صفحات ثقافية

عن رحيل الفنانة مها الصالح، مجـنـونــة المســرح

null
راشد عيسى
تبدو تجربة الفنانة الراحلة مها الصالح (1943) مقسومة إلى شطرين؛ الأول بدأ منذ جاءت وهي في السابعة عشرة من عمرها للدراسة في دمشق، فانضمت إلى فرقة الفنون الشعبية، التي سرعان ما غادرتها إلى العمل ممثلة في المسرح القومي الذي كان يشهد بداياته التأسيسية. وقد جمعها عملها التمثيلي الأول «دون جوان» مع الفنان أسعد فضة (زوجها في ما بعد). ثم تتالت أدوارها في المسرح القومي، أو الجاد كما يسميه كثيرون. كان زمناً ناهضاً في كل شيء، ولعل الممثلة استطاعت أن تحقق نجوميتها في المسرح الجاد، كما في السينما، خصوصاً سينما القطاع الخاص التي اعتبرها كثيرون تجارية، خفيفة، وسطحية. بل إن ثمة من يحاكم الفنانة الصالح اليوم على تلك الأعمال باعتبارها غلطتها التي عاتبت نفسها كثيراً بخصوصها، كما كتب أحد صحافيي «تشرين» الدمشقية إثر رحيل الفنانة، من دون أن يفصح عن مصدره في الحديث عن ذلك البوح والعتاب. الناقد السينمائي فاضل الكواكبي دافع عن أعمالها السينمائية الأولى بالقول: «لم تكن حالة متناقضة مع كونها واحدة من نجوم المسرح الجاد في الستينيات والسبعينيات. إن بيئتها في أداء الأدوار الكلاسيكية أو المعاصرة في المسرح القومي، وبيئتها الشخصية الرفيعة، التي هي بيئة الستينيات بامتياز، التي حضرت فيها أسماء كالشاعر الماغوط وأدونيس وخالدة سعيد وسنية صالح، لا تشكل تناقضاً مع العمل السينمائي الخفيف والتسلوي، باعتباره نوعاً من الحرية، والذي كان يُنتظر منه أن يراكم نجوم سينما». ويضيف الكواكبي «إن الفنانة لم تلعب أدوار بنت المدينة. وكانت أدوارها الأهم تلك التي تلعب فيها دور المرأة الريفية، سواء الشابة الجميلة المغرية ونموذجها فيلم «عود النعنع» في «ثلاثية العار»، أو بعد سنوات طويلة عندما اكتشفها أسامة محمد من جديد في «نجوم النهار»، و«صندوق الدنيا»…».
حضرت مها الصالح في سينما القطاع الخاص في سيتينيات القرن الفائت في الوقت الذي كان التلفزيون يخطو خطواته الأولى، وكانت الفنانة تراكم أدوارها واحداً بعد الآخر في «حارة القصر»، «أولاد بلدي»، «حكايا الليل»، «أبو كامل»، «الأميرة الشماء»، «بصمات على جدار الزمن»، و«امرأة لا تعرف اليأس»، وسواها. بعد تجربة تلفزيونية طويلة بدأت من زمن الأبيض والأسود. وبعد انطفاء سينما القطاع الخاص، وانحسار الإنتاج السينمائي الذي صار بيد مؤسسة السينما التي تنتج فيلماً أو اثنين في العام، يبدو أن العودة إلى المسرح أصبحت نوعاً من الحل. وهذا ما نقصده بالشطر الثاني من تجربة الفنانة.
حنين
منذ ثمانية أعوام عادت الممثلة الصالح لتعمل في المسرح ممثلة في مونودراما «عيشة»، مع رولا فتّال مخرجة وحكيم مرزوقي كاتباً، اللذين شكلا ما أسمياه «مسرح الرصيف». وكانت «عيشة» قدمت قبل ذلك بخمسة أعوام على يد الممثلة رائفة أحمد. مرزوقي الذي كان يحضّر مع الفنانة أخيراً لعمل نسائي مسرحي آخر هو مونودراما «شاهيناز» في إطار «دمشق عاصمة الثقافة»، والذي يحكي عن امرأة أرستقراطية دمشقية تعود إلى بيتها القديم الذي كانت تطمح لترميمه لتفاجأ بالجرافات تقتلع هذا البيت، يقول: «كان من المفترض أن نعمل معاً على إخراج النص، على أن تقوم هي بالتمثيل، وكانت لآخر لحظة وهي على فراش المرض تحكي عن المسرح، وتقدم اقتراحاتها حول «شاهيناز». ظلّت تحمل هاجس المسرح حتى اللحظة الأخيرة. والآن لعلّي أفتقد أحداً يشبهني، أفتقد أحداً عنده هذا الهوس بالمسرح». ويؤكد مرزوقي، وهو الكاتب المسرحي التونسي المقيم في دمشق، أن «لمها كل الخيارات والفرص لتبقى نجمة في التلفزيون، لكنها أصرت على المسرح، لا لحاجة، ولا لنجومية، بل كان ذلك هو خيارها وعشقها. ولولا ذلك فما الذي كان يدفعها، وهي على ما هي عليه من وضع اجتماعي ومادي مريح، لتتعذب على الرصيف، وتعيش حياتنا نحن المهمشين الذين على سفر دائم وتجوال وقلق».
بعد «عيشة» و«ذاكرة الرماد» مع «مسرح الرصيف»، أرادت الفنانة أن يكون لها فرقتها الخاصة «موال»، وفي إطارها قدمت «خطبة لاذعة ضد رجل جالس«، النص المسرحي الوحيد الذي كتبه غابرييل غارسيا ماركيز، و«آه، الأيام الحلوة» لصموئيل بيكيت، و«قبعة المجنون» للويجي بيرانديللو. وباستثناء العمل الأخير الذي اكتفت فيه الفنانة بالعمل كمخرجة فإن من البديهي أن تحضر المرأة وهمومها في تلك العروض، كان لا بدّ للشخصية النسائية من دور لأن الفنانة كانت تصرّ على التمثيل، على صعوبته في هذا العمر، وبالطبع فإن ذلك الإصرار والمثابرة يحسبان للفنانة. ومن أبرز العروض التي جالت فيها الممثلة كان «شجرة الدر» الذي كتبه التونسي عز الدين المدني خصيصاً لها، وأشرف عليه شريف خزندار مدير دار ثقافات العالم في باريس. ونالت الفنانة عن أدائها المسرحي في «شجرة الدر» الجائزة الأولى مع شهادة تقدير في مهرجان موسكو المسرحي السابع للمونودراما. مرفت رافع، المغنية وعازفة العود، التي كانت آخر من وقف معها على الخشبة في ذلك العرض، قالت: «في موسكو، عند تقديم العرض، كانت مها جبارة في تحمل المرض والتعب. تعمل بلا كلل وتكابر على مرضها الذي لم تكن تعرف ما هو آنذاك. كانت سيدة كريمة الطباع، لطيفة اللسان ودافئة. وكانت تفاجئني بإحساس موسيقي عال، ولا تتوانى عن إعطاء الملاحظات، حيث تخاف كثيراً على شغلها وتطمح دائماً الى أن يكون الأفضل».
ربما كانت تجربة السنوات المسرحية الثماني الأخيرة بالنسبة لمها الصالح نوعاً من مكافأة آخر العمر لها، هدية يهديها المرء لنفسه، نوعاً من الحنين إلى التجارب الأولى في المسرح القومي، المكان الذي احتضن خطواتها الأولى، والأخيرة.

(دمشق)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى