صفحات ثقافيةعلي جازو

إخضاع النحو للعاطفة

null
علي جازو
على كلمات الشاعر أن تُخضع النحوَ لعاطفتها الجديدة، التي هي مزيج من المعاصرة النافذة والغربة المستفحلة، من العزلة التي ليست سوى اسم آخر للامتلاء بنقمة لا تجد فماً وخيبة بلا أسف، من القرب القسري الأعمى، والنأي النزيه المصطفى. على الكلمات أن تبتكر الكلمات. على الكلمات أن تمتص من الكلمات القديمة صمتَها الخصب وانزواءها المدهش، رقتها الذاوية أبداً، وشحنتها المعوقة المتألقة! على الكلمات ألا تذكّرنا بالكلمات، ولا بالقواعد التي أتلفت حياةَ الكلمات، ولا بالقصائد التي استهلكت جمال الكلمات، بل القصائد التي أغنتْ صوتَ الكلمات، الكلمات كيف أنهت عزلة الكلمات لصالح فتونها ومروقها. على الكلمات ألاّ تشبه الكلمات، على الكلمات أن تسحق بقوة ومرح الشبَهَ العام بين الكلمات والأسماء التي ليست سوى قيود حول أعناق الكلمات. على الكلمات أن تهذي- لأنها كذلك فقط- أن تنشد من الكلام صوته المفقود، غير المسموع لدى العامة، الظليل، الخرب، الخجول التالف، الغاضب المحتقن في صمت من حجر أخضر عفن، الشاذ الحسي، النابت الآن الآن الآن مثل الجوع مثل الحب مثل الحرب والرعب، النابت كضوء يغرز في بشرة ربيع داكنة. على الكلمات أن تعذّب الشاعر، وتُفقده صوابه، وتنشله عن ثقل أيّ مكان وعتمته، أن تتخلل جسده وهو يلفظها ساعةَ يكتبها، ساعة يراها؛ حتى يحصل منها عليها، لا على حقيقتها، بل على شرودها وعدم ارتوائها، حتى يستطيع ادعاء امتلاكها الآني الصعب، حتى يُسمِعَها صمتَه الأرق كما لو من قاع بئر فضية، صوتَها غير المسموع أبداً أبداً…! على الشاعر ألاّ يثق بالكلمات، عليه أن يميزها، يجادلها، يتمثلها، ويروزها ويخلخلها، يشمّها ويحضنها، ويكلّمها، ويتأملها، عليه أن يفكّكها إلى ماضيها المرئي مثل شجرة عملاقة تحجب رؤية السماء، شجرة لم تعد تعرف لا الليل ولا النهار. على الشاعر أن يعود مراراً إلى التفكير عبر الصور التي تسبق الكلمات، فالكلمات قصفٌ لأشكال الأولى، والأولى انبثاق مستمر لشكل بلا جذر ولا حدّ. الحياة انبثاق الأنفاس التي لا تعرف للكلمات محلاً غير حياتها الماضية في كل صوب. الحياة سقمٌ رائع الى درجة أن تبديد الجهد أفضل من الرضوخ لمرض بلا عناء. لا وفاق بين الشاعر والكلمات مثلما هي حال الله مع العالم، مثلما هو مآل الصمت إزاء الموت، وصوت الموسيقى أمام الحب، وليالي الحجرات الصيفية المنسية حول حقول العوالم القديمة. الشاعر كائن مجعول، والكلمات إرثه الذي لا يشبه أيّ إرث، خوفه من بقائه بلا تحوّل طيَّ جرف حجري، في المتعة الزائلة لأثر مصافحة حزين.
لم أعدْ أتحمل اللغة؛ أدوات الربط والوصل الفاترة، أحرف الجرّ الساذجة التي تُلوَى أعناقها مثل أعناق العبيد! ثمَّ هذا الخبل المريب: تشكيلُ أواخر الكلمات كما لو أنها وجوه عجائز متصابية. على الكلمات أن تخضع للأنفاس، لحمّى الجسد الواعية، للنبرة اللذيذة العميقة. أقصد خضوعها الراقص التلقائي لما هو جوهري من كلمات النفس. عليها أن تماثل الصمت الأكثر حدة وإرباكاً وحيرة وتألقاً. على الشاعر أن يمتلك في نفسه فوضى ليستطيع أن يولد على نجمة راقصة، ليقدر اقتناء الصمت الذي يمكن العثور عليه مثلاً في لوحات هيرونيموس بوش. أو العتمة القاحلة، الدقيقة حدَّ الهوس، في رسومات يوسف عبدلكي الفحمية! على لغة الشاعر أن تتركز أكثر فأكثر، أن تتصلب وتشع مثل ماسة في بنى نحوية خانقة! أعتقد أن الشاعرة سيلفيا بلاث استطاعت تحقيق ذلك بمقدرة فذة! على الشعر ألا يسمح للقارئ – الشاعر ضمناً – بالتنفّس خارج كلماته، أو النظر في القصيدة من خارجها الميت! القصيدة هي الوجود، سواء أكان هناك عدمٌ أم لا. على الشعر أن يذكّرنا دائماً بالموت – ألا تفعل الأديان ذلك دائماً؟! – الموت دائماً؛ ذاك الصمت الرهيب، أو تلك الابتسامة النادرة! الرعشة، بالكاد نجرؤ على الإصغاء إلى رنينها المكتوم! الموت؛ لأنه يذكّرنا بالصمت؛ الصمت الذي لا ينبغي نسيانه لحظة واحدة! وبإقامتنا الدائمة المستمرة في الصمت إنما نحوّله كلمات؛ كلمات لها أسى وجوه جبال هذه القرية الزرقاء؛ الأسى الذي نلمحه مساء حول جذوع الأشجار ناعساً وبارداً مثل فجر كئيب! لأن الصمت نفسه الأسى الذي على الشعر أن يتحمّل بشجاعة الإقامة في داخله مثل روح جنين داخل رحم أجمل أمّ في العالم. أتراني أتحدث عن الموسيقى لا عن الشعر؟! ما الفرق؟ أنا لا أعرف الفرق! هل من أحد يخبرني ما إذا كان هناك فرق حقاً. يا له ضرباً من الجنون، من الألم المختنق الغريق كوجهي التالف غير القادر على احتضان نظرة حبيبتي. عليَّ أن أتقبل بشجاعة، بشجاعة وحب، دفع الثمن الهائل إزاء كياني اللغوي؛ كياني الجسدي الآخر، الذي يدخر بخجل وحب ولوعة كلمات حياتي كلها؛ تلك التي أتت بي وصنعت ما لم أكنه ولا أعرفه، والتي لا أرى منها الآن سوى عاطفة بلا حدود، وشروق مطويّ مثل كتمان حالم! ¶

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى