ما يحدث في لبنان

من أجل علاقة صحية بيـن لبـنان وسـوريا

طلال سلمان
في الأصل، لا يحتاج السفر من بيروت إلى دمشق استخدام الطائرة…
السفر بالطائرة لا يظهر، فقط، المسافة بين العاصمتين التي لا يفصل بينهما أكثر من مئة كيلومتر، أطول من واقعها الجغرافي، بل هو يكشف ـ أساساً ـ أن الطريق الطبيعية بين العاصمتين المتجاورتين ليست، بعد، »سالكة وآمنة«.
ولطالما كانت هذه المسافة القصيرة موضع استثمار مجز، »وعلى الخطين«، وبالذات لأولئك النفر من السياسيين اللبنانيين الذين أفادوا من اختصارها، في الماضي القريب، عبر رحلاتهم الدورية، إلى حد إلغاء المسافة تماماً، لبناء أهرامات مصالحهم الذاتية، سياسياً ومادياً… وعلى حساب مصالح الشعبين.
ثم إن كثيراً من أصحاب المصالح الذاتية أنفسهم سرعان ما عملوا وبأقصى طاقاتهم لإطالة المسافة، بل ولتلغيم الطريق بالدم، بعدما اكتشفوا طرقاً أقصر وأعظم ضماناً لحماية تلك المصالح من العلاقة مع دمشق… القريبة!
ولقد تراكمت، على امتداد الثلاثين سنة الماضية، فوق هذه الطريق سلسلة من الأخطاء والخطايا، في السياسة كما في الأمن، وفي الاقتصاد كما في الاجتماع، بحيث تباعدت العاصمتان، وساد الجفاء الذي زاد من حدته طوفان الغضب الذي اجتاح بيروت، بل لبنان كله، اثر اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، والذي كان السبب المباشر في خروج القوات السورية العاملة في لبنان بطريقة لا تليق لا بطبيعة علاقات الأخوة بين الشعبين الشقيقين، ولا بطبيعة العلاقات بين الدولتين وقد كان الطموح إلى جعلها نموذجية في تكاملها…
سدت تلك الطريق التي طالما شكلت شريان حياة للبنان، والتي طالما أفادت منها سوريا، سياسياً واقتصادياً، والأخطر: معنوياً، وصارت مهمة ترميمها تتطلب جهوداً جبارة، أساسها استعادة الثقة التي دمرها اختلاط الغضب بالغرض، وتحوّل كبار المستفيدين من »العلاقة غير الندية« مع دمشق إلى مشهِّرين بها وبقيادتها، في سياق التحولات التي شهدتها المنطقة بعد إقدام الإدارة الأميركية على احتلال العراق… انتقاماً لضحايا التفجيرات الإرهابية في نيويورك، والتي لم يكن للحاكم في العراق، بتأييد أميركي دائم، ولا لشعب العراق بطبيعة الحال، أية علاقة بها، مباشرة أو غير مباشرة.
وكان ما كان من أمر القرار الدولي ،١٥٥٩ والرد السوري عليه بالتمديد للرئيس السابق إميل لحود، كجزء من خطة دفاعية، ربما كانت اضطرارية، ولكنها لم تكن ناجحة، بل إنها حولت لبنان إلى أرض صراع مفتوح، وفتحت الباب أمام الذين يريدون تبديل الرهان، فاختاروا الانحياز إلى واشنطن، باعتبارها الأقوى.
اليوم، وبعد ثلاث سنوات ونصف السنة من الخروج العسكري السوري، والذي لم يكن لائقاً وكريماً، وبعد التحولات والتطورات الهائلة التي شهدها لبنان والمنطقة من حوله، وأخطرها الحرب الإسرائيلية على لبنان، والتي نحتفل هذه الأيام بالذكرى الثانية لانتهائها بهزيمة مجلجلة للجيش الإسرائيلي الذي كان يوصف بأنه لا يقهر، بفضل الصمود العظيم للمقاومة معززة بالتفاف اللبنانيين من حولها.
اليوم، وبعد التحولات المؤثرة التي شهدها »الشارع السياسي« في لبنان، كنتيجة مباشرة لنتائج تلك الحرب، كما لآثار السياسة الرعناء التي اعتمدتها الإدارة الأميركية ومن معها من العرب خلال سنوات المحنة اللبنانية، والتي أرادت عبرها توظيف الجراح اللبنانية في حصار سوريا، مستغلة الشعور بالغضب وخيبة الأمل في الدور السوري، الذي كان يصور دائماً وكأنه »المنقذ«، و»المرجعية السياسية« المطلقة…
اليوم، وبعد التطورات التي هزت لبنان وأبعدته عن موقعه الطبيعي، والتي نبّهت سوريا إلى قصور دورها، لبنانياً، على الجانب الأمني وتحكيمه في الشأن السياسي، إلى حد تعطيل العمل السياسي المحلي، بالتواطؤ طبعاً مع الذين تعاقبوا على الحكم طوال هذه المرحلة.
اليوم، وبعدما اكتوى البلدان الشقيقان بالآثار المدمرة لاختلال العلاقة بينهما، وهي قد تبدت ـ ولفترة طويلة ـ وكأنها »وصاية سورية« و»تبعية لبنانية«، لم يفد كثيراً في تغطيتها ذلك الرهط من السياسيين اللبنانيين الذين غادروا السفينة مع استشعارهم بداية التحول في حركة أمواج السياسة الأميركية.
اليوم، صار ترميم هذه العلاقة لإعادتها »طبيعية«، أي »أخوية«، ترتكز إلى التعاون الصادق، وفيه مصلحة مباشرة للطرفين، وإلى التكافؤ في المصالح، بعد أن تجلى بوضوح مدى الضرر الخطير الذي يصيب مصالح الطرفين متى اختلت هذه العلاقة، التي لا تجوز أن تبنى على ولاء
بعض السياسيين، أو على شعور بالتفوق واستعلاء غير مبرر ولا هو جائز بين الأشقاء.
ومعركة ترميم هذه العلاقات الحيوية والضرورية للبلدين، معركة صعبة، وأقسى ما فيها تفاصيلها المتراكمة عبر ثلاثة عقود، والتي تختلط فيها المصالح بالعواطف، والمكاسب بالأحقاد، ونزعة الثأر بنزعة الاقتصاص ممن »وثقنا بهم فغدروا بنا«.
ويأمل اللبنانيون أن تكون زيارة الرئيس ميشال سليمان، وهو الذي حافظ على توازنه وساعد بحكمته على حماية الجيش، الضامن الأخير ضد الفتنة والانقسام والتشرذم، مع الإقرار بدور سوريا في حماية وحدة هذه المؤسسة الوطنية وتعزيزها، فاتحة أو مدخلاً لتلك العلاقة الأخوية المأمولة، القائمة على المصالح المشتركة، أساسا، قبل الروابط التاريخية والجغرافية وصلات القربى والأنساب والتمنيات المبهجة مثل شعار »شعب واحد في دولتين«.
إنها فرصة لإرساء هذه العلاقات التي كانت دائماً عرضة للاختلال، مع تبدل العهود والحكام، على قواعد متينة ترتكز إلى المصالح قبل العواطف، وتعطي استعادة الصفاء والوئام مرتكزات جدية تساعد »العهد الجديد« على مواجهة الصعاب الهائلة التي تواجهه.
إن المساعدة الأخوية السورية مطلوبة اليوم، أكثر مما كانت مطلوبة في أي يوم مضى… وبين شروطها أن تأتي وقد تطهرت، بدورها، من الآثار السلبية للتجربة الطويلة التي انتهت، ولا سيما من آثار »الحروب« التي نظمها المنظمون بذريعة »تحرير لبنان«، والتي آذت لبنان بأكثر مما آذت سوريا. لكن »معاقبة« هؤلاء المنظمين هي مسؤولية اللبنانيين، لا السوريين… والانتخابات على الأبواب.
وفي هذا المجال تفرض المصالح نفسها بقوة على محاولة التصحيح، لبنانياً…
أما دمشق فالقرار فيها هو الأساس من أجل غد أفضل لعلاقات صحية بين البلدين اللذين سيبقيان شقيقين، والمسافة بينهما لا تحتاج إلى طائرة إلا متى اختلت!
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى