صفحات ثقافية

طرق مختلفة إلى قصيدة النثر: الموجة الثانية وجماعة الشعراء النقاد

null
أمجد ناصر
قراءتي أدبيات “قصيدة النثر”، سواء في لحظة “الريادة” أم تلك التي تلتها، لم تصنع انقلاباً، بين عشية وضحاها، في قصيدتي. احتاج الأمر وقتاً، ليس طويلا.. على أي حال. هناك حادثة دالة، أستطيع اعتبارها بداية لتململي من “قصيدة الوزن”. كنت في مطلع عام 1979 أنزل ضيفاً على الشاعر السوري الصديق عادل محمود في دمشق فقرأ لي، على عادة الشعراء، تلك الأيام، بعضا من قصائده، وعندما فرغ من القراءة سألني رأيي في ما سمعت. كنت، آنذاك، ما أزال جلفاً لم تهذبني المدينة، ولم تبرِ الأيام نتوءاتي الحادة، فقلت له من دون أن يرّف لي جفن: وهل تعتبر هذا شعراً؟
كان عادل محمود أكثر لياقة مني، خصوصاً وأنا ضيفه، فلم لم يوجه إلي لكمة من قبضته القوية.. فقال إنه، بالتأكيد، يعتبر ذلك شعراً. احتجاجي لم يكن منصباً فقط على غياب الوزن في القصائد، بل، أيضا، على النثرية العادية التي تتحلّى بها، فقلت له، بتحدٍ صبيانيّ، أعطني قلماً وورقة لأكتب أمامك مثل هذه القصائد. الغريب في الأمر أن عادل أعطاني، فعلاً، قلماً وأوراقاً، ورحت على طاولة المطبخ التي كنا نجلس إليها أكتب شيئا من وحي المكان نفسه. كان ذلك قريبا جدا من شكل وعالم قصائده التي لا أتذكر، الآن، عما كانت تدور، ولكني أتذكر انني كتبت شيئا يشبه التالي:
ها نحن نجلس على طاولة المطبخ يا عادل محمود.
ندخن ونحتسي شيئاً،
الستائر تهتز رغم ان الرياح
المواتية لم تأت بعد.
الأغرب من ذلك أن عادل محمود لم يعتبر ما كتبته سيئاً، فقد قبضت، بتصوره، على تفاصيل اللحظة الهاربة التي نعيشها. النقاش الذي دار بيننا في الأيام الثلاثة التي بت فيها ببيته بدمشق كان يصدر من جهتين متقابلتين: فقد كان يعتبر أن ما أكتبه من قصائد موزونة هو شعر، ولكنه مقيد، بينما لم أعتبر قصائده شعرا بسبب نثريتها العادية وعريها البلاغي والايقاعي. لم أكن بعيداً عن اليومي والتفصيلي في قصائدي التي تنخرط، باجتهاد، في مدرسة سعدي يوسف، ولكنها لم تكن عارية من الجهاز البلاغي والمجازي والايقاعي الذي يصنع فارقاً، ينبغي الحفاظ عليه، بين الشعر والنثر. الأمر لا يتعلق باليومي. فلو كان كذلك، لما استهجنته، خصوصاً، وأنني أكتبه. لا بد أن الأمر يتعلق، إذن، بشيء آخر، أقصى هذه القصائد من الفردوس الشعري الذي أعرفه. هل هو الوزن؟ هو على الأغلب كذلك، فالقصيدة، تجري على اللسان بسيولة وايقاع منتظم مثلما يمكن تصورهما في الذاكرة. القصيدة، بهذا المعنى، تكتب، تقريبا، مسبقا. جهازها الايقاعي شبه جاهز، وليس عليك سوى أن تصب فيه الألفاظ والصور. فلما سمعت قصائد عادل محمود كانت أذني هي التي تستقبل، فتقبل، أو ترفض. وفي هذه الحالة كانت ترفض، لأن ما وقع عليها لم يكن له مرجع منهجي في أرشيفها. كانت الأذن تفرز، تلقائيا، ما هو شعري وما هو غير شعري. الشعري يقع في المطابقة وغير الشعري يقع في المنافرة. وما سمعته كان نافرا.
استطرد، هنا، باستخدام تلك الخبرة مع قصائد عادل محمود، لا بوصفها نموذجاً ناجحاً أو فاشلا، في “قصيدة النثر”، ولكن بوصفها خروج القصيدة، على نحو تام، من الوزن. من الانتظام الايقاعي الذي تستطيع تتبع دفقه ذا الوحدات الموسيقية المتشابهة المتواصلة أو أن تقف على عثراته ونشازاته. اليومي عنده، لم يكن يشبه اليومي عندي، فهو مسترخ، منسرح، لا يتورع عن استخدام معجم النثر نفسه وأدواته اللتين نصادفهما في مقالة. كانت فكرة استخدام أسماء الاشارة وأحرف العطف وأدوات التشبيه والربط والظروف مزعجة بالنسبة لي. الشعر الجيد، في نظري، آنذاك، هو الذي يتمكن من تفادي تلك الروابط والاتكاءات التي تصل الكلام بعضه ببعض، أو تفضي الى شيء من الشرح والوصف. إنه النثر وحده الذي تكثر فيه تلك الروابط وتتخلله، فتحيله إلى كلام، أو ما يشبه الكلام، فيما الشعر تصفية للكلام من “زوؤان” النثر.
عرفت في تلك السفرة، التي كان عنوانها ممدوح عدوان وعلي الجندي اللذان جئت اليهما مسلحا برسالة توصية احتفائية من صديقهما حيدر حيدر في بيروت، اسماء شابة في المشهد الشعري السوري. وباستثناء نزيه أبو عفش الذي كان يزاوج وقتها، بين “قصيدة الوزن” و “قصيدة النثر”، فإن الشعراء الآخرين الذين التقيت معظمهم في مقهى “اللاتيرنا” الدمشقي، كانوا يكتبون “قصيدة النثر”: بندر عبد الحميد، رياض الصالح الحسين، حسان عزت، بشير البكر، ويبدو أن “قصيدة النثر”، ذات النفس الماغوطي البيّن، كانت اكثر انتشارا في سورية مما هي عليه في لبنان، الذي كانت تنحو فيه هذه القصيدة، بالمجمل، في اتجاه اللغة والاستبطان والنأي، ما أمكن، عن “المؤثرات الخارجية”. عرفت، وقتها، ان لقصيدة النثر في سورية أسلافاً مغمورين لم نسمع باسمائهم مثل: سليمان عواد، أورخان ميسر، وسليمان عامود، لكن اسم الماغوط القادم اليهم، بتلك المسحة السحرية التي تضفيها بيروت، عادة، على من يقيم فيها، أو يمر بها مروراً، طغى عليهم. قرأت لاحقاً، بعض أعمال هؤلاء واكتشفت انها اصبحت (dated متقادمة) حسب التعبير الانكليزي، فيما ظلت قصيدة الماغوط تحظى بتداولية وتأثير لم يقيضا للسابقين عليه في هذا الصدد، ما يعنى أن قصيدة الماغوط، نفسها، بما تضمنته من حرارة وصور وحشية وتماسك بنائي، كانت أساسا في تحولها نموذجا مبكرا لـ “قصيدة النثر”، وليس فقط بسبب تعميده بيروتيا من قبل مجلة “شعر”.
ثمة، إذن، ما يتقادم، وينبو عن ذوق اللحظة الراهنة.
وثمة ما يبقى محتفظا بجاذبية للقراءة والتأثير، بل الاقتفاء.
وذلك سر من أسرار الشعر العصية، أحيانا، على التفسير.
لاحظت، استطراداً، أن كثيراً من قصائد مجلة “شعر”، التي صار في امكاني الحصول على اعدادها في بيروت، طاله ذلك “التقادم”. بدا شعرا متصلبا، خشبيا، بلا نسغ، أو قدرة على تحريك شيء في النفس، فيه كثير من الانشاء والصنعة وقليل من الحياة. وهذا أمر طالما حيرني في الشعر. أقصد كيف تتمكن القصيدة من عبور “ذوق” لحظتها لتتجاوب مع قراءة وذوق قادمين بعد وقت طويل على كتابتها؟ وكيف تتمكن من الحفاظ على ذلك الشرط الذي نسميه: متعة القراءة؟ ناهيك عن التأثير.
لا أملك جوابا.
لن يعرف أحد فينا، نحن الذين نكتب الشعر اليوم، ما الذي سيبقى من شعره، ما الذي سينجو من التقادم، وما الذي سيقرأ في حينه كأنه كُتبَ اليوم. ما الذي سيتمكن من تغذية تطلب قادم للشعر؟ لا بد أن تلك السفرة الى دمشق وما تخللها من نقاشات وصلت الليل بالنهار حول الشعر، والتدخل السوري الطازج في لبنان، قد تركت أثرا عليَّ. ففي ذلك الوقت لم أكن قد عرفت، شخصياً، شعراء “الموجة الثانية” من “قصيدة النثر” اللبنانية، وإن كنت أقرأ بعضهم.
*  *  *
يمكنني أن أستخلص من سفرتي إلى دمشق ولقاءاتي بالشعراء السوريين وتلك المعارضات لقصائد عادل محمود، أن فكرة كتابة قصيدة من دون وزن ليست عملا خارج الشعر، وأن استراقي النظر الى أعمال رواد “قصيدة النثر” وبعض الذين تلوهم في لبنان، لم يكن بلا ميل، أصيل، عندي لـ “الانشقاق”. أكثر من ذلك، كشفت لي تلك المعارضات لـ “قصيدة النثر” التي كتبتها أمام عادل محمود، عن الترابط بين “قصيدة النثر” والواقع. بدا يتضح لي أن الواقع ليس، بالضرورة، كبيرا، شاملا صلبا، وإنما يمكنه أن يكون صغيراً، متناهياً، وركيكا، وان القصيدة قد لا تلُّم، بتحليق افتراضي مجنّح، بكل شيء، بل بوسعها أن تنكتب عن شيء معين، أو مطرح صغير لا تبارحه. لم يكن صعبا عليَّ تقبل فكرة أن القصيدة قد تتناول مطبخا وستارته التي تهتز، وربما، صحونه التي في المجلى، فقد كتبت من قبل قصائد فيها أرصفة ومقاه وكراسي قش وصحون من الحمص وسجائر وقمصان وإشارات ضوئية، ولكن ذلك حدث في اطار جهاز بلاغي وايقاعي وصوري يفصل، بخط واضح، بين الشعر والنثر.
النثرية التي تستضيف الواقع، أو الحياة اليومية، المتناهية في الصغر أو في العادية و المجانية، هذه النثرية التي لا يشدها عصب كانت هي التي أقلقتني. كانت القصيدة تبدأ عندي من دندنة ايقاعية، من لحن غامض، ثم يأخذ قوامها يكتسي، تدريجا، لحماً وعظماً وعصباً، فإذا ذهبت هذه الدندنة التي تنطلق، بالضرورة، من وزن معطى، متدارك، متقارب، رمل أيا يكن، فمن أين أبدأ؟ قد لا أكون فكرت بالأمر على هذا النحو الواضح لمفاتيح القصيدة عندي، ولكن، من المؤكد، انني شعرت، على نحو مُبهم، بذلك.
طبعاً، نحن عندما نكتب قصيدة، سواء كانت وزناً أو نثراً، لا نفكر كيف ومن أين تبدأ. ما زال في الشعر، حتى في أكثر حالاته نثرا، ذلك النبض الغامض، ذلك الصدى القادم من بعيد غير مُكّتَنَهٍ، تلك الاشارات التي تلوح لكل بني البشر ولا يعرفون مصدرها، والأسوأ، لا يحسنون استقبالها. ليس الشاعر، على هذا الصعيد، استثناء، لانه ليس نبياً ولا ساحراً ولا لاعب اكروبات.. انه مثل جميع السائرين في مناكبها، لكن ميزته هي في حيازته الأدوات التي بامكانها تحويل تلك الذبذبات الأرضية الطائشة إلى قوام ملموس يدعى القصيدة، والقوام الملموس كان يبدأ دائماً، من قالب ايقاعي معطى. من هناك تبدأ القصيدة، بصرف النظر عن موضوعها، فإذا لم تعد هذه القوالب موجودة، كيف سأكتب قصيدة من دونها؟
هكذا، لم أقرر في الساعة كذا من اليوم الفلاني الموافق لسنة 1979 ميلادية، أن أصبح شاعر “قصيدة نثر”. فلم يكن الأمر انقلاباً يتطلب اذاعة البيان رقم واحد. لم يطرأ عليَّ أي تغير دراماتيكي يمكن أن يكون دليلا على هذا الانتقال. كنت ما أزال أسكن في الطابق السادس في بناية تقع بمنطقة “أبو شاكر من فوق” بالطريق الجديدة، ولي الشعر الطويل نفسه والشاربان ذاتهما، أعمل في مجلة “الهدف” المطلة على “كورنيش المزرعة”، ومنخرط في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ومتزوج، حديثاً، من اللبنانية هند الصاروط.
لا بد أن الأمر حدث على نحو بطيء وتجريبي، بدأ بالاسم، والهوية. إذ أن خربشاتي في “قصيدة النثر” لم تكن مختلفة، كثيرا، عن القصائد الموزونة، وقد لا يفرق، من لا يعرف الوزن، بينها وتلك المفعَّلة من حيث بنيتها، وتقطيعها، والى حد ما، إيقاعها. لكن من الواضح أن هذه القصيدة بدأت تقلقني، وتأخذ بالاستيلاء علي، تدريجا، الى حد أنني سارعت إلى اضافة القصائد الثلاث التي ضمها ديواني الأول “مديح لمقهى آخر” في آخر لحظة، وهي مؤرخة، كما يظهر ذلك في ذيلها، في شهر حزيران (يونيو) 1979، بينما صدر الديوان في الشهر الذي يليه. لم يكن هذا هو الديوان نفسه الذي قرأه حيدر حيدر وسعدي يوسف وزكياه لصديقهما سليمان صبح صاحب دار نشر “ابن رشد” حديثة العهد في سوق النشر اللبنانية التي قدمت كتبا لافتة ميزتها بسرعة. الاضافة التي لم يعرفها حيدر حيدر وسعدي يوسف كانت في تلك القصائد الثلاث. أما نثرية هذه القصائد فقد تكون في عدم حذف وتصفية ما كنت أعتبرته، قبلا، لأسباب ايقاعية وجمالية صرفة، لغوا، أو حشوا، أو اتكاء عاجزا على لوازم تضعف البناء الشعري. وعندما أقول إن الانتقال كان تدرجاً وتداخلا مع قصيدتي السابقة فذلك لأن اللحظة نفسها لم تكن، بعد، حبلى بدعاوى “قصيدة النثر” النضالية الحاسمة. كان التنظير الأول لقصيدة النثر الذي قام على بعض أفكار أدونيس ومقدمة “لن” لأنسي الحاج وترجمة فصل من كتاب الفرنسية سوزان بيرنار وبعض الشذرات المتفرقة في مجلة “شعر” وغيرها، قد نأى عن كتابة تلك اللحظة، ولعله لم يتمكن من وضع محددات للكتابة اللاحقة.
وعندما بدأ شعراء الموجة الثانية من “قصيدة النثر” اللبنانية، الذين كانوا على بعد فراسخ قليلة من بيتي في “الطريق الجديدة”، بالكتابة، لم يصدروا من بيان ولا دعاوى نظرية حاسمة. بل، على الاغلب، من ضجر حيال دعاوى “الحداثة” و “الهدم” أو من جلجلة النشيد وفخفخة اللغة، وربما من موقف مضاد لما هو سائد شعريا وسياسيا. كان هناك انبثاق تلقائي لهذه المجموعة، من دون بيان معلن وبلا منبر محدد تتمحور حوله. البيان كان هو القصائد نفسها والعروض النقدية التي ترافق صدور أعمال جديدة، أما المنبر فقد كان متوزعاً بين صحيفة اليسار (السفير) وصحيفة يمين الوسط (النهار)، فضلا عن منابر أقل تأثيراً وانتشاراً. كانوا، أصلاً، قلة وسط قصيدة فلسطينية ـ لبنانية وطنية لها الصوت الأعلى في الساحة. لم يكن الفلسطينيون، وحدهم، يكتبون قصيدة “الثورة” وقصيدة فلسطين، بل فعل اللبنانيون كذلك، وكانت الظاهرة اللبنانية الأبرز هي “شعراء الجنوب” الذين كتبوا، أيضا، قضية الجنوب وقضية فلسطين وقضية القومية العربية، واستدعاء الجانب المتمرد من التراث، وقد اجتمعوا، معا، على صفحات مجلة “الآداب” في أواخر عصرها الذهبي. كان للحلف السياسي الفلسطيني اللبناني شعره وشعراؤه، لكن الانصاف يقتضي القول إن بعض اللبنانيين، حتى وهم منخرطون في معمعان القضية الوطنية والقومية، تحلوا بشيء من الانضباط العاطفي والشغل على القصيدة، ميّز أبرز اسمائهم عن نظرائهم الآخرين، باستثناء محمود دوريش بشعريته الفذة التي كانت تفرده على حدة وسط “الهدير الجماجمي” لشعر الساحة. بالامكان، أيضا، المراهنة على أن شاعرين شابين كزكريا محمد وغسان زقطان، وهما أقرب أصدقائي في الساحة والقادمان بعدي، بقليل، الى بيروت، سيحافظان على خشبة خلاص توصلهما الى أرضٍ ما بعد أن ينحسر الهدير. وقد فعلا.
ليس “شعراء الجنوب”، مع ذلك، كتلة واحدة، ولم يكن صعبا تبين الفوارق بين قصائدهم، فقد كان واضحاً أن لحسن العبد الله لغة هادئة وصوتا خفيضا واحتفاء بالصورة والمشهد، فيما تحلى محمد علي شمس الدين بشعرية قوية قادرة على التفرع والتشعب في أكثر من اتجاه، كما تمكن ملاحظة دقة الفاظ قصيدة جودت فخر الدين، وقرب شوقي بزيع من اليومي وصوره الملموسة، وليس صدفة، أن يواصل هؤلاء الكتابة بعد انحسار الموجة وأن يبقى ذكرٌ حسنٌ لمن توقف منهم (حسن العبد الله، مثلا). شعراء القصيدة الوطنية الفلسطينية ـ اللبنانية كانوا عربا، أيضا، وكانوا أكثر ممن أحصيت. إذ يكفي تصفح مجلات وصحف المرحلة لتطالع رهطا كبيرا من كتاب تلك القصيدة، ولكن، شأن كل الموجات والمراحل الكتابية، لم يواصل الكتابة إلاَّ قلة.
هذا استطراد طويل. والقصد منه القول إن اختيار قصيدة خارج النظام التفعيلي، وبالضرورة، بعيدا عن هدير القصيدة الوطنية، كان خيارا هامشيا بامتياز. انه كتابة على الهامش المتروك لا المتن المكتظ. ولعل في الأمر”شجاعة” أيضاً عبر عن اعجابه بها محمود درويش لكاتب هذه السطور، لاحقاً، بالقول: شجاعتكم تكمن في تخليكم عما هو مؤكد ومضمون شعرياً، لصالح خيار غير مؤكد، ولا مضمون على هذا الصعيد.
الموجة الثانية
في نهاية السبعينات بدأت تتخلق كوكبة من شعراء الموجة الثانية لـ “قصيدة النثر” في أحشاء اللحظة السائدة. كان معظم هؤلاء يقيمون، أو يلتقون، في منطقة “الحمرا”، ولم أكن قد تعرفت، بعد، إلا على واحد منهم هو بسام حجار الذي كان يعمل وقتها في صحيفة “النداء” لسان حال الحزب الشيوعي اللبناني. لا أتذكر كيف تعرفت ببسام. ولكن لا بد أن يكون ذلك اثر نشر قصائد لي في الصفحة الثقافية لـ “النداء” أو غيرها من الصحف اللبنانية، فقد كان المتبرمون من شعر اللحظة السائدة، يجمعهم، لهذا السبب بالذات، نوع من الحلف غير المعلن. أتذكر انني كنت التقي بسام حجار، على الواقف، تقريبا، بالقرب من مقهى “الجندول” على كورنيش المزرعة حين أكون قد فرغت من عملي في مجلة “الهدف” ويكون هو في طريقة الى “صيدا” التي لم يغادرها، على ما أظن، الى اليوم. كان بسام حجار أول شعراء هذه الموجة الجديدة من “قصيدة النثر” اللبنانية الذين تعرفت اليهم شخصيا، بينما كنت أقرأ لعباس بيضون وبول شاؤول وحمزة عبود، وحسن الشامي ومحمد أبي سمرا وعبده وازن وعقل العويط ووديع سعادة.
وما إن صدر ديواني الأول “مديح لمقهى آخر” (1979) حتى كان موضع احتفاء منهم، فقد كتب عنه، بعض هؤلاء بتقريظ خالص، وفي ذلك العام صدر أيضا العمل الشعري الأول لبسام حجار “مشاغل رجل هاديء” ولاقى حفاوة بالغة من نفس العصبة أيضا. لم تؤسس تلك المجموعة ولادة الموجة الثانية لقصيدة النثر، اللبنانية فحسب، بل أسست ظاهرة، لم تكن موجودة، على هذا النحو، من قبل: الشعراء النقاد. فقد بدا أن النقد السائد، وهو بمعظمه، صورة في المرآة للقصيدة السائدة، غير قادر على فهم ما جاءت به هذه القصيدة من جماليات مغايرة، فضلا عن كونه غير متعاطف معها. لا النقد الذي انبثق من مجلة “شعر”، بكل نواياه الحسنة تجاه التجديد، كان بمقدوره أن يفعل ذلك، ولا النقد الذي يرتاب، أساساً، بنسبة هذه القصيدة الى الشعر العربي، فما كان من الشعراء إلا أن أخذوا على عاتقهم أمر قراءتها نقديا والتنظير لشعريتها في مواجهة الهجوم عليها.
وسيعبّر بسام حجار، سنين بعد ذلك، عن إرث اللحظة النقدي قائلا: “ورثنا”، الى نقد كل شيء، نقد الشعر، او بيان وظائفه وغاياته الخ.. فأدركنا، في وعي حائر، ان لا وجود لنقد الشعر ولما هو شعري، وما يوجد، بالفعل، هو قارئ الشعر، فالأحرى، أن تطرح اسئلة الشعرية في صيغ أخرى على القارئ الغُفل، شبيهنا. لم يكن النقد، إذن، سوى جزء من إرث “ينقد” كل شيء، ولكنه، ينتهي، الى نقد لا شيء، لأن النقد لم ينفرد انفراد الأشياء، بل يرد بوعي مطمئن، تماما، لأدواته ومقاصده، المنفرد والسائب الى المجموع والصف. نقد كهذا، لا تقع القصيدة التي تطلع من بين الشقوق والتصدعات في مرماه، فهو لم يرها، وإن رآها، فهي ليست أكثر من هرطقة أو صدى للترجمة. ولا أظن أن ظاهرة شعرية عربية أنتجت نقدها من داخلها كما فعلت هذه الموجة، الأمر الذي صار تقليدا لبنانيا ما عتم أن عمّ الساحة العربية.
أخطاء الولادة الأولى صارت قانونا
كانت أقرب قصائد المجموعة، التي ستشكل الموجة الثانية من “قصيدة النثر” اللبنانية، إلى نفسي، هي قصيدة بسام حجار. فهي لم تكن قصيدة يومية، بمعنى اشتغالها على تفاصيل شبه فوتوغرافية تسقط من كاميرا تتعقب حيوات أناس في مدينة تتأرجح بين الحرب والسلم، ولا هي مجرد استبطان غائر لدواخل الفرد الأعزل في مدينة مسلحة حتى الأسنان، فتلوذ بما هو وجودي وداخلي مديرة ظهرها لواقع يبدو صلبا على السطح، ولكنه يمعن في التحلل تحته.
ليس لدي، الآن، “مشاغل رجل هاديء” عمل بسام حجار الشعري الأول. فقدته مذ فقدت مكتبتي الأولى في بيروت، ولم أقرأه، مذ ذاك، ولكنني أظن أنه كان مزيجا من اليومي والاستبطاني معا. اليومي هو ذلك الذي كنا نعيشه ولكنه لم يكن يعتبر مادة فعلية (وإن وجد، فهو مادة سلبية) للقصيدة في زمن كانت القصائد لا تقبل فيه بأقل من الصعود الى الجلجلة مثقلة بصلبان الشهادة، ومن الاستبطاني الذي يقلّب عزلة الأفراد واضطراباتهم، (غير المبررة يومها، فكيف تكون أعزل ومضطربا والدنيا ذاهبة بهمّة الفكرة القابضة على ميكانزمات التاريخ، ووهج انصهار الحديد في معامل الصناعة الثقيلة، لانجاز أكبر مشروع تحرر عالمي؟). باختصار كانت قصيدة بسام حجار تجمع بين اليومي النافل وبين عزلة الداخل في شكل شعري متخلص من آثار التجريب والاشتغال، وفي لغة منضبطة، ومتقشفة. نحن الذين نشتغل في ذلك المعمل الغامض الذي يسمى الشعر نعرف، من النظرة الأولى، القصيدة التي تولد ولادة طبيعية، وتلك التي تولد قيصريا. هناك سلاسة وانسياب للأولى، وهناك عنتٌ وعرقٌ متصببٌ يطبع الثانية.
صار ممكنا لي، بعد فترة، أن أميز بين تيارين في قصيدة تلك المجموعة سأصفهما، الآن، على هذا النحو الفضفاض: القصيدة التي تحفل باليومي المتشذر، وتلك التي تحفل بالاستبطان ذي المسحة الميتافيزيقية. الحياة اليومية، ببعض شوائبها وعضويتها، بادية على الأولى، فيما تكاد القصيدة الثانية أن تكون معقمة منها، فهي تنحّي، وتطرد وتصقل كل ما يبدو شائبا وعضويا وزائدا. أي تطرد تقريبا كل ما يربطها بالظرفية: الوقت والمكان، ولم تكن الأخيرة مما يغري واحدا مثلي مثقلا بالشأن العام ومنخرطا في آليات تغييره. أدركت فيما بعد، أن القصيدتين تنطلقان من تلك الظرفية التي اعتبرتها، حينذاك، المجال الحيوي الذي يتحرك فيه الشعر: فالأولى تواجه الظرفية من خلال تبني ما هو مهمش فيها، فيما الثانية تتعالى عليها باعتبارها انحطاطا للوقت والمكان. وبهذا المعنى، كان تيارا تلك القصيدة اللبنانية ينطلقان من الأسباب والعلل ذاتها (أي ما نسميه الواقع) ولكنهما يسلكان طرقا مختلفة ويصلان الى أرض أخرى للشعر.
أقفز سنين إلى الأمام. في عام 1987 عقدنا، صلاح فائق ونوري الجراح ولينا الطيبي وكاتب هذه السطور، ندوة في لندن حول تلبس “التفعيلة” اسم “الشعر الحر”، وهي ليست شعراً حراً كاملاً، مستعيدين محاولات التوضيح التي قام بها جبرا وعبد الواحد لؤلؤة ونشرت تلك الندوة على ثلاث حلقات في مجلة “الافق” التي كانت تصدر في قبرص. لا أظن أننا قدمنا كشفا باهرا على هذا الصعيد، إذ لم يتعد الأمر، حسبما أذكر، حدود استئناف تلك الصيحات التي ذهبت أدراج الرياح. لم تغير طبعا النقاشات التي شهدتها الندوة، شيئا. كان واضحا لنا أن معظم ما نكتبه، نحن المنتدين، كما هو حال كثيرين، يقع، معظمه، في خانة “القصيدة الحرة” وليس “قصيدة النثر”. لا أذكر أننا حددنا ما هي “قصيدة النثر”. فيما يخصني في الأقل لم أكن قد عرفت بعد شكل وطبيعة هذه القصيدة. سيتضح لي الأمر، لاحقا، من خلال نقاشات مسهبة ومتشعبة حول الشعر مع عبد القادر الجنابي في لندن وباريس، فهو كان يعرف، هذه الفوارق، وإليه، كما سبق وقلت أكثر من مرة، أدين، ليس فقط بمعرفة “قصيدة النثر” الأوروبية، ولكن بمعرفة اتجاهات وتجارب شعرية عالمية، لم أكن أعرف عنها الكثير عندما كنت أقيم في بيروت أو قبرص.
أذكر أننا قررنا، نحن المنتدين، أن لا نصف قصيدة “التفعيلة” في كتاباتنا وأحاديثنا، بـ “القصيدة الحرة” وأن نخلع هذا الوصف على ما يسمى عربيا “قصيدة نثر”. من جهتي، التزمت فترة من الوقت بهذه “التوصية” ثم دبّ فيَّ اليأس. فقد مرت مياه كثيرة تحت الجسر. وصار صعبا، إن لم يكن مستحيلا، استعادة الأسماء. ليست استعادة الحديث، الآن، عن الأسماء مجرد مماحكة شكلية. فللأسماء مسمياتها وهي، في حالتنا هذه، لا تنطبق عليها.
قرأتُ قصيدة النثر الرياديةَ ولم أقرأ بياناتِها. لم يقيض لمقدمة “لن” عمل أنسي الحاج الشعري الاول، أن تعيش طويلا في السجالات التي دارت بين “قصيدة النثر” و “قصيدة الوزن”، فأنصار الأخيرة، وهم التيار الغالبُ في الكتابة والتلقي، رفضوا فكرة انتسابِ هذه القصيدةَ الملتبسةَ الى الشعر. أما الذين كتبوا هذه القصيدةَ في ذلك الطور، أو الذي تلاه، فلم تتحول تلك المقدمة ـ المانفستو عندهم دليل عمل. وعندما أمكن لي أن اقرأ أنسي الحاج، قرأتُه مقلوبا: من “الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع” الى “الرأس المقطوع” ولم اقرأ “لن” إلا متأخرا لذلك لم أعرف ترسيمتَه القاطعةَ لهذه القصيدةِ إلاَّ بعد عملين ِأو ثلاثةِ لي، ولم أجد، حينها، ظلالا لتلك الترسيمةَ على أعمال أنسي الحاج نفسه، التي راحت تطول وتنحو صوب صوفية مسيحية هرطوقية.
كانت الوصفةُ السحريةُ قد تجاوزها صاحبَها. كتبَها ونسيَها، إذ لم تعد ملزمةً له ولا لغيره. وهذا يؤكد، للمرة الألف، أن الصنيعَ الابداعي لا يمشي في ركاب النظرية. الابداعُ أولا، ثم للتنظير أن يفعل ما يشاء. له أن يحددَ ويستنبط ويؤطر، ولكنه، على ما علمتنا التجربةُ، لا يتمكن من رد قصيدتين اثنتين لنفس الشاعر الى قالبه. لأنَ لكلِّ قصيدةٍ ولادةٌ لا تشبهُ غيرَها. نحن لا نشبهُ أنفسَنا في الحالتين. حتى في الحالات الأكثر تشابها وتوحدا، مثل الحب لا نكتبُ قصيدةَ الحبِ مرتين. هكذا كان أنسي الحاج خارجَ مقدمته وهو يكتب “لن” وأخواتِها. صنيعُهُ ليس المقدمةَ، بل شعرُه، وهو وحدُهُ الذي صنع منعطفا مشى فيه، حسبَ تعبيرِ عباس بيضون، كثيرون. المشتركُ الوحيدُ، برأيي، بين مقدمة “لن” وشعرِهِ في “لن” (وغيره من أعمال) هو ذلك التوترُ الذي تحسه يسري في بدنك، تلك القشعريرةُ التي تنتقل من النص إلى الجلد، وذلك الغضبُ المنذرُ بالتهلكة حيناً، والرضا الواعدُ بجنة للهراطقة حينا آخر.
لم يشبه أنسي الحاج، على ما أعلم، شاعرا قبلَه، فهو حالة فريدة في عالمها ومعجمها بالعربية، والذين مشوا في طريقه لم يواصلوا طريقَ قاذفِ اللهب في “لن” و “الرأس المقطوع”، وإنما العائدُ الى نفس لم تبرأ من شقائها الأصلي برغم ضراعتها إلى الخلاص. هكذا قد لا يتطابقُ الصنيع مع التنظير له. فماذا بقي من تلك الأركان الثلاثة التي استلهمها أنسي الحاج من سوزان برنار، وجعلها أركانا لا تكونُ قصيدةُ النثر قصيدةً من دونها: الايجازُ، التوهج، المجانية (أو الجزاف، بتعبير عبد القادر الجنابي)؟ لم تعد تنطبقُ هذه الأركانُ الثلاثةُ على شعر أنسي الحاج نفسه بعد نحو عملين له، ولعلها لم تنطبق بتلك الصرامة المنهجية، على كل قصائد عمليه الأولين. ولماذا عليها أن تنطبق أصلا؟ القصيدة كتبت، ثم صار البحث جاريا عن اسم لها. أطلق الشاعر عليها اسما راحت تضيق به وتخرج منه. أو وهذا ما أرجحه، كان الخطأ أكبرُ من أن يصححَ، وكان الذوقٌ أرسخُ من أن يغيرَه كتابٌ.. أو مقدمةٌ من بضع صفحات. كانت الفترةُ صاخبةً وحبلى بالدعاوى والالتباسات. كانت منعطفا، وعند المنعطف لا يمكنُ تَبِينُ الطرقِ بسهولة.
أصل هنا، الى ما أوردتُه سابقا، عن الفارق بين قصيدة النثر بالمعنى الغربي للكلمة ومعظمِ ما كُتِبَ تحت يافطتها في تلك اللحظة (مطلع الستينات). يبدو أن أدونيس صاحبَ مقالة “في قصيدة النثر” وأنسي الحاج صاحبَ “لن” ببيانها، وجبرا ابراهيم جبرا العائد من انكلترا، كانوا يعرفون، الفارق بين “قصيدة النثر” العربية كما هي عند الماغوط والصايغ وجبرا، و “قصيدة النثر” الغربية. لأدونيس وأنسي كان دليلُهما كتابُ سوزان برنار الذي عرفا وترجما فصلا منه في مجلة “شعر” فضلا عن معرفتهما، إلى هذا أو ذاك، لهذا الصنيع نفسه في الشعرية الفرنسية، لكن “خميس شعر” قدمَ، مع ذلك، قصائدَ الماغوط بوصفها قصائدَ نثر. وأمامنا، نحن الذين لم نعاصر تلك الفترة، الكثير من الأدبيات التي تعكسُ ذلك الالتباسَ. حاول جبرا، انطلاقا مما هو متوفر لنا من وثائق، أن يعيد اسما ألصق “خطأ” بقصيدة التفعيلة هو “الشعر الحر” الى نصابه، موضحا: “أن الشعرَ الحر Free verse ترجمةٌ حرفيةٌ لمصطلح غربي، وقد أطلقوه على شعر خال من الوزن والقافية كليهما. إنه الشعر الذي كتبه والت ويتمان وتلاه فيه شعراء كثيرون في أدب الأمم، فكتّاب الشعر الحر بين شعراء العرب اليومَ هم أمثالُ محمد الماغوط، وتوفيق صايغ وكاتبُ هذه الكلمات في حين أن “قصيدة النثر” هي “القصيدةُ” التي يكونُ قوامُها نثرا متواصلا في فقرات كفقرات اي نثر عادي”.
لكنَّ هذا التوضيحَ وغيرَه (عبد الواحد لؤلؤة لاحقا) لم يغير شيئا. فلم ينفض الالتباس، ولم تتخلّ “التفعيلةُ” عن اسم ليس لها، تماما، ولم يصر الى التفريق بين “القصيدة الحرة” وبين قصيدة النثر prose poem ويخطر لي أن الذائقةَ العربيةَ، رُغمَ كلِّ صيحاتِ التهديم والتحطيمِ التي رافقت فترةَ مجلة “شعر” ظلت عصيةً على تقبل انتقال حاد في مفهوم الشعرية. أن تفقدَ القصيدةُ العربيةُ الجانبَ الصوتيَْ والتقطيعي على الصفحة، وتأخذُ شكل كتلة نثرية وتظل شعرا؟
هذا كثيرٌ.
بين الشعر الحر وقصيدة النثر
من عدم الإنصاف، إذن، القول إننا، اليوم، أمام وعي جديد بالكامل للفارق بين “القصيدة الحرة” و “قصيدة النثر”، فالفارق، في الوعي، والكتابة (إلى حد ما) كان موجوداً، على نحو جنيني، مذ اُطلِقَ هذا المصطلحُ في مجلة “شعر”. كان أدونيس وأنسي الحاج وجبرا ابراهيم جبرا (وربما آخرون) يعرفون، على ما يبدو، الفارقَ بين القصيدة التي تغادرُ الأوزان الخليلية، وتلك التي تترسم خطى “قصيدة النثر” بمعناها الفرنسي والأمريكي. لكن مصطلحَ “القصيدةَ الحُرةَّ” (أو الشعر الحر) كان قد تلبَّس قصيدة أخرى حديثة العهد، هي “قصيدةُ التفعيلة” التي أخذت تتحررُ، نسبياً، من قيود ايقاعية وتعبيرية قديمة. لكن من دونِ أن تصلَ إلى ما يسمى بـ Free Verse في الشعريات الأوروبية ـ الأمريكية.
فما العملُ إذن؟
سنسمي، كلَْ ما لا يتقيدُ بالبحور العربية، “قصيدةَ نثر” وتنتهي المشكلة، خصوصا أن اللاوعي العربيَّ يربط، على نحو متلازم، بين الشعر والوزن. فقصيدة بلا وزن، هي، إذن، قصيدةُ نثر!
والسؤالُ الآن، هو كيف أمكنني أن أصلَ الى هذا الاستنتاج؟
جوابي بسيط، إنه في العودة الى أدبيات تلك الفترة التي سترينا أنّ الذين يعرفون الفوارق بين القصيدتين لم يقاتلوا، ما يكفي، لوضع الفوارق، والتسميات، موضع التنفيذ، فاستسلموا لخطأ، ولده التباس لم يكونوا بعيدين عنه. أدونيس نفسه يشير إلى الخلط الحاصل (في لحظته) بين القصيدة التي تتخلى عن الوزن والقافية، ولكنها تعتمد نظام التشطير (التفعيلي) وبين “قصيدة النثر” ذات الهيئة الطباعية المختلفة. إنه يفعل ذلك عرضاً في مقالته “في قصيدة النثر” التي ستكون أولَ “بيان” من نوعه عن هذه القصيدة في العربية. لكن أدونيس لم يكن يعلم، على الأغلب، عندما قدّمَ قصائدَ محمد الماغوط في “خميس شعر”، هذا الفارقُ الحاسم. ُ
ولكن ما هي “قصيدة النثر”؟
ليس لدينا في العربية معجمٌ مُعْتَبَرٌ للمصطلحات الأدبية، فلا فائدةَ إذن من مساءلة المعاجم ولا المراجع الأكاديمية. أما في الغرب (مهد هذه القصيدة) فيمكنك أن تفتح أيَ معجم للمصطلحات الأدبية، وتجد تعريفا، وإن مختزلا لها. أما الشعراء والنقاد العرب، السابقون واللاحقون، فيكادون يجمعون على ما جاءت به مجلة “شعر” من تعريفات مستمدة من كتاب سوزان برنار خالد الذكر. فماذا تقول هذه التعريفاتُ المجمُعُ عليها، تقريبا، بين بيانات الشعراء المؤسسين، واللاحقين؟ أدونيس، أولُ من أشار الى هذه القصيدة في مجلة “شعر” (العدد 14، ربيع 1960) في مقالة تحمل عنوان “في قصيدة النثر” يقول، بعدَ أن يستعرض علاقة الشعر بالوزن، والقيد الذي تمارسه القافية على حركة المعنى، إن “البيت في الشعر العربي يشكل وحدة، وحدة للأذن، ووحدة للعين، وربما وحدة في المعنى. والخروج على هذه الوحدة هو، شكلياً، خروج على الشعر. فالبيت دفعة كاملة لا تتجزأ، ووحدة بنائية منطقية، وهذا ما يؤكده التراث العربي. وهو تقليد راسخ كان من التأثير بحيث تجلى حتى في الطريقة التي تكتب بها بعض قصائد النثر حالياً، إذ تكتب في أسطر يفصل بينها بياض، تماماً، كما تكتب القصيدة الموزونة”.
أما محددات “قصيدة النثر” الفارقة، عنده، فهي شكلاً، في الجملة في مواجهة “البيت”، فهي التي تخلق وحدة القصيدة وتشكل ما يشبه العالم الصغير و “هي خلية منظمة تشكل جزءاً من كل أوسع ذي بناء مماثل”، ولذلك فهي “ذات وحدة مغلقة”. هي دائرة، أو ما يشبه دائرة، وهي أخيراً “نوع متميز قائم بذاته. ليست خليطاً. هي شعر خاص يستخدم النثر لغايات شعرية خالصة”. ثم يجمل أدونيس تحديده لمواصفات “قصيدة النثر” بثلاث نقاط هي:
الوحدة العضوية التي تتيح لها أن تشكل عالماً مغلقاً.
المجانية، أو ما يسميه بـ “اللازمنية”، بمعنى أن قصيدة النثر لا تتقدم نحو غاية أو هدف كالقصة والرواية والمسرح أو المقالة بل تعرض نفسها ككتلة لازمنية.
الكثافة، فعلى “قصيدة النثر” أن تتجنب الاستطرادات والايضاح والشروح وكل ما يقودها إلى الأنواع النثرية الأخرى.
يتضح لنا أن مقالة أدونيس “في قصيدة النثر” هي بيان لهذه القصيدة، أكثر مما هي “دراسة”، يستند فيها، كما يقول الشاعر نفسه، في ملاحظة على هامش الصفحة الأولى، إلى كتاب سوزان برنار الصادر قبل عام واحد من كتابة ذلك البيان. وأياً يكن السبب، فإننا نلاحظ أمرين في تعريف أدونيس لـ “قصيدة النثر”: أولا اعتماده الكامل على دراسة سوزان برنار، وثانيا: تعليقه العرضي، السريع على أن ما يُكتب بالعربية آنذاك من قصائد نثر تعتمد السطر بدل الجملة يرجع إلى تجذر شكل البيت في التراث العربي إلى درجة أن الذين تحرروا من الوزن والقافية ويكتبون “قصيدة نثر” لم يستطيعوا التخلص منه!
ما هي قصيدة النثر؟
بامكاني القول، هدياً، بكامبيل ماك غراث Campbel MacGrath عن “قصيدة النثر” إنها: (..) بلا سياج (لها) رغم وجود عمود مهترىء هنا وهناك، يؤكد زعماً ( بملكية) سابقة، وأسلاك مجدولة ساقطة غطاها الغبار. إلى اليسار حقل ذرة يمتد بعيداً، يهبط ويعلو الى السماء الزرقاء، سهل من الخضرة والنباتات القوية مرتبة بنظام، “سطراً وراءَ سطرٍ وراءَ سطر”. ولكن هذه قصيدةُ نثر عن قصيدة النثر ولا تقدم توضيحا يشفي غليل التعريف الذي طالما استبدَّ بعلاقة البشر بالأشياء. لنتعامل مع الشيء، ينبغي أن نُعرَّفه، أن نسميه، فمن دون ذلك يفقد هويته المميزة التي يستمدها، غالبا من الاسم الذي نطلقه عليه.
كنا في الشعر القائم على الوزن نعرف كيف نسمّي، فالتسمية وصلتنا جاهزة وتلبَّست، نهائياً، ذلك الشكلَ من التعبير الأدبي. صحيح أن العرب لم يجعلوا الشعر في الوزن والقافية، فبعض نخبتنا القديمة اعتبر الوزن والقافية، أقلَ العناصر أهمية في العملية الشعرية، لكن ذلك لا يمنع أنه لم تصلنا قصيدة من تلك العهود القديمة بلا وزن أو قافية, ولكن كيف، بغياب ذلك الدليل الهادئ الى القصيدة يمكن أن نعرّفها اليوم؟ أقصد كيف لنا أن نعرف أن القصيدة قصيدةٌ رغم انها منزوعة الوزن، والأدهى أنها تستخدم وسيطاً ينظر اليه، عندنا، بوصفه نقيضا للشعر: النثر؟
سأحاول أن لا أتورط في أحكام صارمة حول هذا النوع الشعري فقد رأينا، كيف لم تصمد تلك الأحكام أمام زحف هذه القصيدة المتواصل الى مناطق لم تكن تبدو من لزوم الشعر وعدته. أغلب الذين يكتبون “قصيدة النثر” (الفعلية) يعرفون نهمها لتوسيع حدودها، وعدم التوقف عند الاشارات التي تحدد الطرق والوجهات. ولكن بما أننا في مؤتمر مخصص لقصيدة النثر ينبغي أن نتلمس بعض المواصفات التي تتحلى بها هذه القصيدة. فلكي تكون القصيدةُ قصيدةً عليها أن تكون مقصودة. ولحسن الحظ، فإن في أصل تسمية العرب القدامى لهذا النوع الأدبي، المعنى نفسه، فالشعر لا يكون نوعاً، حتى بالمفهوم العربي القديم، إلاّ من خلال هذا القصد: القصيدة. البيت بيت، لكن القصيدة هي العمل الكلي الذي ينظم تلك الابيات في إطار واحد. هي إذن جسد الشعر الذي يعمل الشاعر على لمِّ عناصره المتفرقة في إهابه. والقصد بهذا المعنى، يعني الوعي بما تقصد. القرآن أعطى، من خلال بعده البلاغي والايقاعي، إحساساً بالشعر عند سامعيه العرب الاوائل لكنه ليس شعراً. فيه شعرية غير أن تلك الشعريةِ لم تتحول شعراً لأنها لا تلبي شروط النظام الشعري. أو انها لم توح للسامع بذلك القصد. لم تقل له إن هذه الشعرية التي تحسها في الكلمات وما ينداح عنها من أجواء وايقاعات هي شعر. بل العكس، لقد تم التحذير، في بدء الدعوة المحمدية، من اعتبار آيات القرآن شعرا. القرآن نفسه يصف الرسول بانه ليس شاعرا “وما علمناه الشعر وما ينبغي له”. إذن قصد الشعر هو أحد أوجه تلقيه.
التحدي المطروح أمام قصيدة النثر، لم يكن مطروحاً على قصيدة الوزن، فهي تريد أن تتحقق، شعرياً، من خلال وسيط كان يعتبر (ولعله لما يزل) في الجهة المقابلة لها. فإذا كان التحدي المطروح أمام قصيدة الوزن (التفعيلة اليوم) هو أن تكون قصيدة جيدة، فإن تحدي قصيدة النثر هو أن تكونَ قصيدة أولا.
واضح أن التحدي أكبر وأشقّ.
فقصيدة الوزن مُسلم بها، عبر شوطها التاريخي الطويل، كقصيدة، والأمر ليس كذلك بالنسبة الى قصيدة حديثة العهد، محاطة فوق ذلك، بالالتباسات والريب. فهذه قصيدة عليها أن تبدأ، عربيا، من نقطة الصفر. ولا يجدي هنا، الكلام عن النثر القرآني أو المقامات أو نثر المتصوفة، سلفا لها. تلك أصول وأسانيد ضعيفة، والأمر لا يتعدى حدود رد شبهة العجمة عنها. “قصيدة النثر” عند منظريها العرب الأوائل هي نتاج أدبي غربي. كان هذا واضحاً منذ البداية. أدونيس نفسه، وهو أكثرُ من اشترط لاحقاً، على كاتبها معرفة التراث العربي معرفة جيدة، يقول في أكثر من مقالة وتصريح إن قصيدة النثر نتاج تطور في الشعرية الأوروبية والأمريكية. طبعاً نحن نعرف أن العرب المعاصرين قبلوا أشكالا أدبية لم تكن موجودة في التراث العربي من قبل كالرواية والقصة القصيرة والمسرح. صحيح أنهم حاولوا، أيضاً، تأصيل هذه الأنواع عربيا، غير أن ذلك اقتصر على نفر قليل من الذين يتصورون أن العرب عرفوا وكتبوا كل أجناس الكتابة الأدبية، أما الغالبية العظمى من كتاب ونقاد هذه الأجناس الأدبية، فيقرون أن وجودها في العربية، على هذا النحو الذي هي عليه اليوم، هو ثمرة المثاقفة مع الغرب.
في الشعر يختلف الأمر. فللشعر عند العربي حساسية خاصة. فهو يعتبر هذا الجنس الأدبي ساحته ولعبته وديوانه. فكيف يتقبل صاحب الساحة واللعبة والديوان التأثر بأمم أقل شأناً منه على هذا الصعيد؟! وهذا يحيلنا إلى السؤال التالي الذي أرَّق بعض أعلام النخبة النهضوية العربية: كيف ستكون صورة الشعر العربي لو أن الذين نقلوا فلسفة اليونان وعلومها إلى العربية قد ترجموا الملاحم الشعرية الإغريقية؟ من الصعب أن نعرف الجواب، لأن الذين نقلوا فلسفة وعلوم اليونان لم يشعروا (أو لم تشعر لحظتهم التاريخية) أن بهم حاجة إلى ذلك. فماذا عند اليونان من شعر قياساً إلى لسان الشعر: العربية؟!
استطرادي، هنا، له معنى واحد: تلك الحساسية الجلدية التي تصيب العربي عندما يتعلق الأمر بتعرض “ديوانه” إلى تأثر خارجي، فكأن في ذلك تلوثاً للنقاء، واستهانة بالأصل. ولكن، مع ذلك، فقد حصل، شئنا أم أبينا، أن تعرض “ديوانُنا”، في القرن العشرين، الى تأثيرات قادمة من الخارج. فلا يمكن فهم الموجات الشعرية العربية المعاصرة منذ المهجريين و “جماعة أبولو” و “الديوان” وصولا إلى جماعة “شعر” مروراً بجماعة “الآداب”، من دون فهم التأثير الخارجي. هذا أمر مفروغ منه الآن، ولا جدوى من البحث فيه، وما استعادته، هنا، إلاّ من قبيل التذكير، فقط، بأن أمر التحديث في الشعر العربي لاقى، ولعله ما يزال يلاقي، صعوبة قادمة من تلك المنطقة من اللاوعي الجمعي، ولا يعني اختفاء السجال الذي عرفته الستينات، ثم استأنفته السبعينات والثمانينات حول الأشكال الشعرية ومرجعياتها عربيا ودوليا، بل حول ما هو الشعر وما هي القصيدة، لا يعني اختفاء السجال استقراراً وتقبلاً للكتابة الشعرية الجديدة بقدر ما هو احباط عام وكسل فكري وغلبة الأحداث الكبرى التي شهدتها المنطقة على أي شأن ثقافي آخر.
حدود متحركة
حتى عند الذين عرفوا “قصيدة النثر” قبلنا، مثل الأوروبيين والأمريكيين، هناك محاذرة من وضع أسس صارمة لـ “قصيدة النثر” تشبه تلك التي حددها كتاب سوزان برنار وكفَّ عن قدرته على وصف “قصيدة النثر” التي جاءت بعده، وخصوصا، في موطنها الخصيب، اليوم: أمريكا. ويبدو أن “قصيدة النثر” تشهد، الآن، انتشاراً لم يعرفه الشعر الأمريكي من قبل، بل إن هذا الشعر يعرف سجالات لم يعرفها، على الأغلب، منذ والت ويتمان. ولعل أول امتحان لشرعية هذه القصيدة في الشعرية الامريكية حدث عام 1978 عندما صوت رئيس اللجنة المشرفة على جائزة “بوليتزر” الأمريكية المرموقة ضد منحها لمجموعة الشاعر مارك ستراند Mark Strand “النصب” The Monument التي ضمت عدداً من قصائد النثر تتمحور حول موضوعة الموت.
كان واضحاً، كما يقول ديفيد ليمان David Lehman محرر واحدة من أشهر أنطولوجيات قصيدة النثر الامريكية الحديثة Great American Prose Poems، إن النثر لم يقبل بعد كوسيط شعري، أما الشعراء الذين يكتبون قصيدة النثر فقد كانوا سباقين على هذا الاعتراف الذي لم يتحقق، على صعيد المؤسسات الرسمية المعنية بالشعر، إلا مع نيل الشاعر الامريكي اليوغوسلافي الأصل تشارلز شميك هذه الجائزة بالذات على كتاب في هذا النوع الشعري بعنوان “العالم لا ينتهى” The World Dosen “t En d عام1991 وبالقياس الى شعرية تفتحت باكراً على أشكال ومدارس شعرية أوروبية مختلفة مثل الشعرية الامريكية، لا تبدو الشعرية العربية متخلفة كثيراً عن اثارة سجال كتابة قصيدة من خلال الوسيط النثري. فكيف يحدد ديفيد ليمان “قصيدة النثر” انطلاقاً من السجال الاوروبي الأمريكي حولها؟
يصف ليمان “قصيدة النثر” كما يلي: انها قصيدة مكتوبة بالنثر بدلاً من النظم، وهي تبدو على الصفحة كمقطع نثري أو كقصة قصيرة مشظاة لكنها، مع ذلك تعمل كقصيدة.
وتعتمد هذه القصيدة على الجملة بدل البيت الشعري (التشطير)، وباستثناء ابتعادها عن “التشطير”، فانها تستخدم كل تكتيكات واستراتيجيات الشعر (الحر)، واذا كانت القصيدة الحرة Free Veres قد انهت الوزن والقافية كمعيار شعري فإن قصيدة النثر أنهت العمل في البيت الشعري كوحدة تأليفية وبنائية للقصيدة. ويصل ليمان إلى القول إن “قصيدة النثر” هي نوع شعري يخفي طبيعته الشعرية. أما مادة هذه القصيدة المكتوبة كجملة نثرية على عرض الصفحة فقد تفيد من نماذج كتابية غير مألوفة شعرياً مثل المقالات والمذكرات المكتبية، اللوائح، الكلام، الحوار.
أما راسل ايدسون أحد رواد هذه القصيدة في الشعر الامريكي الحديث فيصف “قصيدة النثر” بالقول: “إنها شعر متحرر من قيود الشعر، ونثر متحرر من احتياجات القص”. بينما يقرنها روبرت بلاي، العلم الآخر في هذه القصيدة، بـ “الكلام الطبيعي للغة الديمقراطية”.
إن دلت هذه التعريفات الفضفاضة على شيء، فإنما تدل على صعوبة، إن لم تكن استحالة، الوصول إلى تعريف جامع مانع. وهذا أمر لاحظه جان كوهين، وإن بشيء من الامتعاض، عندما تحدث عن التباس كلمة “قصيدة” بوجود “قصيدة النثر” في الساحة “الشعرية”، إذ يقول إن “كلمة قصيدة نفسها لا تسلم من اللبس”، ذلك أن وجود عبارة “قصيدة نثر” التي أصبحت شائعة الاستعمال، يسلب كلمة “قصيدة” في الواقع ذلك التحديد التام الذي كان لها يوم كانت تتميزُ بمظهرها النظمي. وفعلاً، ففي الوقت الذي كان فيه النظم شكلاً لغوياً تعاقدياً صارم التقنين كان للقصيدة وجود شرعي غير قابل للنزاع، وهكذا كان يعتبر قصيدة كل ما كان مطابقاً لقواعد النظم، ونثراً ما ليس كذلك. غير أن عبارة “قصيدة نثر” الظاهرة التناقض تفرض علينا إعادة تعريفها.

شهادة قدمت الى “مؤتمر قصيدة النثر” الذي أقيم في الجامعة الامريكية في بيروت في أيار (مايو) 2006، وفصل من كتاب بعنوان “طريق الشعر والسفر” صدر في بيروت عن دار رياض الريس هذه الايام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى