صفحات الناسوهيب أيوب

باب الحارة وشبّاك “أم محمود”

null
وهيب أيوب
لستُ هنا بصددِ الرّد على السيدة “أم محمود” وما كتبته في موقع دليلك بعنوان “بناتنا واللبس القصير والسهر لآخر الليل” فـ “أم محمود” جزء من تلك المجتمعات العربية التقليدية التي تحمِل ذات القيم والعادات والتقاليد والثقافة والدين، التي يطلقون عليها منظومة القيم الأخلاقية.
ونلحظ جميعاً موجة من التشدّد والتعصّب الديني والطائفي تجتاح تلك المجتمعات تصل إلى حدّ الوباء. وبالطبع فإن الفريسة والضحية الأولى لهذا التعصّب هي المرأة أو الأنثى، بحيث يسهُل تحميلها وِزر فشل هذا المجتمع الذكوري الأبوي، وعدم مقدرته على تحقيق أي تقدّم على المستوى الإنساني والحضاري في هذا العالم. فيعيد نتيجة قصوره وجُبنه وتقاعسه إلى البحث في دفاتره القديمة، ليجد ببساطة أن السبب هو تراجع تلك المنظومة الأخلاقية التي ذكرناها وأن المُسبّب هو المرأة. ولهذا يسعى إلى إعادتها إلى بيت الطاعة من جديد وسلبها شخصيتها وحريتها التي لم تنَل منها إلا الجزء اليسير. ومسلسل “باب الحارة” وهو المسلسل الأسوأ والأكذب في الدراما السورية، خير نموذج لهذا الطرح في محاولة لاستعادة تلك الثقافة، التي كانت بالأصل السبب الرئيسي في تخلّف وتقهقر تلك المجتمعات، وفشلها حضارياً على مستوى العالم.
وسبب موجة التدّين تلك، لا يُمكن إيعازها إلى عودة الناس للتديّن أو الإيمان، لأن الإيمان لا يمكن أن يكون “صرعة”، كالموضة بحيث يقلّد الناس بعضهم بعضاً فيما يلبسون أو يقتنون، لكنه تعبير حقيقي عن الخوف من الحريّة والانفتاح، في مجتمعات تعوّدت واستمرأت الكبت والخضوع والانصياع، والامتثال لثقافة القطيع، التي تحرم الفرد حقّه في اختيار أسلوب وشكل حياته الذي يطمح ويريد  من خلاله أن يحقق ذاته المهدورة عبر مئات السنين.
ما زالت المجتمعات العربية عبر مختلف طوائفها ومذاهبها الإسلامية تنظر للمرأة على أنها عورة، وأن شهادتها تساوي نصف شهادة الرجل، وميراثها نصفه، وأنّه لا يحق لها الخروج من البيت دون مَحرَم، ويجب إخضاعها وضربها عند اللزوم، وناقِصةُ عقلٍ ودين، وأن لها عقل دجاجة، وفي السنّة حديث يقول: لا يُفسد صلاة المؤمن إلا ثلاث: مرور إمرأة أو حمار أو كلب أسود…! وأنها ضلع قاصر،  كونها بالأساس، وبحسب القصص الديني، خُلقت من ضلع آدم، ثُمّ أغوته بالأكل من الشجرة المُحرّمة، فحقًّت معاقبتها مدى الحياة، وأنها السبب في تلويث شرف العائلة.
لقد وضع هذا المجتمع الذكوري المتنافخ شرفاً كاذباً كل عاهاته وأسباب فشله، وصبّها صبّاً فوق رأس المرأة. وما أرهب تلك المجتمعات الذكورية، هو تعاظم دور المرأة وإثباتها نفسها في مجالات العمل والإبداع والعطاء في شتّى المجالات، مِما أدى للإطاحة بتلك المعتقدات الأسطورية التي تتناقض مع ما توصّل إليه العلم الحديث من حيث مقدرة المرأة. وبات الرجل العربي التقليدي يشعر بفقدان ما يعتبره ممتلكاته الخاصة الخاضعة لمشيئته.
يحلو لمجتمعاتنا وصف المجتمع الغربي، حيث نالت المرأة حقوقاً مساوية للرجل، بأنه مجتمع خليع ومنحل، وأنّه سبب كل ما نتعرّض إليه من غزوٍ ثقافي بهدف تخريب حياتنا. نقول لهؤلاء أن العِبرة في النتائج. فكيف للمجتمع الخليع المنحل هذا أن يُنتج كل تلك الحضارة ونحن فقط نستهلكها، وكيف يمكن لدولة صغيرة مثل هولندا عدد سكّانها 16 مليون أن تُنتِج أكثر مِما يُنتجه العالم العربي بكامله، البالغ أكثر من 340 مليون نسمة. ولم يرد في آخر تصنيف أُجري لأفضل 5000 جامعة في العالم اسم جامعة عربية واحدة.
لا أدري كيف تقدر أمّة أن تتفاخر بعاداتها وتقاليدها وثقافتها ودينها وسير سلفها الصالح، وتتهم الغرب بالتآمر عليها وغزوها ثقافياً، وهي في الحقيقة لا تساوي على خارطة العالم المُنتِج والمُتحضّر سوى صفر مُكعّب على الشمال.
إذاً، فالمشكلة الأساسية تكمن أصلاً في تعريف معنى الأخلاق، والدوافع التي أنتجته.
ففي الأخلاق العربية الإسلامية تشكٍّل المرأة ولباسها ومظهرها الخارجي والجنس المقياس الأهمّ للأخلاق. ولا يُعتبر كذب الرجال ونفاقهم ومداهنتهم للباطل، وممالأتهم للجور والفساد والاستبداد عاراً أو عيباً أو قلّة أخلاق..! ويكون العربي بشجاعة عنترة حين يرتكب جريمة قتل بحق أخته أو زوجته أو ربما أمّه، بسبب ما يدّعونه من حفاظ على الشرف، بينما يبات أجبن من أرنب ضعيف مغلوب على أمره حين يواجه السلطة الحاكمة وهي تسلبه حقوقه الأساسية وحقوق أولاده وعائلته، وحين يرضى بأن يُعامل بأقل مما تُعامل به الحيوانات.
الأخلاق الحقيقية التي تُسهِم في تقدّم المجتمعات ورقيّها لا تُحترم في مجتمعاتنا العربية، الصدق، الإخلاص في العمل، احترام حقوق الآخرين وحرياتهم الشخصية غير مُصانة، وكل ما يتعلّق بالمصلحة العامة ينتهكه الأفراد ويدوسون عليه دون أي وازعٍ من أخلاق.

النصب والاحتيال والمعاملة السيئة.
لماذا يدان الإنسان على لباسه ومظهره الخارجي بينما لا يُدان على قلّة حقّه وهضم حقوق الآخرين، ولا يُدان على عدم التزامه بالوعد والعهد وإيفاء الدَّين، ولا يُلام على تناقضه الصارخ بين القول والسلوك… أيّ أخلاقٍ هذه..؟
لم أقرأ لفلاسفة الأخلاق منذ عصر اليونان حتى اليوم من تحدّث عن ربط اللباس بالأخلاق، ولو بسطرٍ واحد؛ لقد ربطوا الأخلاق بسلوك الإنسان وعقله وضميره وجوهره، ومدى مساهمته بإعلاء شأن الإنسان وكرامته على صعيد حقوقه وعيشه بكرامة.
عند بعض القبائل في أفريقيا وأستراليا وآسيا ما زالت المرأة، حسب تقاليدهم، تمشي عارية الصدر دون حرج ، فهل هؤلاء منحطّون أخلاقياً، بينما هم يعملون ليل نهار لإعالة أسرهم…؟
في أمريكا تمّت محاسبة الرئيس كلينتون بسبب كذبه على الشعب الأمريكي حول علاقته بمونيكا لوينسكي وليس بسبب العلاقة ذاتها، بينما في مجتمعاتنا العربية، لا يُحاسب المسؤول لا على هذه ولا على تلك، فأين هي الأخلاق، وأين المطالِبون بها ممن يرتكبون “جرائم الشرف” وصون الكرامات..؟؟
ثم ينسى أو يتناسى هذا المجتمع الذكوري الأبوي، أن الرجل هو من يتحمّل مسؤولية أي تدهور في المجتمع في أي شأنٍ كان وليس المرأة، لأنّه هو من نصّب نفسه، قهراً، وصيّاً عليها.
العرب أشدّ الناس شبقاً وتعلّقاً بالجنس، وهم يدينونه في العلن ويمارسونه في السرّ بأسوأ مما هو في الغرب، المهم بالنسبة لهم ألا يعرف الآخرون بفعلتهم، فأين هي الأخلاق..؟ ومشاكل الفساد الأخلاقي والجنسي في مجتمعاتنا العربية لا تقلّ عنها في الغرب، الفرق أنهم يكشفونه ونحن نُخفيه، فأين هي الأخلاق..؟
وأتساءل هنا عن أي شرفٍ وكرامة وأخلاق تتحدّثون، وما الذي يريد الغرب سلبكم إيّاه من هذه الثقافة البائدة!!.
سيستقيم الوضع فقط، إذا اقتنعنا بأن المرأة كائن بشري كامل، وهي قادرة على تقرير مصيرها بيدها، وهي قادرة على التعلّم والإبداع والعمل والمساهمة بشكل خلاّق في بناء مجتمعها وأجيالنا القادمة، وأما لباسها فهي مسألة شكلية وحرية شخصية، ليست من شأن الآخرين على الإطلاق.
وما على السيدة “أم محمود” ومن يؤيّدها إلا أن يكونوا قدوة في السلوك والتعامل الحسن والصدق، وأن يلبسوا كما يحلو لهم ويتركوا شأن لباس غيرهم، فهذه مسألة قناعات وأذواق وحريّات شخصية، وبهذا يؤدون أفضل خدمة لذاتهم ولمجتمعهم.
يظن أصحاب مسلسل “باب الحارة” أنهم قادرون على إعادة الناس إلى الوراء مئات السنين، بحجّة الحفاظ على الأخلاق، وإدخال الناس من ذاك الباب ثم غلق باب الحارة عليهم.
وربما تظن أختنا السيدة “أم محمود” وآخرون، من خلال شبّاكهم المُغلقة ستائره، بإمكان معاندة الواقع وجرّه إلى الوراء، لمجرّد اعتقادهم الخاطئ، بأن الأخلاق تكمُن في لباس المرأة وليس في عقلها وضميرها، وبهذا تكون “أم محمود” ضد أم محمود نفسها؛ فنتيجة لنشأتها في تلك الثقافة، تجدها تتّخذ أحياناً موقفاً “ذكورياً” لا يقلّ ذكورية عن موقف الرجل، وهذه مأساة كُبرى.
ختاماً أقول، إن الذين يظنون بأنهم يستطيعون العودة بالزمن إلى الوراء، فإن معركتهم وهمية وخاسرة كحرب دون كيشوت مع طواحين الهواء.
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى