صفحات العالم

العراق والاتفاق الأمني

سعد محيو
أظرف تعليق على مشروع “الاتفاق الأمني” بين العراق وأمريكا جاء في فتوى هيئة علماء المسلمين العراقية. قالت: “يجب رفض هذا الاتفاق حتى ولو وقّعه أمير المؤمنين”.
وجه الظرف أن أمير المؤمنين اختفى منذ نيف وقرن بعد أن ألغت تركيا الكمالية منصب الخلافة الإسلامية العام 1924 وأحلّت مكانه موقع الخلفاء العلمانيين. لكن الهيئة أرادت بالطبع دمج العقائد الايديولوجية بالتاريخ السياسي لتشدد على قوة رفضها لهذه المعاهدة “التي تتم بين مسلم وغير مسلم”، على حد تعبيرها.
لكن، ثمة بُعد جدي في هذا الظرف التشبيهي. فالاعتراض على هذه المعاهدة، التي تكرِّس الاحتلال في صيغ قانونية، يأتي من أطراف عراقية عدة في مقدمها ليس فقط أجنحة المقاومة العراقية المتعددة، بل أيضاً التيار الصدري وقطاعات واسعة من الشارع السياسي العراقي. بعض هذه الأطراف يرفض المعاهدة جملة وتفصيلاً، وبعضها الآخر يسعى إلى تعديلها، فيما أطراف ثالثة وضعت في الاعتبار المحاسبات التاريخية اللاحقة فقررت النأي بنفسها عن كل النقاشات حول هذه المسألة.
هذه التطورات في بلد خاضع إلى الاحتلال قد تبدو غريبة، خاصة حين تقارن بما جرى بين الولايات المتحدة ودول أخرى عريقة كألمانيا واليابان. فبعد الهزيمة التي تلقاها هذان البلدان في الحرب العالمية الثانية، استسلما بالكامل وتركا أمريكا لتفعل ما يحلو لها بمجتمعهما السياسي والمدني. وهكذا تم حل الجيوش الألمانية واليابانية ومعها جهاز الدولة والأحزاب، وأعيد تركيب كل شيء من الصفر وفق الخطوط العامة التي وضعتها واشنطن.
الخطوات نفسها تم تطبيقها في العراق، لكنها لم تنجح. لماذا؟ لأن أمريكا دمرت العراق، لكنها لم تلحق الهزيمة بالمجتمع العراقي نفسه، في حين أن الدمار الشامل لحق بالمجتمعين الياباني (هيروشيما وناكازاكي) والألماني (مسح المدن عن وجه الأرض بالغارات الجوية) قبل انهيار الدولتين فيهما. صحيح أن قوات الاحتلال عمدت لاحقاً إلى تفتيت المجتمع العراقي إلى طوائف وإثنيات، لكن هذا لم يستطع منع بروز مقاومات مسلحة عراقية ترافقت مع ممانعات سياسية- فكرية قوية للاحتلال في قطاعات عدة من المجتمع. الدولة العراقية سقطت، لكن المجتمع (على علاته الأهلية) صمد ومانع وقاوم.
هذه الحقيقة لها استتباعاتها البدهية. فحين تقرر الولايات المتحدة أن عليها الجلاء، على الأقل من البؤر المدنية الكثيفة، فهذا يعني أنها فقدت الأمل بإمكان اخضاع العراق إلى مشيئتها، مما قد يضطرها لاحقاً إلى اغلاق ما ستتركه من قواعد عسكرية بعد العام ،2011 وحين يحدث ذلك، سيصبح أبطال المعاهدة العراقيون الحاليون خونة، ورافضوها أبطال المرحلة المقبلة.
بكلمات أوضح: من يرفض اليوم سيربح غداً، ومن يقبل اليوم سيخسر اليوم وغداً. وهذه معادلة باتت واضحة ليس الآن بل منذ اللحظة التي تحوّلت فيها مسألة الانسحاب من العراق إلى قضية داخلية أمريكية، يتنافس فيها الديمقراطيون والجمهوريون على من سيكون له قصب السبق في الحد من الخسائر البشرية والمالية الأمريكية الفادحة في العراق.
أجل. هيئة علماء المسلمين على حق حين قالت إنها سترفض المعاهدة حتى ولو قبلها أمير المؤمنين. لكنها ربما نسيت أن أمير المؤمنين لو كان موجوداً، لكان أذكى بكثير من أن يوقّع على معاهدة لا تستطيع حتى صاحبتها الدولة العظمى أمريكا ضمان إقرارها أو استمرارها.
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى