صفحات العالم

نظرية الفراغ .. طبعة جديدة

سمير كرم
الوضع في منطقة الشرق الأوسط منذ فترة غير قصيرة شديد التشابك بالغ التعقيد الى حد لم يسبق له مثيل منذ عقود.
هناك اكثر من نظام إقليمي واحد في المنطقة، وبينها جميعاً من التناقضات في المصالح والمواقف ما يجعل من العسير تصور الكيفية التي يمكن بها العودة بالمنطقة الى درجة معقولة من التجانس والوئام والسلام.
وليس معنى هذا انه جدت على المنطقة قوى او دول ذات وزن إقليمي لم يكن لها مثل هذا الوزن من قبل. وأكثر الدول التي يظن أنها اصبحت تطمح الى دور إقليمي ـ وهي إيران ـ كانت دائماً ذات وزن إقليمي بحكم وزنها السكاني والعسكري والاقتصادي. وقد كان هذا وضعها حتى قبل ان تقوم الثورة الاسلامية. ومن المؤكد أن عامل الثورة أضاف الى وزنها الإقليمي ولم ينقص منه.
ومصر على الناحية الأخرى من الإقليم تبدو في الفترة الاخيرة معنية لأقصى درجة باستعادة دورها الإقليمي ـ الذي كان لها منذ وقت طويل ـ بعد ان ابتعدت عنه لاعتبارات ودوافع نتجت عن تحولات في سياساتها ومواقفها الرسمية، اكثر مما نتجت عن تحولات في سياسات الدول الأخرى تجاهها.
والسعودية ـ على الناحية الجنوبية، الخليجية من الإقليم ـ المسمى منطقة الشرق الاوسط ـ اكتسبت وزنها وبالتالي دورها الإقليمي مع صعود وزن النفط الاستراتيجي … وليس هذا عاملاً جديداً تماماً. بل إنها كثيرا ما تذكّر بأن لدورها الإقليمي بعداً دينياً اهم من الاعتبارات النفطية وأقدم.
سوريا تؤدي دوراً إقليمياً في المنطقة من خلال اهمية نصيبها في الصراع العربي ـ الاسرائيلي ومن خلال القاعدة التي عادت تكتسب اهمية كبيرة بعد اختفاء لبعض الوقت… القاعدة التي تقول إنه لا حرب في الشرق الاوسط بدون سوريا ولا سلام من دون مصر. وقد اكتسب الدور الإقليمي لسوريا وزنا اكبر بانتهاجها سياسة ممانعة وتحد للقوى الخارجية، بصفة خاصة إسرائيل (نعم هي بكل المقاييس السياسية والدولية والاستراتيجية والثقافية ايضاً قوة خارجية) وبصفة اساسية الولايات المتحدة.
العراق ـ ايضاً العراق ـ لعب دوره الإقليمي بطريقة معكوسة بعد ان وقع تحت الاحتلال الاميركي او ـ كما يصر بعض المراقبين منذ اقتحامه الكويت عام 1990 ـ لقد تحول الى عامل إقليمي أضاف الى صراعات المنطقة بعداً له خطورته على الأدوار الإقليمية للدول الأخرى في المنطقة.
ومن المثير للدهشة أن بالإمكان ان نرى في الوضع الراهن في الإقليم ما يشبه كثيراً الوضع الذي كانت فيه المنطقة قبل نصف قرن، عندما اعلنت الولايات المتحدة في عهد الرئيس الجنرال ايزنهاور ما اسمته نظرية الفراغ في الشرق الاوسط. وهي النظرية التي استخدمت من جانب الولايات المتحدة ذريعة للتدخل في المنطقة بوجود عسكري وسياسي واقتصادي غير مسبوق. وهي ايضا النظرية التي ادت ـ بعد تصدي مصر لها بقيادة جمال عبد الناصر ـ الى عقد تحالف استراتيجي صريح بين الولايات المتحدة وإسرائيل.
المنطقة تبدو اليوم على اعتاب تحولات بالغة الخطورة. من ناحية لأن الولايات المتحدة ـ القوة الأعظم الوحيدة في العالم ـ تنوي الانسحاب من العراق وتتظاهر بالاقتراب من سياسة اكثر توازناً واتزاناً تجاه الصراع العربي الاسرائيلي، ومن سياسة اكثر جدية وإيجابية فيما يتعلق بإدخال الديموقراطية الى بلدان المنطقة. ولم تكن هذه العوامل السياسية والاستراتيجية بعيدة تماماً عن تفكير الولايات المتحدة في زمن نظرية الفراغ في الشرق الاوسط.
فما هي الحقيقة بشأن الفراغ في الشرق الاوسط؟ ان الولايات المتحدة تعتبر بالضرورة ان انسحابها من العراق من شأنه ان يخلق فراغاً في المنطقة، مع ان فترة وجودها الاستراتيجي في العراق لن تكون في عام 2011 ـ الموعد المحدد للانسحاب النهائي ـ قد تجاوزت ثماني سنوات.
إن الوضع المحدد الوحيد في الإقليم الذي يشكل تحدياً للفراغ الجديد في الشرق الاوسط هو الذي يتمثل في وجود إيران ودورها الإقليمي وعلاقة هذا الدور بسوريا ووزنها الإقليمي وتحدي الدور الإيراني لإسرائيل الذي تعتبره اسرائيل نفسها تحدياً وجودياً.
عند الوصول الى هذه النقطة المتعلقة بإيران وسوريا كقوتين إقليميتين من المناسب ان نتنبه الى ان حرب إسرائيل على غزة لا بد قد استهدفت ـ من بين ما استهدفت ـ انما بطريقة غير مرئية تحطيم او على الأقل تحجيم الثقة بدور إيران وسوريا… وفي الوقت نفسه تعميق هوة الخلاف بين الدول العربية… تلك التي انتهى المطاف بها مع الصراع العربي ـ الإسرائيلي الى التسليم بالأمر الواقع الإسرائيلي، وتلك التي لا تزال تشكل تحدياً حالياً ومستقبلياً لإسرائيل.
اول مظاهر هذا النجاح دفع النظام المصري (ومعه السعودية والأردن) للقيام بدور اساسي في محاولات رأب الصدع بين الفلسطينيين: السلطة من ناحية والمقاومة من ناحية اخرى. والامر الذي ينبغي ان لا يكون موضع شك هو ان اسرائيل تريد ان تنهي الجهود المصرية من اجل المصالحة الوطنية الفلسطينية الى وضع يشبه في معظم جوانبه او كلها مواقف مصر من اسرائيل … أي دفع الفلسطينيين جميعاً باتجاه قبول شروط اسرائيل. تبقى السلطة الفلسطينية عند مواقفها المصيرية ولا تعود حماس هي حماس التي خاضت حرب غزة وبقيت سليمة، فتندمج في السلطة الفلسطينية وسياساتها. وأما عدا ذلك فإن إسرائيل اعلنت بوضوح انها لن تعترف بحكومة فلسطينية تضم عناصر من حماس.
فأي عمل سحري ذلك الذي يمكن ان يقوم به النظام المصري ليوفق بين فلسطينيي السلطة والمقاومة على قاعدة إسرائيلية تستبعد حماس نهائياً ما لم تستجب حماس لدعوة هيلاري كلينتون بقبول اسرائيل وشروطها ونبذ العنف (المقاومة)؟
ربما يظن النظام المصري انه سيلقى عوناً من ادارة باراك لتليين مواقف إسرائيل. والحقيقة انه ما كان لإسرائيل ان تعلن إصرارها على شرط استبعاد حماس لو انها كانت تظن ان ضغطاً اميركياً هو في الطريق اليها مع جورج ميتشل او هيلاري كلينتون.
هذا ما لم تكن مصر (وأيضاً السعودية والأردن) تراهن على مقابل كبير يغيّر معادلات الوضع في المنطقة… مقابل يتمثل في واحد من ثلاثة احداث:
1) حدث ينتهي بإيران مهزومة عسكرياً في مواجهة تتعلق بمشروعها النووي، لكنه في النتائج يشمل تحطيم دور إيران الإقليمي لزمن طويل آت.
2) حدث ينتهي بإيران مهزومة دبلوماسياً في مواجهة على مائدة المفاوضات مع الولايات المتحدة تتلقى فيها وعوداً او مقابلاً لا قبل لها برفضه… فتخرج إيران صديقة للولايات المتحدة، وبالتالي لأصدقاء الولايات المتحدة العرب وغيرهم. أي نتيجة تكسب فيها ايران اعداءها الحاليين وتخسر نفسها.
3) حدث ينتهي بإيران تحت حصار عسكري بحري وبري وجوي واقتصادي خانق لا يكون الملف النووي فيه الذريعة الوحيدة، إنما تكون ايضاً الشكوى «العربية» من تهديد إيران للأمن الاستراتيجي العربي مدفوعة بـ»أطماعها التوسعية الفارسية».
لا يبدو أن أياً من هذه السيناريوهات الثلاثة قابل للحدوث بهذه الصورة الفجة. مع ذلك فإن أياً منها ليس بعيداً عن الافكار والأماني التي غالباً ما تسيطر على العقلية السياسية «العربية» في نسختها الانهزامية… تلك التي تعبر عن وصول الأنظمة العربية المعتدلة الى خط اليأس.
وعند هذا الحد فإن اموراً كثيرة تتوقف عند المسعى الاميركي (الطلب الاسرائيلي) لتحقيق انفصال تام بين إيران وسوريا. هنا تتوهم الولايات المتحدة وإسرائيل ان بذل الجهد على سوريا لإقناعها بالانشقاق عن ايران هو اسهل من بذل الجهد على إيران لإقناعها بالتخلي عن العلاقة مع سوريا. وباستطاعة اي مراقب ان يراهن على ان الجهود الرامية الى «مصالحة عربية» ـ التي تراوحت بين البرودة والحماسة خلال اسابيع قليلة ـ تركز في اخطر جوانبها على الضغط على سوريا لإقناعها بأنه اما مصلحة عربية (اي مصرية ـ سعودية ـ اردنية) تعطي سوريا فيها ظهرها لإيران، او تحالف سوري مع إيران تعطي فيه سوريا ظهرها للثلاثي العربي ذاته.
ويفرض علينا هذا المنطق سؤالاً بسيطاً. هل تصدق مجموعة الانظمة العربية المعتدلة فعلاً ان لدى إيران اطماعاً توسعية تدفعها الى مواقفها السياسية التي ميزتها ان تفجر ثورتها؟ هل تعتقد فعلاً أن موقف الدعم الإيراني للثورة الفلسطينية ورفض السياسات والممارسات الإسرائيلية العدوانية هو مدخل الى تكوين امبراطورية فارسية؟
من الصعب ان نؤكد، مطمئنين الى تأكيدنا، ان الانظمة العربية المعتدلة لا تصدق انها تتعرض لحملة توسع ايرانية. لكن هذه الانظمة تحب ان تصدق هذا. لكن يبقى ان العقدة الإقليمية الاكبر في الوضع الراهن هي ايران وان العقدة العربية الأعقد هي سوريا. ولقد اقتربت ـ ادارة اوباما الاميركية ـ مقارنة بإدارة بوش الى خط دبلوماسي تفصل فيه بين التعامل مع سوريا والتعامل مع ايران. فعلى الرغم من الإضافة الجديدة الضاغطة على سوريا بادعاء نشاطات نووية مستقاة معلوماتها من المخابرات الإسرائيلية، فإن ادارة اوباما لا تظهر الإلحاح الاميركي السابق على ضرورة ان تتخلى سوريا عن تحالفها مع ايران اذا ارادت علاقات طبيعية مع الولايات المتحدة. ويعكس هذا الموقف بالتأكيد إدراكاً اميركياً بأن لسوريا دوراً لا غنى عنه يمكنها منه ما يربط بينها وبين ايران… دوراً تستطيع سوريا ان تؤديه بشأن الاتصالات الإيرانية الاميركية. لهذا فإن واشنطن اصبحت اكثر تركيزاً على مطالبة سوريا بالكف عن التدخل في الشأن اللبناني، والكف عن تبني ودعم المنظمات الفلسطينية الداعمة للإرهاب، وينبغي ان لا ننسى ان شرط فصم العلاقات بين سوريا وإيران كان طوال الوقت مطلباً اسرائيلياً بالدرجة الاولى.
ويبدو ايضا ان الادارة الاميركية الجديدة تعتقد ان بالامكان الحصول على مثل هذه النتيجة عن طريق الضغط العربي المباشر (الاميركي غير المباشر) على سوريا بالتخلي عن علاقاتها مع ايران. وقد وصل الامر بإحدى مؤسسات المخابرات الاميركية في القطاع الخاص (هي مؤسسة «ستراتفور») وصفت في تقرير لها قبل ايام التطورات التي جرت مؤخراً بأنها «تكشف عن جهد منسق من جانب العربية السعودية ومصر – الزعيمتين التقليديتين للعالم العربي ـ لتكوين جبهة عربية متحدة ضد إيران» . وإذن فالجديد في سياسة ادارة اوباما هو تكتيل الانظمة العربية المتحالفة مع الولايات المتحدة ضد إيران.
[[[
الوضع في مجمله يبدو شبيهاً بالوضع وقت «نظرية الفراغ في الشرق الاوسط» عام 1957.. إنما تحل ايران الثورة الاسلامية محل مصر ثورة يوليو 1952 كهدف اساسي.
وقتها أسفر الفراغ عن تأسيس حلف بغداد، وفي الوقت الحاضر هناك محاولة لتأسيس حلف ضمني ـ او سري ـ ( حلف الرياض او حلف القاهرة ) الامر الذي يدفع ايران وسوريا الى دورهما الإقليمي الطبيعي… الدور الذي ادته مصر بمقدرة فائقة بقيادة جمال عبد الناصر وكانت سوريا آنذاك في الصف ذاته. هذه المرة فإن إسرائيل جزء من هذا الحلف الضمني… وحلف الاطلسي هو اطاره الاستراتيجي الأوسع.
([) كاتب سياسي عربي من مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى