الأزمة المالية العالمية

إجعلوا العالم آمناً…

صموئيل بريتان
الكتابان اللذان تركا لدي أعمق الأثر عندما كنت طالباً ليسا لخبيرين في الاقتصاد. كان أحدهما للديبلوماسي الأميركي الذي أصبح مؤرخاً، جورج كينان، وعنوانه The Realities of American Foreign Policies (حقائق السياسة الخارجية الأميركية). والثاني لأستاذ التاريخ في جامعة كامبريدج هربرت باترفيلد بعنوان Christianity, Diplomacy and War (المسيحية والديبلوماسية والحرب). صدرا في الخمسينات، تقريباً في الوقت الذي كان وزير الخارجية الأميركي الصقري، جون فوستر دالس، يتحدث فيه عن “كبح موجة الشيوعية”.
استهدف كينان ما سمّاه المقاربة “الأخلاقية-القانونية” للسياسة الخارجية التي اعتبر أنها تسبّب معاناة بشرية أكثر مما تؤمّن دفاعاً حقيقياً عن المصلحة الوطنية. أما باترفيلد فقد قارب موضوعه كمسيحي ملتزم. غير أن القارئ لم يكن بحاجة إلى أي انتماء ديني ليفهم تحذيراته حول التسرّع في إصدار أحكام تبيّن أنها خاطئة وسبّبت معاناة أكبر من تلك التي كانت لتسببها مقاربة أكثر تواضعاً. لقد استهدفا في شكل واضح مبدأ الاستسلام غير المشروط الذي طبّقه الحلفاء في الحرب العالمية الثانية ونفاد صبر بعض المتحمّسين لتجاوز مبدأ الاحتواء والشروع في حملة صليبية إيديولوجية ضد الاتحاد السوفياتي.
لا يزال اسم كينان يُذكَر أحياناً في دوائر السياسة الخارجية؛ لكن يبدو أن كتاب باترفيلد دخل غياهب النيسان، وهذا مؤسف جداً. فالكتاب هو الترياق الأفضل في مواجهة هوامات المحافظين الجدد الأميركيين أو الإمبرياليين الليبراليين الأوروبيين. إنه يطلق تحذيراً مفيداً بأننا كنا لنخوض حرباً “في كل دقيقة من الوقت ضد الهمجية أو القمع في جزء ما من العالم لو لم يكن علينا أن نحسب إذا كان تدخلنا يفاقم من البؤس البشري”. رفض منذ البداية فكرة أن الديموقراطيات متحررة من اغراءات خوض حروب. حتى الدول الصغيرة ذات التجربة الحديثة جداً في القمع “تظهر الأطماع والعدوانية نفسها عندما ترى للحظة أن أمامها فرصة محلية يجدر بها انتهازها”. والتذكير الأكثر تبصراً هو قوله بأنه لو دُفِن الاتحاد السوفياتي وكل حلفائه تحت المحيط الأعمق، لتكرّر قريباً شيء مشابه للحرب الباردة. قبل عام أو اثنين، كان هذا ليعني الإرهاب الأصولي الإسلامي. لكن ربما ينطبق الآن أيضاً على روسيا فلاديمير بوتين.
قبل فترة وجيزة، كنت لأختم مقالي بالدعوة إلى إعادة طبع كتاب باترفيلد. غير أن اختصاصياً أميركياً في علم الاقتصاد السياسي وثّق بعناية التدخلات العسكرية الأميركية منذ عام 1898 ونجاحها أو فشلها في نشر الديموقراطية الليبرالية . يبدأ كتابه باقتباس من خطاب تنصيب الرئيس جورج دبليو بوش عام 2005 يقول فيه إن السياسة الأميركية تقوم على دعم “نمو الحركات والمؤسسات الديموقراطية في كل دولة وثقافة، والهدف الأسمى هو وضع حد للاستبداد في عالمنا”. أين الخلل في هذا الكلام الذي يبدو حميداً ويتحدّث عن أهداف نبيلة؟ يخبرنا كتاب كريستوفر كوين بالضبط عن مكامن الخلل.
في الفصل الأول، هناك جدول من 25 مثلاً عن جهود إعادة البناء عقب الاحتلالات العسكرية الأميركية. يسأل البروفسور كوين كم من هذه الجهود نجح في إرساء ديموقراطيات ليبرالية. ولا تُعرَّف هذه الديموقراطيات فقط بإجراء انتخابات حرة إنما أيضاً بضمان الحريات المدنية ووجود “قيود ممأسسة على السلطة التنفيذية”. كان معدّل النجاح انطلاقاً من استعمال معيار منخفض جداً للحكم عليه، 28 في المئة فقط بعد خمس سنوات. حتى بعد 20 عاماً، بلغ المعدّل 36 في المئة فقط. الموضوع الأساسي في الكتاب هو الآتي “بينما نفهم جيداً ما هو شكل الديموقراطية الليبرالية، لا نعرف الكثير عن السبيل إلى تحقيق هذه الديموقراطية حيث لا وجود لها”. بعض الشروط المسبقة أساسية، وتعارض الأهداف في معسكر الحكام العسكريين يمكن أن يكون قاتلاً. فضلاً عن ذلك، فإن الافتراض الكامن بأن المؤسسات الليبرالية تجسّد قيماً كونية قد لا يكون صحيحاً.
الأمثلة القليلة الناجحة هي في معظمها عبارة عن حالات سُجِّلت في نهاية الحرب الباردة، ولا سيما في ألمانيا والنمسا واليابان وإيطاليا. يركّز البروفسور كوين كثيراً على وجود ممارسات ديموقراطية ليبرالية في ألمانيا واليابان قبل الحرب لم تجهز عليها الديكتاتوريات في شكل كامل. وقد يكون هناك أيضاً عامل أكثر تهكمية. في حالة البلدان الناطقة الألمانية – التي أعرفها حق المعرفة – فإن الطريقة التي هُزِم بها هتلر كانت بمثابة مؤشر للسكان عن الوجه الذي سيكون عليه المستقبل، وبأن رهانهم الأفضل هو الوقوف إلى جانب الأميركيين بأسرع وقت ممكن.
من الواضح أن البروفسور كوين ينتمي إلى الحمائم أكثر منه إلى الصقور. لكنه يوافق على التدخل من حين لآخر لأسباب إنسانية أو لحماية المواطنين الأميركيين. اقتراحاته الأساسية هي تفادي أنواع التدخل التي تنادي ببناء الأمة، واعتماد التجارة الحرة، بصورة أحادية من جانب الولايات المتحدة إذا لزم الأمر. ربما كان التشويه المهني هو الذي يدفع علماء الاقتصاد إلى المبالغة في تقدير المنافع الانتشارية للتجارة الحرة. غير أن السلام والرفاه قد يتوقفان على مدى تقبّل الرئيس الأميركي للخطوط الكبرى في تحليل كوين – وهو موضوع أهم حتى من أزمة القروض الحالية.
• After War: the Political Economy of Exporting Democracy (بعد الحرب: الاقتصاد السياسي لتصدير الديموقراطية). كريستوفر كوين، ستانفورد يونيفرستي برس.
“فايينشال تايمز”
ترجمة نسرين ناضر
(معلق اقتصاديوكاتب عمود خاص في “فايننشال تايمز”)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى