صفحات الناس

في تتويج دمشق عاصمة للثقافة العربية الفصحى

null

أحمد عمر

المستطرف في كل «أمر» مستظرف: من القلب النابض إلى اللسان اللاهج؟!

في مسلسل إذاعي بث في السبعينات بعنوان «غوار يقتحم الجدار»، يهجم غوار في إحدى حلقاته الطريفة على شاخصة مطعم ويبدل كلمة سندويشة الفرنجية الملعونة بجملة «الشاطر والمشطور وبينهما كامخ» العربية المبينة،
وتكون النتيجة بأن يضرب زيد عمروا. لم يستطع صائغ الخبر في صحيفة «الحياة» تجنب التهكم المتراوح بين الصراحة والنعومة على «حملة» التعريب التي ستقودها «لجنة تمكين اللغة العربية» فوصفها بحملة «تنصيب»، وهي تحتوي على دلالات عدة أولاها الدلالة الالكترونية الفورية والثانية الدلالة السياسية التي تتصل بالتنصيب السياسي «الديموقراطي»!، فنصب زيد عمروا أميرا على جيش اللغة أي جعله واليا عليها، ينصب فاعلها و»يجر» مفعولها إلى القبو. ونصب عليه أي احتال عليه، لكن البشر ليسوا آلات الكترونية إلا في الأنظمة الشمولية، فهل الاحتماء بمظلات اللغة المقدسة هروب إلى الأمام من التطوير الإداري ثم الاقتصادي أم تتمة لهما؟

خبر «الحملة» يذكر بواقعة نقلها ممدوح عدوان في كتابه «حيونة الإنسان» تقول: في عام 2002 نشرت وكالة الأنباء الرسمية في «إحدى» الدول العربية الخبر الطريف التالي: بتوجيه من السيد الرئيس… قام السيد… وزير الأوقاف بتوجيه الشكر لله على الأمطار التي

ويذكر أيضا بواقعة أوردها بوعلي ياسين في كتابه «شمسات شباطية» الذي جمع فيه مستطرفات معاصرة تأسياً بالابشيهي: انه في أوائل السبعينات، في «حملة» ضد الهدر، اصدر حاكم المصرف أمرا ادرايا يطلب فيه من الموظفين التقشف واستخدام الدبابيس بدلا من الشكالات! امبرتو ايكو ينصح في» اسم الوردة» بعدم تقليب صفحات كتب «حملة» التنصيب وإلا مات من الضحك. وقد تندر السوريون زمنا على مادة تلفزيونية كان يقدمها مدرس عربية اسمه الصيداوي ثم اكتشف قواد الحملة أنهم حولوا سورية إلى مدرسة ابتدائية بعد نشرة «الإخبار» القاسية، والأسلوب الحديث يقتضي أن تتحول الدراما إلى أداة درسية فدسوا السم للبرنامج فمات غير مأسوف عليه، ثم «ابجدت» دراما الفانتازيا التاريخية التي «هوزت» اسم سورية عاليا.

يتابع صائغ الخبر الدعابة قائلا: هل سيصدر الجزء الثالث من باب الحارة الشامي بالفصحى؟ المادة مضحكة ولا تحتاج إلى صياغة تفكيهية: وبحسب رئيس اللجنة، فإن الخطة تهدف أيضا إلى تأهيل المشرفين على رياض الأطفال لـ «البدء بهم وتعليمهم» بالتوازي مع إلزام سائقي باصاتهم – يقصد حافلاتهم- التحدث معهم… بلغة فصحى… السؤال: أليس من الأولى إلزام المخابرات بالتحدث بالفصحى، أي بالقانون، مع المعارضين المثقفين: فبدلا من عبارة «ديارك داريها» ستصير «ديارك دارها»؟ طبعا تشترط كتابة كسرة الراء في الفعل السوري المؤخر أربعين سنة، وإلا صارت ديارك «ديار مية بالعلياء فالسند»، التي «أقوت وطال عليها سالف «الأبد»! ربما يكون قد غاب عن بال قائد الحملة أن الشعار كتب العامية لدغدغة عواطف الشعب وتلمس منطق الحنان فيه بعد أن بلّد الإعلام بلغته الخشبية حسه الوطني والإنساني، فهو ليس مثل الخطأ النحوي الذي نجده في عبارة «لا ترم الأوساخ على الأرض». شعار «ديارك داريها» كتب بالعامية مثل شعار «منحبك» في حملة الاستفتاء الرئاسية.

فاللغة الفصحى، أو الثالثة، تعجزان عن مخاطبة مشاعر دقيقة وسرية لا تقدر عليها إلا عضلات المحكية. أما الشعار وعلاقته بالشعر، وأعذب الشعر أكذبه، و دلالة الشعار السياسية النصبية وتوظيفاته الدعائية، فذلك ليس هنا مجاله ولا كيف سيداري المواطن ديارا يعرف فيها واجباته ولا يعرف فيها حقوقه؟. وقد ذكرتني طريقة تعريب أسماء المطاعم حرفياً (لانوازيت إلى البندقة، ونيوترون – وتعني حرفيا الشحنة المتعادلة – إلى النواة)، بطرفة تروي حكاية مهووس بمعاني اللغة القاموسية رأى نحيفا فقال له: يجب أن تأكل لأنك حقير (يعني صغير).

ومؤكد أن النواة المقصودة في اسم المطعم غير ذرية أو حربية، فالثقافة غير العلم واللغة غير اللغو، إذاً فما هذه النواة؟ هل هي نواة حبة الزيتون التي لا تنفع سوى علفا للحيوان أو نواة الحضارة التي أسّها الإنسان… الانساااااااااااان؟

وقد ذكرتني أيضا بتعليق احد الظرفاء على السماح للمسلمين السوريين بالاحتفال بعيد المولد النبوي قبل ثلاثة أعوام، قائلا: شام شريف تعلن إسلامها؟ ودعتني للقول: وهاهي قلب العروبة النابض تعلن تعريب لسانها… فوافرحتاه على «لا صوت يعلو على صوت احمد سعيد… الصحاف السوري».

ولكن هل عروبة دمشق أوعربيتها محل ريبة؟ أو أن لسانها يشكو من عجمة؟ فقد صرح فنان سوري منذ أيام متباهيا بأن فناني الشام من أفصح العرب لساناً. فالمصري لا يستطيع التحرر من «جيمه» في مسلسلات الفصحى، والخليجي من قافه… نعم لغة الشام من أفصح اللغات بالرغم من الأحكام العرفية.

ومن المؤكد أن الحملة لن تطال القرآن الكريم الذي يضم مفردات أعجميــة، كما ان كثيرا من أسماء جوامع دمشق وأوقافها تركية وأيوبية كردي،ة ونعتقد أن الحملة مفعولها تقدمي اشتراكي وليس لها مفعول «رجعي»!

دمشق عاصمة عريقة ومن أقدم المدن في التاريخ، نعم لكنها أيضا عاصمة للكاريكاتير والضحك. وسأحاول البرهنة على فرضيتي القابلة للطعن بالسؤال: لمَ لم تظهر مفارقات مرايا وبقعة ضوء في مصر أم الدنيا ذات السبعين مليونا وعاصمة الفن العربي؟ هل السبب أن مصر استطاعت الاعتراف ببعض أخطائها فغيرت اسم حزبها وسمحت لبعض الهوامش السياسية بالتعبير، أم لأن «سورية» تدرك حجم مخاطر أي تغيير على «استقرارها» فتقوم بالتطوير والتنصيب في الدراما والفن والكوميديا و… اللغة.

وقد ذكرني التنصيب أيضا بـ»فيلم ثقافي» المصري الرائع الذي يتفوق بما لا يقاس على فيلم عادل إمام «التجربة الدانمركية» الذي يشتغل على فكرة الكبت الجنسي مثله. وفي نهاية احد المشاهد يقول عامل الصيانة التلفزيونية، للشبان المخنوقين جنسيا والذين يدوخون السبع دوخات لمشاهدة فلم اباحي، في تورية حادة: الغلط في النظام.

الحملة المذكورة تقوم باختصار العروبة إلى العربية كما تم اختصار التطوير والتحديث إلى الإصلاح الإداري الذي لم نر منه سوى «النواة»، ثم التطوير الاقتصادي الذي داهمته موجة الغلاء العالمية وموجة السوق الاجتماعي قبلها في بلد يئن مواطنه ذو الدخل المحدود من ضعف القوة الشرائية، فلم تبق للمواطن سوى قشرة لانوازيت. وحاليا يتم اختصار الاقتصاد إلى الخبز وذلك كله بسبب اختصار الوطن إلى فرد.

شؤون لغة الرسالة الإلهية الأخيرة، تقود إلى شجون التعليم في سورية «وحملة» تأنيث التعليم – التي ترافقت مع توحيش المخابرات – التي آلت إلى هشاشة في النظام التعليمي. فدراسات اليونيسيف تقول أن 83 في المئة من الطاقم التعليمي السوري غير مؤهل، فهم يعجزون حتى عن «تحفيظ النشيد» للتلميذ تحفيظا صحيحا. والأمثلة التالية من تجربة شخصية: نالت ابنتي عقوبة لأنها تزيدت في كتابة الشدّة فرسمتها على حروف مشددة تجهلها المعلمة! ومعلمة أخرى كتبت جملة للأولاد: «ذهبوا!» التلاميذ إلى المدرسة. وثالثة كتبت لإبني في الصف الأول في درس تعلم الأبجدية: «حرف الزين»! فهربت مكحول العين بأولادي إلى بلاد الأعاجم حيث لا يمكن لمخابراتها دعوتي إلى التعارف. ختاما نهمس في أذن لجنة تمكين الفانتازيا التاريخية المقتدية بإمامة غوار الذي اقتحم الجدار: لا يستوي لسان والنظام أعوج.

*كاتب سوري مقيم في السويد.
الحياة – 15/01/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى