صفحات مختارة

تراثنا والمشاحنة الفكرية للمجتمع المدني

عبدالحسين شعبان()
استغرق الخطاب العربي الكثير من الوقت، وصرف الكثير من الجهد حول مصطلح ” المجتمع المدني”، وما زال الجدل يزداد حدة منذ أكثر من ثلاث عقود من الزمان بين العلمانيين والاسلاميين، وبين الحكومة ومعارضاتها، وبين جهات مدنية وأخرى عسكرية، وبين جماعات سياسية ومنظمات وشخصيات مدنية، بما فيها جدل الداخل والخارج أحياناً.
وينصبّ النقاش والحوار لا على المصطلح وحسب، بل وعلى أصوله ودلالاته سواءً كان حداثياً غربياً وافداً على حد تعبير بعضهم، أو له نسبٌ وحسبٌ وأصلٌ في الثقافة العربية- الاسلامية، أو ما يوازيه أو يقاربه أو يدل عليه، فبعض العلمانيين يصرّون على أن المصطلح وكل ما يتعلق به لم ينشأ إلاّ قبل قرنين ونيّف من الزمان، لا سيما في إطار نظرية العقد الاجتماعي وفقاً لما جاء به جون لوك وجان جاك روسو من بعده، ثم تطور المفهوم على يد هيغل الذي فرّق بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي “الدولة”.
واعتبر ماركس المجتمع المدني ركيزة واقعية للدولة لكونه يمثّل العلاقات المادية للأفراد، وهو مجال للصراع الطبقي رغم انه رفض فكرة مؤسسات وسيطة بين الفرد والدولة، كما اعتبر المجتمع المدني جزءًا من البنية التحتية، في حين أن غرامشي الذي طوّر أفكار ماركس بشأن المجتمع المدني، اعتبره جزءًا من البنية الفوقية عن طريق الثقافة والايديولوجيا، إذ أنه ليس فضاءً للتنافس الاقتصادي أو للصراع الطبقي، حسب ماركس، بل هو جزء من فضاء التنافس الايديولوجي والثقافي لفرض الهيمنة، خصوصاً وهو يتوسّط بين الدولة والفرد.
اما الاسلاميون فلم يركبوا مركباً واحداً فبعضهم اعتبر المصطلح وافداً وبالتالي غريباً بل ومدنساً أحياناً ومرفوضاً، ولا بد من التنديد به، على عكس العلمانيين وإن كان هؤلاء تتوزع بهم الأهواء، فمنهم من كان أميل الى الاسلاميين من أصحاب النظريات الشمولية، القومية والماركسية في النظر الى التطبيق، في حين ان الوسط العلماني الآخر، الليبرالي والديمقراطي، اعتبر المجتمع المدني مقدساً وممجداً، ولا يمكن إحداث التغيير الديمقراطي دونه ولذلك يستحق التأييد والتخليد.
وقد ذهب بعض الاسلاميين ممن وافقوا على مصطلح المجتمع المدني الى اعتبار أصله يمتد الى الثقافة العربية الاسلامية، و” إن بضاعتنا ردّت الينا”، مقابل أطروحات بعض العلمانيين التي هي أقرب الى الاغترابية، باعتقادهم انه لا يمكن احراز التقدم دون قطع الصلة بالتراث لانه عامل معوّق ومعرقل للحاق بركب الدول المتحضرة.
وبغض النظر عن حداثة المصطلح أو قدمه، ولكن كيف يمكن ان نتعاطى معه ومع مضامينه، سواءً كان عصرياً، حداثياً، غربياً، أم له أصوله في الفكر والتراث العربي الاسلامي. فهل يمكن قبوله دون خصوصية تاريخية ومجتمعية وعن طريق التقليد الأعمى، أي من دون قيد أو شرط، أم يمكن قبوله مع مراعاة الخصوصية الثقافية والقومية دون التنصل من المعايير الدولية، الكونية، الانسانية، المشتركة!!؟
ولعل بعض الأوساط الفكرية والحقوقية العربية كانت قد انشغلت بفكرة المجتمع المدني من خلال استبعاد أو شمول، أي اقصاء أو تعزيز تيارات معينة بعينها، دينية أو غير دينية من دائرة المجتمع المدني، أو من خارجها، كان هذا الأمر واحداً من التحديات التي واجهت وجود مؤسسات مجتمع مدني مستقلة ومهنية وغير منخرطة في الصراع الآيديولوجي الدائر لحساب حكومة أو جهة أو حزب أو طائفة أو اثنية، ولكن وفقاً لأجندة المجتمع المدني نفسه وليس غيره، أي كونه يقوم على وجود منظمات طوعية، غير ربحية أو ارثية أو تقليدية، وتستند علاقاتها على الديمقراطية والتعددية والتنوّع.
ان المشاحنة الفكرية الاصطلاحية المعرفية بشأن مفهوم المجتمع المدني تتجلى اليوم في الموقف من الحداثة بغض النظر عن علاقة الماضي بالحاضر، وهذه المسألة موجودة في كل المجتمعات، حيث تبلورت الحداثة وما بعدها أحياناً خارج الرغبات والارادات كمعطى يتعلق بمدى تطور كل مجتمع واستعداده للاستفادة من منجزات العلم والتكنولوجيا.
وإذا اردنا العودة الى التراث العربي الاسلامي، فعشية ظهور دولة الرسول (محمد) والدولة الاسلامية في عهد الخلفاء الراشدين، كانت هناك مؤسسات وفاعليات غطّت نشاطات واسعة اقتصادية وخدمية واجتماعية وثقافية وتعليمية كبيرة، يمكن ادراجها في إطار تكوينات جنينية للمجتمع المدني، بما فيها ما سبق الاسلام، منها “حلف الفضول” الذي يمكن اعتباره أول رابطة لحقوق الانسان لتأمين العدل وإحقاق الحق بردّه الى المظلوم.
ويعتبر المسجد النواة الاولى للنشأة الأولى للمجتمع المدني العربي، وهو تجمع مدني يقوم على المبادرة الجماعية أو الفردية وهي مبادرات طوعية مستقلة، أي أقرب الى( charity)، وتمثل عمل الافراد فيها بدون مقابل، وتطور الأمر في بعض جوانبه الى أن أصبح نظاماً يُعرف بالوقف. والعمل في المسجد أو في نظام الوقف، هو عمل لمصلحة الآخر والغير، دون مردود أو مقابل مادي، ويمكن القول أن المسجد يقوم بعدد من الوظائف، منها وظيفة الصلاة والعبادة، وهي علاقة روحية بين الانسان وخالقه، ولكن الوظائف الاخرى تتعلق بالاجتماع السياسي إضافة الى بعض الاعمال الخدمية والثقافية والاجتماعية.
وفي محيط المسجد وعلى أطرافه نشأت مؤسسات تعليمية، تطورت من حلقات نقاش وحفظ للقرآن وتفسيره الى مدارس وكليات أقرب الى الجامعات والدراسات العليا، إضافة الى ذلك عيادات طبية سميت “بيمارستان” وهي أقرب الى المستوصفات أو المستشفيات الصغيرة ومنشآت طبية أخرى، كلها بدأت نشأة استقلالية وطوعية ودون مقابل مادي، كما نشأت دور للأيتام وما سمّي بذوي الخصاصة، إضافة الى دور رعاية للمسنين، وخصوصاً المنقطعين الذين لا أهل لهم. وعلى الشاكلة نفسها وجدت المكتبات والكتب كجزء من مؤسسة ثقافية وعلمية أقرب الى المجتمع المدني بلغتنا الحالية.
ورغم أن قطاعات المجتمع المدني العربي نشأت مبكرة واستمرت كأساس للعمل الخيري التي قامت على التبرعات والصدقات لمحسنين ومتمولين وبعيدة عن السلطات، الآّ ان نشوء الدولة الحديثة أضعف من وجود واستمرار مثل هذه القطاعات المدنية التقليدية، وكان متوقعاً أن تسهم الدولة الحديثة في إيجاد مجتمع مدني حديث ومتطور والبناء على ما هو متراكم، الاّ أن سياستها المحافظة والتسلطية في ظل أنظمة شمولية واستبدادية (ثورية) وتقليدية حال دون ذلك، الأمر الذي ابتلعت فيه الدولة المجتمع المدني، وأصبح تابعاً لها أو ظلاً يتحرك بحركتها، وحصل نوع من الفراغ في ذلك، الى أن بدأت ثقافة المجتمع المدني في ظل الموجة العالمية تعود الى الظهور في العقود الثلاثة الماضية، مصحوبة هذه المرة بدعوات الاصلاح والديمقراطية والتعددية والتداولية.
لقد حمل المجتمع المدني مشكلاته معه، من حيث انخراطه أحياناً بالصراع الآيديولوجي والسياسي أو خضوعه لجهات سياسية أو دينية أو طائفية أو اثنية، أو تأثره أحيانا بأجندات خارجية لأسباب تتعلق بالتمويل، خصوصاً وان الدولة العربية الحديثة ناصبته العداء وحاولت تجفيف مصادر تمويله أو سعت لتطويعه وترويضه واحتوائه والتأثير عليه، الأمر الذي عاظم من مشكلاته، ناهيكم عن مشكلات تتعلق بالآداء وقصور بعض قياداته أو عدم قدرتها على قراءة التطورات والمستجدات السريعة، فضلاً عن تشبثها بمواقعها وشخصنتها واستخدامها بعض الاساليب التي لا تختلف كثيرا عن الحكومات.
وبغض النظر عن أصول ودلالات مصطلح المجتمع المدني حديثاً أو قديماً، فالعولمة والحداثة تفترضان في الدولة العصرية، كلما كانت قريبة من الديمقراطية، كلما كان فيها المجتمع المدني قوياً، وعلى العكس، كلما ضعفت الدولة وتشتت، تعززت فئوية وقبلية ووراثية وطائفية الجهات والجماعات التي تسعى لتعويض دور الدولة أو القيام ببعض وظائفها، أما الوجه الآخر الذي عانينا منه فهو وجود دولة قوية ومهيمنة مقابل مجتمع مدني ضعيف ومُسيطر عليه، الأمر الذي شجّع قيام الدكتاتوريات.
لعل تراثنا العربي الاسلامي كان غنياً في عزّ قوة الدولة بوجود مجتمع مدني مستقل عنها وطوعي في عمله، وهو عنصر شراكة معها وليس في حالة انتقام أو تعارض، بل يمكن اعتباره قوة اقتراح ومبادرة يتوسط بين الدولة والفرد، وهو ما نحتاج الى إعادة دوره في ظل دولة حداثية وعصرية، وعلى أساس سيادة القانون والمواطنة الكاملة في إطار الحرية والعدالة والتعددية والتداولية!

() باحث وحقوق عربي
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى