صفحات ثقافية

ثــمـن الـشــــعــر

null


سنأخذ “الغاوون” باعتبارها غوايةً، تيمّناً برغبة القائمين بها. فليس ما هو أشعَر من الغواية، وأجمل، سوى الغواية التي تبزغ من فرط التوق اليها، والحاجة، أو سوى تلك التي تحلّ محلّ، إذا فترت همم الغاوين وخفت قمر الغواية.

وما الغواية؟ إن هي سوى توقٍ طامحٍ الى تحقّقٍ مسبوق، أو غير مسبوق، وحاجة، أو هي تحلّ محلّ. وقد تصبح الغواية متحققاً شعرياً، ونشرياً، ما، من فرط بحث الرغبة عن لغة الشعر. وقد تفوز بغوايته. ثم يُفاز على هذه الغواية الفائزة بالشعر الفائز على نفسه، وعلى غوايته، بأيدي من هم أكثر شعراً وغوايةً. وهلمّ.

هذا هو قَدَرُ الشعر. بل قََدَرُ الإبداع. بل قَدَرُ الحياة مطلقاً.

على هذا الأساس، سنقول إن “الغاوون” فعلُ شبابٍ غاوين (رئيسا تحريرها الشاعران زينب عسّاف وماهر شرف الدين)، ملؤهم الشعر والغواية، أو ملؤهم، تواضعاً، التوق اليهما، والحاجة. فأهلاً وسهلاً بهم وبها، انطلاقاً من كون هذه الجريدة ما تسمّي نفسها، وما تطمح أن تكون، باعتبارها كتاب هؤلاء الأشقاء، وبيتهم، وحاضنةً لهم، وناطقةً باسمهم. بل أهلاً وسهلاً على الدوام، من كوننا قرّاءً متذوّقين، وأيضاً شعراء، وربما غاوين.

سنأخذ “الغاوون” باعتبار القائمين بها غواةً. ولن ننسى المشاركين والزوّار. ولهؤلاء جميعاً أيضاً سنقول: أهلاً وسهلاً.

ثم ان الغواية امتحانُ إبداعٍ، يُفترَض أنه كامل، أو يتوق، بالسليقة والغريزة والحدس والموهبة والنرد والذكاء، وبالثقافة، وبالتراكم. على هذا الأساس، لن تكون هذه الغواية شأناً مباحاً، لمجرّد الرغبة فيه. فهي جينةٌ أولاً. وتُعطى. وللذين لا يعلمون: تُنتزَع أيضاً وثانياً، كفعلٍ ثقافيّ، نقديّ، اختباريّ، طويل ودؤوب. ولا حدود. وهذا يندرج في باب الامتحان النقدي. وهو بابٌ لا يرحم. شأنه في ذلك شأن امتحان الإبداع نفسه.

ويطيب لنا أن نغتبط مطلقاً. ومع هؤلاء المغتبطين. وأن نفرح مطلقاً. ومع هؤلاء الفرحين. وأن نروح نتلمظ جريدة الغاوين هذه، وإن كان يتراءى لنا أن “نؤمن”، أكثر، بأن الشعر قد يكون “منقوصاً منه” إذا اعتُبر محض غواية. فهو ليس فقط غواية. وإن تكن الغواية في بعض معانيها إبداعاً كاملاً.

أكثر. أعمق، هو الشعر، ليصيب جنون كلّ شيء. وعبقرية كلّ شيء. ومستقبل كلّ شيء. ودمار العالم. وقيامه من عدم. كما ليصيب ألوهة الصورة المتألهة. والمعيش. والمتخيَّل. واللغة. والاختراع المتواصل. والنقض اللاحدود له لكلّ يقينٍ مستتبّ في الأدب واللغة والفن والعلم والعقل والفلسفة والحلم والتأمل والحرية والوجود مطلقاً. أبعد. أقرب. أعلى. غير شكل. عارفٌ هو الشعر، بالمصير الداخلي والديناميكي للفكر. وأيضاً. وأشياء أخرى لسنا نعرفها بالتفسير والشرح. ولا ضرورة لكمٍّ. أو لتحديدٍ. أو لوصف. وهذا بابٌ، هو الآخر، لا يرحم. لأنه امتحان.

نتدارك، فنقول لأنفسنا: ستوب! فليس الوقت الآن وقت فلسفة، أو وقت تفلسف. فمن شيم الغواية نفسها، أنها قد تصنع شعراً، ونقداً للشعر، وتفكيراً فيه، وبيتاً له، وكتاباً. وقد تصنع شعريةً كاملة، وحياةً كاملة. باعتبار الغواية امتحانَ إبداع. وموهبةَ حياة. وأسلوبَ حياة. ولغةَ حياة. بل هي قد تصنع حياةً مجترَحةً خارج الحياة. داخلها، أيضاً وخصوصاً. وقد تصنع ما هو غير الحياة. غير هذه الحياة تحديداً.

أياً يكن، مهما يكن، وبعيداً من رياء الكذب، والممالأة، والمجاملة، وبدون أقنعة، وقفّازات، وقريباً من المكان الذي قد يكون يصدر منه الشعر، بعضه في الأقلّ، أو في ذلك المكان بالذات، نقول: أهلاً وسهلاً.

علناً نكتب، وبكلامٍ جهير: ألف مبروك للجريدة وللقائمين بها. وألف مبروك لنا. فلقد وُلدت لنا جريدة شعرية. وغواية جديدة.

وعليه، نكتب هذه الكلمة باعتبارها تحيةً عفوية، ومقصودة. معاً وفي آن واحد. وفي الحالين: قوية في صدقها وشفافيتها. مرةً لأن الشعر، كمصدريةٍ موهوبة، وكفعلٍ إبداعيّ ومِراسيّ دؤوب، وكطريقةِ عيشٍ للغة وللعيش، وكحالِ تعبيرٍ واستقبال، لكي “يصمد”، يربأ بنفسه، ويتأبّى أن يكون نسجاً على منوال، أو تتمةً، أو إضافة، أو موازاة. ليكون، عليه أن يكون، تقريباً، كل شيء – كأنْ لم يكن شيءٌ قبلاً – أو هو قد لا يكون. هو، تالياً، ليس عملاً، أو مشروعاً، بمعنى البيزنس. ولن يُعطى له – لكي يكون – أن يتخلّق بالاجتهاد وحده. هذا وذاك، ضروريّان بالتأكيد، لكن الشعر إذا جنح مشروعه الى هناك، أو إذا انطلق من هناك، واكتفى، فلن يطول به مَكْث، ومُكْث.

الغواية، لتكون، لا بدّ نجلاء. موهبة عليا. حتى اللاحدود. أو حتى العظم. بل تحت كلّ عظم. وصولاً الى لبّ النخاع الشوكي. سحباً وامتصاصاً وانتهاكاً ونهباً. ورؤيا. وتخريب رؤيا. وحيث بيت الرحم الشعرية، لا أقلّ. ملعونة. مقدّسة، هي الغواية. دينية. دنيوية. أو لا: محض موهبةٍ فحسب ليس إلاّ، وبدون أوصاف، خبرتُها منها وفيها، ومكتسَبة بالمراس والثقافة، وهذان لا ينبغي ان يندمل لهما جرحٌ، أو ينحبس لهما نبع.

شيءٌ ما”، لا بدّ منه، ليكون شعرٌ غاوٍ، ولتكون له مجلة أو جريدة. وليس من وصفٍ قسريّ يقسر هذا الشيء ليجعله على قياسٍ سابقٍ يقاس به، كما ليس من تحديد. فحيث “شيءٌ ما”، غيرُ (عكسُ؟!) الإرث الشعري العظيم، وغيرُ (عكس؟!) الشعرِ القائمِ على قياسٍ سابق، والمذكِّرِ به، أو حيث قاتله، أو ناسيه، أو حيث الشعر الناظر الى ذات العالم الجديد، بلغة العالم الجديد، يكون ثمة احتمالٌ طاغٍ للشعر، شبيهٌ، إيجاباً، بكلّ طاغية. أي يكون ثمة غوايةٌ وغاوون تأكيداً. لكنْ، لا بدّ أن يكون هذا الـ”شيء ما” قادراً، بذاته، على أن يولد الآن، بشعر الآن، وبشعرائه، وبمواهبه، وباختباراته، وبثقافاته، وبفلسفاته، وبتحدياته، وبـ”أديانه”، وباختراعاته، وبقلوبه، وبعقوله، وبجرائده، ومجلاته. بل أخذاً في الاعتبار آلهة هذا الآن، وأدمغته الالكترونية المهدِّدة كلَّ دماغٍ بشريّ موهوب.

شيءٌ ما” يكون محمّلاً الإرثَ الشعري المضيء برمّته، والتراكمات الجوهرية، كلّها، والخبرات، غير رازحٍ تحتها. بل متوعِّداً إياها على الدوام – مهما تكن، وأياً تكن – بفتوّته الافتراضية الموهوبة، الذكائية والعقلية، وبغواياته الذاتية، التي – ولا بدّ – تتوق تراود ذاتها، وتهدّد ذاتها بذاتها، بالطبع والتطبّع. وباستمرار. ولا خاتمة إلاّ ببرود همّةٍ أو بموت.

هذا ما نتوق الى قراءته في “الغاوون”، والى أن نُغوى به، و”نغار” منه، لأن لا يستطيعه سوى الغاوين أنفسهم، وأقرانهم. وعلى هذا الأساس أيضاً، تكون الغواية غوايةً عن حقّ وحقيق. ونتوق أن لن يبخل هؤلاء الفرسان بالتوق الى مثل ذلك، وغيره، وبإنجازه.

سوى أن التوق وحده لا يكفي. وهذا هو الامتحان.

وعليه، نكتب هذه الكلمة باعتبارها تحيةً عفويةً ومقصودة. معاً وفي آن واحد. وفي الحالين: قوية في صدقها وشفافيتها. مرةً للسبب المذكور أعلاه، وثانيةً لأننا في حاجة مستغيثة ومطلقة الى جرائد ومجلات شعرية، “ترى”، بل “تخترع” من جديدٍ، كلَّ جديد. وتكتبه. وتتأمل فيه بالعقل والنقد. لكنْ أيضاً، ليس بأيّ ثمنٍ زهيدٍ أو غالٍ: فقط، بامتحان الشعر، الذي لا ثمن له. الآن خصوصاً. أي في ما بعد الألفين. بل بعد كلّ شعر. وأيضاً: بعد كلّ “تهديد” تواجهه – كما الآن – مصدرية الإبداع الكتابي، شعراً ونثراً، فضلاً عن مصدرية الفنون جميعها. فضلاً أيضاً عن التهديد الذي يواجه فلسفة الوجود البشري برمته.

للذين فاتهم ما قلنا بدايةً: بصرف النظر عن مضمون العدد الاول – ويجب أن لا يُصرَف نظر – وأخذاً في الاعتبار ما هو عليه مضمون هذا العدد الاول، ورأيه في الشعر، وإحساسه به، ومغناطيسه، وكهرباؤه، وفهمه، ورؤيته، ولغته، وثقافته، وتخطياته، ورحابته ورحابة نقده، ومنطقه الإخراجي، وتبويبه، وحروفه، وورقه…، وأخذاً في الاعتبار ما ليس عليه هذا كلّه، نقول: أهلاً وسهلاً بهذه الجريدة. فالمضمون، وسوى ذلك مما نذكر، هو امتحانُ إبداعٍ ونقد، وهذان منضمّان مطلقاً وواقعاً، وفي الأساس، الى الغواية.

سوى أن الغواية وحدها لا تكفي. وحده الامتحان يكفي.

لا نريد أن نقع في مطبّ الأسباب والذرائع والموجبات التي تدعو الى إصدار جريدة شعرية، أو الى نشر الشعر مطلقاً، وخصوصاً نقده – وهي تستدعي حتماً مثل هذا الإصدار وسواه، – نريد فقط أن نقول إن الحياة تكون، ولا ندري كيف، وقد ندري قليلاً أو كثيراً. الحياة تذهب لا ندري الى أين، وقد ندري كثيراً أو قليلاً. وهي في كينونتها وذهابها، تظل ناقصة بدون شعر. وربما تظل ناقصة به أيضاً. النقصان، والزيادة، الى المصبّ المتراكم ذاته. ومن المنبع المتراكم ذاته. وربما – نقضاً – لا. وألف ألف لا. هكذا، لهذا “السبب” بالذات، لنقيضه خصوصاً وأيضاً، لا بدّ من شعر. لا بدّ من غواية. ولا بدّ من غاوين. على أمل أن يكون ذلك كلّه كافياً لصناعة جريدة شعرية جديدة، بما تتطلّبه الجدة من شروط وتحديات، وعلى أمل أن تكون هذه الجديدة قادرة على الانوجاد بامتحان شعريتها ونقديتها، باعتبار أن امتحان الشعر لا ثمن له، وأكثر من أيّ وقت مضى.

فهل تنطوي “الغاوون” حقاً على “مشروع شعري”، وهل تستطيع أن ترفع لنفسها “قضية”، لا نراها مطروقة أو جليّة المعالم في عددها الأول، وأن تضع نصب عينيها بلورة هذين المشروع والقضية، ومواجهة مثل هذا الامتحان، في كلّ عدد، وتسديد مثل هذا الثمن؟ نريد ذلك.

مرةً أخرى، ليست في الضرورة أخيرة، وعلى رؤوس الأشهاد: أهلاً وسهلاً بـ”الغاوون”. وألف مبروك.

اقرأ الغاوون، شعرية، تصدر مطلع كل شهر، 24 صفحة، ، إخراج عبر حامد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى