صفحات ثقافية

توريــط المجتمــع

null
خالد سليمان
ما كتبه الكاتب والشاعر عباس بيضون في (»السفير« ١٣ تموز ٢٠٠٨) بعنوان »الفوات« يثير الكثير من الأسئلة، ليس في الأوساط العراقية فقط، بل في العالم العربي بشكل عام. ذاك أن المقارنة بين البعث »العراقي« والأيديولوجيا القومية العربية من جانب، وبينه وبين الأحزاب العراقية الحاكمة والمعارضة من جانب آخر، هي مقارنة تقتضي العودة إلى المخيلة السياسية العربية، وفيها بطبيعة الحال، ظاهرة »صدام« التي بدت معالمها جزءاً حيوياً من الثقافة العربية الشعبية والسياسية .
وان الممارسة الصدامية وشخصنة الدولة أو اقتضابها في دائرة العائلة والعشيرة وكره الغير، رغم كونها قيماً مؤسسة في الحياة السياسية والسلطوية العربية، فإن »جبل الجرائم« الذي طالما اتسمت به الحالة العراقية في عهد صدام والبعث، مقترن بسياق الحالة ذاتها، ذاك بسبب استثناء العنف الإجرائي الذي أصبح هوية الدولة والحزب. ولا يمكن تالياً التقليل من بشاعتها بحجج تفيد بأنها »تمثل« من تمثلات السلطة والسياسة والحزب في العالم العربي .
ما يذهب إليه عباس بيضون في مقاله هو أن البعث وشعاراته لم يخرج من رقعة الأيديولوجيا القومية العربية المتمثلة بالتاريخ المُمَجد والنهضة …إلخ من الشعارات القومية، ويشترك الكثيرون في الرقعة ذاتها. أما ممارسات صدام حسين، وفيها، فرض حكم العائلة، فهي أيضاً ليست فكراً للبعث، بل إنها (فكر العرب وممارساتهم السياسية). تالياً، يقول بيضون: لا نعرف مــاذا نجتثّ إذا كان ما نحسبه »فكراً للبعث« هو فكـر الجميع.
إنه سؤال حرج يسأله الكاتب ويضعه في سياق سجال يُفتَرض حدوثه في الثقافة العربية قبل إلقاء اللوم على »ثقافة الإمبرياليين« والفكر المُدَرّع. ويمكن الحديث في الوقت ذاته عن نقطة جوهرية أشار إليها بيضون باقتضاب واختصار وهي المقارنة بين البعثية والنازية. فهذه الأخيرة أيضاً كانت فكراً لغالبية الأوروبيين ولم يكن الحزب النازي سوى تلخيص لأيديولوجيا دينية وقومية أوروبية استمر الإحساس بالعظمة القومية فيها لعقود طويلة قبل ظهور الكاريزما الهتلرية. ويمكن القول هنا إن التفاف الكنائس والنقابات حول حكومة الرايخ بقيادة هتلر، كان امتداداً لبيئة »نازية«، وكانت تاريخية دينياً واجتماعياً وقومياً، هرب منها بعض الأكاديميين والفلاسفة واعتمدوا العلم بعدما تخلت البيئات الفلسفية والفكرية والدينية عن وظيفتها الإنسانية والأخلاقية. تاليا، كان التخصيب الديني والسياسي في صناعة »الجماهيرية« غير المكترثة بتحطيم الفردية في دائرة »الأنا الجماعية« التي طالما تجسدت في شخص القائد »الفوهرر«. تقول بعض الأوساط الأوروبية الأكاديمية واليسارية اليوم إن هتلر استطاع شراء الألمان محاولاً بذلك الابتعاد عن السجال عن تلك البيئات العنصرية التي سادت في أوروبا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وجسدت فيها كل من ألمانيا والنمسا الحالة القصوى في تطبيع العنف مع الحياة السياسية والثقافية. وفي ذلك برأيي هروب من الإشكاليات الحالية التي تعانيها المجتمعات الأوروبية في علاقتها مع المهاجرين. لكن، نحن هنا بصدد حالة أخرى، وهي عربية وشرق أوسطية تحديداً، لا تتورع عن الإعلان عن شعارات عنصرية والوقوف ضد العلم والحداثة وإلغاء الآخر، وهي شبيهة في فن الخطابة والممارسة والسلوك بتلك التي اعتمدتها البيئات القومية والدينية الأوروبية قبل ظهور كل من الفاشية والنازية.
هناك سؤال آخر ليس أقل حرجاً مما إذا كان البعث فكراً للجميع، وهو ما هو البعث هذا، أيمكن اختصار وجوده في تلك الشعارات التي تغلبت وتتغلب على عقول غالبية العرب اليوم؟ وهل يستدعي أي تفكير من هذا النوع إبعاد هوية الحزب عن تلك السمات التي طالما اتسمت بها النازية والبولبوتية؟ وكيف تالياً نُعرّف ذلك الفكر قبل الحكم على ملكيته للجميع؟ أجدني هنا ميّالاً للجواب المقتضب ذاته الذي خلّص عباس نفسه من خلاله من الدخول إلى تلك الدهاليز العراقية التي صنع فيها البعث نموذج الإنسان الصغير إذا استعرنا تعبير الألماني »ولهيلم رايش«. أي إن البعث للجميع ولم يفت أوانه بعد، إنما بمعان لا تتصل بــ»التوتاليتارية« كوصف لحال العراق الراهن وأحزابه الطائفية والقومية والدينية كما يذهب الكاتب، فيمكن وصف الراهن هذا »باستحثال« السياسية، إنما دون التوتاليتارية التي طالما اقتضت كيمياؤها قليلاً من الحداثة. أما ذلك الإنسان الذي جعل منه نظام صدام حسين صغيراً ومتهماً ومستجدياً للسكوت والصمت، أو مورطاً ومتورطاً في قتل إنسانيته ومجرداً من ماضيه الذي طالما اعتبره البعث عرقلة أمام النهضة العربية، هو ذلك الإنسان الذي تحدث عنه العالم النفساني »رايش« وأسماه بالإنسان الصغير.
والحال هذه، يمكن تعريف البعث ليس من خلال الشعارات التي وضعها وكرّس لها آلاف الصفحات والكتب والكراريس، بل من خلال ذلك العالم الذي صنعه، وفيه، ذلك الإنسان الصغير المروض أو المورط في عنف وظيفي جرّد المجتمع من إمكانات الممانعة الذاتية. فالبعث كما يبدو في وثائقه وتاريخه وخطب رئيسه، كان مصنعاً لإنتاج مجتمع جديد لم تربطه رابطة بالمجتمع العراقي، واعتمد لذلك سياسة »الفرملة« إن جاز الاستخدام. وكان الطفل العراقي في هذا السياق مستهدفاً رئيسياً، وأخذت فكرة الهيمنة على ذاكرة الطفولة وفرملتها وفق عالم البعث المتخيل، تؤسس غرفاً للولادات القيصرية بغية صناعة الجيل المُراد. ولذلك نرى أن رياض الأطفال والمدارس الابتدائية في عراق عهد البعث تحولت إلى وسائل ترويض الصغار وفقاً لصور الأب والعم والأخ الكبير على دفاتر الرسم. وكان عالم الطفل يتكون من رسومات، تطوق فيها صور صدام والجندي والدبابة والطيارة الخيال الطفولي، وكانت المظاهرات الجماهيرية التي طالما أصبحت واجهة الحياة اليومية في العراق حقلاً تجريبياً لنقش عالم البعث في وعي الطفل.
ما أنجزه حزب البعث في العراق خلال عهده (١٩٦٨ـ٢٠٠٣) بنجاح تام، هو توريط المجتمع وأفراده في عالم مُتَخيَل قلّ نظيره في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين. نقول التوريط تحديداً، ذاك أن سياسة التبعيث الكُلية التي اعتمدها نظام صدام حسين، فشلت في أن تُكسب المواطن العراقي معنى »البعثية« الايديولوجي الكامل، وذلك باقتصارها على ملء استمارات الانتماء الحزبي كطريقة للنجاة من بطش السلطة. كما ان »التفريغ« للمعنى ذاته، والذي قوّى إمكانية السلطة في صناعة مجتمع بعثي خارج الأيديولوجيا، كان وسيلة للحفاظ على العمل والوظيفة والدراسة والحياة اليومية أيضاً.
كان نظام صدام وأجهزته الأمنية والمخابراتية والحزبية مدركاً هذه الحقيقة ولم يساوم عليها، إنما فيها، أوجد إمكانيات التوريط في مجال التجسس والوشاية والجريمة وتوجيه الاتهامات اللامبررة. وتمثل ذلك بالدرجة الأساس في اختراقات سهلة في الجسم الاجتماعي بعدما تم إخضاع الدولة للحزب ومديريات الأمن بشكل مطلق. وقد بدا اقتضاء السياسة البعثية لفكرة التوريط في المراحل الأولى مقتصراً على مستويات فردية وسرّية، إنما مع تولي المجتمع مهمة »البعثي« غير السياسي، استوجبت السياسة ذاتها أن تشمل حشوداً مورطة بدل الأفراد.
على هذا النحو، أصبح هناك مراقب على مراقب، مراقب على كل عنصر حزبي، وعلى كل عنصر أمن ومخابرات، ومراقبون على المجتمع والأسرة، وكان كل فرد بالتالي مراقباً على نفسه. ولو عدنا إلى وثائق أجهزة النظام نجد فيها ما يبرر إطلاق ما يمكن تسميته »المجتمع المُوَرّط« على المجتمع العراقي، ذاك ان النظام كان يلجأ إلى التوريط المباشر وإجبار المواطنين على التجسس أو تنفيذ مهمة أمنية أو عسكرية في حال تعذر عليه استدراجهم بشكل غير مباشر. وقد اعتمدت سياسة البعث جميع السبل المتاحة في توريط المواطنين داخل الأسرة والمدرسة والمؤسسات الخدمية والتعليمية والمهنية والعسكرية، بعدما انتفت صفة البعثية بجميع معانيها الأيديولوجية والقومية.
الجريمة العامة
إنما »التفريغ« ذاته، كان إطاراً لتجريد الجميع من المسؤولية وتوريطه في فعل الجريمة أو السكوت عنها، أي انه لم يؤثر على ميكانيزم صناعة عالم البعث الذي بدت معالم تأسيسه منذ وصول الحزب إلى السلطة وسيطرته على منافذ الحكم. فهو كان عارفاً بتفريغ المجتمع من القيم والثقافة والوعي والتعليم قبل »التبعيث الروتيني« المُفرّغ من الأيديولوجيا. هناك وثيقة عراقية يعود تاريخها إلى عام ١٩٦٨ (وهو العام الذهبي للبعثيين)، صدرت عن مديرية الأمن العامة تحت عنوان كتب ممنوعة. تدعو المديرية المذكورة جميع فروعها في المحافظات والأقضية والنواحي والبلدات الى منع بيع قائمة من الكتب ومصادرتها من المكتبات. تتنوع عناوين الكتب بين السياسي والأدبي وقصص الأطفال وهي كالتالي: الاتجاهات الفكرية في سوريا (عبد الله حنا)، مفاهيم إسلامية (الشيخ محمد حسن آل ياسين)، أثينا في عهد بركليس (تشارلز الكسندرروبنس)، قضية الأقليات القومية في الصين الشعبية (محسن صالح)، قضايانا في ضوء الإسلام (محمد حسين فضل الله)، الإمام الرضا تاريخ ودراسة (محمد جواد فضل الله)، قضايا التحرر الوطني والثورة الاشتراكية في مصر (طه شاكر)، القاعدة في السياسات الدولية (ياسين الشيخلي)، الشرق الأوسط في الميزان الاستراتيجي (محمد كمال عبد الحميد)، السقيفة (محمد رضا المظفر)، قصص بوليسية للأولاد إصدار المعارف في مصر (محمود سالم).
ما أثار انتباهي في هذه القائمة هو عنوان كتابين وهما »السقيفة« و»أثينا في عهد بيركليس«، وظهر لي من خلال العودة إلى الكتاب الثاني أن هناك فقرة عن حكم مدينة أثينا في عهد بيركليس، إذ لم يسمح لأمناء مجلس المدينة بالترشح في دورتين متتاليتين كي لا تتكرس سلطتهم في الحياة المدنية. وقد منع البعث الكتاب ذاك بسبب هذه الفقرة التي تدعو إلى السلطة التداولية. وذلك كان فكر البعث ووسيلته في تجريد الناس من المعرفة والمسؤولية.
بعد كل الذي حصل في عراق عهد البعث، مجازر للبشر والكتب والطبيعة، تشكل صور »الفوهرر العربي« صدام حسين جزءاً حيوياً من المخيلة العربية، ويُعتبر العالم الذي تخيله على جسد أبنائه، جديراً بعظمة الأمة وحضارتها. ولذلك صدق قول بيضون بأننا لا نعرف ماذا نجتثّ اذا كان ما نحسبه »فكراً للبعث« هو فكـر الجميع. إنما، هل يمكن الحديث عن اجتثاث ما ينبغي اجتثاثه في ثقافاتنا؟
(كاتب عراقي)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى