صفحات العالم

المستعمرات الفرنسية السابقة تستعرض في جادة الشانزليزيه

نهلة الشهال
انشغل المذيع الذي كان ينقل وقائع استعراض الـــوحدات الإفــــريــقـية العائدة لثلاث عشرة مستعمرة سابقة، بجمال أزيائها، وبهاء ألوانها، واسترسل في وصف التفاصيل، حتى شعر كل مستمع أنه يتصنع الخفة أو البراءة، وانه يملأ المجال بكلام ليس من ورائه خطر.ذلك أن احتفال هذا العام بذكرى الثورة الفرنسية كان إشكالياً بشكل غير مسبوق. فقد اختار الرئيس ساركوزي دعوة رؤساء 13 دولة من إفريقيا الوسطى والغربية إلى المشاركة في الاحتفال، بالحضور في المنصة الرسمية إلى جانبه، وبإرسال وحدات رمزية من جيوش تلك الدول لتستعرض في جادة الشانزليزيه. ويبدو أن الرئيس الفرنسي قد استمرأ استخدام قوة «الرمزيات» في هذه المناسبة. فهو في العام الفائت استحضر قوات أوروبية لتشارك في العرض العسكري، وأرادها رسالة معبرة عن شدة «إيمانه الأوروبي».
لكن اختيار الضيوف هذا العام حمل الكثير من قلة الذوق! فدعوة الأفارقة هؤلاء بالتحديد جاءت على خلفية أنها الذكرى الخمسون لاستقلال بلدانهم، في أيام متلاحقة من 1960. استقلالهم عن… فرنسا، وبشكل عنيف غالباً، أو في إطار من العنف الكبير الذي كانت فرنسا تمارسه وقتها، مع انتهاء حربها في «الهند الصينية» (كما كانت تسمي تلك الأصقاع، حيث مستعمراتها الأخرى) بهزيمتها، وفي عز حمام الدم الذي تسببت به في الجزائر. وحين خرجتْ في فرنسا كما في تلك البلدان اعتراضات عنيفة على الفكرة ودلالاتها، راح السيد ساركوزي ينكر الصلة بين الدعوة والذكرى الخمسين للاستقلالات، قائلاً إنهم يحتفلون باستقلالاتهم بأنفسهم وفي بلدانهم وبشكل جيد (أي أنهم ليسوا بحاجة إليه من أجل ذلك، وأنه لا يتطفل عليهم أو يصادر المناسبة). واسترسل، فقال إنه لا «يجب أن يُفهم بشكل مغلوط» (وهذا عادة اعتراف بوجود شبهة)، وأنه لا يوجد من قبله، وفي خلفية الدعوة، أي «نوستالجيا لتاريخ مؤلم ومليء بالأخطاء»، وهو يقصد الحنين إلى الاستعمار الفرنسي لتلك المنطقة! وانه إنما يرغب في التأكيد على «قوة الروابط» بين فرنسا وتلك البلدان. وراحت «قوة الروابط» تلك تتدحرج رويداً في كلماته، عشية الاحتفال ثم في نهايته، منتقلة ما بين «لدينا تاريخ مشترك» و «فلنتقبل ماضينا المشترك». هكذا! وكأن فرنسا لم تكن امبراطورية كولونيالية في تلك البلدان، بل واحدة منها، تاريخها وماضيها (إلى آخر المفردات)، يشترك ويتساوى موضوعياً مع تاريخ وماضي السنغال والكونغو والكاميرون والتشاد…
أي قدرة هذه على تمويه المعاني، وعلى إفراغها بشكل ملتبس وضمني من مضامينها؟. انه أسلوب شائع لجعل الوقائع ملساء، وهو يثير بشكل فاقع هنا مسألة كتابة التاريخ. ولكن القصد الفرنسي الرسمي من دعوة الدول الإفريقية تلك كضيف مشارك في احتفالات 14 تموز، يتجاوز مجرد اللهو، بل حتى تلك الوظيفة التزويرية. اللهو وارد كمقصد، وقد أصبح إحدى أدوات الحكم الحالي، حيث يُلجأ إلى الغرابة والابتكار والاستعراضية البراقة و«الخبريات» المثيرة لإغراق القضايا الجدية الجارية. ففي فرنسا اليوم معركة طاحنة، يجري خلالها الانقلاب على مكتسبات اجتماعية فعلية متحققة، طوراً بحجة الأزمة الاقتصادية، وطورا آخر بحجة التحديث. وفي فرنسا اليوم وضع غير مسبوق أيضاً من تردي المسلك المؤسساتي لرجال الدولة، بحيث باتت الصحف تعنون أغلفتها بين أسبوع وآخر بجمل تشير إلى الأزمة الأخلاقية القائمة، واضطر وزراء للاستقالة مؤخراً على خلفية فضائح كنا نظن أنها مقتصرة على بلداننا.
يقول الرئيس الفرنسي إن تلك كلها تهم باطلة، وتأويلات في غير محلها، وإن دعوة الدول الإفريقية من المستعمرات الفرنسية السابقة إنما كانت، وببساطة، بهدف الاعتراف بإسهام الوحدات العسكرية التي كانت تخدم تحت الراية الفرنسية في الحرب الثانية – بل الأولى أيضاً – في حماية فرنسا وتحريرها، وهي كانت وقتها «الوطن الأم»… وهذا فتح لملف مشين، إذ معلوم أن أفراد وحدات القناصة السنغاليين الشهيرة، وكذلك سائر أبناء المستعمرات الذين قاتلوا في تلك الحروب وبعضهم قضى فيها، كانوا، أو كان أبناؤهم، يتقاضون حتى… آخر أيار (مايو) الماضي رواتب تقل كثيراً عن زملائهم من… «البيض». وقد اتخذت الحكومة الفرنسية مؤخراً قراراً بتسوية هذه المسألة التي بقيت واحدة من علامات الممارسة المتعالية والعنصرية. وهذا يسجل لصالحها، لكنه يؤشر إلى مبلغ التقاعس المشحون بالدلالة. كذلك طرحت على بساط البحث واجهة أخرى من هذا المكعب. فقبل يوم من الاستعراض، جرت في باريس تظاهرة منددة به، دعت إليها منظمات افريقية معارضة، ومنظمات فرنسية وعالمية لحقوق الإنسان، على رأسها الفيديرالية الدولية التي تضم 38 فرعاً أفريقياً.
ذلك أن الرؤساء الأفارقة الحاليين المدعوين إلى التكريم، هم في الأغلب الأعم متسلطون دمويون، يمتازون بوصولهم إلى السلطة بانقلابات عسكرية وبتصفية معارضيهم، وبتنظيم مجازر بحق الناس، نظمت الفيديرالية لائحة بأبرزها، كما يمتازون بالفساد الشديد وباستغلال السلطة لمآربهم، بينما ما زالت شعوبهم بعد نصف قرن من الاستقلال، وعلى رغم الثروات الهائلة التي تختزنها إفريقيا، تموت من الجــوع والأمراض، وتسعى الشبيبة منهـــا للهرب إلى أوروبا، وتحديداً إلى فرنسا التي تصـــدهم، بينما تتحالف مع حكامهم على اقتسام المنافع. بل قال المعارضون الأفارقة والفيديرالية وتنظيمات أخرى إنهم يشكّون في وجود جلادين ملاحقين دولياً بين المسؤولين والضباط المدعوين، فرد وزير الدفاع الفرنسي بأنه… جرى التدقيق في اللوائح للتأكد من خلوها منهم!
في أواخر أيار (مايو) المنصرم، نظمت الحكومة الفرنسية مؤتمراً في مدينة نيس على ضفاف المتوسط، الذي ابتلعت مياهه ألوف المهاجرين السريين، من إفريقيا خصوصاً، فباتت أكبر مقابر العالم. كان الهدف مد الصلات أو تعزيزها بإفريقيا الانكلوفونية أيضاً، خدمة لمصالح شركات فرنسية كبرى عديدة على رأسها «توتال» النفطية و«أريفا» العاملة في مجال استخراج اليورانيوم…
وأثيرت حينها مسألة العلاقة الاستعمارية الجديدة لفرنسا (ولسواها، فهناك منافسة عالمية طاحنة في هذا المجال، وعقلية قنص مرعبة) مع إفريقيا المنكوبة. بل أثيرت مسألة المستفيد من إبقاء الفرنك الإفريقي الذي ما زال معتمداً في مربع النفوذ الكولونيالي السابق، تحت سيطرة البنك المركزي الفرنسي، كنموذج لتلك العلاقة الاستعمارية الجديدة، أو كما قيل، «لاستمرار الصلة بين الماضي والحاضر». وجرى حينها تذكر مآل الاستقلالات، وكيف صُفي قادتها من قبل المتسلطين الحاليين أو أشباههم، وكيف ما زالت إفريقيا مستغلة حتى النخاع العظمي، على حساب حياة شعوبها وآمالها في التطور.
ثيابهم مزركشة وملونة؟ لم تكن كذلك في الاستعراض، بل كانت تقلد كثيراً اللباس العسكري الأوروبي. ولكنه الخيال الاستعماري، يرى الواقع بعدسته، يساعده وجود جنود فرنسيين ارتدوا رمزياً لباساً غابراً. يا لقوة الرمز!
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى