صفحات ثقافية

لن ترضى عنك نوادي الفن.. حلقات مغلقة وأموال فائضة ومثلية فاقعة والجمال غريب مثلك

null
فاروق يوسف
يقال ان هناك اليوم نوادي مغلقة تنتشر حول العالم، كل واحد منها يضم عددا محدودا من فنانين ذوي نزعات معاصرة. هذه النوادي هي التي تدير من طرف خفي حركة الفن في عالمنا. كما يقال أيضا ان الجهات التي تمول مشاريع الفن المعاصر بالاموال الضخمة لا تلتفت إلى فنان إلا بعد تزكية وتوصية من تلك النوادي. فلا تمويل والحالة هذه لمشروع يتقدم به فنان ليس عضوا في واحد منها. طبعا تلك النوادي لا يمكن اختراقها بيسر. ولا يمكن الوصول إلى مصدر القرار فيها. فهي نواد تأسست في الظل ولا تزال تعمل في الظل. اما القاعات والمتاحف التي تروج للأعمال المعاصرة، باهظة الكلفة، فما هي إلا واجهات ليس لها سوى أن تقدم الخدمات مدفوعة الثمن مقدما. وإذا ما كانت الصدفة في الماضي قد لعبت دورا كبيرا في ظهور عدد من الفنانين وتقديمهم فان دور الصدفة اليوم قد انحسر حيث تمت السيطرة على كل المنافذ، ولم يعد الانتظار يجدي نفعا. بالنسبة لمن لا يحمل الصفات المطلوبة لعضوية تلك النوادي فان الانتظار سيطول، وقد يمضي العمر كله من غير أن ينال شيئا من البركة. وهي على العموم بركة مشبوهة، يجب أن يكون المرء مستعدا لفقدان كرامته الشخصية (حريته واستقلاله وحتى شرفه الشخصي) من أجل أن ينالها. هل صار الفن تحت السيطرة إلى هذه الدرجة الضارة؟
تكهنات تسندها القرائن. سيقال دائما.
في العقود الأولى من القرن العشرين لعب أصحاب القاعات الفنية دورا عظيما في الترويج للحداثة من خلال أعمال روادها الكبار. كان الفرنسي فولار واحدا من أهمهم. كان الرجل موهوبا في اكتشاف العبقريات الاستثنائية. فكانت مكافأته عشرات اللوحات الشخصية التي قدمها رسامون سيكون لهم صيت كبير في ما بعد هدية له. كان هناك شيء من البراءة. شيء من الجهد الخلاق في البحث عن الحقيقة. ولأن الغرب يومها كان حريصا على مبادئه الأخلاقية فقد كان ذلك الجهد يتسم بدرجة عالية من الشفافية والاخلاص والعفوية أيضا. لم تكن المؤسسات على هذه الدرجة من الطغيان والغلو كما هو حالها اليوم. إلى نهاية ستينات القرن العشرين كانت الثقافة الغربية تقاوم من اجل استقلالها. بعدها حدثت أشياء كثيرة، الجزء الأكبر منها كان سريا، مهدت لما نحن عليه الآن من حال هو أشبه بالمؤامرة. الآن مهما كانت قيمة العمل الفني فان أحدا من المتنفذين لا يملك الوقت لرؤيته. هناك توقيت مبرمج ولا يتسع للوقائع العشوائية. المحبطون من الفنانين الموهوبين هم اليوم أكثر من أن يتمكن المرء من احصاء عددهم. وهناك أقلية سعيدة. لنقل ان تلك الأقلية سعيدة بين هلالين. فهي في حقيقتها مستعبَدة من قبل أصحاب القرار الذين صار في إمكانهم أخيرا أن يتلاعبوا بمهارة بمزاج العصر الثقافي. وهو أمر لا يقل خطورة عن التلاعب بمصائر الشعوب والدول.
نحن اليوم في مهب تاريخ فني كاذب. يبدأ بلعبة لينتهي بكارثة.
كلما أقيم معرض لفنون ما بعد الحداثة يجد المرء نفسه في مواجهة الأسماء نفسها. أعمال لا تُباع، غير أن القاعات الصغيرة تجد مَن يعوض لها خسائرها بيسر. ليست هناك تضحية أو خسارة. كل شيء ميسر ومدفوع الثمن. بل ان تلك القاعات تخرج رابحة من كل نشاط غير ربحي تقوم به. هل تحولت القاعات تلك فجأة الى النشاط الخيري؟ مَن يدعم مَن؟ الأمر لا يتعدى مهمة السهر على راحة الأقلية المتبناة. سيبدو فولار ساذجا وطيبا وهو يسافر من مكان إلى آخر طالبا التعرف على التجارب الفنية الجديدة. صار عالمنا المعولم يباغت بقدرته على أن ينكفئ على ذاته، بانحيازه إلى معلومات خبرائه التقنيين الذين هم في الحقيقة مجموعة من المخبرين المرتزقة.
أذهبوا إلى تجربة الايرانية شيرين نشأت. ما من شيء مبهر تستحق المرأة من أجله أن تكون فنانة عالمية كما يشار إليها. أيخون الغرب نفسه؟ روح الخديعة تسمح بأكثر من ذلك. كانت الحرب على الاسلام، وهي كذبة وفقاعة اعلامية، قد سمحت للمؤسسات الاستخبارية في التمدد خارج خرائطها فوجدت في أعمال شيرين ضالتها باعتبارها فضيحة. من يرى إلى اعمال المصرية غادة عامر سيُفجع بضعف مادتها التصويرية وتقنيات خيالها. ولكن مهلا. لا يمكنكم أن تقتربوا من الخط الأحمر: المثلية وهو موضوعها الاخضر الوحيد. ولكن هوكني ولوسيان فرويد كانا مثليين وأنتجا رسوما عظيمة، عن المثلية ومن خلالها بما يتجاوزها. غادة عامر هي اشبه بنملة أمام قامة هوكني المزدانة بمختلف التجارب التصويرية. يمكنك أن تنجو من المثلية معيارا للانتساب إلى نادي المحظوظين إن كانت أمك يهودية كما هو حال الهندي أنش كابور أو أن تعرض تجاربك الجنسية على الملأ كما فعل جيف كونز.
أحقيقي ما أقول أم أنها مجرد أفكار متخيلة لعربي مقهور يقتله الحسد والغيظ؟
من حق الناس أن لا تصدق أن الأمور قد وصلت إلى هذه الدرجة من الرداءة والخبث. ولكن البريطانية من أصل تركي قبرصي تريسي امين وهي رسامة رديئة صارت قبل وقت قصير عضوا في لجنة تحكيم في واحد من أهم المعارض البريطانية لا لشيء إلا لأنها حازت عام 1999 جائزة تيرنر عن عملها (سريري). المعجبون بتريسي يذكرون لها أنها حضرت سكرانة إلى واحدة من الندوات التلفزيونية وخرجت محتجة. هناك تبدل واضح في القضايا. اعتقد أن عليك أن لا تتبنى قضية لا تعنيك شخصيا بشكل مباشر، لا تعني ضالتك المباشرة في العيش. كألأنعام هم (نحن) بل أضل.
وإذا ما تعلق الأمر بالوطن العربي (وهو جزء من العالم الفقير) فان انفصال الفنان عن الناس يبدو أشد مرارة. مَن يكتب مذكراته الشخصية في ظل العنف لا بد أن يفقده الهلع والفزع الجماعي مكانه الآمن. شيء يتعلق بصلة الفرد بالمجتمع. وهي صلة تبدو مستهجنة وفق التصنيف العالمي الجديد. صلة لا تعبر عن مزاج العصر. هناك تصنيف عالمي مريح للقضايا. وفق ذلك التصنيف لن نجد أثرا لقضايا فلسطين والعراق وافغانستان إلا في ما ندر. سيكون مريحا لو أنك تذهب إلى مشكلة وجودية كالاستيقاظ والنظر من النافذة. ذلك أفضل لك ولنا. أما لو رغبت في طرح مشكلة المثليين في افغانستان أو مصر فإننا نملك الوقت للانصات إليك. نحن الآن في خدمة لائحة حقوق الإنسان. اما الفلوجة ففيها ما يذكر بالسياسة ونحن لا نحب السياسة. حلوين، كلامهم مقنع. إنهم لا يحبون السياسة. ولكن السياسة شردتنا، هدمت أوطاننا، جعلتنا لاجئين. هؤلاء ابناء وطنك لا يقولون ما تقول. إنهم يتحدثون عن الكبت الجنسي. إنكم تحرمون الناس من ممارسة حرياتهم الجنسية. ما تقوله صحيح. ولكن هناك خطأ.
الخطأ هو أنا
الخطأ هو أننا نقيم هناك. لا نزال هناك. علينا أن نغادر خيال شعوبي ويوسف عمر وصديقة الملاية. ما هذه الشعبوية الفارغة. لقد بكينا كثيرا وعلينا الآن أن نضحك. يسألني عدد من أصدقائي حائرين وهم يظنون أني افقه شيئا من السر عن الطريقة المثلى للانتساب إلى واحد من تلك النوادي. وحين أظهر لهم يأسي يعلنون خيبتهم بالنقد. أقول لهم: ‘لهذه الأسباب لم أعد ناقدا’ لم يعد النقد كافيا. شيء ما نحتاجه هو في حقيقته أكثر من أن يكون نقدا. الأنا المضادة. الأنا الضائعة التي تعرف أنها ستظل مشردة.
أبهذا الكلام العاطفي نكافح نظاما مؤسساتيا عالميا صارما؟
أعتقد اننا هُزمنا. وما علينا سوى أن ننتظر. سيكون انتظارنا طويلا.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى