صفحات مختارةياسين الحاج صالح

المثقفون العرب والمسألة الإسلامية

null
ياسين الحاج صالح
قد يكون انشغال النخب المثقفة العربية بالشأن الإسلامي على أعتاب طور جديد، يعنى أكثر بقضايا الفكر والاعتقاد الديني الإسلامي بعد طور أقدم انصب اهتمامه على «الحركات الإسلامية». توافق الطور الأول مع عقدَي الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين حين برز «الإسلام» في شكل حركات إسلامية، بدت صاعدة سياسياً وجاذبة لجمهور واسع، وعلى خصومة حادة أو في حرب مفتوحة مع الدول القائمة. والشاغل الذي فرض ذاته على المثقفين هو تفسير هذا الصعود الذي بدا إشكاليا إلى أقصى حد، ومتعارضا مع مبادئ «التقدم» المادي والفكري التي تشرط وجود ودور المثقف ذاته. ويُنظر إلى الدين والتنظيمات الدينية من وجهة نظر التقدم كبقايا لماض راكد، لا يعدها المستقبل بغير المزيد من الضعف والتآكل. المستقبل ذاته هو جهة التقدم وصعود وانتصار ثقافة متحررة وفكر نقدي، والمثقف بطل رئيس في مسيرة التقدم ومقر وعيها بذاتها وتجاوزها للماضي المفوت. وهو تكوينياً ناقد للدين، إن كسلطة أو كنظام للمعنى. لذلك فقد هدد صعود الإسلامية المخالف لـ«سنن التقدم» المفترضة بتقويض معنى المثقف وهويته وعالمه، أكثر حتى مما هدده سياسياً، وكان مفهوما تالياً أن يحاول المثقف مساءلة هذا الصعود وكشف خفاياه، كي ينقذ هويته.
توزعت التفسيرات إلى تيارين عريضين؛ يركز أحدهما على عوامل اجتماعية وسياسية وديموغرافية واقتصادية، فيتكلم عن إخفاق الحركة القومية العربية وعن انغلاق نظم الحكم وقمعيتها وفقدانها لأي مشروع يتخطى البقاء الأبدي في السلطة، وعن التزايد السكاني غير المقيد وتدني مستوى التعليم والخدمات الاجتماعية، وعن أزمة التنمية المحلية إن على مستوى إنتاج الثورة أو على مستوى توزيع الدخل، وما إلى ذلك. وما يوحد هذا التوجه التفسيري العام هو بحثه عن سر صعود الإسلامية السياسية في بنى وديناميات مجتمعاتنا المحلية. وهو في ذلك يتعارض مع تفسير آخر يميل بالأحرى إلى اعتبار صعود الإسلاميين نتيجة جهد مشترك من أنظمة عربية محافظة ومن الغرب والولايات المتحدة بصورة خاصة في عقود مواجهة الحركة القومية العربية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، ثم مواجهة الشيوعية والاتحاد السوفييتي في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين. ويطلق عزيز العظمة، الذي يقدم صيغة عالمة عن هذا التوجه التفسيري، على تحالف المال السعودي والدعوة الإخوانية والوهابية والرعاية الأميركية السياسية والأمنية، اسم «حلف بغداد الثقافي» الذي يرى أنه شكل بنية تحتية واسعة، لها مراكز نشر ثقافتها ومؤسسات تنسيق أنشطتها وشبكات تمويلها في البلاد العربية والغرب، وتعمل على نشر الإسلامية على نحو ما شهدنا في النصف الثاني من السبعينيات وما بعدها.
ويرتبط العلاج الناجع بالتشخيص المقترح في الحالين. فإذا كانت الإسلامية محلية الدوافع، وكان ينبغي البحث عن «أسرارها» في بنانا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسكانية، في نموذج «الحداثة الرثة» عندنا حسب برهان غليون الذي يمثل هذه المقاربة التفسيرية؛ وجب إصلاح البنى المحلية من أجل أن تتراجع الإسلامية هذه أو تتشكل في صورة حميدة أكثر. ومن الطبيعي أن يرفض ممثلو هذه المقاربة «الحل الأمني» أو العنفي، وأن يدافعوا عن حل سياسي للصراع مع الإسلاميين، وأن يدعوا إلى إدماج هؤلاء في الحياة العامة في بلداننا، وأن يصبوا ألذع نقدهم على نظم الحكم القائمة في بلداننا. أما إذا كان صعود الإسلامية نتاج حلف سياسي ثقافي ناشط من وراء الستار، أو «مؤامرة إمبريالية» حسب اللغة البعثية السورية، فسيكون الحل المقترح هو «دحر المؤامرة» هذه و«سحق عملائها»، وسيكون الحل الأمني هو الحل، وسيعترض على إدماج الإسلاميين في الحياة العامة وتزكى ضدهم سياسة استئصالية. وإن لم يصطف أصحاب هذه المقاربة صراحة إلى جانب السلطات، فإنهم لن يجدوا شيئاً يقال بحقها.
على أن النزاع التفسيري بين الطرفين لا ينفي ما أسلفناه من أنهما شريكان في «فكرة التقدم» التي تجعل من صعود الإسلامية مشكلة تحتاج إلى تفسير، وليست «عودة وعي» أو «صحوة» تلت غفلة الأمة عن هويتها وأصالتها على نحو ما قد يشرح الإسلاميون أنفسهم أمر صعودهم العاصف. يريد طرف تغيير الشرط الاجتماعي الذي تولد عنه الإسلاميون أو شكلهم العنيف كي يزول هذا الشكل وتتراجع قضية أهله. وبحكم توجهه التفسيري يغفل هذا الاتجاه التكوين الفكري للإسلامية المعاصرة ولا يشعر بالحاجة إلى النظر في أدبيات الإسلاميين المعاصرين، ولا من باب أولى في المتون الاعتقادية الإسلامية. بل إن استعداده الفكري ذاته يدفعه إلى إبراز ما قد يكون في الحركة الإسلامية أو حولها من اتجاهات فكرية منفتحة بعض الشيء ومن مفكرين إسلاميين أقبل بالتعدد والديمقراطية (التي يتأولها الإسلاميون عموماً كحكم «الأمة»، المعرفة حصراً أو أساساً بالإسلام). والسمة الأخيرة للمقاربة التفسيرية الداخلية، إن جاز القول، هي السكوت على مثالب الإسلاميين، والامتناع عن نقد مذاهبهم، والتقليل من شأن قضايا النهضة الثقافية والدفاع عن التحرر العقلي والحرية الفكرية والدينية.
بالمقابل يريد دعاة المقاربة التفسيرية الخارجية أن يحطموا الفيروس الغريب ذاته ويحموا الجسم الاجتماعي منه. لكنهم لا يقدمون إجابة متسقة عن سر فاعلية «المؤامرة» الخارجية وتأثيرها في جمهور واسع. وما قد يستخلصه المرء من قراءة أدبيات من هذا الصنف هو أن الناس في مجتمعاتنا بلا عقل، وأنه يسهل التلاعب بهم واستمالتهم إلى قضايا تتعارض مع مصالحهم. ويكمل هذا الاستخلاص نزوع مطرد عند أصحاب هذا التوجه إلى اتخاذ موقف عدائي من التفكير الإسلامي ومن العقائد الإسلامية ذاتها، وإلى التهوين من شأن أي فوارق محتملة بين الإسلاميين. ويتوافق رفع الغطاء القيمي والرمزي عن المعتقد الديني وعن إدراك عموم الناس مع سمة إضافية لهذه المقاربة: عدم الاهتمام بما قد يسحق من الجسم الاجتماعي ذاته أثناء عملية قتل الفيروس الديني، أو حتى الترحيب بذلك. ومن المتوقع تالياً ألا تستثير بنى السلطة في بلداننا اهتماما يذكر، أو أن تقع خارج الساحة البصرية لهذه المقاربة التفسيرية. وهنا أيضا يُستغنى عن المعركة الثقافية برفض سلبي للانخراط النقدي في مواجهة التفكير والبنى المعتقدية الدينية. أو قد يعتبر الرفض هذا بحد ذاته تنويرياً وتقدمياً.
ويقود تركيز المقاربة التفسيرية الداخلية لنقدها على نظم الحكم إلى الديمقراطية عنواناً لسياسته ونهجه العام، في حين تستصلح المقاربة الخارجية التي ينصب جام نقدها على الدين والجماعات الدينية عنواناً مقابلاً هو العلمانية. ويشترك الديمقراطيون والعلمانيون على نحو ما رأينا في فكرة التقدم.
ويشتركان أيضا في ضآلة انشغالهما بالفكر الديني ومضامينه.
يبدو لنا أن تدارك إغفال الفكر الديني ومنح مزيد من الاهتمام لدراسة المعتقد الديني هو ما يسم الطور الجديد من الاهتمام بالشأن الإسلامي.
قد يقترن التوجه هذا بالذروة الجديدة لصعود الإسلامية بعد 11 سبتمبر 2001 بعد ذروة سابقة ربما توافق عام 1979 (تواقتت فيه حسب فرِد هوليداي ثلاث حادثات أساسية: احتلال الحرم المكي من قبل جهيمان العتيبي وجماعته، الثورة الإيرانية، والتدخل السوفييتي في أفغانستان وبدء حرب «المجاهدين»؛ وأضيف من جهتي مجزرة «مدرسة المدفعية» في مدينة حلب السورية التي نفذها إسلاميون بحق عشرات من طلاب ضباط علويين، أي ممن يعتبرون طائفة إسلامية مهرطقة)، ورغم أن ما حدث في خريف 2001 مقترن بأحد التيارات الإسلامية الأشد تطرفاً، فإنه أطلق حركة اهتمام واسعة، في الغرب وعندنا، بالتعاليم الإسلامية وفكر الحركات الإسلامية وبتاريخ الاعتقاد الإسلامي.
على أن الطور الجديد ليس جديداً بالكامل، لقد انشغل أمثال نصر حامد أبو زيد ومحمد شحرور ومحمد أركون… على ما بينهم من فوارق في البنى الفكرية والاعتقادية الإسلامية، لكنهم يشكلون فئة ثالثة، قد يمكن وصفها بالإصلاحية الإسلامية، فهم يصدرون من داخل الإسلام (أبو زيد وشحرور على الأقل)، وإن كانوا لا يؤسسون انحيازاتهم الاجتماعية والسياسية والفكرية عليه، ولا يشتغلون عليه بأدوات مستمدة منه على نحو ما يفعل الإسلاميون. والإصلاحيون ملتزمون به قيمياً، وربما إيمانياً. ورغم أنهم يشتركون في نقد الإسلامية الحركية، فإنهم خارج النزاع التفسيري الذي تكلمنا عنه سابقا، وإن كانوا أقرب إلى المقاربة الأولى، الداخلية، عموماً.
ربما يتسم الطور الجديد إذن بهيمنة مقاربة تشتغل على المتون والأفكار الإسلامية، لكن من دون أن يقتصر بالضرورة على إصلاحيين إسلاميين، فإذا تقرر عندنا أن الإسلام ذاته، أعني كتعاليم ونصوص، وليس الحركات الإسلامية وحدها، هو موضوع الطور البازغ، فقد يمكن التمييز بين مقاربتين فرعيتين: واحدة إصلاحية يكون الإسلام موضوعاً لها ومكوناً جوهرياً للذات الدارسة والمصلحة في الوقت نفسه؛ ومقاربة أخرى يكون الإسلام موضوعاً معرفياً لها من دون أن تلتزم به إيمانياً، وقد تندرج هذه تحت عنوان نقد الدين، النقد المعرفي والتاريخي الذي يتعامل مع المواد الدينية كما يتعامل مع أي مواد إنسانية أخرى.
الأكيد على كل حال هو تقادم المقاربة التفسيرية وتراجع الاهتمام بها، وقد يعود ذلك لسببين متكاملين. من ناحية تطبّعت الظاهرة الإسلامية في مجتمعاتنا، وقل اليوم من يعتبرونها فضيحة تاريخية أو نبتاً شيطانياً غريباً، ينبغي نزع غرابته والاحتيال للتخلص منه. ومن ناحية ثانية، يبدو لنا أن الإسلامية ذاتها كفت عن الصعود، كقضية وكفاعل اجتماعي وسياسي، فلم تعد سؤالاً متحدياً.
ولقد أخذ يظهر باطراد أن المقاربة الداخلية تبتر نفسها حين تتكتم على فقر وتخلف الفكر الإسلامي ونزوعه إلى القسر والتكفير، وتحفظه حيال الثقافة والحرية، وتمركزه حول ذاته واكتفائه بذاته وأنانيته وضيق أفقه الفكري والقيمي، بل وتراجع قدرته على تلبية الحاجات الروحية للمسلمين المؤمنين بالذات. وأن المقاربة الخارجية تفوت باستسهالها لرفض براني للأفكار والمعتقدات الدينية فرصة تطوير نقد ضارب للتعاليم والأفكار والممارسات الإسلامية، هذا فضلا عن أن ما قد ترشح من المقاربة هذه من سياسات عملية سبق أن فشلت عندنا وفي دول المعسكر الشيوعي السابق.
وقد يكون لصعود الأفكار الليبرالية الذي ينبغي تمييزه عن الصعود العاصف والسريع والضحل لما سمي «ليبرالية جديدة» تزامنت مع الرد الأميركي على 11 سبتمبر، وبلغت ذروتها في بلداننا عند احتلال العراق، قد يكون له دور في التوجه أكثر نحو الاشتغال على الدين والفكر الديني، إما بصيغة الإصلاح الديني وإما بصيغة نقد الدين.
والليبرالية التي نتحدث عنها هي أقرب إلى موقف ذهني منفتح وإلى إعلاء شأن الثقافة والتفكير المتحرر والنقدي على حساب السياسة والدين معاً. وإن كانت على خصومة مع تيارات سياسية ودينية، فإنها هي ذاتها ليست تياراً سياسياً، أو بالطبع دينياً، إنها ذهنية أو توجه ثقافي عام، قد تتشربه تيارات سياسية ودينية متعددة.
ومعلوم أن الليبرالية العربية في طورها الأول، السابق للحرب العالمية الثانية، كانت خصبة ثقافياً وأكثر انفتاحاً ونقدية من تيارات الفكر والثقافة التي تلت، بدءا من خمسينيات القرن العشرين.
وهكذا قد يلتقي تطبيع الإسلامية واستواؤها ظاهرة عادية مع انتشار ذهنية ليبرالية أكثر شغفاً بقضايا الفكر والثقافة والدين لنقل السؤال الإسلامي من البحث عن تفسير لصعود الإسلامية إلى نظر نقدي وإصلاحي في بنى التفكير والاعتقاد الإسلامي.
لكن هل هناك بالفعل احتمال بأن نشهد في ثقافتنا نقداً للدين على نحو ما سبق أن شهدت الثقافة الغربية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر؟، وهل يحتمل أن نرى في العقود المقبلة تطبيعاً للنقد الديني يتلو تطبيع حضور الدين في الحياة العامة؟ والواقع أن بعض بوادر ذلك موجود منذ الآن ومرشح للاتساع بفضل شبكة الإنترنت. ربما يغلب اليوم ما قد نسميه النقد الخارجي أو النقد المطلق للدين، الذي يستصلح لنفسه أسلوب «الردح» والتجريح، لكن قد يكون ذلك طوراً أول يوافق ميلاً ردحياً وتكفيرياً عند الناشطين الإسلاميين. وربما ينفسح المجال ذات يوم غير بعيد لنقد متسق، أكثر جدية وعمقاً. على أنه من غير المستبعد أن يواجه النقد الديني بعنف رمزي وجسدي يفوق ما تعرض له ممثلو المقاربة الإصلاحية، مثل نصر حامد أبو زيد، أبرزهم.
ختاماً، نميل إلى تصور أن تقدمنا في مرحلة ما بعد الاستقلال كان هشاً وخارجياً، لأنه لم يحاول تطوير ثقافة تقدمية عبر الشغل على الدين والصراع معه، بل تعمد حتى نسيان جهود إصلاحية في مراحل سابقة (محمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي، ورشيد رضا الأول…)، وعليه يكون من شأن الاهتمام المستجد بقضايا الدين والفكر الديني أن يؤسس لتقدم أرسخ وأقوى شخصية. ونخمن أنه قد ينقضي جيل كامل قبل أن يظهر جيل عملي جديد، يوحد مطالب التقدم المادي والثقافي والتحرر الفردي والاجتماعي والوطني. أم ترانا مبالغين في التفاؤل؟
*كاتب سوري
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى