صفحات ثقافية

النقد الصامت

null

محمد سليمان

المبدع والناقد والمتلقي أركان ثلاثة تقوم عليها وبها الحياة الإبداعية، وغياب ركن منها أو تخليه عن أداء دوره يؤدي إلى الارتباك والشلل والانهيار والفوضى، والنقد كان ومازال ركناً أساسياً ومؤثراً فهو الذي يأخذ بيد القارئ أو المتلقي إلى أعماق جديدة تكشف المكنون والمتواري وتبرز القيمة وهو في الوقت نفسه يعين المبدع على اكتشاف ذاته وطاقاته وتطوير إبداعه.

والناقد الحقيقي مسلح بالإضافة إلى الثقافة الواسعة وأدوات النقد بقدرة فذة على تذوق النص والامتلاء به والغوص فيه واكتشاف محاوره المضيئة وعناصره الأساسية والهامشية، ومن ثم قيمته ومكانته، وأظننا لم ننس الشعراء وطبقاتهم ونقادنا القدامى وقد كانوا يقارنون جيد شاعر ما بجيد زميله ويضعون أحدهم في الطبقة الأرقى لأن جيده أفضل وأكثر… كما كانوا يساندون الجديد الجيد وينشغلون بتقديمه وتسليط الضوء عليه ومد الجسور بينه وبين قارئ لا يرحب غالباً بالمختلف والغامض أو المريب.

حتى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي ظلت القيمة الفنية للنص الشعري أو النثري في قلب الاهتمام النقدي وظل النقد قادراً بالتالي على الفرز والغربلة وإبراز الجيد وإقصاء الرديء وبسبب هذا النشاط النقدي توهجت حياتنا الإبداعية في تلك الحقبة واكتظت بالمبدعين الكبار والرموز في الشعر والمسرح والقصة والرواية، وقد كانت لغة النقد في ذلك الوقت تميل إلى البساطة وتسعى إلى مد الجسور وتوسيع دوائر القراء ومخاطبة جموع المهتمين بالإبداع وقضاياه.

في أواخر السبعينيات كانت بداية الانقلاب النقدي التي رافقت ترجمة وانتشار التيارات النقدية الجديدة في الغرب، ثم رسخت المجلات النقدية هذا الانقلاب عندما انشغلت على مدى سنوات بتقديم وترويج هذه التيارات، فساهمت ربما من دون قصد في تغيير لغة النقد ووظيفته ثم أهدافه وغاياته، وكان أن اختفت اللغة البسيطة والمشعة والساعية إلى التوصيل واختراق الصمت وبناء الجسور لكي تهيمن لغة أخرى جافة ومتعالية ومهووسة بالغموض والتعقيد وموجهة إلى جماعة من الأكادميين والباحثين بحجة التأسيس النقدي ووضع نقادنا في قلب الحداثة النقدية.

وقد كان من الممكن تحقيق ذلك الهدف من دون الجور على الحياة الإبداعية ومن دون الإيغال في الجفاف والتعقيد وحشو الدراسات النقدية بالأسهم والإحصاءات والرسوم البيانية التي نجحت فقط في إقصاء القراء عن الإبداع والنقد معاً.

وأظننا نتذكر نجيب محفوظ وقوله في منتصف الثمانينيات عندما سأله البعض عن مجلة فصول النقدية التي تصدرها الهيئة العامة للكتاب «لا أفهم ما يُنشر فيها».

ثم كانت الطامة الكبرى عندما تخلى معظم النقاد عن الحديث عن القيمة أو البحث عنها مُدّعين أن النقد الحديث يهتم فقط بالوصف والتحليل بعكس النقد القديم الذي كان يتخذ من القيمة والبحث عنها وإبرازها مجالا لنشاطاته وأساساً لدوره ووظيفته، وكان هذا التحول في حقيقة الأمر قتلاً للنقد وإنهاءً لدوره وتحويل الناقد إلى مجرد لاعب بالأدوات يعلو شأنه وتتسع شهرته كلما امتلك أدوات أكثر وأحدث، ولذلك شاع في الحياة الثقافية التعبير الساخر «شنطة العِدة» للنيل من الذين قدسوا الأدوات وظنوا امتلاكها كافياً وحده لحمل لقب الناقد.

امتلاك الإنسان أدوات الرسم لا يصنع منه رساماً وامتلاكه اللغة ومعرفته بالعروض لا يجعله شاعراً وامتلاكه أدوات النقد لا يصنع منه ناقداً إذا لم يكن قبل كل شيء مسلحاً بالبصيرة وموهبة التذوق والإحساس بالعمل الفني واكتشاف القيمة مهما استترت أو توارت، والنقد عندما تخلى عن إبراز القيمة واختار لغة معقدة ومتعالية وموجهة إلى منتجيه صار نقداً أخرس لا صوت له عاجزاً عن التوجيه والتأثير واصطياد الجميل والجيد وإثراء الحياة الإبداعية ورعاية الموهوبين، كما ساهم بهذا التخلي في دعم الرداءة ومجاملتها ومنحها أحياناً جواز المرور والانتشار والهيمنة، وهذا التخلي يفسر في النهاية، ويجيب عن الأسئلة التي طرحها البعض عن شحوب الحركة الإبداعية وعجزها عن إنجاب المبدعين الكبار في ربع القرن الأخير.

كاتب وشاعر مصري

الجريدة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى