صفحات ثقافية

“أصوات عدة: ستون عاماً من النثر والشعر والسياسة” لهارولد بينتر

null
نبرة غضوبة وحاذقة واستفزازية وملهمة ومحبّة للتعبير عن جنّة فقدناها
تباطأت أكاديمية نوبل الأسوجية قبل ان تتذكر هارولد بينتر عام 2005 في توقيت حرج صحيّا بعدما استبدّ به الداء الخبيث وناله الأذى من جراء سقطة أبقته موثقا الى كرسي مدولب. تمنّع المسرحي الإنكليزي عن حضور حفل تسليم الإمتياز المهيب مرغما، فاستعاض عن المجيء بعرض افكاره مسجّلة وبسطها امام عدسة الكاميرا، يعنونها على نحو مفيد: “الفن والحقيقة والسياسة”. تبيّنه الصور المسلوبة في تلك اللحظات ومن جميع الزوايا، شاخصاً في المشاهد وشامخاً في مقعد يشبه الشرك، فيما يستعير هيئة الممثلين الواثقين.
عندما دنا الإطار، لمعت عينا بينتر امام الدائرة المزججة خلف نظاراته القديمة الطراز. تراءى قيادياً وفاتناً وهزيلاً كذلك، فيما راح يصف طريقاً سلكته شخوص أعماله المسرحية لتخاويه، غير انه لم يلبث ان جنح صوب همّه الأساسي. انتقل الى الحديث عن انحراف السياسية الأميركية. تلا العجوز السقيم الكلمات من دون تردد مترفعاً عن الاستغاثة بالملاحظات. تراءى اداؤه مؤثرا بينما شبك يديه على نحو مجلّ بمستوى ركبتيه متدثراً بقميص أسود مزرّر الى العنق، وسترة سوداء ايضا، في حين ألقيت بطانية حمراء غامقة مزدانة بأشكال برتقالية على ساقيه. لم يباغت فحوى كلامه احدهم، ذلك ان الفن والحقيقة والسياسة لخّصت ثلاثة مصادر للشغف في معيش بينتر، يستبقيها كتابه “اصوات عدة: ستون عاما من النثر والشعر والسياسة (1948-2008)” الصادر بالانكليزية لدى “فايبر & فايبر”.
مضى ما يفوق العقد على صدور فاتحة نسخ هذا المؤلف اليتيم الموثّق لمنجز بينتر غير المسرحيّ في 1998، في صيغة تقرُب المتاهة الممتعة، موزّعة بين النثريات والتأمّل والمحطات الشعرية. مذّاك، ضجّت حياة امرئ يجوز نعته من دون وثبة مغالاة، بأنه أعظم كتّاب المسرح في القرن المنصرم، بتطورات محوريّة. نال نوبل الآداب، فألحق بالنسخة الثانية من الكتاب لدى دار “فايبر & فايبر” البريطانية في 2005، خطابه اللافت في هذه المناسبة، ليضمّ الى النسخة الثالثة الصادرة قبل شهور، تفاصيل ومحطات وقّع بينتر بموته عشية عيد الميلاد من 2008، رخصة رفدها بمقالات سياسية شغوفة مناهضة للحرب وحوارات اجريت معه، الى قصائد مدموغة بهمّ العدالة والمحمومة بالحبّ.
الكتاب جالب للإلهام ومصدر سرور كذلك، ويقول تحديثه ثلاث مرات في غضون السنين العشر الأخيرة الكثير في شأن حيوية رجل عدّ الكتابة كالأداء، حرفةً اكثر منها فناً. يجايل الكتاب بينتر في حقبة السقم بعدما خلخله الوجع فصار شبه منقطع عن الكتابة للمسرح ومنصرفا الى الشعر والنص الصحافي الآني. غير ان المجموعة، ومن طريق تغطيتها ستة عقود من الابتكار، تؤكّدها إشارة “ستون عاما” التي اضيفت الى عنوان النسخة الأحدث، تقدّم سجلاً وافياً يبوح بالجانب الممتع والمريح، الى المستفزّ والأقل امتاعا. والحال، ان قاعدة الزمن وايقاع الأعوام، ذريعة ملائمة لاكتشاف نصوص سياسية وشعرية تتسم بالغضب الصاخب الموجّه معظمه ضد الولايات المتحدة الأميركية، على نقيض عناوين بينتر المسرحية المذهلة، حيث تحفيز للبلاغة والتصويرية. تظهّر النسخة الأحدث من “أصوات عدة: ستون عاما من النثر والشعر والسياسة (1948-2008)”، مقابلة لافتة حيث بينتر يتأمل نفسه طفلا أُبعد قسرا عن والديه، ولندن المستهدفة بالقصف، الى مدينة كورنوال عند اندلاع الحرب الكونية الثانية، ناهيك بنثريات وقصائد تسمح باختلاس نظرة الى فكر المسرحي المشدود على عصب المقاربة اللماعة.
في البحث يتلو بينتر حبّه للأدب بصوت مرتفع ومصرّ، بينما تصل القصيدة الى بواطن العالم الغريبة والجميلة، لتجيء تجربته الصحافية بتقويم مزعج للسياسة الدولية في النصف الثاني من القرن العشرين واوائل الحادي والعشرين، حيث تتقدّم أميركا كما ينظر اليها هذا الإنكليزي، صافرة من المبادئ. والحال، ان الزهو الذاتي او هو ربما الاقتناع او العقيدة، يكاد يفوح من مقالات عدة لبينتر خارج سياق الأعمال المسرحية، تعكس اختيار صاحبها عدم المساومة والتسليم بالرائج.
اضيف الى المجموعة الاخيرة، مقال “جوارب آرثر ميلر”، ليس لأنه يروي كيف اقرضه نظيره الجواربَ بعدما فقد احدى حقائبه خلال قدومهما الى تركيا في 1985 لزيارة ضحايا التعذيب، بل لأنه يسرد لقاء جسورا بين بينتر والسفير الأميركي (مراجعة النص المترجم في اسفل الصفحة). كان الجوّ متوترا الى حدٍّ طُرح فيه بينتر خارج حرم السفارة الأميركية في انقرة تقريبا، على خلفية دعمه لموقف ميلر وجمعية “بين” الأدبية، المعترض على تعامل تركيا القاصر مع كتّابها الراديكاليين.
ثمة تركيز في الكتاب على نقمة مدوّنة وشفوية على السواء ازاء السياسة البريطانية والأميركية منذ مأساة الحادي عشر من أيلول، يقولها بينتر في شباط 1998 في صحيفة “ذي غارديان” في “رسالة مفتوحة الى رئيس مجلس الوزراء”. يبدأ النصّ بجملة: “تم تذكيرنا مرارا خلال الأسابيع اليسيرة المنصرمة بسجلّ صدام حسين المريع في مجال انتهاك حقوق الإنسان… غير اني اظن من اللافت التمحّص في سجلّ حليفتنا الولايات المتحدة الأميركية”. يمطّ المنظور عينه في قصيدة “كرة القدم الأميركية: تأمّل في شأن حرب الخليج” (1991) الموقظة للجدال، ناهيك بنصّ يعود الى 2002 فيما تهمّ حكومة بلاده باجتياح العراق وحيث يدلّل الى اعتداء ارهابي محتمل على مترو الأنفاق. يكتب بينتر: “يستقلّ آلاف طلاب المدارس مترو الأنفاق اللندني يوميا. في حال حصل اعتداء بالغاز السام ادى الى موتهم، تقع المسؤولية على عاتق رئيس مجلس الوزراء بالكامل. ليس ثمة حاجة الى الاشارة الى ان رئيس مجلس الوزراء لا يستقلّ مترو الأنفاق”.
صراحة مماثلة يمكنها ان تعطي الإنطباع بأن بينتر أحادي النظرة. من خلال إدانته التحرّك العسكري المتفرّع عن اعتداءات نيويورك، يخاطر في الحد الأدنى في الظهور غير شفوق ازاء رتل الضحايا، ليذهب الى حدّ أقصى يحثّه على اضرام السخط بقصائده لإبقاء ذكرى اولئك الذين يسقطون منسيين تحت عجلة بعض السياسات الأميركية المتطرّفة.
يقدر بينتر على قطف الكلام العادي المكرور واستئصال ميزات شعريّة منه وإيقاعات وتريّث وتململ وتفتّح مباغت وجمالية. يطبّق المسار عينه بفساحة اكبر في الشعر ويبلغ الأوج في قصيدة واحدة، بل وفي جميع القصائد الأخرى، حيث يستقي موسيقى معتمة قوامها الأصداء والتنويعات. على رغم انتقاد بعض الكتّاب لمواقف بينتر السياسية الجازمة، وذهاب تشارلز سبنسر في صحيفة “تلغراف” الى اعتبار مناهضته للولايات المتحدة الأميركية مجرد صراخ حاد ومجلجل، تبين قرائنه وجها صادما للحقيقة بلا ريب. في مطلع “الولايات المتحدة والسلفادور” (1993) يسأل بينتر: “خمسة وسبعون الف قتيل في السلفادور خلال السنوات الخمس عشرة الماضية. من قتلهم بل من يأبه لأمرهم؟”. آمن بينتر بأن العنف وثيق الصلة بسوء استعمال اللغة، وهذا ما حثّه في خطاب ألقاه في جامعة تورينو الإيطالية (2002) على معاينة ادارة الرئيس جورج دبليو بوش السابقة “حيوانا مفترسا متعطشا للدم، صارت القنابل قاموسه الوحيد”.
يوثّق الكتاب لكباش معلم أدبي مع اللغة ويفضح كيف يمكن الكلمات ان تعزّز العمق والتقشف في آن واحد، وتشاكس العمق بعدذاك. يقوّم بينتر اللغة فيعتبرها قادرة على نفث الذهول والحيرة. غير ان ذهول بينتر في ما يعني لاجدوى اللغة، هو الذي يصلنا كقراء. يكتب بينتر: “ثمة صمتان. الاول حيث لا تلفظ اي كلمة، والثاني حيث يستخدم سيل من الكلام”.
النصوص لقطة برهوية لتطوّر بينتر، تتبصّر سبيلا جعل الشاب الذي اتمّ عمله المسرحي البكر في غضون اربعة ايام لمصلحة قسم الدراما في جامعة بريستول، يصير احد اكثر كتّاب المسرح تأثيراً في القرن المنصرم. يقدم “اصوات عدة: ستون عاما من النثر والشعر والسياسة (1948-2008)”، اداة تعليمية لمجموعة القراء المرتقبين. سيتعرف المبتدئون الى إشكاليات الغنائية، في حين يعثر العاملون في نطاق المسرح على رسوم تخطيطية للممثلين والأعمال المسرحية والانتاج المسرحي في بريطانيا بدءا من الخمسينات من القرن المنصرم، بينما يفسّر الأكاديميون طفرة غضب بينتر السياسي منذ “كوميديا التهديد”. يلخّص الكتاب تجارب بينتر التأسيسية في حضن طفولة يهودية في هاكني، اخذته الى تجربة اداء تحت ادارة جوزف بريرلي وانتهت الى اختياره في أدوار ماكبث وروميو. هناك ايضا مرحلة الالتحاق بالأكاديمية الملكية للفنون الدرامية والإصدار المبكر في “بويتري لندن”، فالتعاون مع بيتر هال، الى مناكفة النقّاد “غير الضروريين” بورع وصولا الى خربشة نصوص مسرحية آسرة.
تعرّج المجموعة على نص مهمّ قوامه خطاب ألقاه بينتر في مهرجان طلاب الدراما الوطني في 1962 في بريستول بعنوان “الكتابة المسرحية”. ها هنا يعلو صوت بينتر لينتقد بشدّة التنظير في سياق تحليله لاكتمال العمل المسرحي من طريق الجمهور ولا يفوته ان يتفحّص سلطة “الصفحة البيضاء” في ارهاب الكاتب. في هذا السياق لا يتردّد في الإعلان: “كان كل عمل مسرحي بالنسبة إليَّ نمطا مختلفا من الفشل”.
يفصح نثر بينتر عن قبضه الرائي على الموضوع المتداول. في رسالة الى صديقه مايك غولدشتاين، يبلور دفاعا رائعا عن عمل بيكيت “في انتظار غودو”، حيث نجد صدى لإيقاعات بيكيت، وانسيابية رفيعة. يتراءى الأمر بلا اهمية الى حين ندرك ان الرسالة ترجع الى 1955 وان بينتر كتبتها بدءا من ايرلندا قبل ان يشاهد العمل حتى.
ليس هناك حاجة الى القول ان شعر بينتر عديم الرأفة ويتلصّص على بواطن النفس البشرية الأكثر قتامة. في “زنزانات السرطان” نقابل رجلا يدرك انه مقدّر للموت، غير انه لا يسعه سوى الاشتباك مع الداء. يتّضح ان بينتر في سنواته المتقدمة لم يخصص سوى انتباه محدود للياقات الاجتماعية، لهذا السبب نجده يتمتع بتكرار شتيمة من “العيار الثقيل” في قصيدة “حب حديث” (2005) اثنتي عشرة مرة. غير ان مجموعة قصائد اخرى تميط اللثام عن جانب أشدّ رومنطيقية في شخصيته. في احداها تنشر للمرة الأولى، يتوجّه الى زوجته انطونيا من اليونان في 1987، حيث نقرأ: “في خضم المرة الاولى تلك اليتيمة في عمري/ تناديني مرة تلو المرة/ في ضوء هذا القمر المطلّ على بحرنا/ في مدّنا العنيف واليافع والحنون/ اجدك انتِ يا شريكة الرقص/ يا عروسي”.
نبرة هارولد بينتر غضوبة وحاذقة واستفزازية وملهمة ومحبّة. تغيّر السياق جذريا ربما، غير ان هواجس الكاتب لا تزال على طزاجتها تحاور شعرا لغويا شعبيا وخبيئا، ولغز الوجود الانساني الشاسع، الى سلطة الذاكرة، وإن المتلاشية، للتعبير عن جنة فقدناها.
في نص “في شأن نيل جائزة شكسبير الألمانية في هامبورغ” (1970)، يدّعي بينتر ان التحدّث علناً اصعب مرتين من كتابة عمل مسرحي. نفهم لماذا طوّع اذاً الاستراحة الدؤوبة والمتأنيّة بين الكلام والكلام على الخشبة، ولماذا كانت شخصياته المسرحية في ذروة البلاغة عندما احتمت بالصمت.
رلى راشد
تفخيخ وسائل الإعلام
كتب هارولد بينتر في 1992 نصا يتمحور على الرقابة عنوانه “تفخيخ وسائل الإعلام”، نُشر في مجلة “انديكس” البريطانية في ايار من ذاك العام، وضمّته الطبعة الثالثة من “أصوات عدة: ستون عاما من النثر والشعر والسياسة (1948-2008)”. يخصص بينتر الفسحة الكلامية لسرد صعوبات جمة واجهها لنشر احدى القصائد السياسية، “كرة القدم الأميركية: تأمّل في شأن حرب الخليج”، ايقظت الحساسيات وأثارت حفيظة كثيرين:
بدأت كتابة هذه القصيدة على متن طائرة اقلّتني الى مهرجان ادنبره في آب 1991. عندما حطّت المركبة في المدينة، كنت انجزت مسوّدة عددتها مزعجة الى حد بعيد، ذلك انها توزّعت بين نشوة النصر ومسيراته والفحولة، وتلك ثيمات حلّت في المقدمة في تلك الحقبة الزمنية. ارسلت القصيدة اولا الى “لندن ريفيو اوف بوكس”، فوصلتني رسالة غريبة قالت ان النص يتمتع بقدرة لافتة، غير انه ولهذا السبب تحديدا غير قابل للنشر. لكن مضمون الرسالة ذهب الى حد التأكيد ان الصحيفة تشاركني آرائي في شأن الدور الأميركي في العالم. رددت برسالة ايضا ، فيها: “يا صديقي الحميم، توافقني الصحيفة الرأي، أليس كذلك؟ سأحتفظ بهذا الرأي لنفسي لو كنت مكانك”. والحال اني سررت كثيرا لاستخدام تعبير “صديقي الحميم”.
ارسلتُ القصيدة بعدذاك الى صحيفة “ذي غارديان” فاتصل بي مسؤول الصفحات الأدبية ليقول “يا الهي. هارولد انها حقا… لقد تسبّبت لي القصيدة بصداع حاد جدا. اؤيدك تماما على الصعيد الشخصي”. اذكر انه اضاف خلال دردشتنا الهاتفية: “لكن أتعلم، لا أظنني… اظننا سنواجه مشكلات لا تعدّ في حال حاولنا نشرها في “ذي غارديان”. سألته بسذاجة: “حقا ولماذا؟”. اجاب: “حسنا، أتعلم يا هارولد، نحن صحيفة عائلية”. تجاسر على النطق بهذه الكلمات! قلت: “انا آسف حقاً، كنت اعتقد انها صحيفة رصينة”. اجابني: “حسنا، نحن ايضا صحيفة رصينة طبعا. غير ان الأمور تبدّلت بعض الشيء في “ذي غارديان” على مرّ الاعوام اليسيرة المنصرمة”. اقترحتُ عليه ان يناقش المسألة مع زملائه قبل ان يعطيني الإجابة النهائية في غضون يومين. ذلك اني على ما قلتُ “اؤمن ان الصحيفة تضطلع بمسؤولية نشر الأعمال الجدّية اي المصنّفة جدية، واظن القصيدة من هذا الصنف. على الرغم من ان النص عنيف، غير انه صلب ايضا بل من الفولاذ الصلب الحامي…”. عاود الاتصال بي بعد يومين وبادرني بالقول:  “هارولد انا آسف حقا. لا يسعني نشر القصيدة”. قال ما معناه انها تتخطى نطاق صلاحيته المهنية. هذا ما حدث في “ذي غارديان”، فعمدتُ الى ارسال القصيدة الى “اوبسرفر”.
يعتبر موقع “اوبسرفر” اكثر المواقع الإلكترونية تركيبا واثارة للإعجاب. لم ارسل القصيدة الى مسؤول الصفحات الأدبية هذه المرة وانما الى مدير التحرير الذي اتصل بي بعد يومين ليبلغني انه ينبغي لها ان تنشر. اضاف انها قصيدة قاسية جدا وانها ستجتذب النقد بلا ريب، غير انه يظنّها تليق بأن تنشر في صدر الصحيفة وليس في الصفحات الأدبية، ذلك انها سياسية الفحوى الى اقصى حد. والحال اني سعدت لسماع هذا الكلام. اكدّ انه سيبعث لي بدليل على كلامه، وهذا ما فعله. لم يحدث اي شيء في الأحد التالي، ولم يحدث شيء أيضا الأحد الذي تبعه، فبادرتُ الى الاتصال بمدير التحرير. قال: “آه يا عزيزي هارولد، يؤسفني ان اخبرك اني صادفت مشكلة او اثنتين في ما يخصّ قصيدتك”. سألته ان يشرح لي ماهيّة المشكلات التي يتحدّث عنها. فردّ: “سأكون واضحا، لا يرغب زملائي بأن انشرها”. سألته: “ولماذا؟”. اجاب: “يؤكدون اننا سنخسر قراء كثيرين بسببها”. استفهمته مجدداً: “هل انت مقتنع بهذا الكلام حقا؟”. في الواقع، كان حديثنا ودوداً، ذلك انه اردف: “ارغب حقا في نشر القصيدة غير ان الجميع يعارضني”. قلت عندئذ: “اعتبر صحيفة “اوبسرفر” مطبوعة جدّية ذلك انها نشرت اخيرا حكاية تروي ما اقترفته الدبابات الأميركية في الصحراء. كانت الدبابات مجهّزة بجرّافات وخلال الهجوم البري استخدمت ككنّاسات، ودفنت، على حدّ علمي، عدداً لم يحدّد من العراقيين احياء. ورد ذلك في صحيفتكم بوصفه حدثاً، وكان في الواقع حدثاً مريعاً وفاحشاً. يرد في قصيدتي: “اختنقوا من جراء تغوّطهم”. انه تعبير فاحش من دون شك، غير انه يشير الى وقائع فاحشة”.
اجابني: “انت على صواب تماما. اسمعني، اريد حقا ان انشر قصيدتك. غير اني اواجه انماط مقاومة شتى. ان العائق لغوي، اي اللغة الفاحشة. يشعر المرء بالإهانة بسببها، ولهذا يعتقد الجميع اننا سنخسر القراء”. ارسلتُ بعدذاك الى مدير تحرير “اوبسرفر” فاكساً مقتضباً حيث اوردت اقتباساً لبعض ما قلته في السفارة الأميركية في انقرة في آذار 1985 حين رافقت ارثر ميلر. تحدّثتُ يومذاك مع السفير الأميركي في شأن التعذيب الممارَس في السجون التركية. فعاتبني لأني لا أبدي تفهما للوقائع المرتبطة بالتهديد الشيوعي والواقع العسكري والديبلوماسي والاستراتيجي، وغيرها. ردّدتُ ان الواقع الذي ادلل عليه ليس سوى واقع الشحنة الكهربائية الموصولة بأعضاء المساجين التناسلية. فردّ السفير حانقاً: “يا سيدي، هل ينبغي لي ان اذكّرك بأنك في ضيافتي”، قبل ان يستدير، فغادرتُ منزله مباشرة.
قصدتُ ان اخبر مدير التحرير في صحيفة “اوبسرفر” ان السفير شعر بإهانة فادحة بسبب نطقي بتعبير الأعضاء التناسلية. اعتبر أن الكلمة تحمل اساءة، في حين غضّ الطرف عن الفعل عينه. اخبرته اني لا يسعني سوى ان اقيم موازاة بين الحديث الموجز في انقرة والمسألة التي نناقشها. تستخدم هذه القصيدة كلمات فاحشة بهدف وصف افعال ومواقف فاحشة.
غير ان مدير التحرير راسلني مرة اخيرة ليكرّر إخباري بعجزه عن نشر النص معرباً عن اسفه الشديد. كتب: “انصرفتُ الى تقويم مسألة نشر قصيدتك التي تتناول حرب العراق على نحو جدّي. تعلم بلا ريب ان موقفي الغريزي الأول كان مؤيدا للنشر على رغم اعتراضات زملائي الرفيعين في شأن الإساءة الى القراءة… اقرّ بأني افتقر الى الجرأة”.
قبل فترة وجيزة اشار كاتب افتتاحية في “اوبسرفر” الى مسألة رفض الصحيفة حيث يعمل للقصيدة، وعزا ذلك الى تحفظّات مدير التحرير في شأن “هنات القصيدة البنيوية”. غير ان المفارقة ان أحدهم لم يتفوه بكلام شبيه. لم يقل لي أحد “لا نظن هذه القصيدة على المستوى المطلوب. يؤسفنا ان نخبرك انها ليست نصا موفقا”.
ارسلتُ القصيدة لاحقا الى مسؤول الصفحات الأدبية في “انديبندنت” وأشرت إلى اني لم ابعث بها اليه في المقام الاول لأني ظننت الصحيفة ستتحفظ عن نشرها، غير انه وبعدما رفضها الجميع، اي “لندن ريفيو اوف بوكس” و”ذي غارديان” و”اوبسرفر”، أقرّ بأني ربما تسرّعت في الحكم على “انديبندنت”. سأختزل الحكاية لأقول ان مسؤول الصفحات الأدبية اراد نشرها غير انه شعر بضرورة استمزاج رأي مدير التحرير الذي ابقاها في حوزته أياماً عدة قبل ان يختار التعليق عليها بكلمات مقتصدة فحواها ان الصحيفة لن تنشر القصيدة. لم اتلقّ اي تفسير لتبرير القرار. كان القرار سلبيّا فحسب.
ارسلتُها لاحقا الى “نيويورك ريفيو اوف بوكس” من باب الدعابة. شكرني مدير التحرير بحرارة غير انه اشار الى انه يؤسفه اعلامي بعدم قدرة المطبوعة على نشر القصيدة. قررتُ بعدذاك عدم تبديد المزيد من الوقت. علمتُ بأن مجلة فاخرة الطباعة تحمل اسم “بومب” (اي قنبلة) تصدر في ويست فيلادج في الولايات المتحدة الاميركية، ربما تهتم لنصي، والحال انها نشرت القصيدة فعلاً.
في المحصلة نشرت القصيدة في بريطانيا في كانون الثاني 1992 في احدى الصحف الحديثة الصدور واسمها “سوشاليست”، تحظى بانتشار محدود. غير انها صدرت في صحف رئيسية واسعة الانتشار في بلدان سواها، من قبيل صحيفة “هانديلسبلاد” في هولندا مرفقة بمقال للمسؤول التحريري يتحدّث فيه عن ملابسات رفض نشرها في انكلترا. اضيف ان قصيدة “كرة القدم الأميركية: تأمّل في شأن حرب الخليج”، نالت نعمة النشر في بلغاريا واليونان وفنلندا ايضا.
ترجمة ر. ر.
(عن الانكليزية)
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى