صفحات ثقافية

قـــصـــــــــائـــد الــــــــزن الــصـــيــنــيـــة

null
احــتــقــرت الـذيـن يـبـحـثــون عـن الـحــقـيـقـة خـــارج ذواتـهــم
العصر الذهبي للصين الذي شهدته منذ عهد سلالة تانغ الحاكمة وصولا الى عهد سلالة سانغ (618 – 1279ب. م)، بدأ بعد وقت غير طويل من سقوط الامبراطورية الرومانية واستمر حتى ما بعد الحملة الصليبية الاولى. هذه المرحلة المتميزة في تاريخ البشرية، سواء في خلفياتها الدينية، الفلسفية او الاجتماعية، مهدت لها قرون ما قبل المسيحية. وقد طور الناس حياتهم وفنونهم متأكدين انهم اضفوا معنى على شيء اعلى من ذواتهم. بالنسبة الى فناني ذاك الزمان، الكثيرين والمهرة، شكل الشعر والرسم طريقتين، من بين طرق عدة، لإدراك “الحقيقة” التي ادى كشفها ليس فقط الى الارتقاء بالحياة بل الى قبول هادئ بمحدودياتها. رأوا في العالم “عملية صيرورة”، تشارك كل من خصائصها بل دقائقها في صوغ المطلق. هذا افترض عدم التمييز بين تفاصيل منظر طبيعي، جرف صخري، منحدر، مصب نهر، شلال، تصوغها انفعالات الفنان. المقدمة، الخاتمة، كل منها جزء من “العملية”، سواء في الشعر ام الرسم، حيث تكتشف الروح نفسها وسط مفردات هذا العالم وأشيائه. يقول الشاعر هوني: “فوق المنحدر الصخري خوخ/ مزهر – من اين؟/ لما رآها، ريان/ انطلق راقصا طوال الدرب الى صانداي”.
اعتبرت رؤى الشاعر او الفنان بوحية كاشفة، وهدف القصيدة هو وضع القارئ في علاقة مع المطلق.
تعتبر الزن شكلا خاصا من اشكال البوذية يتمحور حول الطبيعة اللاكلامية والصامتة للتنوّر الحاصل عبر التأمل والحدس. تاريخياً تمتد الزن رجوعاً حتى بوذا، لكن جذورها ترتبط بالبوديدارما، راهب بوذي وصل الى الصين في القرن الخامس، ومن ثم يقال انه جلس من دون حراك لتسع سنوات محدقا الى الجدار. ترى الزن ان القدرة على بلوغ التنوّر كامنة داخل كل شخص، لكنها قد تبقى هاجعة، نائمة في داخله بسبب الجهل. وهي لا توقظ بواسطة دراسة كتاب مقدس او ما شابه، ولا بممارسة الاعمال الطبية او الطقوس والاحتفالات، بل عبر اختراق حدود الفكر المنطقي الدنيوي. قسمت الزن مدرستين، الاولى رينزاي، وتنطوي على مفارقات تتجسد في أحاجٍ صوفية تسمّى الكوان، والمدرسة الاخرى سوتو في اليابان وتتجسد في الزازن. مهما يكن، فثمة مدرسة ثالثة تسمى الاوباكو، تتوسل بالتضرع الى آميدا.
بدأ النمو السريع للزن في حكم سلالة تانغ في الصين، وكانت عبارة عن نتيجة اختلاط البوذية، احضرها الراهب الهندي بوديدارما الذي وفد الى الصين عام 520، مع “الطاوية” التي شكلت فلسفة الشعراء والرسامين لأكثر من الف سنة. ثمة العديد من القصائد واللوحات أثرت في حياة الجماعة كما في الفلسفة ذاتها. هموم كهذه تتبدى في قصيدة الراهب الاعلى هوي – نينغ: “شجرة الحكمة الكاملة/ لم تكن اصلا شجرة،/ ولم يكن ايضا للمرآة اللماعة/ اي شهرة. طبيعة – بوذا/ ابدا واضحة ونقية،/ اين نقع فيها على حبة غبار؟”.
لم يحسب كتّاب قصائد كهذه انفسهم شعراء بل اعتبروا اشخاصا موهوبين – اساتذة للمذهب، رهباناً، رجالاً بلا حرفة – من الذين بعد تجارب ذات شأن وجدوا انفسهم يمتلكون شيئا يقولونه ولا يمكن التعبير عنه بسوى قصيدة. وقد ادى التنوّر، هدف تأملهم، الى تحول في الروح. كان ينتظر ان تحمل القصيدة، التجربة الجوهر مع تأثيرها. يقظة بل ايقاظ كهذا، قد يستغرق سنوات من المجهود المتواصل، ومع ذلك فإن هذا الإيقاظ قد لا يتأتى لمعظم المريدين.
“ذات يوم سئل باسو، تلميذ ايجو، الاستاذ الصيني، من قبل استاذه لماذا يمضي الكثير من الوقت في التأمل.
باسو: لأغدو بوذا.
رفع الاستاذ قطعة طوب وبدأ يحكّها بقوة.
هنا جاء دور باسو لطرح السؤال: لماذا تقوم بحكّ قطعة الطوب؟
إيجو: لأصنع مرآة.
“لكن بكل تأكيد”، قال باسو محتجا، “لن يؤدي اي مقدار، مهما عزم من الحك او الصقل الى تحويل قطعة طوب مرآة”.
“تماما”، قال الاستاذ، “لن يؤدي اي مقدار من الجلوس مع شبك الساقين الى تحويلك بوذا”.
مع ذلك فقد بذل الاساتذة جهدهم لإرشاد تلامذتهم، مستعملين احدى الوسائل، قصيدة بل احجية “الكوان” (مسألة للتأمل فيها) التي طلب منهم حلها. وبما انه لم يكن ممكنا بلوغ حل منطقي، يصاب المتأمل بالارتباك. ولعل اول ما يُعطى من “الكوان” الى التلامذة هو احجية “سنديانة في الباحة” لجوشو، المرتكزة على اجابة الاستاذ عن سؤال الزن المعياري، “ما معنى قدوم بوديدارما الى الصين؟”. اشعار موقظة كهذه التي تعتبر اجابات عن سؤال الاساتذة هذا، تقترح تشكيلة من الاحتمالات. يقول ايان في “كوان” له: “سنديانة في الباحة” لجوشو -/ لم يقبض احد على جذورها/ منصرفين عن اشجار الخوخ الحلوة،/ راحوا يقطفون الاجاص الفج على التلة”.
ثمة احتمال آخر في “كوان” لمونجو – شنيدو جاء فيه: “سنديانة في الباحة” لجوشو/ رميت من الشجرة، لكنها لضياعها داخل غصن مورق/ اضاعوا بدورهم الجذر. يصيح التلميذ كاكو -/ “لم يقل جوشو ابداً شيئاً!”.
انطلاقاً من اهمية “الكوان”، لا عجب إذا عُثِر في قصائد التنوّر الصينية المبكرة على اشارات متعددة الى “الكوان”. لكن تجدر الاشارة الى ان معظم هذه القصائد تتعامل مع اهداف ومرامٍ اساسية للفلسفة، من مثل التفلت من رباطي المكان والزمان الذي يعتبر شرطا صعب المنال للوصول الى اليقظة الروحية. يقول دانغاي: “ارض، نهر، جبل:/ ندف الثلج، ذاب في الهواء/ كيف حدث ووقعت في الشك؟/ اين الشمال؟ الجنوب؟ الشرق؟ الغرب؟”.
تعبّر قصائد عديدة عن الانعتاق من العلائق التقليدية، كما يقول الشاعر كيبو: “البحث عنه “هو” استنفد كامل قواي/ ذات ليلة أنزلت/ اصبعي التي كانت تشير نحو السماء -/ ليس ثمة قمر كهذا!”.
شكلت الحاجة الى انعتاق كهذا من العقيدة (الاصبع يشير الى القمر، الذي لم يعن القمر)، موضوع المقابلة التاريخية بين البوديدارما والامبراطور وو (من ليانغ) بعد وقت قصير من وصوله الى الصين:
“الامبراطور وو: منذ بداية حكمي شيّدتُ العديد من المعابد، وطلبت نسخ عدد وافر من الكتب المقدسة، وحرصت على دعم كل الرهبان والراهبات. ما الاجر الذي استحقه؟
بوديدارما: لا شيء.
الامبراطور وو: لماذا؟
بوديدارما: كل هذه التي ذكرت، انما هي اعمال من الاقل شاناً، تدل على آثار دنيوية، مجرد ظلال معتمة. اما العمل المستحق المكافأة او التقدير فمليء بالحكمة، بيد انه غامض وطبيعته الحقيقية تتخطى الذكاء البشري. شيء غير موجود ضمن الانجاز الدنيوي.
الامبراطور وو: ما هو المبدأ الاول لعقيدتك؟
بوديدارما: الخواء الشاسع، لا شيء مقدساً.
الامبراطور وو: من ذا الذي اذاً يتقدمني؟
بوديدارما: لا ادري”.
لم يمض وقت طويل حتى كتب بوديدارما قصيدته الشهيرة: “النفاذ الى خارج العقيدة،/ لا اتكال من اي نوع على الكلمات./ الاشارة مباشرة الى العقل،/ وهكذا رؤية الذات حقا،/ ادراك البوذية”.
في ما يأتي باقة من قصائد الزن الصينية تحت باب التنوّر فيها قصائد “الايقاظ” التي اعتبرت نفيسة وسط مجتمعات الزن والتي خدمت لأجيال كقصائد “كوان” أو كأدوات للتيشو أو كمواعظ.

التقديم والترجمة: فوزي محيدلي

البحث عن وجار الثعلب
عشرون سنة حاجاً
مشياً على الاقدام شرقاً، غرباً،
بعودتي الى سيكين،
لم اتحرك تالياً بوصة. (شيجو)
•••

مع بلوغك الهدف
مع بلوغك الهدف،
اطلق ضحكمة رنانة،
حليق الذقن، تبدو اكثر وسامة
يا للرمشين اللذين لا نفع لهما! (كيشو)
•••

يا لطول فترة يباب الشجرة
يا لطول فترة يباب الشجرة،
عند طرفها الأعلى ثمة حبال طوال من السحاب
مذ قمت بتحطيم قرني الثور،
انساب الجدول الى الوراء. (هوغ)
•••

فوق القمة
فوق القمة ثمة سحاب منثور،
عند منبعه النهر بارد.
اذا شئت الرؤية،
•••

من حبي للاشياء القديمة
من حبي للأشياء القديمة النفيسة،
احتقرت الذين يبحثون
عن الحقيقة خارج ذواتهم:
ها هنا، على طرف الانف. (ماكاشو)
•••

مع عدم وجود اثر
مع عدم وجود اثر خلفه لا حاجة الى مزيد من الاختباء
الآن تعكس المرآة القديمة
كل شيء – ضوء الخريف
ترتطب بضباب واهن. (سويان)
•••

مبحراً فوق نهر الرجال
مبحراً فوق نهر الرجال، تناهى اليّ
نداء: يا لعمقه، يا لبساطته
باحثاً عما اضعته،
وقعت على حشد من القديسين. (سوان)
•••

لا تغضّن فيها
لا تغضّن فيها –
لدى لمسها، تتألق.
لماذا تنشر شباك كهذه
لعصافير الدوري؟ (غوجاسان)

•••

يا لضخامة الكارما
يا لضخامة الكارما،
مع ذلك ماذا هناك
للتشبث؟ الليلة الماضية،
مع تلفتي، اعمى بصري
شعاع نور. (يوميين)
•••

جلجلة اجراس
جلجلة اجراس مصمتة،
لص مرّ بي
هارباً. ما الذي
تعلمته؟
سيد الخواء
له وجه داكن. (ياكاساي)

•••

لا فكر، لا بوذا
لا فكر، لا بوذا، لا انوجاد
عظام “الخواء” مبعثرة.
لماذا على الاسد الذهبي
البحث عن وجار الثعلب؟ (تيكان)

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى