحرك عجلات القمر والشمس وبقية الأجرام السماوية، والملائكة التي تسند قبة السماء عند آفاق الأرض حيث بوابة السماء التي تخرج منها النجوم في مواعيدها، وبوابات الرياح الأربعة، وبوابات الثلج والبَرَد والضباب والندى. ورأى مكان المطهر حيث تلبث أرواح الموتى في انتظار يوم الحساب الأخير. ورأى جنة الأبرار وجحيم الكفار.تحتوي الأجزاء اللاحقة من السفر على عدد آخر من الرؤى مصاغة بأسلوب شعري ترميزي يفتقد إلى الشروحات التفصيلية التي ميزت الجزء الأول. ولسوف نقتبس فيما يلي أهم هذه الرؤى المتصلة بموضوعنا، وهي التي تدور حول المخلَِّص المنتظر المدعو بابن الإنسان، والتصورات الآخروية المتعلقة بنهاية الزمن.مبدأ الأيام وابن الإنسان:، التي يُرجع الاختصاصيون زمن تدوينها إلى أواخر القرن الثاني قبل الميلاد. وقد عُثر على مقاطع متفرقة من هذا السفر باللغة الآرامية بين نصوص قمران (مخطوطات البحر الميت)، كما عُثر على مقاطع متفاوتة الطول منه باللغتين اليونانية واللاتينية. أما النص الكامل فمتوفر فقط باللغة الإثيوبية، لأن الكنيسة الإثيوبية قد تبنته باعتباره جزءاً من كتاب العهد القديم.نحواً من ألفين من الصفحات. وقد اخترت التوقف عند أهم هذه الوثائق التي تحتوي على الأفكار التأسيسية للاهوت الملاك الساقط.”هناك رأيت الذي رأسه مبدأ الأيام (= الرب). كان شعره مشتعلاً بياضاً مثل الصوف، ومعه كائن آخر له مظهر إنسان ووجهه ممتليء نعمة كملاك قديس، فسألت الملاك المرافق أن يكشف لي سر ابن الإنسان من هو، ولماذا يرافق مبدأ الأيام. فقال لي: هو ابن الإنسان الممتليء بالخير والذي به يحيا الخير. لأن رب الأرواح قد اختاره، وقدره كل خير أمام رب الأرواح إلى الأبد. إن ابن الإنسان الذي رأيت، سوف يرمي الملوك والجبابرة والأقوياء عن عروشهم وكراسيهم، لأنهم لم يحمدوه ولم يمجدوه ولم يعترفوا بمصدر مُلكهم وسلطانهم. سوف يخلع قلوب الأقوياء، ويكسر أسنان الخطأة ويخفض وجوه العتاة ويمرغها بالعار… فيضطجعون ولا يقومون”.نلاحظ هنا أن الفكر المنحول قد تحول عن فكرة مسيح آخر الأزمنة في الإيديولوجيا التوراتية، إلى فكرة “الحقيقة المسيحانية” القائمة مع الله قبل خلق العالم. فالمسيح هو حقيقة كونية سوف تتجسد في إنسان عندما يأتي التاريخ إلى نهايته:”… قبل أن تخلق الشمس وبروج السماء ونجومها، دُعي اسمه أمام رب الأرواح. سيكون نوراً تهتدي به الأمم وأملاً لجميع المحزونين. أمامه سوف يسجد أهل الأرض ويعبدونه ويحمدون ويباركون رب الأرواح بالأناشيد. لأجل هذا تم اصطفاؤه وحجبه في حضرة رب الأرواح من قبل خلق العالم وإلى نهاية الدهر… في تلك الأيام سيُذلُّ الملوك والمتنفذون جراء ما اقترفته أيديهم… وسوف يسلَّمون إلى أيدي المختارين، فيحترقون مثل قش في نار أمام وجه القديسين وينمحي أثرهم…”.القيامة والبعث:في الرؤى التالية هنالك إشارات متفرقة إلى القيامة والحساب والمعاد نلخصها فيما يلي:فمن علامات اقتراب الساعة انتشار الظلم وغياب العدالة، وشح المطر، وجدب الأرض، واضطراب مسارات الأجرام السماوية، وتغيير القمر لمواعيد طلوعه. وعندما تحل الساعة يحدث من الأهوال ما يجعل كل مرضعة تغفل عن رضيعها وترميه عن صدرها. عندها يُبعث من في القبور، وكل الذين هلكوا بدون دفن ومُحق أثرهم، كالذين هلكوا في الصحراء أو غرقوا في الماء والتهمتهم الأسماك، أو من افترستهم الكواسر؛ ويقف الجميع للحساب أمام رب الأرواح. ثم تُفتح بوابة الجحيم وهي هاوية عميقة لا يسبر غورها ومهما وفد إليها من الناس لا تمتليء، فيها ملائكة العذاب ومعهم أدوات العقاب من سلاسل وقضبان وما إليها، وفي قعرها تضطرم نار أبدية تتلقف المجرمين.سفر عزرا الرابع:يقدم لنا هذا السفر تنويعاته الجديدة على التصورات الأخروية للفكر المنحول. وهو يعود في نسخته العبرية الأصلية إلى أواخر القرن الأول الميلادي، وله ترجمات إلى كل من اليونانية واللاتينية والإثيوبية والقبطية والأرمنية. ويحتفظ الفاتيكان بترجمتين عربيتين قديمتين تحت رمز العربية 1، والعربية 2.في مدينة بابل التي سيق إليها عزرا مع بقية سبي مملكة يهوذا، تعرض له سبع رؤى متتابعة، في الرؤيا الأولى يناجي عزرا ربه ويطرح عدداً من التساؤلات حول أصل الشر ومصير إسرائيل والعالم وكيفية ثواب المحسنين وعقاب المسيئين، فيظهر له الملاك أوريئيل الذي ينقل له عن لسان الرب أجوبة تساؤلاته. ففيما يتعلق بنهاية الزمن والتاريخ يقول له إن الساعة قادمة لاريب فيها، ولكن تسبقها إشارات وعلامات. ففي ذلك الوقت يتملك الناسَ ذعر عظيم، وتغيب سبل الحق ويختفي الإيمان في الأرض. الشمس تشرق في الليل والقمر يطلع في النهار، والدم ينبثق من الأشجار. الصخر يتكلم ويسمع صوته، والنجوم تغير مجراها وتتساقط على الأرض. تتشقق الأرض عبر البطاح وتندلع نيران لا تنطفيء. تترك الطيور أعشاشها وتفر، والكواسر تهجر مقراتها، والبحر يلفظ أحياءه. تجف الحقول وتفرغ الأهراءات، ويختلط ماء الأرض الحلو بمائها المالح. يقوم الإخوة والأصدقاء ضد بعضهم ويتقاتلون بضراوة. عمل الناس لا يعطي ثماراً وكدهم يذهب هباءً.في الرؤيا الثالثة ينقل الرب لعزرا خبر مملكة المسيح القادمة على الأرض والتي ستدوم مدة أربعمئة سنة: “هو ذا يوم يأتي بعد ظهور الإشارات التي أبنأتك عنها، فتظهر المدينة التي لا أثر لها الآن ويُكشف عن الأرض غير المنظورة الآن. عندها سيرى عجائبي كل من نجا من الكوارث التي أخبرتك بخبرها. عندها سيظهر المسيح ابني والذين معه، وسينعم الذين بقوا مدة أربعمئة سنة. ثم يموت المسيح ويموت كل ذي نسمة حياة، ويعود العالم إلى الصمت البدئي مدة سبعة أيام كما كانت حاله قبل البدايات. بعد ذلك يستيقظ العالم النائم ويتلاشى منه ماهو قابل للفساد… ستلفظ الأرض الأجساد النائمة فيها، وتُخرج ردهات المطهر ما عُهد إليها من أرواح، ويظهر العلي مستوياً على عرش الدينونة. عندها تزول الرحمة ويغيب الصبر ويبقى الحساب العسير، ويُعرض الثواب والعقاب. عندها تتعرى هاوية العذاب ويبرز في مقابلها مقام النعيم، يُكشف عن أتون الجحيم ويبرز في مقابله الفردوس المقيم.”عندها يقول العلي للأمم التي بعثت من الموت: انظروا الآن إلى الذي أنكرتم وصاياه، ثم انظروا إلى هذه الجهة وإلى تلك، هنا النعيم المقيم وهناك العذاب والجحيم. هذا ما يقوله العلي في يوم الدينونة، يوم لا شمس فيه ولا قمر ولا نجوم، لاسحب فيه ولا رعد ولا برق ولا ريح ولا ماء، لا صباح فيه ولا مساء، لا صيف فيه ولا ربيع ولا حرّ ولا صقيع ولا وابل ولا ندى… وحده مجد العلي يتلألأ”.في الرؤيا السادسة نجد المسيح طالعاً من وسط البحر: “هبت من البحر ريح دفعت أمامها كل أمواجه. فنظرت ورأيت من قلب الريح شكل إنسان يطلع من البحر. ثم رأيت ذلك الإنسان يطير مع الغيوم في الأعالي، وأينما أدار وجهه حدثت رجَّة ورجفة، وكلما هدر صوته ذاب سامعوه مثلما يذوب الشمع المحمى. ثم رأيت حشوداً تهب من الجهات الأربع لتقاتل الرجل الطالع من البحر، ولكنه اقتطع حبلاً عظيماً بيديه وقذفه عليهم، فتملك الذعر تلك الحشود التي تجمعت للقتال ولكنها عزمت على الهجوم. فلما رآها تقترب منه لم يرفع يداً ولم يمسك حربة أو سلاحاً، ولكنه أطلق من فمه زفيراً نارياً ومن لسانه عاصفة من الشرار، فامتزج الاثنان في تيار ملتهب انصب على الحشود المهاجمة فأتت عليهم جميعاً، ولم يبق في أماكن تجمعاتهم سوى الغبار والرماد وروائح الدخان. ثم رأيت الرجل يهبط من الجبل ويدعو إليه حشداً آخر هادئاً ومسالماً، فتقاطر إليه أناس بعضهم فرح وبعضهم حزين وبعضهم يرسف في الأغلال”.يطلب عزرا تفسير رؤياه فيأتيه جواب الرب على لسان الملاك موضحاً له معنى كل ما رأى. بعد ذلك يسأل عزرا عن مغزى طلوع الرجل من البحر فيأتيه جواب العلي: “كما أن أحداً لا يستطيع أن يكتنه مافي أعماق البحر، كذلك لا أحد على الأرض يستطيع رؤية ابني ومن برفقته إلا عندما يأتي يومه ووقته”
.[1] J.H. Charles worth, The Old Testament Pseudepigrapha, Doubleday, New York, 1983.2 وهو السلف السادس بعد آدم من سلالة ابنه شيت، الذي يقول عنه سفر التكوين (5: 21-24) بأنه رُفع حياً إلى السماء

لاهوت إبليس- الملاك الساقط: عندما امتنع إبليس عن السجود لآدم
في “كتاب حياة آدم” يجري التحول من فكرة حشد الملائكة الساقطين بسبب دخولهم على بنات الناس وتدنسهم بهن (مما بحثناه في الحلقة الماضية)، إلى مفهوم إبليس الذي سقط بسبب عصيانه أمر الرب بالسجود لآدم. وهذا النص التوراتي المنحول يعود في زمن تأليفه إلى الفترة الانتقالية بين القرن الأول والقرن الثاني بعد الميلاد؛ وقد دوّن في نسخته الأقدم بالعبرية وهي مفقودة الآن، ولدينا عنها ترجمة يونانية تعود إلى أواخر القرن الثالث الميلادي، إضافة إلى ترجمات لاتينية وسلافية أحدث. ويكتسب القسم الأول من هذا السفر أهمية خاصة لأنه يقدم لنا لأول مرة قصة إبليس وعصيانه مروية على لسانه شخصياً.فبعد طردهما من الفردوس بسبب عصيانهما وأكلهما من الثمرة المحرمة بتحريض من الشيطان، سار آدم وحواء في الأرض مدة تسعة أيام يبحثان عن طعام، ولكنهما لم يجدا طعاماً يشبه ما كانا يأكلانه في الفردوس، بل طعاماً مما تأكله حيوانات الأرض؛ فقال آدم لحواء: “لقد جعل الرب هذا الطعام نصيباً للحيوانات بينما كنا نتناول هناك طعام الملائكة، تعالي نبكي أمام الرب ونستغفره معلنين توبتنا، لعله يسامحنا ويرأف بنا ويزودنا بأسباب الحياة”. فانفرد الاثنان كلٌ في مكان يصليان. ولكن الشيطان اتخذ شكل ملاك وضَّاء وجاء إلى حواء التي كانت تبكي، فوقف إلى جانبها وتظاهر بمشاركتها في البكاء ثم قال لها: “توقفي عن البكاء ودعي هذا الحزن عنك، فلقد سمع الرب دعاءكما وقبِل توبتكما، فهلمي معي إلى حيث الطعام معدّ من أجلك. “صدقت حواء كلام الشيطان وسارت معه فقادها إلى آدم؛ فلما رآهما آدم قادمين اكتشف هوية الشيطان فصرخ وانتحب وناداها قائلاً: “أين ذهب ندمك واستغفارك، وكيف وقعت ثانيةً في غواية عدونا الذي حرمنا مسكننا الفردوسي ومتعنا الروحية؟” لسماعها نداء آدم انتبهت حواء إلى خديعة الشيطان، فسقطت على وجهها في التراب وتضاعف حزنها وبكاؤها وصرخت في وجه الشيطان: “الويل لك أيها الشيطان، لماذا تهاجمنا دون سبب؟ ما الذي فعلناه حتى تلاحقنا دوماً بالمكر والخديعة؟”.فتنهد الشيطان وقال لها: “إن كل عدائي وحسدي هو بسببك أنت يا آدم. بسببك أنت جرى طردي من الفردوس وحُرمت من مجدي الملائكي، وبسببك أنت رُميت من الأعالي إلى الأسافل.” فقال آدم: “ما الذي فعلته لك وفي أي أمر لومك لي؟ لماذا تلاحقنا ولم نسبب لك ضُراً ولا أذىً؟ فأجاب الشيطان: “عن أي شيء تتحدث يا آدم؟ بسببك أنت أُخرجت من هنالك، وبعد خلقك أنت أُبعدتُ من حضرة الرب وصحبة الملائكة. فعندما نفخ الرب في أنفك نسمة الحياة بعد أن شكَّل هيئتك على صورته، دعانا ميكائيل لكي نسجد لك في حضرة الرب الذي خاطبك قائلاً: انظر يا آدم لقد صنعتك على صورتنا وشبهنا. ثم دعا ميكائيل جميع الملائكة وقال لهم: اسجدوا لصورة الرب حسبما أمر. وكان ميكائيل أول الساجدين، ثم دعاني إلى السجود فأجبته: “أنا لا أسجد لآدم. وعندما حثني على السجود قلت: لن أسجد لمن هو أدنى مني مرتبةً، فلقد خُلِقْتُ قبله وعليه هو أن يسجد لي. ولما سمع الملائكة التابعون لي قولي رفضوا السجود أيضاً. فلما سمع الرب قولي ثار غضبه عليَّ وأنزلني من مرتبة المجد مع أتباعي، وطردنا من مقرنا العلوي إلى الأرض حيث لبثنا نندب مجدنا الضائع. ولقد آلمني أن أراك هناك تنعم بالسرور والبركة، فجئت زوجتك بالخديعة وأغويتها فجلعتها سبب فقدانك أفراح النعيم.”يتابع النص بعد ذلك سرد أخبار أسرة آدم، وما جرى بين قابيل وهابيل وبقية أولاد آدم إلى حين وفاته وتلقيه رحمة ربه وغفرانه.الهاجادةنشأت على هامش التلمود، وهو المصدر الثاني للشريعة بعد التوراة، خلال القرون الأولى للميلاد، مجموعة النصوص المعروفة بالهاجادة، أي رواية القصص. وهذه التسمية جاءت من استخدام المؤلفين أسلوب القص الميثولوجي لتقريب تعاليم التلمود إلى عامة الناس. والنص الهاجادي الذي سأقتبس منه هنا، يعتبر من عيون الأدب الهاجادي، وهو يعالج موضوعات التكوين منذ خلق العالم إلى سقوط الإنسان. وينفرد هذا النص بتقديمه لحوار بين الرب والملائكة بخصوص خلق الإنسان، حيث نجد الملائكة حذرين من مغبة خلق الإنسان، لأنه سيكون ميالاً إلى سفك الدماء وممتلئاً بالغش والخداع. كما أن النص ينسج على منوال كتاب حياة آدم في اعتباره أن السبب في سقوط إبليس هو رفضه السجود لآدم.يُفصِّل النص أعمال الخالق البدئية في تكوين العالم خلال ستة أيام وفق ترتيبها في سفر التكوين التوراتي ولكن مع توسع وإسهاب وإدخال عناصر جديدة على القصة الأصلية. فقد خلق الرب السماوات سبعاً طباقاً والأرضين مثلهن سبعاً طباقاً أيضاً. ثم جعل الرب الجحيم في الجهة الشمالية من الأرض وقسمه إلى سبع درجات لكل درجة منها حصتها من الخطاة وفق ذنوبهم، وقسم الدرجة إلى سبعة أجنحة والجناح إلى سبعة آلاف كهف، والكهف إلى سبعة آلاف حجرة وفي كل حجرة سبعة آلاف عقرب لكل عقرب منها ثلاثمئة شوكة. وهناك أنهار من حمم تجري في كل مكان وأنهار من قطران وإسفلت تغلي وتضطرم، وهناك خمسة أنواع من النيران وقودها قطع فحم بحجم الجبال، وهناك ملائكة العذاب موزعون في كل مكان.وجعل الفردوس في الجهة الشرقية من الأرض، وقسَّمه إلى سبع درجات لكل درجة حصتها من الصالحين وفق صلاحهم. وجعل له بوابتين عليهما ألوف من ملائكة الرحمة. فإذا وصل واحد من أهل الجنة إلى البوابة تقدم منه الملائكة فنضوا عنه حلة القبر وألبسوه عباءة من سحاب المحد، ووضعوا على رأسه إكليلاً من لآلىء وأحجار كريمة، وفي يده سبعة أغصان تفوح بأطيب روائح الجنة، ثم اقتادوه إلى مكان ربيع دائم وأنهار جارية من لبن وخمر وعسل. وفي كل يوم يمر أهل الفردوس بأربعة تحولات؛ ففي الصباح يستيقظ ساكن الفردوس طفلاً ليصير يافعاً عند الضحى فرجلاً ناضجاً عند الظهيرة فشيخاً عند المغيب. وبذلك يتمتع أهل الجنة بما يقدمه للإنسان كل طور من أطوار الحياة من متع.بعد أن انتهى الرب من خلق السماوات وملائكتها والأرض وكائناتها الحية، جاء دور الإنسان. وهنا يستطلع الرب رأي رؤساء الملائكة فيما هو مقدِم عليه من خلق الإنسان، فتأتي مشورتهم في غير صالح الإنسان لأنه سيكون ميالاً إلى النزاع والقتال وسفك الدماء وممتلئاً بالغش والخداع، ثم ينتهي الحوار بقول الرب: “ما نفعُ وليمة معدة بعناية وفيها كل الطيبات إذا لم يكن هنالك من يتمتع بها؟” فيقول الملائكة: “ليكن اسمك ممجداً في الأرض كلها ولتأت مشيئتك بما تراه مناسباً.”مد الرب يده واغترف من جهات الأرض الأربعِ أربعَ قبضات من التراب فعجنها وسواها إنساناً، ثم نفخ الرب في أنف آدم من روحه فصار آدم نفساً حيةً. وبذلك يكون آدم أول خلق الرب بدل أن يكون الأخير، باعتبار ما لروحه من قدم هو قدم الروح الإلهية. ومع خلق روح آدم خلق الرب كل أرواح البشر المتسلسلين من صلبه إلى يوم القيامة وحفظها في مكان ما من السماء السابعة، لكي تهبط واحدة إثر أخرى لتحل في الأجسام المخلوقة في الأرحام. وسيكون إذا حملت امرأة يأمر الرب خازن الأرواح ليأتيه بالروح التي اسمها كذا، فيأتيه بها وتُؤمر أن تدخل في الحمل. ولكن الروح تسجد لخالقها وتتوسل إليه أن يتركها في حال القداسة التي هي عليها ويعفيها من النزول إلى الأرض ولكن الرب يقول لها بأن المكان الذي ستمضي إليه هو أفضل من هذا المكان، فتذعن الروح وتُقاد إلى الرحم حيث تتحد بالجنين.لقد خرج آدم من يد الخالق إنساناً تام التكوين في العشرين من عمره، كاملاً في مواصفاته الجسدية والخلقية، فأسكنه الرب في الجنة. ولكي يثبت الرب للملائكة تفوق آدم عليهم، فقد جمع حيوانات الأرض وعرضها عليهم زوجاً زوجاً لينبئوه بأسمائها ولكنهم عجزوا، ثم عرضها على آدم بعد أن أوحى إليه بأسمائها فنطق آدم بأسمائها. ونلاحظ هنا الإضافة المتميزة الذي قدمها هذا النص على الرواية الرسمية في سفر التكوين التوراتي، وهي تتمثل في عنصرين، الأول تحدي الرب للملائكة أن ينبئوه بأسماء كائنات الأرض، والثاني تعليمه آدم الأسماء وحياً قبل أن يدعوه إلى عرض علمه على الملائكة وهذين العنصرين غائبين عن الرواية التوراتية حيث نقرأ في سفر التكوين 2، 19-20: “وجبل الرب الإله من الأرض كل حيوانات البرية وكل طيور السماء فأحضرها إلى آدم ليرى ماذا يدعوها، وكل ما دعا به آدم ذات نفس حية فهو اسمها. فدعا آدم بأسماء جميع البهائم وطيور السماء وجميع حيوانات البرية.”عقب ذلك أمر الرب كل الملائكة أن يسجدوا لآدم ففعلوا وعلى رأسهم ميكائيل الذي كان أول الساجدين لكي يضرب للآخرين مثلاً في الطاعة والخضوع للأمر الإلهي. ولكن أحد رؤساء الملائكة المدعو ساتان (= شيطان) الذي أضمر الغيرة والحسد لآدم، رفض السجود قائلاً: “لقد خلقتنا من ألقك وبهائك فكيف تأمرنا أن ننطرح أمام من خلقته من تراب الأرض؟” فأجابه الرب: “ومع ذلك فإن تراب الأرض هذا يفوقك حكمة وفهماً.” وهنا تدخل ميكائيل وحث ساتان على الانصياع قائلاً: “إذا لم تُبجل آدم وتخضع له عليك أن تتحمل عواقب غضب الرب.” فأجابه ساتان: “إذا صب غضبه عليَّ سأرفع عرشي فوق نجوم السماء وأغدو نداً للعلي.” فلما سمع الرب ذلك منه أمسك به ورماه خارج دائرة السماء فهوى باتجاه الأرض، وتبعه حشد كبير من الملائكة الذين شجعهم تمرده على إظهار ما كتموه في أنفسهم من حسد لآدم ورفضٍ لسموه عليهم. ومنذ تلك اللحظة صارت عداوة بين الشيطان والإنسان.كتاب اليوبيلياتاليوبيليات، أو الخمسينيات، كتاب منحول مطول يعيد سرد سفر التكوين التوراتي والأجزاء الأولى من سفر الخروج بأسلوب مختلف، فهو يكثف ويختصر أحياناً، ويسهب ويضيف عناصر قصصية جديدة في أحيان أخرى. وهو يعود في زمن تأليفه إلى القرن الأول الميلادي أو ما قبله، لأن أجزاءً منه وجدت مكتوبةً بالعبرية بين نصوص قمران. وقد وصلت إلينا ترجمات لاتينية لعدد من أجزائه، ولكن النص الكامل محفوظ باللغة الإثيوبية التي نُقل إليها في زمنٍ ما بين القرن الرابع والقرن السادس الميلاديين، وهو يشكل جزءاً من كتاب العهد القديم الإثيوبي. والنص موضوع على لسان الملاك الذي يملي على موسى سفر التكوين.لايركز كاتب اليوبيليات على المسائل اللاهوتية المتعلقة بنهاية الزمن ومملكة المسيح والحياة الأخرى، ولكنه يركز على المسائل اللاهوتية المتعلقة بعالم الملائكة وعالم الشياطين. وهو يتميز بتقديمه لأول مرة فكرة استرحام الملاك الساقط للرب لكي يؤجل عقابه إلى يوم القيامة ويعطيه مهلة في هذا العالم لكي يمارس نشاطاته الشريرة.ففي اليوم الأول من أيام التكوين خلق الرب الملائكة مع خلق السماء والأرض، وجعلهم في مراتب وطبقات لكل منها وظائف معينة. وعندما انتهت مرحلة التكوين وأخذ البشر يتكاثرون على وجه الأرض، رأى فريق من الملائكة الساهرين أن بنات الناس حسنات، فرغبوا بهن وهبطوا من السماء متخلين عن طبيعتهم الروحانية واتخذوا لأنفسهم زوجات من البشر، فأنجبت النساء أولاداً عمالقة أفسدوا في الأرض حتى عمَّ الشر في العالم. وعندما رأى الرب أن شر الإنسان قد كثُر ندم على خلقه وقرر إفناءه بطوفان شامل لم ينجُ منه إلا نوحاً وأهله. وبعد أن تكاثر البشر مرة أخرى نشطت قوى الشر مجدداً وأخذ الشياطين المتمردون من أبناء الساهرين الساقطين تسبب الأذى لنسل نوح، فجاء أبناء نوح إلى أبيهم وحدثوه بأمر الشياطين التي تعمي وتضل وتهلك أحفاده. فصلى نوح إلى الرب إلهه وقال: “يا إله الأرواح التي تقيم في كل جسد، أسبغ نعمتك على أولادي ولا تدع للأرواح الشريرة عليهم سلطاناً. أنت تعلم ما فعله ملائكتك الساهرون آباء هذه الأرواح في أيامي، وما فعله من بقي من هذه الأرواح. فلتوقع بهم وتقودهم إلى مكان الحساب ولا تتركهم يعيثون فساداً بين أبناء خادمك ولا تدع لهم سلطاناً على قلوب الأحياء.”فأمر الرب ملائكته أن يوثقوا الشياطين جميعاً، ولكن رئيسهم الإبليس مستيما مثل أمام الرب وطلب منه ألا يهلك الشياطين جميعاً بل يترك له قسماً منهم لمساعدته على متابعة أعماله الشريرة من خلالهم، لأنه إذا لم يبق له منهم أحد لا يستطيع بسط سلطانه على أبناء البشر، لأن شر البشر في رأيه عظيم وهم منذورون للضلالة قبل صدور حكم الخالق على إبليس. فاستجاب الرب لطلبه وأمر أن يبقى عُشر الأروح الشريرة مع مستيما وأن ينزل التسعة أعشار الباقية إلى مكان الحساب. ثم أمر واحداً من الملائكة أن يعلم نوحاً وأولاده كل طرق الشفاء من شر الشياطين.بعد ذلك يدخل يهوه في علاقة معقدة مع إبليس فهو يقيده ليكف أذاه أحياناً، ثم يطلقه ليتابع مهامه الشريرة في أحيان أخرى. كما نجده يعهد إليه بأعمال كان قد نفذها بنفسه في سفر التكوين الرسمي. ففي قصة موسى وفرعون نقرأ تنويع كتاب اليوبيليات الخاص كما يلي:”ولقد انتصب الرئيس مستيما أمامك يا موسى وحاول تسليمك ليد فرعون. كما أنه ساعد سحرة مصر الذين مارسوا سحرهم أمامك… ولكن الرب ضربهم بقروح رديئة ومنعناهم من إتيان معجزة واحدة. ولكن الرئيس مستيما لم ينخذل بل استجمع قواه وأهاب بالمصريين أن يلاحقوك بكل جيوشهم وبكل عرباتهم وخيلهم، ولكني حِلْت بين المصريين وإسرائيل وخلصنا إسرائيل من يد فرعون… وفي الأيام الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر، كان الرئيس مستيما مقيداً ومحجوزاً خلف بني إسرائيل لكي لا يلاحقهم ويوقع بهم. وفي اليوم الثامن عشر حللنا قيوده مع أتباعه لكي يساعد المصريين في ملاحقة إسرائيل، فشدد عزيمة المصريين وقوَّاهم ثم قيدناه مجدداً لكي لا يتهم بني إسرائيل يوم يستعيرون من أبناء المصريين آنيةً وثياباً… فلم يُخرج بني إسرائيل عراة من مصر.”وعلى الرغم من أن يهوه في اليوبيليات يستخدم الشيطان على هواه فيقيده آناً ويطلقه آناً آخر، إلا أن الشيطان كان يظهر مقدرته على خداع يهوه. ومن ذلك ما حصل لإبراهيم عندما أمره الرب أن يضحي بابنه إسحاق، وعندما هم إبراهيم بالامتثال للأمر افتدى الرب الذبيحة بكبش، مما هو مذكور في سفر التكوين 22. أما في كتاب اليوبيليات فنجد أن الشيطان يأتي إلى يهوه ويشككه في إخلاص إبراهيم له، ويقنعه أن يخضعه للتجربة والامتحان ليرى ما إذا كان الرب أحبَّ إليه من أي شيء آخر. وعندما امتثل إبراهيم للأمر وهم بذبح ابنه تأكد الرب من خشية إبراهيم وإخلاصه، وسمع إبراهيم صوتاً من السماء يقول له: لاترفع يدك إلى الغلام لأني عرفت الآن أنك تخشى الرب فلم تضن عليه بابنك البكر
لاهوت إبليس- الملاك الساقط في المسيحية
على عكس الأسفار التوراتية المنحولة التي عرضنا لبعضها في المقالات السابقة، فإن أسفار العهد الجديد لا تقدم لنا رواية متسقة ومطردة عن منشأ الشيطان وسيرة حياته، وإنما مجرد إشارات تستند إلى الأسفار التوراتية المنحولة التي سبق وأن شرعت ببناء لاهوت الملاك الساقط قبل انتشار المسيحية. فالشيطان في العهد الجديد هو صاحب مملكة للشر تسود في هذا العالم. ويقارن إنجيل متى بين مملكة الشيطان هذه ومملكة الله التي ستبنى على أنقاضها بظهور يسوع المخلص (متّى 24:12-28). فللشيطان سلطان على هذا العالم قد دُفع إليه من قبل الخالق مؤقتاً وهو يتصرف به كما يشاء إلى حين تحقيق ملكوت الرب. فعندما أخذ الشيطان يسوع ليجربه في البرية مدة أربعين يوماً بعد أن اعتمد على يدي يوحنا المعمدان: “أصعده إبليس إلى جبل عالٍ وأراه ممالك المسكونة في لحظة من الزمان وقال له إبليس: لك أعطي هذا السلطان كله ومجدهنَّ، لأنه إليَّ قد دُفع وأنا أعطيه لمن أريد. فإن سجدت أمامي يكون لك الجميع…” (لوقا 5،4- 8).بسبب هذا السلطان لإبليس على العالم، فقد دعاه إنجيل يوحنا برئيس هذا العالم. ولكن رئاسته تتضعضع مع مجيء يسوع. يقول الإنجيل على لسان يسوع: “الآن دينونة هذا العالم. الآن يُطرح رئيس هذا العالم خارجاً. وانا إن ارتفعت عن الأرض أجذب الجميع إليّ.” (يوحنا 31،12). ودعاه بولس الرسول في رسائله بإله هذا الدهر لما له من سلطان قبل ظهور المسيح: “ولكن إن كان إنجيلنا مكتوماً، فهو مكتوم في الهالكين الذين فيهم إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين لئلا تضيء لهم إنارة مجد إنجيل المسيح.” (2 كورنثه، 3:4-4).يتخذ الشيطان من النفس الإنسانية والمجتمع الإنساني مجالاً رئيسياً لنشاطه. يشبهه بطرس الرسول بأسد يزأر على الدوام باحثاً عن فريسته: “اصحوا، واسهروا، إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمساً من يبتلعه، فقاوموه راسخين بالإيمان” (1 بطرس، 5: 8-9). وهو يرسل زبانيته لتسكن في أجساد الناس وتسبب لهم أعراض الصرع والجنون (متى 34:9، مرقس 17:9-27). وهو يجرب الناس ليوقعهم في الخطيئة (1 كورنثه 5:7). وهو وراء الخطيئة الأصلية (رومه 12:5 و 7:7). ومنذ أن أُخضع آدم وحواء لسلطته فقد أخضع الجنس البشري لصولته الظالمة (إفسوس، 1:2-3). لقد حققت قيامة المسيح هزيمة إبليس بالفعل، ولكن المعركة لن تنتهي تماماً إلا عند آخر مشهد من مشاهد تاريخ الخلاص، وذلك في يوم الرب عندما يبيد المسيح في قدومه الثاني كل قوة ورئاسة وسلطان لإبليس ويسلم الملك للأب (1 كورنثه، 24:15-28).أما عن أصل الشيطان ونشأته فإن الإشارات المقتضبة في العهد الجديد تنسج على منوال الفكر التوراتي المنحول: فالشياطين هم ملائكة ساقطون عصوا وأخطأوا، على ما نفهم من رسالة بطرس الثانية 2، 4-5: “لأنه إن كان الله لم يشفق على ملائكة قد أخطأوا، بل في سلاسل الظلام طرحهم في جهنم وسلَّمهم محروسين للقضاء…إلخ”. وفي رسالة يهوذا 6 نقرأ: “الملائكة الذين لم يحفظوا رياستهم بل تركوا مسكنهم، حفظهم إلى يوم الدينونة العظيم بقيود أبدية تحت الظلام.” هؤلاء الملائكة الساقطون هم جند إبليس الذي تبعوه بعد عصيانه وصاروا ملائكة له، على ما نقرأ في إنجيل متى 25، 31-41: “… ثم يقول للذين عن يمينه تعالوا يا مباركي أبي لترثوا الملكوت المعد لكم… ثم يقول أيضاً للذين عن اليسار اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته.”هذه نبذة عن المعلومات التي يمكن استخلاصها من العهد الجديد عن الشيطان ومملكته ودوره ونهايته؛ وهي غير كافية من أجل إعادة بناء لاهوت واضح عن هذه الشخصية على الرغم من كل الأهمية التي أُسبغت عليه باعتباره رئيس أو إله هذا العالم. ذلك أن مؤلفي العهد الجديد كانوا في البداية يتوجهون إلى مؤمنين نشأوا في بيئة ثقافية مطلعة تمام الإطلاع على الفكر التوراتي المنحول، ولديهم فكرة عن لاهوت إبليس الذي أسس له ذلك الفكر. ولكن انتشار المسيحية خارج بيئتها الأولى هذه قد دعا العقيدة المسيحية لأن تتقدم بلاهوت متسق ومتكامل عن الشيطان. وهذا ما فعلته ابتداءً من القديس أوغسطين، وساهم به تدريجياً عدد من كبار اللاهوتيين المسيحيين، وقاد إلى تكوين لاهوت إبليس باعتباره ملاكاً عاصياً طُرد من السماء بسبب عصيانه، وهبط إلى الأرض مع من تبعه من الملاكئة. وعلى الرغم من انطلاق لاهوت إبليس المسيحي من الفكر التوراتي المنحول الذي استمد منه معظم عناصره، إلا أنه صاغ هذه العناصر بما يلائم العقيدة المسيحية، على ما سنراه في العرض المختصر التالي:منذ الأزل لم يكن سوى الله، وجود مكتمل قيوم بذاته أزلي غير مخلوق، جوهره النور. وكان هذا الوجود بطريقة غامضة وسرية ثلاثة في واحد وواحدا في ثلاثة، هم الأب والابن والروح القدُس. منذ الأزل كان الابن يصدر عن الأب، والروح القدس يصدر عنهما، فهم ثالوث مجيد وإله واحد. عندما يتأمل العقل هذه السرمدية السابقة على الخليقة يصعب عليه تكوين صورة صادقة عن الحقيقة الواحدة المثلثة، لأن الابن- الكلمة لم يكن بعد قد تجسد في يسوع، ولم يكن الروح القدس قد هبط في صورة حمامة نارية معلناً بنوة يسوع للأب، ومتابعاً حضوره الفعال في توجيه البشرية نحو الخلاص.منذ عصور لا بداية لها كان الابن موضع حب الأب ومسرته، وكان الروح القدس بمثابة الحب الذي يغلق الدارة بينهما؛ فهم دارة حب مكتملة لم ينقصها شيء، ولم تكن بحاجة لأن يصدر عنها شيء، لأن أي خلق آخر لن يرقى إلى حالة تمامها واكتمالها وغناها عما عداها. غير أن دارة الحب الإلهي قد فاضت حتى جاء وقت أراد الله فيه أن يخلق ما سواه، وذلك بحرية مطلقة ودون سبب ملزم؛ فكان أول ما صدر عنه، وبأمر من كلمته الخالقة، عالم من الأرواح الصرفة مصنوعة من طبيعة النار هم الملائكة، الذين توضعوا في تسع طبقات توزعت على تسعة أفلاك نورانية تحيط بمركز النور الأسمى. وكان أقرب هذه الطبقات إلى الله طبقة الكيروبيم، وهم أرواح المعرفة، ليس لهم جسم وإنما رأس فقط عليه جناحان. يليها طبقة السيرافيم، وهم أرواح الحب، لهم جسد وستة أجنحة، يليهم حملة العرش وهم عجلات كرسي الرب، لهم أربعة أجنحة وأربعة وجوه. هذه هي المراتب الثلاثة العليا من الملائكة. أما المراتب الثلاثة الوسطى فهي السيادات والسلاطين والقوى، وتتوسط بين المراتب الثلاثة القريبة من الرب والمراتب الثلاثة الأخيرة الموكلة بشؤون العالم، وهم الأمراء والرؤساء وجمع الملائكة. فالأمراء هم الأبعد عن الشؤون التفصيلية وموكلون بحفظ النظام الكوني، والرؤساء هم الأقرب إلى الأرض وموكلون بتسيير أمور الإنسان وعالمه، وهم القيمون على جمع الملائكة الذين يشكلون المرتبة الدنيا.وأسفار العهد الجديد تذكر أربعة من هؤلاء الرؤساء وهم ميكائيل ورفائيل وأوريئيل وجبرائيل. فميكائيل هو رئيس جمع الملائكة طراً المتوضعين في المرتبة الدنيا، وهو رسول قضاء الله وأحكامه، وله مهمات حاسمة في يوم الدينونة، فهو سيدخل في الصراع الأخير مع إبليس ثم يقيده ويرميه في هاوية الجحيم، وهو الذي يمسك بيده ميزان الحساب الأخير. أما جبرائيل فهو رسول الرحمة الإلهية والبشارة الطيبة، وهو الذي حمل بشارة الحبل المقدس إلى مريم العذارء. وأما رفائيل فهو ملاك الصحة وحامل الشفاء للمرضى، وأما أوريئيل فهو نار الله ورسول النبوءات ومفسر مشيئة الله في عقول المختارين من أنبيائه وملهميه. ولقد كرس الله لكل فرد من البشر ملاكاً حارساً من ملائكة الفئة الواسعة الدنيا مخصصة لحراسته وحمايته من قوى الشر والظلام منذ يوم مولده، وهو يمده بحكمة وحب الأب الأعلى، كما يحمل إلى السماء صلواته.لقد جاء خلق الله هذا كاملاً وكأفضل ما يكون الكمال الذي يلي كمال الله. ثم إن الله لم يضنّ على الملائكة بإحدى خصائصه وهي خصيصة الحرية، والحرية تعني الاستقلال والتسيير الذاتي دونما جبر أو إكراه، لأنه بدون الحرية لن يكون للملائكة القدرة على الحب الذي لا يمكن منحه إلا عن رغبة وطواعية. والحب هو جوهر وجود الله وينبغي أن يكون أيضاً جوهر وجود خلقه الكامل. على أن الحرية ليست بدون محاذير، لأن من هو حر في أن يحب حر أيضاً في أن يكره، وما إن تُمنح هذه الحرية لايمكن التحكم في كيفية استخدامها إلا بإلغائها. ولقد عرف الله محاذير هبته للملائكة، وعرف أيضاً أن هبة الحرية سوف يُساء استخدامها من قبل البعض، ولكنه قبِل المخاطرة لأن ما كان يخطط له من خلق عظيم يجعل من مثل هذه المخاطرة أمراً مبرراً.والآن. من بين جميع الملائكة المقربين من الطبقة العليا كان المدعو لوسيفر (أي حامل الضياء) أجملهم وأروعهم خلقاً، وكان أفضل ما يمكن لصنعة الله البديعة أن تخلقه، فظن لإعجابه بنفسه وزهوه بكماله أنه يستحيل على الله أن يخلق من هو أكمل منه وأعلى شأناً.عندما صحا لوسيفر من العدم، بهرت أبصاره أنوار المجد فغطى وجهه بجناحيه، ثم راح مأخوذاً يحدق إلى مركز النور العظيم، يسبح بحمد الله وينشد مع بقية الملائكة المقربين مجد الله وعظمته. وكلما حدق لوسيفر أعمق فأعمق إلى لُجة الضياء ومركز الثالوث الأقدس، صار يشارك العلي رؤى المستقبل ويتوحد بعلمه للماضي والمستقبل، فشعر بالسعادة الغامرة والروعة البالغة لمثل هذه المشاركة. إلى أن جاء وقت عرف فيه أن الله يُعِدُّ خطة لخلق جديد، ويعد فيه مكاناً أعلى وأسمى من مكان الملائكة المقربين لكائن مختلف عنهم مصنوع من مادة كثيفة لا ترقى إلى ماهيتهم النورانية، هو الإنسان.رأى لوسيفر ذلك بعين بصيرته، فتملكته الضغينة وملأت الأذية روحه ووجدانه، ففضل مجده الملائكي على القصد الإلهي والمشيئة العلوية، ونوى التمرد والعصيان بحرية تامة رغم علمه الأكيد بما سيجره عليه عصيانه من عواقب وبما ينتظره من لعنة أبدية. ولكنه فضل السقوط واللعنة على فقدان عزته ومجده الملائكي، وإظهار الخضوع لكائن أقل منه نورانية وروحانية. وهكذا أدار لوسيفر وجهه عن نور الله رافضاً المشاركة في خطة الخلق القادمة ونتائجها، وأدبر ففر نحو الشفق الخافت حيث الوجود يلامس العدم، وتبعه عدد كبير جداً من الملائكة الذين وقفوا في صفه وارتأوا رأيه، فقادهم جميعاً بعيداً عن دائرة الرحمة حيث وضعوا أنفسهم في خدمة العدم بدلاً من خدمة الوجود، وراحوا يتحفزون من أجل تخريب خطة الخلق، وإفساد الإنسان الذي كرَّمه الله وفضله عليهم. وهكذا تحول لوسيفر إلى إبليس، الملاك المظلم. وتحول ملائكته إلى شياطين، فنظَّمهم في تسع طبقات سفلية تناظر الطبقات التسع العلوية التي جاؤوا منها.وهكذا ظهر الشر على المستوى الروحاني، ولكنه مازال شراً مشلولاً عاجزاً، يتولد ويتلاشى في عالم الظلمة الخارجية، ينتظر خلق العالم المادي وسيد ذلك العالم لينقض عليه ويثأر منه.فوق مياه الغمر العظيم، وهو المادة البدئية التي تنطوي على ممكنات الكون المقبل، كان العالم الروحاني يتماوج في اتساقه وكماله: الثالوث المقدس في المركز وحوله تسعة أفلاك تتوضع فيها آلاف مؤلفة من الأرواح الملائكية. ثم عمد الأب بواسطة كلمته (= اللوغوس- الابن) إلى خلق العالم في ستة أيام، وكان الإنسان آخر ما خلق. فقد جبل الله آدم من تراب الأرض ثم نفخ فيه من روحه فصار آدم نفساً حية. وبذلك تم التجسد الأول للحق في الخلق؛ أما التجسد الثاني فسيكون في يسوع المسيح الذي حملت به مريم من الروح القدس، فهو آدم الثاني.كان آدم تجسيداً للكمال الإنساني الذي أراده الله، وهو على الرغم من جبلته المادية فقد وُلد خالداً مثل الملائكة لا يطاله الفناء، وكان مثلهم أيضاً حراً مستقل الإرادة. ثم غرس الله في عدن، في وسط الأرض، جنة تماثل الجنة السماوية وأسكن فيها آدم، ثم خلق من ضلعه حواء امرأته. أمر الله آدم وحواء أن يأكلا من شجر الجنة إلا شجرة معرفة الخير والشر، فعاشا في انسجام تام مع الطبيعة التي كانت تمدهما بما يحتاجان إليه دون عمل، إلى أن تدخل إبليس وجاءهما على هيئة أفعوان فأغوى حواء بالأكل من الشجرة فأخذت من ثمرها فأكلت ثم أطعمت زوجها. وبذلك حلت اللعنة على إبليس وعلى الإنسان وعلى عالم الطبيعة برمته، لأن الإنسان كان رأس هذا العالم وسيده، فأخرجه من الجنة إلى الأرض التي جُبل منها، ليعمل فيها ويشقى ثم يموت ويعود إلى التراب الذي خُلق منه. وبسقوط الإنسان سقط معه العالم بأكمله وانفصل عن مجد الله، وأُسلم إلى يد الشيطان في انتظار قدوم المخلِّص.إن الفترة الفاصلة بين السقوط وميلاد يسوع، هي إذن فترة ترقب وانتظار للمخلص الذي سيحرر العالم والإنسان من الظلام ومن اللعنة، وهي فترة سيادة الشيطان على العالم، فهو كما رأينا رئيس هذا العالم وإله هذا الدهر، وهو مع زبانيته رؤساء وسلاطين وولاة على هذا العالم وعلى ظلمة الدهر. في هذه الفترة الوسيطة من التاريخ العالم مدان والإنسان مدان لأنهما شريكان في سر الشر الذي يعمله الشيطان خلال هذا الدهر. وكل مولود إنساني واقع تحت سلطان أمير الظلام ورازح تحت لعنة الخطيئة الأصلية التي جلبها آدم على ذريته. والإنسان مدعو في كل خطوة يخطوها إلى الخطيئة، ولكن الله ترك للإنسان منفذاً من الخطيئة إن هو أصغى إلى صوت الخير الذي ينبعث من داخله. ولهذا يدعو المؤمن ربه عند كل صلاة أن ينجيه من الشيطان ولا يوقعه في الخطيئة. “لا تُدخلنا في تجربة ولكن نجنا من الشرير.”ولكن الله كان يُضمر منذ البداية خطة لتخليص الإنسان دون الإخلال بمبدأ الحرية الذي ارتضاه للوعي المستقل عنه. سوف يهبط الأقنوم الثاني في الثالوث ليغدو إنساناً لأمد معلوم، فيدخل في زمن الناس وفي دورة الحياة والموت، ليخلص خلقه من اللعنة القديمة، ثم يموت على الصليب في الجسد. وهكذا كان عندما افتدت الذبيحة الإلهية، وهي القربان الكامل، الإنسان فخلصته من الموت الذي جلبته خطيئة آدم، وفتحت أمامه بوابة الأبدية

لاهوت إبليس- الملاك الساقط في الإسلام
يصف القرآن الكريم الحالة السابقة على الخلق والتكوين في الآية السابعة من سورة هود: “وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وكان عرشه على الماء، ليبلوكم أيكم أحسن عملاً.” فقبل ظهور العالم لم يكن سوى الماء والعرش وخالقهما. ثم خلق الله السماوات والأرض على ستة مراحل متتابعة. وأما هدف هذا الخلق فهو الإنسان الذي أخلفه الله في الأرض ليُظهر جدارته بهذه الخلافة، ويمارس عمله الحر الخلاق من خلال خصيصة الحرية التي وهبه إياها الله تعالى.لاتعطي الآيات الكريمة المتعلقة بالخلق والتكوين جدولاً زمنياً لتتابع أعمال الخلق والتكوين، وإنما يكتفي معظمها بالحديث عن خلق السماوات والأرض إجمالاً في ستة أيام واستواء الخالق بعد ذلك على العرش. ومنها: “الذي خلق السماوات والإرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش. الرحمن فاسأل به خبيراً”.- الفرقان 59. وأيضاً: “ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وما مسَّنا من لُغوب.”- ق 38. وكلمة لُغوب الواردة في هذه الآية تعني التَعَب. وفي هذا على ما يبدو تصحيح لما ورد في توراة اليهود من أن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع الذي هو يوم السبت. على أننا نفهم من آيات معينة أن الله قد خلق الأرض وما عليها أولاً ثم خلق السماء، ومنها: “هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات، وهو بكل شيء عليم.”- البقرة 29. أما عن خلقة بقية مظاهر الكون والطبيعة فقد تم خلال هذه الأيام الستة وما من إشارة إلى ترتيب معين في أسبقية الظهور.وقد جاء خلق الله هذا تاماً وكاملاً، وسيبقى كذلك إلى اليوم الموعود. فالعالم كله حَسَنٌ وخيّرٌ يسير وفق الخطة التي وصفها الله له، ولا سلطة من أي نوع للشيطان عليه: “الذي أحسن كل شيء خلقه.”- السجدة 7. “فتبارك الله أحسن الخالقين.”- المؤمنون 14. “ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت.”- المُلك 3. “وكل شيء عنده بمقدار.”- الرعد 8. “الشمس والقمر بحسبان.” – الرحمن 5. “والسماء رفعها ووضع الميزان.” – الرحمن 7.لا تفيدنا آيات الخلق والتكوين عن ترتيب ظهور الملائكة في خطة الخلق، ولكننا نعرف أنها كائنات سماوية ذات قوى متفوقة تحيط بعرش الله: “وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم.” – الزُّمر 75. ولهؤلاء الملائكة عدد متنوع من الوظائف؛ منهم رسل بين السماء والأرض: “الحمد لله فاطر السماوات والأرض، جاعلٌ الملائكة رُسُلاً.” – فاطر 1. وقد ذكر القرآن من أسماء الملائكة: جبريل (= جبرائيل)، وميكال (= ميكائيل)، ومالك. والجن هم فريق آخر من الكائنات غير المادية خلقها الله قبل خلق الإنسان: “ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون، والجان خلقناه من قبلُ من نار السموم.” – الحجر: 26-27. وتعبير نار السموم هنا يعني النار الصافية التي لا يخالطها دخان، ومثله تعبير مارجٍ من نار: “وخلق الجان من مارجٍ من نار.” – الرحمن 15. وهذا يعني أن الجن مخلوقون من نار غير أرضية، فهم طاقة صافية بدون أجسام. ومع ذلك فإنهم يسكنون المجال الأرضي. وينقسمون إلى شعوب وقبائل شأن البشر.بعد أن فرغ الله من خلق السماوات والأرض عزم على خلق الإنسان، فأطلع الملائكة على نواياه، ولكنهم أبدوا تحفظاً على هذه الخطوة لأنهم رأوا أن هذا المخلوق الجديد سوف يكون فاسداً وميالاً إلى سفك الدماء. فقال لهم ربهم إنه أكثر منهم علماً ويعرف تماماً نتائج ما يفعل: “وهو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات، وهو بكل شيء عليم. وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة. قالوا: أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك؟ قال: إني أعلم ما لا تعلمون.” – البقرة 29-30. وهنا نستطيع المقارنة مع نص الهاجادة العبراني الذي اقتبسنا منه في المقالة السابقة، عندما استطلع الخالق رأي رؤساء الملائكة فيما هو مُقدم عليه من خلق الإنسان، فجاءت مشورتهم سلبية لأنهم رأوا أنه سيكون ميالاً إلى النزاع والقتال. فقال لهم: “ما نفع وليمة معدة بعناية وفيها كل الطيبات إذا لم يكن هنالك من يتمتع بها.” وفي ذلك إشارة إلى ما خلق الله على الأرض وهيأها لاستقبال الإنسان.ثم خلق الله آدم من تراب الأرض الممزوج بالماء، مثلما تُصنع الآنية الفخارية: “ولقد خلق الإنسان من صلصال كالفخار.” – الرحمن 14. “إنا خلقناهم من طين لازب.” – الصافات 11. والطين اللازب هو الطين اللزج الرخو. وكذلك الحمأ المسنون: “ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون.” – الحجر 26. وقد تولى الله خلق آدم بيده لا بكلمته الخالقة، تكريما له وتشريفاً، على ما نفهم من خطابه اللاحق لإبليس: “قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي؟” – سورة ص 75. وهنا نستطيع المقارنة مع نص الهاجاده أيضاً، عندما مد الرب يده واغترف أربع قبضات من تراب جهات الأرض الأربعة، ثم عجنها وسواها إنساناً.وبعد أن انتهى الخالق من صنع جسد آدم نفخ فيه من روحه ليهبه الحياة: “وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ثم سواه ونفخ فيه من روحه.”- السجدة: 7-9. وبذلك صار آدم نفساً حيةً، يجمع في تركيبه عنصرين، الأول مادي ينتمي إلى الأرض، والثاني روحاني ينتمي إلى عالم الألوهة. وهنا نستطيع المقارنة مع نص سفر التكوين التوراتي، ومع بقية الأدب التوراتي المنحول الذي يتحدث عن خلق الإنسان. فقد ورد في سفر التكوين 7،2: “وجبل الرب الإله آدم تراباً من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة الحياة فصار آدم نفساً حيةً.”هذا التكوين الخاص الجامع بين المادة الظلامية والروح الإلهية، هو الذي جعل آدم مميزاً على بقية الكائنات الحية ومفضلاً حتى على الملائكة و الجن. ولكي يظهر الله فضل آدم عليهم فقد علَّمه أسماء جميع مخلوقات الأرض ثم عرضهم على الملائكة لينبئوه بأسمائهم فعجزوا، ولكن آدم فعل ذلك: “قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم قال: ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض؟” – البقرة 31-33. وهنا نستطيع المقارنة مع نص سفر التكوين التوراتي حيث ورد: “وجبل الرب الإله من الأرض كل حيوانات البرية وكل طيور السماء، فأحضرها إلى آدم ليرى ماذا يدعوها، وكل ما دعا به آدم ذات نفس حية فهو اسمها. فدعا آدم بأسماء جميع البهائم وطيور السماء وجميع حيوانات البرية.” ولكن نص الهاجادة هو الأنسب للمقارنة مع النص القرآني لأنه يحتوي على العناصر نفسها. فلكي يثبت الرب للملائكة تفوق آدم عليهم، جمع كل حيوانات الأرض وعرضها عليهم زوجاً زوجاً لينبئوه بأسمائها ولكنهم عجزوا. ثم عرضها على آدم بعد أن أوحى إليه بأسمائها، فنطق بها. ونلاحظ هنا الإضافة المتميزة الذي قدمها نص الهاجادة على سفر التكوين التوراتي، والتي تتمثل في تحدي الرب للملائكة أن ينبئوه بأسماء كائنات الأرض، ثم تعليمه آدم تلك الأسماء قبل أن يدعوه إلى عرض علمِه على الملائكة. وهذه العناصر هي التي عادت للظهور في النص القرآني.بعد أن أثبت الله للملائكة تفوق آدم عليهم أمرهم بالسجود له، فصدعوا بما أُمروا إلا واحداً منهم أخذته العزة الملائكية والغرور، وفضل العصيان على إظهار الاحترام لمن اعتبره أقل منه مكانةً في سُلَّم الخلق، وجوهر التراب الذي خلق منه آدم لا يسمو على الجوهر النوراني الذي خلق منه الملائكة. وكان اسم ذلك الملاك إبليس: “وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين.” – البقرة 34. “قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك؟ قال: أنا خير منه، خلقتني من نار وخلقته من طين. قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها، فاخرج إنك من الصاغرين.” – الأعراف 12-13.عند ذلك استرحم إبليس ربه أن يؤجل عقوبته إلى يوم الناس الأخير عندما تجزى كل نفس بما عملت، فيعطيه الله هذه المهلة الطويلة، فيأخذ على نفسه عهداً بالانتقام من آدم الذي تسبب في سقوطه، ومن ذريته إلى يوم الدين، وذلك بإغوائهم وحرفهم عن طرق الله ليكون مأواهم جهنم وبئس المصير: “إذ قال ربك لملائكة إني خالق بشراً من طين، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين. فسجد الملائكة أجمعون إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين. قال: يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي؟ أستكبرت أم كنت من العالين؟ قال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين. قال: اخرج منها فإنك رجيم، وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين. قال: رب فانظرني إلى يوم يبعثون. قال: فإنك لمن المُنظرين إلى يوم الوقت المعلوم. قال: فبعزتك لأغوينهم أجمعين. إلا عبادك منهم المخلَصين. قال: فالحقُّ، والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين.” – ص 71-85. “قال: أنظرني إلى يوم يبعثون. قال: إنك لمن المُنظرين. قال: فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم، ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، ولا تجد أكثرهم شاكرين. قال: اخرج منها مذءوماً مدحوراً، لَمَن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين.” – الأعراف 14-18.لا يوجد أي لَبس في هذه الآيات بخصوص شخصية إبليس، فهو واحد من الملائكة عصى أمر السجود لآدم. لأننا عندما نقول: جاء التلاميذ كلهم إلا أحمد، فإن أحمد هذا لا يمكن أن يكون مدير المدرسة أو أوحد أساتذتها بل هو أحد التلاميذ. والبنية اللغوية في هذه المواضع من القرآن الكريم واضحة في دلالتها ولا تحتمل التأويل. ومع ذلك فقد وردَ في القرآن إشارة إلى أن إبليس كان من الجن: “وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا، إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه.” – الكهف 50. وهذا من متشابهات القرآن التي لا أود الدخول في مناقشتها في هذا الحيِّز الضيِّق.فيما يتعلق بتكبر إبليس واستعلائه على آدم، وما يتبع ذلك من سقوطه وتحوله إلى شيطان، نستطيع المقارنة مع ما ورد في اللاهوت المسيحي عندما عرف لوسيفر (على ما أوردناه في المقالة السابقة) أن الله يُعد خطة لخلق كائن جديد مصنوع من مادة كثيفة لاترقى إلى ماهيتهم النورانية، ففضل لوسيفر مجده الملائكي على القصد الإلهي، وعلى الخضوع لكائن أقل منه روحانية ونورانية، فأدار ظهره للسماء وتبعه عدد كبير من الملائكة الذين ارتأوا رأيه، فقادهم نحو الشفق الخافت حيث الوجود يلامس العدم، وأخذوا على عاتقهم مهمة إفساد الإنسان الذي فضله الله عليهم. ولكن الأسفار التوراتية المنحولة تقدم مادة أصلح للمقارنة مع النص القرآني بسبب احتوائها على عنصر السجود لآدم، وعلى وجه الخصوص “سفر حياة آدم” الذي عرضنا له في مقالة سابقة، حيث يقص إبليس على آدم قصة طرده من الفردوس قائلاً: “عندما نفخ الرب في أنفك نسمة الحياة دعا ميكائيل جميع الملائكة وقال لهم: اسجدوا لصورة الرب كما أمر، وكان ميكائيل أول الساجدين. وعندما حثني على السجود قلت: لن أسجد لمن هو أدنى مني مرتبةً. فلما سمع الرب قولي ثار غضبه علي وأنزلني من مرتبة المجد مع أتباعي وطردنا من مقرنا العلوي إلى الأرض”. وهنا يضيف نص الهاجادة قول إبليس: “لقد خلقتنا من ألقك وبهائك، فكيف تأمرنا أن ننطرح أمام من خلقته من تراب الأرض؟” وهذا القول يشبه في شكله ومضمونه قول إبليس في سورة ص: “أنا خير منه، خلقتني من نار وخلقته من طين.” وقوله في سورة الإسراء: “أأسجد لمن خلقت طيناً؟”وفيما يتعلق بالتماس إبليس تأجيل عقوبته إلى يوم يبعثون لتكون لديه فرصة كافية لإغواء بني آدم، وحصوله على المهلة، نستطيع المقارنة أيضاً مع الأسفار التوراتية المنحولة، وعلى وجه الخوص مع كتاب اليوبيليات الذي عرضنا له في مقالة سابقة، حيث ورد: “فأمر الرب ملائكته أن يوثقوا الشياطين جميعاً، ولكن رئيسهم الإبليس مستيما مثل أمامه وطلب منه ألا يهلك الشياطين جميعاً، بل يترك له قسماً منهم لمساعدته على متابعة أعماله الشريرة، فاستجاب الرب لطلبه.”بعد هذه الأحداث، أسكن الله آدم في الجنة ثم خلق منه زوجة له. ولكن الرواية القرآنية لا تنص على خلق المرأة من ضلع آدم، على ما تقول به الرواية التوراتية، ولا تطلق عليها الاسم حواء: “يا أيها الذين آمنوا اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها” – النساء 1. “ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكُلا منها حيثُ شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين” – الأعراف 19. “فقلنا يا آدم إن هذا (= الشيطان) عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى. إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى، وإنك لا تظمأ فيها ولا تضحى.” طه: 117-119. ولكن الشيطان جاء إلى آدم ووسوس إليه مزيناً له الأكل من الشجرة: “فوسوس إليه الشيطان قال: يا آدم هل أدُلك على شجرة الخُلد ومُلك لا يبلى؟ فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما وطفِقا يخصفان عليهما من ورق الجنة… قال: اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو. فإما يأتينكم مني هدىً فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكاً.” – طه: 120- 124.وفي آيةٍ أخرى يوسوس الشيطان إلى الزوجين لا إلى آدم وحده: “فوسوس لهما الشيطان ليُبدي ما ووري عنهما من سوءاتهما، وقال: ما نهاكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملَكَين أو تكونا من الخاسرين. وقاسمهما إني لكما من الناصحين، فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة. وناداهما ربهما: ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين؟ قالا: ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. قال: اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين.” – الأعراف: 20-24. ولكن رحمة الله ترافقت مع غضبه، فما لبث حتى غفر للإنسان خطيئته: “فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه. وقلنا: اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين. فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم.” – البقرة 36-37.على الرغم من أن قصة سقوط الإنسان في الرواية القرآنية تحتوي على جميع العناصر التي تقوم عليها الرواية التوراتية في الإصحاح الأول والثاني من سفر التكوين، إلا أنها تنفرد برؤيتها الخاصة لمعنى ومغزى القصة. فالشيطان قد وسوس لآدم أولاً، ثم إلى الزوجين معاً. ثم إن الاثنين قد أكلا من الشجرة المحرمة، دون الإشارة إلى أن المرأة كانت البادئة بالأكل والمحرض عليه. وبذلك فقد برأ القرآن المرأة من التحريض على المعصية الأولى، وألقى اللوم على الطرفين معاً. ثم إن الله لم يلعن الإنسان بسبب معصيته ولم يلعن الأرض بسببه كما هو الحال في الرواية التوراتية، بل تاب عليه وطرده إلى الأرض ليعمرها ويعمل فيها، مثبتاً أهليته لمغفرة ربه من خلال متابعة مقاومته للشر عبر التاريخ إلى اليوم الموعود: “ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين.” – البقرة 36. “فإمَّا يأتينكم منى هدىً فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون” – البقرة 38-39. وهذا يعني أن مفهوم الخطيئة الأصلية غير موجود في العقيدة القرآنية، وأن نسل آدم لم يرث خطيئته لينوء بها عبر تاريخه، وإنما هو قادر على تحقيق خلاصه من خلال الإيمان بالله تعالى ومحاربة الشر الذي يبذره الشيطان.ومن ناحية أخرى، فإن عصيان إبليس واتخاذه جانب الشر ليس العنصر الأكثر أهمية في صيرورة التاريخ. فالشر لا يصدر عن إبليس بقدر ما يصدر عن النفس الإنسانية الحرة والواعية: “ونفس وما سوَّاها، فألهمهما فجورها وتقواها. قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دسَّاها.” – الشمس: 7. فمهمة الشيطان تنحصر في تأييد النوازع الشريرة في نفوس الذين انحازوا بحرية إلى الشر: “ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزَّا” – مريم: 83. “ومن يَعْشَ عن ذكر الرحمن نقيّض له شيطاناً فهو قرين.” – الزخرف 36. أما الذين آمنوا واتخذوا جانب الخير فليس للشيطان إليهم سبيل: “إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، إنما سلطانه على الذين يتولونه وهم به مشركون” – النحل: 99-100. “إن عبادي ليس لك عليهم سلطان، إلا من اتبعك من الغاوين” – الحجر 42. “ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين. وما كان له عليهم من سلطان” – سبأ: 20-21. “إن عبادي ليس لك عليهم سلطان، وكفى بربك وكيلاً.” – الإسراء: 61-65.خلال المرحلة الثانية من التاريخ، التي تبتدئ بسقوط الإنسان وطرده إلى الأرض، ينشط إبليس وجنوده فيُضلون ويُفسدون. ولكن الله الأمين على عهده ووعده يتابع صلته بالبشر ليجنبهم مهاوي الشيطان: “ولقد أرسلنا رسُلنا بالبينات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان، ليقوم الناس بالقسط.” – الحديد 25. “قد جاءكم الحق من ربكم، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها.” – يونس 108. “لقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت.” – النحل 36. ولكن هذا الصراع المفتوح بين الخير والشر لن يستمر إلى ما لا نهاية، لأن الزمن يسير نحو نهاية محتومة، ومقررة سلفاً في صلب خطة الخلق: “وما خلقنا السماوات والأرض إلا بالحق وأجل مسمى” – لقمان 29. “إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين.” – الدخان 40. ولسوف ترجح كفة الخير في الهزيع الأخير من التاريخ، الذي يتوج بيوم القيامة.والهزيع الأخير من التاريخ يبتدئ بالبعثة المحمدية التي توجهت للناس كافةً لا لقوم معين من الأقوام: “ما كان محمد أبا أحد من رجالكم، ولكن رسول الله وخاتم النبيين.” الأحزاب 40. “وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً” – سبأ 28. “هو الذي يُنزِّل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور.” – الطلاق 11. لقد بينت الرسالة المحمدية لجميع الناس، وللمرة الأخيرة، الحد الواضح بين الهدى والضلالة. وما زال هناك وقت للاختيار قبل أن يأتي يوم الفصل: “لا إكراه في الدين. قد تبين الرشد من الغي. فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله، فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها.” – البقرة 256. ولسوف يشهد الهزيع الأخير من التاريخ فلاح القصد الإلهي في تخليص البشر: “إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً.” – النصر 1-2. أما من بقي وليه الشيطان فموعده الساعة، يوم تتم هزيمة الشيطان وجنده وأتباعه: “سيُهزم الجمع ويولون الدُبُر. بل الساعة موعدهم، والساعة أدهى وأمرُّ.” – الفجر 46. “ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون.” – المجادلة 9
الشيطان كخالق للعالم: مقدمة في الغنوصية
الغنوصية مذهب فضفاض لايقوم على إيديولوجيا دينية متحجرة، أو دوغما مذهبية. وقد بدأت بواكيره في الظهور مع مطالع القرن الأول الميلادي، بتأثير من الفسلفة الأفلاطونية الوسيطة، والتعاليم الهرمزية المنسوبة إلى شخصية غير تاريخية هي هرمز المثلث العظمة. وهذه التعاليم الهرمزية مبثوثة في ثماني عشرة رسالة تمثل نوعاً من الغنوصية المبكرة، صاغها على ما يبدو عدد من المؤلفين الذين ينتمون إلى أخوية روحانية ألفت بينهم وجمعتهم على حب المعرفة. يظهر في الرسائل الهرمزية عدد من الأفكار الرئيسية المؤسسة للغنوصية، وأهمها مثنوية الإنسان وانقسامه إلى جزء مادي وآخر روحاني؛ حيث يمثل الجسد كل ماهو مادي ومظلم وفانٍ، ويمثل العقل (الذي يتطابق مع الروح) كل ماهو نوراني وحقيقي وخالد؛ وهو الذي يقود في النهاية إلى الخلاص من سجن المدة، وتُجسد فعالياته سعي الروح إلى الانعتاق، ودعوتها إلى العوالم النورانية العليا، إلى الله الذي تدعوه النصوص الهرمزية بالأب الكلي.جاءت تسمية الغنوصية – Gnosticism من الكلمة اليونانية غنوص- Gnosis التي تعني المعرفة الحدسية الباطنية، أو العرفان بمصطلح التصوف الإسلامي. فالعارفون هم الغنوصيون- Gnostics الذي يتواصلون مع الحقيقة من خلال بصيرتهم الداخلية، أما الآخرون فهم غير العارفين، الذين يقفون عند ظاهر التعاليم الدينية ولا ينفذون إلى حقيقتها الباطنية. فإذا كان الطريق إلى الجنة يتمثل عند اليهود في الالتزام بأحكام الشريعة، ولدى المسيحيين في الإيمان بيسوع المسيح مخلَّصاً، فإن الخلاص عند الغنوصيين يتأتى عن طريق فعالية روحانية داخلية، تقود إلى معرفة النفس؛ وفي أعمق مستوياتها تقود إلى معرفة الله ذوقاً وكشفاً وإلهاماً. هذه المعرفة هي التي تحرر الروح الحبيسة في إطار الجسد المادي والعالم المادي الأوسع، لتعود إلى مصدرها حيث كانت قبل الهبوط.خلال الفترة المبكرة لانتشار المسيحية في مصر وبلدان الهلال الخصيب، تحولت جماعات غنوصية عديدة إلى المسيحية، ونتج عن ذلك تيار غنوصي مسيحي عبَّر عن عقيدته من خلال أدبيات غنوصية غزيرة، بينها أناجيل صُنِّفت بعد ذلك بين الأناجيل المنحولة. ولقد نافست هذه الغنوصية المسيحية في كل مكان المسيحية التقليدية، وشكلت تهديداً للكنيسة الناشئة، قبل أن تتلاشى إثر حملة قمع شاملة قادتها الكنيسة منذ القرن الرابع الميلادي، أدت إلى إتلاف معظم المخطوطات الغنوصية، وأما ما تبقى منها فقد ضاع أثره تدريجياً بعد فترة لابأس بها من التداول السري. لهذا فقد بقي المهتمون بالتأريخ للفكر الغنوصي يعتمدون على ما كتبه آباء الكنيسة في معرض نقدهم للغنوصية، وما أوردوه من مقتطفات أمينة من كتبها الأساسية. ولكن في عام 1945 تم اكتشاف مكتبة غنوصية في موقع نجع حمادي بمصر، احتوت على اثنتين وخمسين مخطوطة مخبأة في جرار فخارية، ويعود تاريخها إلى نحو عام 400 للميلاد، وهي ترجمة قبطية لنصوص مكتوبة باليونانية ترجع إلى تواريخ أبكر من ذلك بكثير. وقد صدرت الترجمة الإنكليزية الكاملة لهذه المكتبة في مجلد واحد ضخم أشرف على تحريره J.M. Robinson عام 1972 تحت عنوان “The Nag Hammadi Library”. وهو مرجعنا في كل المقتبسات التي نوردها في هذه المقالة.قبل أن نشرع في بسط عقائد الغنوصية المسيحية وعرض بعض من أهم الأساطير التي حاولت عرض أفكارها من خلالها، لابد من التوقف عند شخصية فكرية ولاهوتية مهمة هي مارقيون الذي يشكل مرحلة وسيطة بين المسيحية التقليدية والمسيحية الغنوصية.ولد مارقيون في منطقة بونتوس على البحر الأسود في أواخر القرن الأول الميلادي، وانتمى في مطلع شبابه إلى المسيحية القويمة، ولكنه سرعان ما أخذ بصياغة عقيدته الخاصة المتلونة بالغنوصية، والتي تسببت أخيراً في حرمانه من الكنسية عام 144، فنظَّم لنفسه كنيسة خاصة شكلت في ذلك الوقت أخطر تهديد على كنسية روما. ينطلق مارقيون في تفكيره من مبدأ الفصل التام بين العهد الجديد والعهد القديم، وكان معارضاً للطريقة المسيحية في تأويل العهد القديم لجعله متلائماً مع العقيدة الجديدة. وإله العهد القديم يهوه ليس الأب السماوي الذي بشر به يسوع، بل هو الإله الخالق، أو الديميرج باللغة اليونانية، الذي صنع العالم المادي الناقص، وصنع الإنسان أيضاً وفرض عليه الشريعة التي كانت بمثابة لعنة، على حد تعبير بولس الرسول. هذا الإله الحقود والمنتقم (على حد تعبير مارقيون) لا يستحق الطاعة والعبادة التي يطلبها، وهو ليس أباً ليسوع كما يعتقد المسيحيون القويميون. أما الله الحق فهو الأب السماوي الذي يدعوه مارقيون بالإله المتعالي والإله المجهول؛ وهو لا يتدخل في أحداث العالم لأنه ليس صانعه؛ ولم يفعل شيئاً إلا إرسال ابنه يسوع المسيح الذي هبط من السماء إلى هذا العالم السقيم والتافه، وصلب من أجل الإنسان الذي أحبه وأراد له الخلاص. فلقد ظهر المسيح فجأة وهو يُعلم ويُبشر بملكوت الروح، فظنه بعض اليهود المسيح القومي المنتظر، كما أن تلاميذه أنفسهم لم يفهموا المغزى الحقيقي لرسالته. ونظراً لجهل يهوه بقيمة المخلِّص فقد دفع به إلى الصلب.اعتمد مارقيون إنجيلاً واحداً فقط هو إنجيل لوقا، بعد أن حذف منه قصة ميلاد يسوع وسلسلة النسب التي تربطه بالملك داود، واعتمد إلى جانبه عشر رسائل لبولس اعتبرها أصلية. وبذلك كان مارقيون أول من وضع كاتالوجاً معتمداً للعهد الجديد. ولكي تواجه كنيسة روما النفوذ المتزايد لفكر مارقيون، فقد أسرعت من ناحيتها لوضع أول كاتالوج رسمي للعهد الجديد، وذلك نحو عام 180م.على أن ما يجعل مارقيون في نقطة الوسط بين المسيحية القويمة والمسيحية الغنوصية هو توكيده على عنصر الإيمان المسيحي؛ فهو لم يقدم للمؤمنين وعداً باستنارة الروح، بل بمباركتها عن طريق شفاعة ابن الله المتعالي، بينما يقوم المعتقد الغنوصي على العرفان لا على الإيمان. لقد قال يسوع في الأناجيل الرسمية: “من آمن بي وإن مات فسيحيا.” وقال: “أنا هو الطريق والحق والحياة، ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي.” أما في الأدبيات الغنوصية، فإن المسيح ليس وسيطاً للخلاص بل هو رمز لمعرفة الحقيقة بالكدح الشخصي. ففي إنجيل توما الغنوصي قال التلاميذ ليسوع: “أرنا المكان الذي أنت فيه، لأنه من الضروري أن نبحث عنه.” فقال لهم: “من له أذنان فليسمع. هنالك نور داخل إنسان النور، من شأنه أن يضيء العالم. ولكن إذا لم يضء فلا شيء سوى الظلمة.” مثل هذا القول يوجه ذهن المريد إلى ذاته الحقيقية، وخبيئته التي تنطوي على طاقة هائلة، وإلى النور الداخلي الذي يساعده على اكتشاف طريقه بنفسه.وفي “كتاب توما المنافح” قال يسوع: “من لم يعرف نفسه لم يعرف شيئاً، ولكن من عرف نفسه حقق معرفة بأعماق الكل.” وفي نص “حوار المخلّص” لدينا مثال على طريقة يسوع في تحويل السائل إلى نفسه ليجد عندها الجواب. فقد سأله أحد التلاميذ أن يريهم مكان الحياة حيث النور النقي. فأجاب يسوع: “من عرف نفسه منكم فقد رآه. وسأله آخر: “من الذي يبحث ومن الذي يكتشف؟” فأجاب يسوع: “إن من يبحث عن الحقيقة هو الذي يكتشفها.” وفي نص “بيان الحقيقة” يقول المؤلف: “إن المريد هو في الواقع تلميذ عقله الخاص، وهو الذي يكتشف أن عقله هو أبو الحقيقة، ويعرف ما يتوجب عليه معرفته من خلال التأمل الباطني الصامت.” فيسوع الحي بالنسبة إلى الغنوصيين ليس إلا رمزاً لمعرفة الحقيقة، وهو لا يدعوك إلى الإيمان به بل إلى الإيمان بنفسك وبقدراتك الكامنة الكفيلة بتحقيق خلاصك. وفي هذا ما يذكرنا بقول البوذا لأولئك الذين يبحثون عن شفاعة الكائنات الإلهية من أجل الخلاص: “يا أيها الإنسان أنت صديق نفسك، فلماذا تبحث عن صديق آخر؟”إن بؤس الشرط الإنساني يعود إلى الجهل لا إلى الخطيئة الأصلية التي تقول بها المسيحية القويمة. فالبشر في هذه الحياة هم في حالة غفلة ونسيان وعدم إحساس بذواتهم الحقيقية. يقول المعلم فالينتينوس في “إنجيل الحقيقة”: “إن الوجود أشبه بالكابوس. فالنائم يرى أحياناً أنه يسقط من جبل عالٍ، أو تطارده الوحوش المفترسة، أو يلاحقه قاتل، أو يطير في الهواء بغير جناح، ولكنه حين يستيقظ من نومه يتلاشى كل ذلك. وهذا هو حال أهل العرفان الذين تخلصوا من جهلهم مثلما يتخلص النائم من كابوسه، تاركين حياة الجهل مثلما يترك من أفاق من نومه لليل أحلامه وكوابيسه، مقبلين على عالم جديد يتلاشى فيه الجهل مثلما يتلاشى الظلام أمام نور الصباح.”هذا السعي نحو الاستنارة يتطلب الكفاح ضد مقاومة داخلية هي أشبه بالرغبة في البقاء على حالة النوم ورفض الصحو. يقول المعلم سيلفانوس في نصه المدعو بالتعاليم: “قم من هذا النوم الذي يثقل عليك، اصح من الغفلة التي تملؤك بالظلام. لماذا تطلب الظلام مع أن النور متاح لك؟ الحكمة تناديك ولكنك تطلب الحماقة. الإنسان الأحمق يتبع طريق الرغبات والشهوات ويغرق في مستنقعها، إنه مثل سفينة جانحة تدفعها الرياح في كل اتجاه، أو مثل حصان جامح بلا فارس، يحتاج لجاماً هو الرشد. قبل كل شيء اعرف نفسك… اعتمد على مرشدك الذي هو العقل، ومعلمك الذي هو الرشد… عش وفق ما يمليه عليك عقلك… اكتسب القوة لأن العقل قوي… أنر عقلك… أشعل النور الذي في داخلك… اقرع على باب ذاتك وامش عليها كما تمشي على درب ممهد ومستقيم، فإذا مشيت في هذا الدرب فإنك لن تضل أبداً.”فالغنوصية معتقد خلاص، وكل مفاهيمها وتصوراتها الكونية تتلخص أخيراً في مفهوم واحد عن التحرر والانعتاق. ولكن الخلاص الغنوصي لن يتأتى من خلال الطقوس والعبادات الشكلانية، إذا لم تترافق مع العرفان. إن الصراع الرئيسي الذي يخوضه الإنسان هو صراع بين العرفان الذي يقود إلى الخلاص، وبين الجهل الذي يبقيه في دورة الميلاد والموت، كلما بلي جسمه وآل إلى الفناء تقمصت روحه جسداً آخر، وهكذا إلى ما لا نهاية إذا لم تفلح في الانعتاق. من هنا فإن الحكمة القديمة المنقوشة على جدار معبد دلفي في اليونان والمؤلفة من كلمتين هما “اعرف نفسك”، تتخذ أهمية مركزية في كل النُظُم القائمة على العرفان. فلقد استخدمتها الأفلاطونية وفسرتها بمعرفة النفس الإلهية في داخل الإنسان؛ وكذلك الهرمزية التي نقرأ في إحدى رسائلها: “إن الله الآب الذي جاء منه الإنسان هو نور وحياة. فإذا عرفت أنه نور وحياة وأنك صدرت عنه، فسوف تستعاد إلى الحياة مرة أخرى.”فعلى عكس الزرادشتية وبقية النظم الدينية التي تبشر ببعث أجساد الموتى في اليوم الأخير، فإن البعث الذي تبشر به الغنوصية هو بعث الأرواح، إنه خلاص من الجسد ومن العالم في آن معاً، لا من الخطيئة ومن الذنوب. وإذا كان من مفهوم عن الخطيئة الأصلية في العقيدة الغنوصية، فإنه سقوط الروح في عالم المادة، وإذا كان هنالك من مفهوم عن التوبة، فإنه وعي الإنسان للقبس الإلهي الذي في داخله، وبحثه عن الوحدة المفقودة. مع انبعاث هذا الوعي تبتدئ الروح رحلة خلاصها وانعتاقها، ويتحول الموت من بوابة تؤدي إلى القبر أو إلى دورة تناسخ جديدة، إلى بوابة تؤدي إلى العالم الروحاني الأعلى.وفي هذا يقول مؤلف العمل الغنوصي المعروف بعنوان “رسالة في البعث”: “إن الوجود الإنساني هو نوع من الموت الروحي، أما القيامة فهي لحظة الكشف والاستنارة التي تنقل العارف إلى عالم جديد. وإن من يصحو على هذه الحقيقة يغدو حياً من الناحية الروحية. إن باستطاعتك الانبعاث من عالم الموتى هنا والآن. هل أنت مجرد جسد فانٍ؟ هلا تفحصت نفسك ووعيت بأنك قد قمت من بين الأموات.” أي إن من حقق العرفان قد بُعث من الموت قبل أن يموت، وما عليه سوى انتظار واقعة الموت التي تنزع عنه رداءه المادي وتحوله إلى روح منعتقة. وفي هذا يقول إنجيل فيليب الغنوصي: “إن من يعتقد أن عليه أن يموت أولاً ثم يُبعث هو على ضلال، لأن بمقدوره أن يبعث وهو حي.” لذلك قال يسوع في إنجيل توما الغنوصي: “هذه السماء ستزول، والتي فوقها ستزول. ولكن الذين هم أموات لن يحيوا، والذين هم أحياء لن يموتوا.”إن إنكار القيامة العامة للموتى في نهاية الزمن، يستتبع عند الغنوصيين رفضهم لمفهوم التاريخ الدينامي الذي يسعى إلى نهاية معينة يتخلص عندها العالم من بذور الشر التي زرعها فيه الشيطان، ليغدو نقياً وكاملاً كما كان في البدء. فالعالم ليس خيِّراً في أصله بل هو شر من حيث الأساس، والتاريخ لا يسعى إلى غاية وليس له معنى، وما على الإنسان إلا الهروب من العالم ورفضه بدلاً من انتظار نهايته السعيدة، لأن الروح الحبيسة في الجسد لن تنعتق إلا من خلال الغنوص، وما الجسد إلا ثوباً نرتديه لفترة مؤقتة ثم نتخلص منه إلى الأبد. وهذا ما دعا الغنوصيين إلى احتقار الجسد واعتبار وظائفه غير مهمة بالنسبة للكائن الروحاني. قال يسوع في إنجيل توما: “إنني أعجب لهذه الثروة العظيمة (= الروح) تقيم في هذا الفقر المدقع (= الجسد).”إن الصراع ضد شهوات الجسد يقع في صميم الأخلاق الغنوصية. والغنوصيون يرون أن الأخلاق السائدة في المجتمع هي أخلاق براغماتية. فالذي يعمل بقاعدة “لا تسرق” يفعل ذلك لكي لا يتعرض هو نفسه إلى السرقة، والذي يعمل بقاعدة “لا تقتل”، يفعل ذلك لكي يحمي نفسه من القتل، والذي يعمل بقاعدة “لا تزن” يفعل ذلك لكي يحمي نساءه من الرجال الآخرين. إن مثل هذه النواهي الواردة في الشرائع الدينية ليست بالنسبة للغنوصي أخلاقاً حقيقية، والالتزام بها لا ينشأ عن تلمس حقيقي للخير الكامن في النفس الإنسانية وإنما عن الخوف. أما الأخلاق الغنوصية فتنشأ عن الحرية التي يحققها الغنوص للإنسان، وعن اكتشافه لمصدر الخير الأسمى في داخله. فالمعرفة تحقق كمال الإنسان، والكامل لا يستطيع إلا فعل الخير بعيداً عن الخوف وعن الطمع. إن الأب النوراني الأعلى لا يطلب من الإنسان إلا أن يعرفه في داخله، وعندما يعرفه يغدو حراً وكاملاً وخيّراً. ومَنْ شأنُه كذلك لايرتكب الخطيئة.فيما عدا الغنوصية المانوية التي تحولت على يد معلمها ماني خلال أواسط القرن الثالث الميلادي إلى ديانة مؤسساتية ذات إيديولوجيا ثابتة وتنظيم كنسي مراتبي، فإن الفكر الغنوصي عامة لم يطور إيديولوجيا دينية موحدة ومنمطة، وبقيت الفرق الغنوصية أشبه بالطرق الصوفية الإسلامية التي يتبع كل منها شيخاً ذا نهج خاص، على اشتراكها جميعاً بالأفكار العامة الرئيسية. ولقد قاد تعدد المدارس الغنوصية وتوكيد معلميها على حرية الإبداع، إلى خلق تيارات فكرية غنوصية لم تنتظم أبداً في كنيسة واحدة ذات هيكلية مراتبية، تفرض عقيدة يُعدّ الخروج على واحد من بنودها هرطقة وخروجاً عن الإيمان القويم. هذه التيارات لم تتصارع ولم يستبعد بعضها بعضاً، وإنما تعاونت وأغنت بعضها بعضاً، ووجدت في التنوع إثراءً لفكرها المشترك. من هنا فإن الغنوصية لم تعتمد نصوصاً مقدسة بعينها، ونظرت إلى نصوصها باعتبارها مقاربات للحقيقة الكلانية، لا تعبيراً حرفياً عن هذه الحقيقة التي لا يمكن إداركها إلا من خلال تنويعات رمزية اتخذت في الغالب لديهم شكل الأساطير.على أن أهم ما يميز المسيحية الغنوصية عن المسيحية القويمة هو اعتقادها على طريقة مارقيون بأن عالم المادة الذي يتخلله الشر ليس من صنع الله الأب النوراني الأعلى، بل من صنع الشيطان الذي هو يهوه بالذات إله التوراة. وهذا ما سنتابعه في مقالة تالية
موقع الآوان

* جون برچر: كاتب، نشرَ بالأمس القريب كتاباً عنوانه “من الألف إلى الياء”  De A à X– عن دار شجرة الزيتون L’olivier باريس 2009.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى