صفحات ثقافية

غويتيسولو وأخلاق المثقف

null
الياس خوري
في رسالة الى رئيس لجنة تحكيم “جائزة القذافي العالمية للأدب” (مئتا الف دولار) ابرهيم الكوني، عزا الروائي الاسباني الكبير خوان غويتيسولو رفضه الجائزة الى مصدرها. “فالجائزة مقدمة من الجماهيرية الليبية، التي استولى فيها معمر القذافي على الحكم بانقلاب عسكري عام 1969”. واضاف الروائي الاسباني: “انا واحد من قلة من الروائيين الأوروبيين المهتمين بالثقافة العربية-الاسلامية. وقد دافعت قدر استطاعتي عن القضية الفلسطينية، وكنت حاضرا على جبهات النضال من اجل الديموقراطية في العالم العربي… وبعد تردد قصير، درست خلاله احتمالات قبول الجائزة او رفضها، اتخذت الخيار الثاني لأسباب سياسية واخلاقية”.
كسر غويتيسولو حاجز الصمت الذي يحجب حقيقة بعض الجوائز الأدبية. فخلف حجاب لجان تحكيم تتمتع بالصدقية والقيمة الثقافية، تأتي بعض الجوائز كي تغطي انتهاك القيم بمبلغ مالي كبير يُدفع الى احد اعلام الثقافة العربية او العالمية. عندما نال الروائي التشيكي ميلان كونديرا جائزة القدس الاسرائيلية، منذ اعوام، كنا ننتظر من كاتب قاوم الديكتاتورية والعسف ان يتخذ موقفا متسقا مع كتاباته، ويرفض جائزة مقدمة من دولة تمارس الاحتلال وتضطهد شعبا آخر. لكن كونديرا خيّب آمالنا.
كشفُ الحقيقة والانحياز الى المضطهَدين يحتاج الى شجاعة ساراماغو ونبل غويتيسولو. كما ان ادانة الاحتلال الاسرائيلي ودعم الفلسطينيين كانا في حاجة الى جذرية جان جينيه وليس الى تردد جان بول سارتر. اما رفض جائزة عربية، من كاتب اختار ان يعيش في مراكش، الى جوار جامع الفنا، فيحتاج الى موقف اخلاقي. غويتيسولو الذي اختار العالمين العربي والاسلامي كي يعلن انشقاقه عن الثقافة الأوروبية، يرفض جائزة عربية، ويقدم الى المثقفين العرب، وخصوصا الى أعضاء لجنة تحكيم جائزة القذافي درسا في اصالة المثقف.
عندما قرأت الخبر، لم افاجأ. غويتيسولو رفض الجائزة باسم القيم الأخلاقية والسياسية، التي قاده الدفاع عنها الى المنافي. وهو في هذا المعنى رفض الجائزة بإسم الكثير من الكتّاب العرب، الذين تناسوا ان في امكانهم هم ايضا رفض الجوائز. ذكّرني هذا الرفض بالموقف الشجاع الذي اتخذه صنع الله ابرهيم، حين رفض جائزة الرواية العربية، التي تقدمها وزارة الثقافة المصرية، راسما بذلك خط الانفصال بين الكاتب والسلطة.
التقيت خوان غويتيسولو للمرة الأولى في مدينة نيويورك، في اطار قراءة ادبية نظمتها جامعة نيويورك عام 2003، جمعتني الى غويتسولو والكاتب الاسرائيلي شمعون بلاص. يومذاك قدّم الكاتب الاسرائيلي نفسه في وصفه عراقيا منفيا في اسرائيل، وألقى احدى اكثر المرافعات بلاغة في الدفاع عن القضية الفلسطينية. اما غويتسولو، الآتي من منفاه الاختياري في مدينة مراكش، فتحدث عن الكاتب الهامشي والمنفي.
كنت بين منفيين، انا الآتي من بيروت التي تعيش تجربة منفاها من خلال غربتها عن روحها، وصراعها من اجل ان لا تسمح للقمع بابتلاعها.
في نيويورك، اذهلني هذا الكاتب الاسباني: اب باسكي وام كاتالانية. الأم تُقتل في غارة يشنّها الطيران الفرنكوي خلال الحرب الأهلية، والأب يخفي سبب موت الأم عن اولاده لأنه كان فرنكويا. وعي سياسي يبدأ من اكتشاف الفتى رسائل العبيد في مزرعة لقصب السكّر في كوبا، كان يملكها جده، تتحدث عن معاناة العبيد وحيواتهم التي تشبه الموت.
اختار غويتيسولو المنفى الباريسي، حيث عمل في “غاليمار”، وتزوج، قبل ان يكتشف مثليته الجنسية. اختار الرجل مراكش وساحة الفنا، تعلم العربية المغربية الدارجة، وكتب سيرته وحكاياته باللغة القشتالية.
انتماؤه الى التعددية الثقافية جليّ في اعماله. وقراءته للتراث العربي الأندلسي هي واحدة من اجمل القراءات في الرواية الحديثة. ينتمي الى ثرفانتس و”الف ليلة وليلة” وابن عربي والتراث الصوفي العربي والتركي، ويكتب بلغة مركّبة، وسردية، لا تستسلم للسهولة، بل تصنع طبقاتها المتعددة، في مبنى يمزج الدهشة الى المعرفة.
في حوار اجرته معه مايا جاكي (“ذي غارديان” 12 آب 2009)، يقول ان ما يهمه هو الأدب وليس الحياة الأدبية، ويستشهد بجان جينيه: “اذا كنت تعرف مكان الوصول، فهذه ليست مغامرة ادبية، انها رحلة في الحافلة”.
لم يركب غويتيسولو حافلة الأدب، بل كانت مسيرته الأدبية بحثا واكتشافا وتجريبا. حياة هي مزيج من مغامرة الغربة واختيار الهامش. باريسه كانت مدينة جان جينيه، والمناخات التي اشاعتها افكار جان بول سارتر. اما عالمه العربي فيمتد من فلسطين الى المغرب. لم يكن نوستالجيا يوما في حبه للأندلس. فأندلسه هي غرناطة لوركا، وفقراء الماريّا. وهو حين يدعو الى تحرير الثقافة الاسبانية من تقوقعها وكاثوليكيتها، يذكّر الاسبان، بأن ثرفانتس، مؤسس الفن الروائي، كان اسيرا في الجزائر، حيث تأثر بمناخات “الف ليلة وليلة”، وبأن مؤلف “دون كيخوته”، كان يهوديا قبل ان تتنصّر عائلته تحت ضغط محاكم التفتيش.
عندما سألته عن علاقته باللغة العربية، روى ان هناك في الاسبانية اربعة آلاف كلمة من اصل عربي، ابتسم وقال انه لا يستطيع تخيّل اسبانيا من دون الحقبة العربية.
اعادني كلامه الى ثلاثيته “علامات الهوية” التي تضم ايضا رواية “الكونت جوليان”، وفيها يتخيّل اسبانيا وقد تجردت من تراثها العربي – الموريسكي، لا زراعة او نسيج او عمارة او مطبخ او موسيقى…
هذه الثلاثية صنعت من غويتيسولو اهم كاتب اسباني حي.
ولد عام 1931 في برشلونة، وهو يمضي ما تبقّى له من العمر في مراكش. هجر باريس بعد وفاة زوجته مونيك لانج منذ اربعة اعوام. واذا اردتَ لقاءه فعليك بالذهاب الى “كافيه فرانس”، التي تطل على باحة جامع الفنا، حيث تجد رجلا على عتبة الكهولة محاطا بأصدقائه المغاربة.
عام 1997، نظّمنا في “مسرح بيروت” ندوة تكريمية لادوارد سعيد، وكان في مقدّم قائمة المدعويين. وصل الكاتب الاسباني الى مطار بيروت في الثالثة فجراً، وذهب فواز طرابلسي الى المطار لاستقباله، لكن السلطات الأمنية اللبنانية رفضت السماح له بالدخول، بسبب وجود تأشيرة اسرائيلية على جوازه. يومذاك لم تنفع كل الاتصالات، وعاد الكاتب الاسباني الى مراكش من دون المشاركة في الندوة.
عندما التقيتُ به في غرناطة منذ عامين، بادرني بالعتاب ضاحكا. “هؤلاء الحمقى لا يعرفون اني ذهبت الى فلسطين لا الى اسرائيل، من اجل التضامن مع الشعب الفلسطيني”.
وعندما اجبته معتذرا، ضحك وقال: “لا لزوم للاعتذار، اعرف معاناتكم ومعاناة الفلسطينيين في لبنان”.
لم اعتذر، لكن غويتيسولو، رفض عام 1988 المجيء الى لبنان للمشاركة في الذكرى الستين للنكبة. قال انه ليس مستعدا للمحاولة من جديد.
في غرناطة كان برفقة صديق مغربي، تحدثنا عن الأندلس ومراكش وبيروت وفلسطين.
سألته عن شعوره وهو يعود الى اسبانيا، فابتسم ولم يجاوب.
قرأت في عينيه ما يشبه السخرية. لم يقل انه حمل اسبانيا معه في كلماته، وهو الساعي الى بلبلة العالم (النسبة الى بابل)، جاعلا من الادب سفينته الى المجهول. ولم اسأله عن شعوره بعد ازالة الرقابة عن كتبه التي مُنعت طويلا في بلاده. فالرجل الذي قاوم الفرنكوية، ولم يتسع له الحزب الشيوعي الاسباني، ولم يستطع ان يخفي نقده للتجربة الكوبية، لا يحب ان يصنَّف، او ان يدّعي انتماء قوميا. انه من سلالة الهامشيين التي تصنع لنفسها وطنا من كلمات. ليس فقط اهم كاتب اسباني حي، بل قد يكون اهم كاتب عربي حي، على رغم انه لم يكتب كلمة واحدة باللغة العربية.
اتخيله الى جانب الياس كانيتّي، امام سحر مراكش وتراثها الشفوي الذي لا ينضب، يشتري الكلمات بالحب، ويهاجر الى العوالم الجديدة التي تصنعها رواياته.
تحية الى خوان، الصديق والمعلّم.

النهار الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى